المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

ديمقراطية العدم .. ما بعد الحداثة تلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصائر الأمم

بواسطة | مايو 1, 2018 | قضايا

الآن إذا ماتت الحقيقة، فإن كل شيء يصبح ممكنًا من الناحية النظرية، وإذا كان كل شيء اعتباطيًّا، وعارضًا، ونسبيًّا: فإن الحقيقة تكون هي ما أختاره لأقوم به. هذا بالضبط هو «التحرر» تذكرت تلك العبارة لإيهاب حسن وأنا أتابع الجدل السياسي العنيف الذي دار في إيطاليا على مدى العام الماضي، فالحزب الديمقراطي الحاكم يصرّ على تبرير هزائمه المتكررة في الاستحقاقات الانتخابية بشيوع ظاهرة «ما بعد الحقيقة»، حيث يكفي وصول معلومة زائفة إلى حد معين من الانتشار لتحولها إلى حقيقة واقعية، ففي المجتمع الأفقي الذي نعيش فيه احتلت قيمة الانتشار المكانة التي ظلت محفوظة طويلا لقيمة العمق.

هكذا لم يؤثر في الحزب الديمقراطي اليساري النقد السياسي الذي وجهه له منافسوه، لكنه انهار أمام تسونامي من المعلومات الزائفة التي استهلكت مواجهتها طاقة مؤسساته وشغلتها عن الإعداد الجيد للمعركة الانتخابية، فسقط فيها سقوطًا مدوّيًا، حيث أظهرت النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية الإيطالية التي جرت أخيرًا حصول ائتلاف يمين الوسط على 37.30%، وحصول ائتلاف يسار الوسط –الذي يضم الحزب الحاكم- على 22.90%، في حين استحوذت حركة خمسة نجوم على 32.50% من أصوات الناخبين، وهي أعلى نسبة من الأصوات يحصل عليها أحد الأحزاب منفردًا، وبهذه النتيجة من المتوقع في حال نجحت هذه الحركة في بناء ائتلاف انتخابي يضمن لها أغلبية برلمانية، أن يحكم الموقع الإلكتروني الذي يحتكر تمثيل حركة النجوم الخمسة، ويمثل أيضًا المظهر المادي الوحيد لها، الجمهورية الإيطالية ليكون ذلك الحدث –في حال تحققه– أكبر حالة لتداخل الواقع التقليدي والافتراضي وتماهي الحدود بينهما، وحيث تحقق «سياسات ما بعد الحقيقة»، كما يدعوها معجم أوكسفورد، انتصارًا جديدًا، بعد انتصارها في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهذه المرة في قلب أوربا وفي أحد أقدم مجتمعاتها وأكثرها تقليدية، إننا نشهد اليوم كيف تتجاوز ما بعد الحداثة ملاعب الفلسفة والفنون والآداب لتلعب دورًا حاسمًا في تقرير مصاير الأمم وهو ما يستحق وقفة تأمل.

ظهرت حركة النجوم الخمسة في سياق انتشار عدد من الحركات المتمردة على الوضع السياسي العام، والرافضة للسياسات المحلية، التي تعادي أيضًا الطبقة السياسية التقليدية التي دأبت هذه الحركات على وصفها بـ«الفاسدة»، مثل حزب سيريزا اليساري الراديكالي في اليونان وحزب بوديموس المحسوب على اليسار المتشدد في إسبانيا، وحركة الواقفون ليلًا في فرنسا، وغيرها من الحركات التي اكتسبت شعبيتها أولًا وأخيرًا من معاداتها للمنظومة السياسية القائمة وليس من امتلاكها طرحًا أيديولوجيًّا سياسيًّا جديدًا.

وتعد الحركة ظاهرة ثقافية – سياسية ما بعد حداثية بامتياز، فهي حركة شعبوية معادية للأجانب وللوحدة الأوربية ظهرت في سياق نوع من «الربيع» السياسي الأوربي الذي اكتسح بعض بلدان القارة العجوز في السنوات الأخيرة في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وارتباك حكومي وسياسي غربي، وبخاصة بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008م. مؤسس الحركة بيبَّى جريلُّو ممثل كوميدي إيطالي اشتهر بنكاته السياسية اللاذعة التي انتهت به إلى الطرد من التلفزيون الإيطالي بسبب انتقاداته لحكومة اليسار الإيطالي المتحالفة في ذلك الوقت مع غريمها السياسي التقليدي الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو ما لم يترك له أي فرصة للعب على حبال الاختلافات الأيديولوجية بين الحزبين اللذين يتحكمان في المؤسسة الإعلامية للدولة في ذلك الوقت، فاتجه للعمل في المسرح الذي كان جمهوره محدودًا ونوعيًّا وغير مرضٍ للكوميديان الشهير الذي فضل في النهاية الاتجاه للواقع الافتراضي للتواصل مع قطاع أوسع من الجماهير، في عام 2005م أنشأ مدونة باسمه – بالتعاون مع جيان روبرتو كازالدجيو المستشار في إستراتيجيات الويب – سرعان ما اجتذبت عدة آلاف من المعجبين الذين انتهى التفاعل بينهم في الواقع الافتراضي إلى تأسيس حركة سياسية حملت اسم النجوم الخمسة في عام 2009م، حيث ترمز كل نجمة إلى أحد هموم الواقع اليومي للإيطاليين اليوم وهو ما جعلها أكثر قربًا من المشكلات اليومية للإيطاليين، وأكسبها شعبية كبيرة، كانت نتائجها واضحة في الانتخابات الأخيرة، ويمكن إجمال اهتمامات الحركة، وفقًا لإستراتيجيتها منذ تأسيسها، في البيئة والطاقة النظيفة، وتحسين وسائل النقل العام إضافة إلى توسيع مساحة العالم الافتراضي الذي تعبر عنه من خلال شعار «الإنترنت مجانًا للجميع»، حيث تطالب الحركة بالربط المجاني لجميع الإيطاليين بشبكة الإنترنت.

تعامل المجتمع السياسي الإيطالي بسخرية شديدة مع الحركة إلى أن اكتسحت الانتخابات المحلية في إيطاليا في عام 2012م فمن دون أي وجود مادي فيزيائي للحركة خارج العالم الافتراضي نجحت الحركة في الحصول على 9 ملايين صوت يمثلون أكثر من ربع المقاعد في البرلمان يمارسون بوساطتها تأثيرًا كبيرًا في كل ما هو غير «افتراضي» في إيطاليا من داخل الواقع الافتراضي. اضطر المجتمع السياسي الإيطالي إلى الاعتراف بالحركة بعد أن حلت في المركز الثالث في الانتخابات البرلمانية في عام 2013م، هكذا تحول المدونة إلى الجريدة الرسمية للحركة والمقر الرئيس لها الذي تنعقد فيه الاجتماعات ويصوَّت فيه على القضايا المهمة وتُجرَى الانتخابات الداخلية، ويُختار مرشحو الحركة للاستحقاقات الانتخابية، كل هذا يحدث خارج الغرف المغلقة، في الفضاء الافتراضي المفتوح للجميع. هكذا وبعد الانتخابات الأخيرة أصبحت إيطاليا حالة نموذجية لهذا النوع من الديمقراطية «السائلة» كما يطلقون عليها، وهي تختلف عن الديمقراطية التمثيلية حيث لا سياسيين يمثلون الجماهير، فكل فرد يساوي نفسه، حتى مؤسس الحركة نفسه لا يتمتع إلا بامتياز امتلاك حقوق الملكية الفكرية لشعار الحركة والتمثيل القانوني للــمدونة.

البرنامج السياسي لحركة «خمس نجوم» معادٍ تمامًا للمنظومة السياسية في البلاد، ويحارب جميع الأحزاب التقليدية سواء كانت محسوبة على اليسار أو اليمين، ويرفع شعار التصدي للفساد في جميع القطاعات، والتعاطي بالصرامة الكافية مع جميع الملفات. وتراهن الحركة على السياسة التشاركية للمواطن في اتخاذ القرارات الكبرى التي تهم البلاد، وتدعو في هذا السياق إلى إجراء استفتاء بشأن بقاء إيطاليا في الاتحاد الأوربي. كما تلحّ على تقليص أجور المنتخَبين، وإعادة النظر في الدعم المقدم للأحزاب والمؤسسات الصحافية.

العدم المقدس

في ثلاثينيات القرن الماضي قدس اليابانيون هيروهيتو الإمبراطور الإله الذي قادهم إلى تحقيق نهضة اقتصادية وبناء قوة عسكرية مكنتهم من السيطرة على مساحات واسعة من العالم، بعد الهزيمة المخزية لليابان في الحرب احتفظ الإمبراطور بقداسته، إلا أنها كانت قد فقدت معناها ليس فقط لأن الإمبراطور قد تحول إلى مجرد ديكور، لكن لأن الإمبراطور الإله قد قاد شعبه إلى تدمير بلاد الآخرين قبل أن يدمر بلاده نفسها، هكذا بدأ اليابانيون يطلقون عليه اللاشيء المقدس. اللاشيء المقدس هي أفضل عبارة نصف بها الآليات والشروط التي تمارس بها قيم الحضارة الغربية اليوم، حيث تُفرَّغ هذه القيم من معناها رغم تقديس الجميع لها، مثل قيمة الحرية التي أصبحت لأوّل مرّة في التاريخ خبرة جماعيّة، حيث ينظر إلى الحرية اليوم على أنها انفتاح على المطلق، على المجهول، وهو ما يجعلها محاولة دؤوبة للانسلاخ من الواقع، لم يعد التحرر مجرد فعل يهدف إلى التخلص من القيود الاجتماعية أو السياسية أو القانونية، إنما سعي للانعتاق من كل روابط الماضي والحاضر، ليست الحرية إذن دفاعًا عن معنى نؤمن به للحياة، أو هوية نراها محدِّدة لوجودنا، الحرية اليوم هي التخلص من هذه الأشياء التي ترسم حدودًا للذات وتحدّ من الانفتاح على اللاشيء، على ذلك الذي لم نعرفه بعد، ومن ثم نحن عاجزون عن تسميته، ولماذا يجب أن ننشغل بالأسماء ونحن نعيش في عالم ما بعد الأسماء؛ ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد الكولونيالية، ما بعد التاريخ، وأخيرًا ما بعد الحقيقة!

هذه النزعة نحو اللاشيء يغذّيها على السواء الجناح الفكري السياسيّ اليساريّ الذي يرفع شعار «أنا مشرِّعٌ لنفسي»؛ وكذلك الجناح الفكري السياسي اليمينيّ الذي يختصر دفاعه عن الحرية في شعار «تتّسع حرّية كلّ امرئ بمقدار ما تتعدّد الخيارات المطروحة عليه» وبالطبع لا تتسع الخيارات من دون التحرر من التحيزات التي يتسع مفهومها ليشمل كل مفردات الذات والواقع الذي نعيش فيه، ومرة أخرى نحن لا نتحدث هنا على المستوى النظري إنما عن ممارسة يومية في حياة الأشخاص العاديين، فمثلًا سألت إحدى مدارس إقليم فينيتو وعاصمته مدينة فينسيا، أولياء أمور الطلاب؛ إذا كانوا يوافقون على خضوع أبنائهم لاختبارات تساعدهم على تعرف هويتهم الجنسية؛ وعندما سأل أحد أولياء الأمور عن المقصود بكلمة هوية، قيل له: نحن نُولَد ذكورًا وإناثًا، لكننا نكون رجالًا أو نساءً حسب اختيارنا، كما أن تعرُّف «الرجل» و«المرأة» وغيرهما ليست إلا مفاهيم ثقافية لدينا مطلق الحرية في قبولها أو رفضها. لست بصدد إصدار أي حكم أخلاقي هنا، لكني أرصد فقط هذا الفهم للحرية بوصفها «انفصالًا»، بوصفها حالة من الرفض الأوديبيّ ليس فقط للأب والتراث، إنما للواقع كذلك، ليصبح –في إطار هذه النزعة- الحديث عن تحقيق الذات مجرد انفتاح ساذج تجاه جديد مجهول، كثيرًا ما ينحدر باتجاه السخيف والمُنافي للعقل. إنّ حريّة مطلقة –أي منفصلة عن كلّ شيء– تنتهي بهذا الشكل إلى ذلك «الهراء السامي» الذي يتحدث عنه إيزكس. أو تنتهي، في شكلها الأدنى، إلى الاكتفاء بملذّات صغيرة متسلسلة تحاول أن تُشبع ذاتيّة لا أساس لها.

عندما وضع نيل أرمسترونج قدمه على القمر قال: «خطوة صغيرة لإنسان وقفزة هائلة للإنسانية»، تعكس هذه الجملة نوعًا ما الوحدة التي شعر بها أرمسترونج مع «الإنسانية»، هل ما زالت هذه الوحدة ممكنة؟ هل ما زال ممكنًا أن يجتمع «مطلق» الإنسانية و«نسبية» الفرد في فعل أو حدث أو نص أو شخص في ثقافة انفصلت عن ماضيها البعيد ومستقبلها القريب وانحصرت – انحسرت في غموض «ما بعد-ها»؟!

يعتقد «ما بعد الحداثيون» أنهم حرروا الإنسانية من أسر الثنائيات الفكرية مثل: الخير – الشر؛ الأنا – الآخر؛ الجسد- الروح؛ أو اليمين – اليسار، كما يبدو الأمر في حالة حركة النجوم الخمسة؛ لكنهم في الحقيقة لم يفعلوا إلا الانتقال من التقابل بين الثنائيات (وما يترتب عليه من القدرة على إصدار أحكام تعكس في مجموعها ثقافة وهوية وشخصية فردية – جماعية) إلى التساوي بين الثنائيات (وما يترتب عليه من عدم القدرة على إصدار الأحكام الذي يعني التوقف عن التفاعل مع الواقع وهو ما يؤدي بالهوية الفردية والجماعية إلى الانحلال). التقدم الملحوظ في كل استحقاق انتخابي للأحزاب الشعبوية – المعادل السياسي لثقافة البوب – يؤكد سوء مآل نضالات ما بعد الحداثة، فقد ناضلت ما بعد الحداثة ضد « إقصاء» الحداثة للآخر «المختلِف» بدعوى التفوق العرقي أو الثقافي ولكنها لم تجد طريقًا لهذا إلا «إقصاء» الاختلاف، الذي غيب الثقافة بشكل عام، وهو ما يدفع ثمنه في النهاية الجماعات والثقافات المهمشة مثل المهاجرين، حيث تراجعت دعوات إخراجهم من الهامش أمام الدعوات الشعبوية لإخراجهم من المجتمع.

أهم رموز حركة النجوم الخمسة الذين سيشاركون بنصيب الأسد في الحكومة الإيطالية المقبلة في حال النجاح في بناء ائتلاف لتشكيلها، ليسوا سياسيين ويفتخرون بأن علاقتهم بالسياسة مؤقتة، وهو ما يقابل بإعجاب من الجماهير التي سئمت من تلك المجموعة من العاطلين عن العمل الذين يديرون شؤون البلاد، ولعل جزءًا من هذا الإعجاب مرتبط بأننا نعيش في عالم أصبح فيه المؤقت مركزيًّا، نعيش حياة مؤقتة، وأعمالًا مؤقتة، وعلاقات مؤقتة، وزواجًا مؤقتًا، وسكنًا مؤقتًا، كل ما نستخدمه أيضًا في حياتنا اليومية أصبح مؤقتًا كالمناديل الورقية والأكياس والأكواب والملاعق البلاستيكية، لا شيء يحمل علامة، لا شيء يحمل معنى لأن كل شيء زائل، فقد تحول الانتباه الثقافي المعاصر من الكينونة أو الوجود في العالم إلى السيرورة أو العبور في العالم، إنه عالم العابر والمؤقت، نعم سقطت الأيديولوجية ولكن الخوف من الآخر يتزايد، تراجعت العدمية لكن الحياد السلبي من كل شيء قد حل محلها، فمصطلح «المابعد» الذي أشرت إليه سابقًا لا يعني إلا غياب القدرة على إضفاء المعنى على الحالة الإنسانية الراهنة.

إنّ المرحلة التي تمرّ بها المجتمعات المتقدمة المُنهكة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وقبل كلّ شيء، روحيًّا؛ تتيح لنا أن نفهم بوضوح كان مستحيلًا حتّى بضع سنوات خلت «الغيابَ» الأساسَ الذي يخترق هذه المجتمعات، وهو غيابٌ ناتج عن «انعدام ثقة في الوجود» واسع الانتشار، علينا أن نفهمه كنتيجة للقضاء على مسألة «الحقيقة» حيث إنّنا لم نعرف كيف نتناولُها، فقرّرنا تجنّبها، أو توظيف غيابها وهو ما تجسد في ظاهرة «ما بعد الحقيقة» التي انتشرت لدرجة اختيار معجم أوكسفورد لها في عام 2016م بوصفها كلمة العام، أطلت ما بعد الحقيقة برأسها أول مرة عام 2008م بعد الأزمة الماليّة الكبيرة التي أظهرت ما يمكن أن تُعرِّضنا له ما بعد الحداثة من خطرِ خلقِ عالَمٍ وهميٍّ يصبح فيه الواقعُ أكثر فأكثر سطحيّة، ففي سياق نصل فيه للشكّ بتماسك الواقع فضلًا عن تماسك حياتنا ذاتها، لا ينبغي لنا أن نندهش إذا دارت تجاربنا الحياتية، على الصعيد الشخصي أو الجماعي، في حلقة مفرغة من الأوهام والشكوك والمخاوف.

الفرد يجوب عالم الوهم

إنّ هذا التركيز على الأنا يرتبط بالفقدان التدريجي لتماسك الواقع، حيث يسود ما دعاه دو سيرتو «نظام التكافؤ» حيث كلّ شيء، وقد اختُزل إلى مجرّد رأي، هو بالتعريف، ومن ثم يجب أن يبقى مساويًا لكلّ شيء آخر. إنّه نظام من دون عمق. وكلّما أصبح التأثير الذاتيّ على هذا الواقع السريع التغيّر مستحيلًا، انفتح المجال لانتشار نظامٍ تقنيٍّ متكاملٍ يشكِّل، في نهاية المطاف، آخِرَ ما تبقّى اليوم ممّا يمكننا أن نعدّه واقعيًّا، مجرد بيئة اصطناعية لممارسة الخبرات حيث يجوب الفرد عوالم الوهم متحررًا من قيود قوانين الطبيعة وقيود قوانين المجتمع، حيث يهيم الفرد من خلال التفاعلات الافتراضية، في عالم كوكبي عالمي، لا يتطلب منه الحضور الجسدي، فهو حاضر جسديًّا أمام الكمبيوتر، غائب اجتماعيًّا من سياقه الاجتماعي وعلاقاته التقليدية، إنه مجتمع نظام اقتصادي عصبُه الرئيسُ تكنولوجيا المعلومات ومنظومة الحاسبات والاتصالات، ومنتجُه الرئيس هو المعرفة، وموادُّه الأولية هي الموارد الذهنية، إنه مجتمع انفصمت فيه العلاقة بين الثقافة والمجتمع حيث انحلت الوسائط التقليدية التي كان يشد أحدهما الآخر وكان في مركزها دائمًا الفعل الاجتماعي، فوحدات التحليل التقليدية مثل الأسرة أو القبيلة أو الدولة أو الطبقة أو المهنة لم تعد بالضرورة وسيطًا نشيطًا في توضيح العلاقة بين ما هو ثقافي وما هو اجتماعي. على الجانب الآخر يرى جان بودريار أن أهم ملامح الانتقال من عالم الحداثة إلى عالم ما بعدها هو الانتقال من المعرفة إلى المعلومات، فالمعلومات على عكس المعرفة يمكن أن توجد مستقلة عن الخبرة الإنسانية، ونحن نشهد اليوم تحولًا جديدًا من تحولات المعرفة؛ وهو تحول المعلومات إلى محتوى يمكنه الوجود مستقلًّا عن الواقع، فإذا وضعنا في الحسبان أن 20 % من البشرية تتفاعل وتتواصل من خلال الفيسبوك ومادة التواصل يصل حجمها إلى 41 ألف منشور في الثانية، يعدُّها 71 % من الشباب (بين 18- 24 سنة) المصدر الرئيس للمعلومات والفن والأدب، لأدركنا حجم التهديد الذي يواجهه الواقع كما عرفناه.

يحتج بيل غيتس على هذا الخوف من التغيير، فقد تكون الهوية في العالم الافتراضي غير حقيقية لكنها هوية مختارة، إنها إحدى حقائق الذات التي يصدق عليها وصف الجرجاني في كتابه ذائع الصيت «التعريفات» حيث يقول عن الذات: إنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب!

لكن ماورو ماجاتتي عالم الاجتماع الإيطالي الشهير، لا يرى فيها إلا مرضًا تشخيصه واضح عندما نفكِّر بأوربا. فعجزها عن تقديمها مشروعًا لنفسها – مشروعًا ثقافيًّا أكثر منه سياسيًّا – ينجم، أساسيًّا، عن حقيقة أنّ اسمها (أوربا) لم يعد قادرًا على «تسميتها»، بمعنى أنّه لم يعد قادرًا على إدراك جوهرها، ومن ثم غير قادر على صياغة دعوتها لتبني طرحًا جيدًا يصل ماضيها بمستقبلها. فهذه الدعوة/ النداء لا يمكنها أن تسمع أو تتحقق إلا بامتلاك الواقع، فالحاضر هو حيث الماضي والمستقبل يلتقيان، لذلك تجد أوربا نفسها اليوم، في سياق ثقافي تهيمن عليه التعدّديّة الفوضويّة المتنافرة، مضطرة إلى أن تحيا فقط من خلال السوق والقواعد المجرّدة التي تمليها بيروقراطيّة بروكسل. والنتيجة خيبة أمل كبيرة تعرّض الوحدة الأوربيّة نفسها للخطر.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *