المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الذات الساردة – المسرودة في مرآة اللغة – التخييل.. تأملات في عالم محمد علوان القصصي

بواسطة | مايو 1, 2018 | دراسات

مقدمة في جماليات النص: عندما نحضر إلى نصوص محمد علوان السردية المائزة، لا بد أن تستيقظ حواسنا البصرية والذهنية والانفعالية تمامًا للرؤية والرؤيا في آنٍ.. فتخلبنا جمالية اللغة في تشكيلاتها الرشيقة، ويأسرنا المتخيل السردي مبتكرًا واقعه وإحالاته الجديدة. نصوصه البديعة ليست مكتوبة للمتعة الفنية ولا من أجل اللعبة اللغوية التخييلية فقط بل توسلت نحت اللغة ولُعب التخييل لتعكس في مرآتهما صيرورات الذات الساردة – المسرودة: مصايرها وتحولاتها عبر أزمانها الواقعية. نحن أمام نصوص مصطخبة بهموم الواقع والفرد معًا، وهموم الميتاواقع والمافوق، بمعنى أنها لا تتوقف عند جماليات السرد وفنياته فتتعداها للزخم الرؤيوي الذي تحتشد به مفرداتها الحية.. نحن إزاء نصوص تعرف ما تقول وما تبوح به، تتوارى بحزنٍ أو بفرح لما تقوله أو تكتشفه أو تعريه.. إنها لعبة تشكيل ومعنى وكشف، لا لعبة سردية مُنبَتَّة الصِّلة بتاريخها ومرجعيتها أو مستقطرة من تجريداتها أو تهويماتها. مارَسَ علوان دهشة السرد – الرؤيا، والرؤية – اللغة – كما يمارس الفيلسوف دهشة السؤال- منذ مجموعته المائزة «الخبز والصمت»، فكتب يحيى حقي مدهوشًا بتقنية السرد وجدّته ومثمنًا هذه الثنائية الخلاقة التي تجاوزت مفهوم القص التخييليّ إلى مفهوم القص الواقعي منغمسًا في التخييل الواقعي المحتمل والممكن..!

منذ «الخبز والصمت» المجموعة العلامة الفارقة في التجربة القصصية السعودية حتى «هاتف» الأخيرة، ومحمد علوان يصقل عوالمه الميتاواقعية التي لا تنفصل عن واقعه الحلمي وما بعد الواقعي في توازٍ مجازي ومجاوز وإن لم يبتعد في جُلّ نصوصه من عصب المعيش واللّامعيش!.. انتقلت واقعية محمد علوان من الفردية المغمورة في أحلام الجماعة في نصوصه البكر إلى الفردية المنغمسة في حلمها البسيط والفطري والإنساني كما في «دامسة»، و«هاتف» وستكون لي وقفات سريعة عند هذه النماذج النصوصية – العلامات لنكتشف كيف نجح علوان في تضفير الذاتي بالموضوعي مشكلًا بنيته السردية المائزة.

في هذا السياق ألحّ علي سؤال مركزي في القراءة النقدية للسرديات: هل ظلت القصة القصيرة تعبيرًا لحظويًّا عن تحولاتٍ حميمة في عالمها ونسيجها الاجتماعي؟ عندما سألت القاص محمد علوان عن مرجعيات القص لديه؛ هل من مرجعية ذاتية لا تنفك علاقاتها بالمكان والزمان لها وشائجها الباقية في الوعي واللاوعي؟ أم هي من هواجس المكان وينابيع الذكرى؟

أجابني: هواجس المكان والذكرى تبزغ في لحظة لا أستحضرها، وربما لا أُمنحها بقصدية.. مسألة الكتابة تكتب نفسها بنفسها غير أني أرقب دائمًا نضوج اللحظة.. النص هو الجنون ذاته الذي لا يستدعي طبيبًا. فهل انتمت مجموعته الأولى إلى عالمها الموضوعي الخارجي جماليًّا أم انكفأت إلى عالمها الداخلي أم زاوجت بينهما؟ وكيف تفاعلت مجموعته الأخيرة «هاتف» مع العالمين رؤيويًّا وتشكيليًّا؟

محمد علوان

سأحاول في متن هذه القراءة تتبع تذبذبات هذا المؤشر التحولي من مستواه الجمعي – الضرورة، إلى مستواه الفردي – الحرية. إلا أن التحول السردي يبدو جليًّا نائسًا بين اللغوي والتخييلي في أغلبية نصوص علوان، فملامح التشكيل الفني والرؤية الجمالية يرصد فيها هذا الانتقال الهادئ من الواقعية الجديدة في صورها النقية والقريبة من جذورها الجمعية في المكان والزمان إلى صور الواقعية النقدية المشبّعة برؤى الفرد وتخيلاته وصبواته واستيهامات الانكفاء على الداخل. اتخذ النص السردي عند علوان ملامحه بين صوره الانعكاسية المتعالية والمنفصلة – المتصلة عن واقعها في بدايات تجربته نحو الصورة الفنية ذات المرجعية الذاتية فتمرأى الواقع مضطربًا ذاهبًا إلى صورة تخييلية حلمية إمّا متشظيًا متفتتًا في أحداثٍ منثورة مفتقدة لسياقها التتابعي الزمني أو متشكلًا من جديد في اللغة الفنية منسكبًا في رؤى وتجليات واقع حلمي متخذًا صورة خلاصه الفردي. لحظتا التشظي والتشكّل ليستا إلا لحظتَيِ اللغة – التخييل في إرهاصات سردية تحققان التوافق بين ما هو إنساني وما هو واقعي وما هو تجريدي وما هو تخييلي في وحدات سردية قد تجتمع كلها في نصٍّ واحد.

تتفتت هذه اللحظة الإبداعية إلى لحظاتٍ من التناقض والتصارع بين ما هو واقعي وميتاواقعي في حالة من فقدان الجسور المرئية مع خارجها متحولة إلى حالة قصصية تحاول أن تبني جسورًا لا مرئية جديدة داخل فضائها وعالمها الذاتي المحبط في محاولة لإعادة التشكيل الجمالي والتمثيل الواقعي، لكن هذه المرة عبر التمثيل الجمالي اللا انعكاسي لرؤية ذاتية طاغية لم تشفَ من وشائجها وعلاقاتها الخارجية ولم تستطع التخلص من ذاكرة المكان وزمنها النفسي. وهو ما يقودنا إلى اكتشاف أن التجريبية الجديدة في القول السردي عند علوان في قصصه الأخيرة ليست إلا تحولات فنية في خلق تشكيل سردي مغاير. هذا التحول الجمالي ليس بالضرورة معنيًّا بمفهوم الانفصام المطلق مع بداياته المائزة في تشكيل عالمه السردي كما في «الخبز والصمت» بقدر ما هو دالّ على تحول لغوي ورؤيوي فني في مفهوم السرد وقدرة جديدة على تخييلٍ لواقع ما بعد، لا يقطع مع ملامح واقع الماقبل.

تميزت قصص علوان بأنها كانت تمتح لغتها وقوامها من طين القرية وذاكرتها غير منفصلةٍ عن آليات الغرف من نبع الخيال والطفولة.. هذا النحت الجمعي شكّل بين يدي علوان وليدًا فنيًّا مغايرًا فانبثق هاجسه الجمالي مقتربًا من الواقع ومبتعدًا منه في الآن ذاته. فابتعدت نصوصه التشكيلية.. أقصد لوحاته البوحية من همّ الانغماس في تفصيلات الواقع وصيروراته ومآلاته، إلى همّ الرؤية الناقدة من بعد في نأيٍ جلي عن تجسداته أو مؤثراته المباشرة التي كانت لا تنفك تحط على أسطح نصوصه كأطيافٍ ولمحاتٍ متماوجة تلوّن النسيج القصصي المتخلّق من واقعية التخييل وواقعية اللغة الساردة لا من الانعكاس المرآوي السطحي واللغة الباردة وهو ما أضفى على بنية السرد العلواني بعدًا واقعيًّا جديدًا ومغايرًا.

شعرنة الواقع ورصد تحولاته في اللغة – التخييل

المتابع لتجربة علوان القصصية لا شك يرصد لديه هاجس التشكيل اللغوي وشعرنة الحدث القصصي، فلغة النص: شعر – سردية بل إن كثيرًا من نصوصه قصائد- سردية، وقليلًا ما يذهب سرده في سياق تتابعي زمني للحدث، ويغيب الحدث في بعضها ليصبح البوح اللغوي هو الحدث أو الحوار الداخلي التذكري ضمن تيار الوعي هو لحمة النص. اللغة هي الحكاية وهي بدء السرد ومنتهاه، في إطار فلسفته الجمالية في الكتابة. وتكاد تكون الموضوعة الرئيسة في قصصه هو ابتكار الحلم ونقد الواقع المعيش، غير أن هذا الابتكار الجمالي للحلم لا يفلت من محرضات هذا الواقع فنجد الحلم يتشكل وفق صيرورة من الأحداث الصغيرة المختزنة في الذاكرة واللاوعي مسوقة في سلسلة من المشاعر والأفكار والمناجاة الداخلية متحولة في نسيج النص الكلي نحو بنية سردية متماسكة.. نحو واقع فني ممكن. اللغة الساردة في نصوص علوان ليست سردية.. تقترب من البوح الشعري منكشفة في متتاليات حكائية لها بدء ولها منتهى وتكاد تنفلت كثيرًا من العقدة والحبكة وتختفي لحظة التنوير لكنها كومضة سردية لا تفتقد وحدة انطباعها. اللغة الساردة ليست مستكينة لتقاليد السرد وخصائصه وعناصره الفنية.. هي في ثورة فنية وشعورية تكاد تكون نسيج وحدها، هي لغة لاقطة موشورية تضفر في أطيافها ملامح سرديات وأطياف أحداث ورؤى وتداعيات واستيهامات حلمية، يتفتت الحدث الجوهري في الفكرة ويعاد تشكيله في اللغة وفي أفق التخييل ومن ثمّ يجعل من الفكرة عظمًا مكسوًّا بلحم اللغة ملمّحًا لجسد الحدث أو اللاحدث! هو نوع من السرد يلامس الواقع بخفة وينأى عنه في ذات الوقت. وتتفتّق الصورة الفنية في صورٍ متعالية تكاد تكون تجريدات ما فوق واقعية. في مجموعته المتميزة «دامسة» يكاد السرد يتخذ سمتًا آخرَ يتخلص علوان في بعض نصوصه من غياب الحدث أو تفتته، إلى تركّزه في وحدة انطباعية جديدة حتى لو لم يبتعد النص من أفق التحليق المافوق واقعي، منجذبًا إلى زوايا التقاطٍ رؤيوية مضببة باللغة ومتسربلة بالتخييل غير مبتعدٍ من ذات مستويات تقنياته ومفاهيمه السردية وتشكيلاته اللغوية النائية عن الخوض في المنظور الأرسطي التتابعي.

إذًا النص القصصي العلواني ليس وحدة سردية واحدة.. هو نص لجماع وحدات سردية متقطعة ومتداعية كما قال الشاعر الفرنسي فيرلين: الأسد ليس إلا قطيع من الخراف المهضومة.

في قصة «دامسة» يستعيد علوان اللامرئي ويجسده في الحركي والجوهري، فكما هي الثيمة الفنية التي تستولي على طرائق البوح السردي في عالمه الإبداعي فإن الحدث الخارجي يتسرب عبر الوعي لا عبر التشكيل الفني له. فالوعي بالصيرورة الواقعية يخلق عنده وعيًا مجاوزًا لحقيقته فيتم عبر هذا الوعي القلق تخليق الرؤية وتشكيل الموقف. يقول الناقد لوسيان غولدمان صاحب البنيوية التوليدية ونظرية الوعي المطابق: كل حدث اجتماعي يستند في بعض جوانبه إلى عملية تشكيل لوعي جديد وكل وعي ليس إلا تصورًا مطابقًا أو وعيًا مطابقًا مع بعض جوانب الواقع وليس كلها. فثمة وشائج فنية في الحقيقة تربط بين مجموعات محمد علوان نتلمسها في تفتيت سردية الحدوتة وانكساراتها في الذاتي والموضوعي.. في الحلمي والتخييلي وفِي اللغة الساردة أيضًا حيث الذاتي في جل قصصه يضيء موضوعه لكن لا يسير في سياقاته ومصايره.. كل نص يخلق مكونًا مصيريًّا جديدًا. أرجع إلى نص دامسة الذي ضمته مجموعته الثالثة بنفس العنوان، وأنا هنا أذهب إلى النصوص العلامات في تجربة علوان ولا أتناول بالتفصيل كل مجموعة.. أذهب إلى النصوص التي تؤكد رؤيتي النقدية والجمالية في السرد العلواني. اللامرئي في قصة دامسة هو شجرة الحب- العشق المكبوت النامية بغتة في الظلام الدامس والمؤول إليه هي الفتاة دامسة وهو اسم الحبيبة الذي طابق الزمن والمكان في دفقة شعورية غامضة.. واللامرئي أيضًا هي الحبيبة لا ملامح لها غائبة في الظلام وتسمى به وتصيب حبيبها بالجنون. وقد لعب المكان في هذا النص – ويكاد يكون هو المرئي الوحيد- دورًا جوهريًّا كحاضن لحركة القص في تصاعدها وتناميها كما لعب الزمن النفسي غروب الحبيبة- غروب المكان لعبته التخييلية المتقنة.. وعزف سيمفونية حزنية للغروب الجزئي الذاتي الرومانسي بكل إيحاءاته ومخزوناته في الذاكرة متوحدة مع الغروب الكلي المأسوي المتصاعد إلى غروب حالك دامس للمكان كله.. إنها الحركة الأخيرة لموسيقا الزمن.. الحركة الإيقاعية الساكنة والمنحدرة تأخذ معها إلى هوّتها كل الأحلام الصغيرة والأمكنة المألوفة ويغيب في فوهة الزمن الفاغرة وجه الحبيبة المباح فينطبق الاسم والمعنى وينطبق المكان على الزمان ويتحولان إلى سديم في عين العاشق الذي ذهب عقله.. بل يصبح ذهاب العقل الشتيمة العذبة الرقراقة: «الله يأخذ عقلك» التي قذفته بها الحبيبة في بداية النص حقيقيًّا ونافذًا كما لعبته لغة علوان في نصه هذا مفعمة بطاقة التخييل المبدعة في إنتاج الدلالة الفنية ونجحت في ترك الأثر الانطباعي البلاغي والصوري للنص في ذهن المتلقي.

لا شيء غير اللغة الشعرية المتدفقة خالقة لفضاء السرد في نص الحكاية تبدأ هكذا الذي هو عنوان المجموعة القصصية الثانية لعلوان. كُتب النص كقصيدة نثر بل كنشيد شعري مأسوي متلظٍّ بعطش الصحراء: الريح تجوس خلال الرمل.. خلال الأشجار والشجر معرّى من أوراقه.. الريح.. الريح تخرّ الوجوه وجهًا وجهًا.. اللغة في هذا النص هي مفتاح السرد وبابه وفضاؤه.. وعندما نقرأ هذا المقطع بعيدًا من أجواء النص يحيلك إلى لحظة شعرية مشبعة بالأنين: اللحظة… انفصلت العربة الأم.. اللحظة التي لا تُحَدُّ بزمان أو مكان أصبحت في مجال لا معلوم.. بكى الرجل.. صرخ الطفل.. الأم الأرض أغرقتها أمطار الحلم.. أروتها الأنهار اللامرئية. من يأتي إلى نص الحكاية تبدأ هكذا الميتاسردي على أنه يمتلك خصائص القص وعناصره سيصاب بالإحباط والدهشة معًا؛ لأنه -أي القارئ- لا يستطيع القبض على علاقات داخلية للحدث الجوهري متتبعًا تصاعدًا منطقيًّا له ويصدمه المشهد الأخير من النص الذي تنفصم عراه وعلاقاته الداخلية مع مشهدية رحلة العذاب والموت والضياع.. ولا بد يتساءل: هل المشهد الأخير حين يهمّ الرجل البدين بالنوم مع زوجته لكي تبدأ حكايتهما دالٌّ على فعل ديمومة وبدء الحياة من جديد؟ هل البدين ليس إلا هو ذاته الطفل الخارج من جسد أمه الميتة؟ أسئلة دهشة يتركها لنا النص تنثال بمرارة طعم التراب في الحلوق الناشفة.. هذه الدهشة الجمالية تتأتى من النص نثرًا ليس إلا بذورًا من شجرة اللغة حرّكت طاقات التخييل والتداعيات وهي في ظني ليست إلا أحداثًا غير منظورة يؤول إليها النص كما قال جبران خليل جبران في شذرة ذكية: إن البذرة المختفية في قلب التفاحة هي شجرة غير منظورة.. فما كنه الحكاية إذًا في نص الحكاية تبدأ هكذا وقد تُرك النص مفتوحًا على كل الاحتمالات؟

يحيى حقي

كما قلت: منذ «الخبز والصمت»- النص، عندما صدحت صرخة اللغة المدوية بـ«لا» كبيرة عجزت عن التعبير عنها أصابع الفتى اليمنى المسرود عنه؛ لأنها مصابة بجرح قديم موروث أبًا عن جد.. حتى «هاتف» – النص حيث ألم الذكرى والفقد صار منبعًا لهاتف داخلي غامض يقود السارد إلى الأمكنة الحميمة.. هذا الهاتف معادله الموضوعي: الهاتف الآلة، حيث يلعب تخييل الذات الساردة إلى استحضار الزمن الخارجي المنقضي في لحظة باهرة في أتون الزمن النفسي ينكأ بمشاهد الأمكنة القديمة للراحلين ويستعيدهم فردًا فردًا ويحلم بمهاتفتهم غير أنه يصدم بحقيقة واضحة بسقوط أرقام هواتفهم من دليل الهاتف. أقول منذ المجموعة الأولى لعلوان حتى مجموعته الأخيرة وهمّه الفني الأساس تغيير شروط كتابة القصة القصيرة، فاجترح -في نظري- ثورة فنية قوامها اللغة – التخييل وسطحها الواقع المتشظي. لم يرتكن إلى مفهوم البنية التقليدية كما لم يكتفِ بالأفق الحداثي بعيدًا من جذره الواقعي والتاريخي. زاوج علوان بين الأفق وبين الجذر.. الأفق هو كتابة قصة مغايرة يتناغم فيها الحداثي والواقعي والنفسي والشعري في رباعية جمالية خلاقة.. فجاءت قصصه- نصوصه- قصائده السردية تجلِّيًا لهذه الأبعاد والأضداد!

«هو وابنته والكلب».. في هذا النص البديع يتجلّى وعي علوان الجمالي والشعري.. فالصورة فطرية بسيطة مفعمة بالحلم والرغبات.. محفوفة بالجوع الخارق حيث افتضاض بكارة الطبيعة تؤول بالنتيجة إلى افتضاض بكارة الإنسان متربصًا بالأوهام والخراب.. جوع العصفور المحبوس أعلى أغصان الشجرة خائفًا من التقاط الحب المنثور تحت الشجرة مساوٍ لجوع الكلب المتربص للعصفور ومساوٍ لجوع الفتاة سعدى الغريزي تحت ماء قِربتها وهو يسيل حزنًا وشهوة.. ومساوٍ لجوع أهل القرية للماء وقد اكتشف في آبارها البترول واعدًا بالأحلام والأوهام.. هكذا نرى الجوع منقسمًا ثلاثَ وجوه.. يتبدى أولها في الجوع الفطري الغريزي منتقلًا إلى الجوع الوهمي للثروة ومنتهيًا إلى الجوع المأسوي – جوع الكلب ملتهمًا العصفور الجائع.. وجوع الفتاة الشهويّ وقد استحال جفافًا بعد أن ذهب الماء عنها عندما خربت الأرض وفضت بكارة الطبيعة.. الفعل المؤلم لا بد أن يؤول إلى خراب مطلق.

النص والتلقي

يطرح نص «ذهول» البديع القصير والدال، لمحمد علوان وهو أحد النصوص الحديثة مسألة مهمة جدًّا هي: كيف يُتلَقَّى النصُّ داخلَ النصِّ؟ كما يطرح علينا نحن قراء نصه السردي كيف كان تلقينا للنص اللغوي الحاضن؟ النص/ اللوحة داخل النص/ اللغة يجتمعان معًا داخل نصٍّ واحد تفاعلي وجدلي في آنٍ..! التخييل والترميز والميتاواقع المتحرك هنا ليس إلا إعادة إنتاج للنص الجامد/ اللوحة وحركته هي في مبتغى تسييله في نص لغوي موازٍ ومطابق لحركة الواقع! فالنص نصان غير منفصلين لحمته وسداه هي حالة الذهول الوقتية المنبثقة من درجة الارتماء داخل الإطار اللوني، والفاصلة بين حركة السكون وسكون الحركة القابعة في مستوى القراءة الصامتة. الحركة التي ينتجها النص اللغوي السردي لعلوان هي المسافة غير المرئية بين اللون والحرف… بين الإطار – الحصار وانفتاح الخارج والمعنى. جرس الواقع ضاغط وحصاره زمني مباغت يؤول إلى ميتاواقع اللحظة المتلقية، وهو ما يدفع بنا وبكاتب النص كمتلقين مركبين للنص إلى الخروج القسري من حالة التلقي الاستيهامية ليعيدنا إلى حالة التلقي الذاهلة في بعدها الساكن.. وما تلقينا نحن الخارجين عن النص إلا تلقي لنصين معًا في حالة اشتباكهما الحيوي معًا.

ذهول

داخل هذا المتحف الضخم.. والتاريخ يحاصرك من كل جانب.. هذا الصمت الذي يشعرك بمسحة فرشاة الرسام.. صوت إزميل النحّات.. أنت الآن في خزانة الفن.
وقف مذهولًا أمام تلك اللوحة الصغيرة المذهلة.. ظل يتابع تفاصيلها..
ثلاثة رجال بقبعاتهم المتشابهة وأمام ثلاثة كؤوس وزجاجة ثبّتت تلك اللحظة.. المشهد تنقصه الأنفاس.. حركة الأصابع والرموش لكي تكون الصورة مشهدًا تبعث به الحياة الحركة.
داخل حالة الدهشة تلك، شعر أنّ يد أحدهم تمتدّ إلى الزجاجة تمسك عنقها.. تسكب ما في جوفها إلى الكؤوس الثلاثة.
شعر أن السمكة التي في اللوحة تكاد تصدر رائحة شوائها.. بل أبصر بخارًا وكأنه يخرج.. تخيّل الرائحة والطعم والمذاق.. امتدت يد أحدهم لتعبث بإتقان بجسد السمكة وأخذ يوزع على صاحبيه.. لم يتبقّ منها سوى تلك الأشواك المتماسكة.
القبعات مع مرور الوقت أصبحت فوق الطاولة.. خشي أن يصدر صوتًا أو غناءً أو صراخًا.
لم يلتفت لا يمنة ولا يسرة.. ركّز بكل أحاسيسه على ما يحدث في هذه اللوحة.
غير مصدق ما يجري.
فجأةً انتشله من انغماسه في اللوحة جرس.. التفت فإذا بزوار المتحف يتجهون إلى باب الخروج… أما هو فقد ارتبك وشعر كأنه كان نائمًا أُجبر على اليقظة.
أعاد النظر إلى تلك اللوحة فإذا بها جامدة مثلما شاهدها أول مرة…
الرجال الثلاثة يعتمرون قبعاتهم والزجاجة ملأى والكؤوس فارغة.. لكنه أحس بالذهول.

محمد علوان – ٢٣ سبتمبر ٢٠١٥م

المنشورات ذات الصلة

الكشف عن روح الشعب الأدب المترجم بوصفه ممارسة للدبلوماسية الثقافية

الكشف عن روح الشعب

الأدب المترجم بوصفه ممارسة للدبلوماسية الثقافية

استيراد وتصدير المنتجات الأدبية بوصفها عنصرًا من عناصر سياسة الشؤون الخارجية هو الأساس الذي تقوم عليه هذه المقالة. ومن...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *