الموت الرحيم.. عشرة أسئلة استشكالية

الموت الرحيم.. عشرة أسئلة استشكالية

عندما ضرب إعصار كاترينا الولايات المتحدة الأميركية سنة 2005م كانت مقاطعة نيو أورليانز- لويزيانا هي الأكثر تضررًا، ليس بسبب الإعصار نفسه بل بسبب الفيضانات الكبيرة التي تسبب بها، بعد أن فشلت الجدر في حماية المنطقة منها، وهو ما أدى لوقوع خسائر بشرية ومادية كبيرة. ومن ضمن هذه الخسائر كانت 45 جثة لـ45 مريضًا في مستشفى نيو أورليانز التذكاري. أثار هذا الرقم، عند مقارنته بأرقام المراكز الصحية والمستشفيات القريبة، حفيظة بعض الجهات؛ لأنها أعلى من معدل الوفيات المسجل بشكل كبير، وهو ما دعا الولايات المتحدة الأميركية للتحقيق في مجريات الأحداث التي حصلت منذ بدء الإعصار حتى إجلاء الجميع من المستشفى بعد خمسة أيام…

الموت الاضطراري في حالة الكوارث

في اليوم الأول للفيضان غرق الطابق الأرضي في المستشفى وهو ما منع الطاقم الطبي والمرضى وأكثر من 2000 شخص، اختاروا المستشفى ليحتموا به من الإعصار، من الوصول للمؤن والماء الصالح للشرب، كما حرمهم من الكهرباء؛ بسبب فشل المولدات الاحتياطية. وبذلك يكون الجزء الأول من الوفيات قد حدث بسبب توقف أجهزة دعم الحياة، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى وفاة المرضى الذين يعتمدون عليها. وبمرور الأيام وتفاقم حالات المرضى سوءًا زادت حالات الوفاة داخل المستشفى، وكل يوم يمر كان الوضع يزداد سوءًا خارج أسوار المشفى؛ بسبب عمليات النهب والسلب وإطلاق العيارات النارية والفلتان الأمني الحاصل وقتها. كل ذلك وعمليات الإجلاء للمرضى والأطفال الخدج تتم ببطء شديد؛ فالمساعدات لا تصل والطائرات المروحية غير كافية.

مضت الأيام الخمسة بصعوبة بالغة وانتهت بوصول قوات خفر السواحل ومطالبة الطاقم الطبي المنهك في المستشفى بإخلاء جميع من في المستشفى خلال ساعات قليلة. ولما كان ذلك مستحيلًا اختار الأطباء تقسيم المرضى لمجموعات، منها مجموعة ميؤوس من علاجها أو غير ممكن نقلها، وكان لمرضى مركز life care الطبي النصيب الأكبر من هذه التصنيفات. وهنا تزيد هذه الكارثة الطبيعية سوءًا وتصير قصة مستشفى ميموريال أكثر إشكالية، حيث قررت الدكتورة آنا بو حقن هؤلاء المرضى بحقن قاتلة من المورفين والميدازوليم، وقد ادعت لاحقًا أنها اختارت ذلك لمساعدتهم؛ فلم يكن أمام الطاقم الطبي خيار آخر -حسب قولها- سوى تركهم يموتون ببطء. لاحقًا برأت المحكمة الدكتورة بو والممرضتين اللتين شاركتاها حقن المرضى، وصدقت روايتها وأدرجت الحالات العشرين -على أقل تقدير- التي تسببت في إنهاء حياتها تحت بند القتل الرحيم بدلًا من القتل العمد أو حتى القتل غير العمد، فهل يمكن أن نعدّ القتل في مثل هذه الأوقات العصيبة رحيمًا؟

سرد المسلسل الوثائقي «خمسة أيام في مستشفى ميموريال» وقائع هذه القصة، ولم يكن وحده الذي تطرق لفكرة الموت الرحيم في المدة الأخيرة. سبق أن قدم الممثل آل باتشينو دور طبيب الموت الأميركي جاك كيفوركيان في فِلْم «أنت لا تعرف جاك» (You Don’t know Jack) الذي عُرض سنة 2010م، في وقت لا يزال فيه الموت الرحيم محل خلاف كبير والبيوتيقا ساحة نزال كبيرة بين الطب والفلسفة والدين والقانون وعلم الاجتماع والأخلاق. لكن ذلك لا يلغي أنه كان محقًّا بشكل كامل عندما قال في الدقيقة الثالثة من الفلم: «إن العيش بمصاحبة ألم شديد بانتظار الموت ليس حياة على الإطلاق». هذا الفلم مُهمّ بلا شك، لكنه لا يناقش مسألة أخلاقية الموت الرحيم أو تقديم المساعدة الطبية لتسهيل الموت بقدر ما ينحاز للموت الرحيم. ومن هنا أطرح عشرة أسئلة استشكالية حول الموت الرحيم:

أولًا- سؤال المصطلح نفسه: كيف يكون الموت رحيمًا؟

ثانيًا- سؤال الإرادة: متى نسأل سؤال أحقية الإنسان بتقرير مصيره؟

ثالثًا- سؤال الطرق المستخدمة: هل هي غير مؤلمة؟

رابعًا- السؤال الكلي: هل من الصحيح محاكمة الطب أخلاقيًّا؟

خامسًا- سؤال العملية نفسها: هل يمكن للقتل أن يكون أخلاقيًّا؟

سادسًا- سؤال الواقع: هل يمكن حدوث أخطاء؟

سابعًا- سؤال العقاب: هل القتل الرحيم قانوني؟

ثامنًا- سؤال التطبيق: هل اختبارات أهلية/ جدية المريض المقبل على الموت الرحيم يقينية؟

تاسعًا- سؤال الهروب من المحددات: هل الطب التلطيفي حل بديل مناسب؟

عاشرًا- سؤال اللاهوت: ما موقف الأديان من القتل الرحيم؟

صعوبة الإجابة

كيف يكون الموت رحيمًا؟ في بعض الحالات تصل الآلام بالمريض الذي نحب درجة تجعلنا نعتقد أن الموت سيكون أكثر رحمة به، خصوصًا إذا يئس الأطباء من علاجه، كما يحدث في حالات السرطان المتقدمة أو الغيبوبة غير المتوقع الاستيقاظ منها. ولذلك يندرج أي حل مطروح من شأنه تخفيف وطأة هذه الآلام، بما فيها الموت، تحت باب الرحمة. لكن هل هذا الحل جميل إلى هذه الدرجة؟ هل يجب أن نسأل أنفسنا ما إذا كان المريض سيعاني آلامًا من نوع آخر مرتبطة بفراق أو فقد بعض الأحِبّة؟ هل يجب أن نسأل عن نوع الآلام التي سيعانيها محبُّو هذا المريض الذين سيقررون ربما عنه قرار إنهاء حياته؟ إن ما يزيد من صعوبة الإجابة عن هذه الأسئلة هو أنها شائكة؛ فالطب ليس وحده سيد الموقف فيها؛ فالقانون والدين والأخلاق والفلسفة وعلم الاجتماع جميعها تتصارع معه.

متى نسأل سؤال أحقية الإنسان بتقرير مصيره؟ يتجه العالم نحو تقنين الموت الرحيم في حالات المرض الشديد الميؤوس من علاجه؛ لأن ترك المريض يتألم من دون أمل وفي انتظار الموت فيه قسوة على المريض وعلى من يحبونه وعلى عائلته. لكن هل الحالة الجسدية للمريض وحدها التي تسمح لنا بطرح سؤال المساعدة الطبية على الموت؟ هل نحن بحاجة لأن يصل المريض لمرحلة يهان فيها بشكل كامل حتى نوافق على طلبه في إنهاء حياته؟ هل يمكن أخذ أمراض أخرى مزمنة صعبة، ليس لها علاج لكنها غير مؤلمة، في الحسبان مستقبلًا، هل أصابت كندا عندما سمحت بالمساعدة الطبية على الموت لمرضى الاكتئاب المزمن؟

وإذا كان العالم يرى الموتَ الرحيم حلًّا في حالات كثيرة لا يتألم فيها المريض، وهي حالات حرجة ومنتشرة بكثرة، يدخل فيها المريض في غيبوبة ويتعطل فيها جزء من وظائف الدماغ ينتهي به ليكون حيًّا فقط بالاعتماد على أجهزة دعم الحياة. وبذلك يكون قرار فصل الأجهزة عن المريض بمنزلة قرار بقتله…

هل الطرائق المستخدمة مؤلمة؟ سيكون اعتماد طريقة مؤلمة في إنهاء حياة هؤلاء الأشخاص الهاربين من الألم النفسي والجسدي شكلًا من أشكال الكوميديا السوداء. سجلت أروقة المحاكم حول العالم العديد من القضايا التي ادعى أصحابها أنهم قتلوا زوجاتهم، أولادهم، أمهاتهم، وآباءهم.. بطرائق مؤلمة لإنهاء آلامهم وعذاباتهم وخوفًا عليهم من الاستمرار في هذه المعاناة بعد رحيلهم هم أنفسهم عن الحياة؛ إلا أن أدوات الموت الرحيم القانوني هي أدوات طبية أكثر رحمةً بالمريض؛ ومعظمها تعتمد على الحقن والأدوية. إذ يخبر المريض طبيبه برغبته في الخضوع لبرنامج الموت الرحيم، وبعد إجراء فحوصات واختبارات عدة يبدأ الطبيب إما بقطع علاج ما يساعد مريضًا على الاستمرار في الحياة في سبيل إنهاء حياته، أو بإعطائه علاجًا آخر يسرع عملية موته، كما يحدث في حالات إعطاء الثيوبارتينال والبنتوبارتينال والسيكوبارتينال. وفي معظم الحالات يعطى المريض جرعات قوية من المسكنات مثل المورفين لكيلا يتألم في أثناء انقطاع الأنفاس الأخيرة والسكتات الدماغية والقلبية التي ستُنهي حياته، فالموت في هذه الحالات يحدث بسبب انخفاض أو توقف معدلات النبض والتنفس.

البعد الأخلاقي

هل من الصحيح محاكمة الطب كله محاكمةً أخلاقيةً؟ الطب عامة مهنة إنسانية هدفها مساعدة الإنسان على علاج أمراضه وتخفيف آلامه ورفع مستوى صحته، فالأطباء بمختلف مرجعياتهم الثقافية والدينية وباختلاف مواقعهم وألوانهم ولغاتهم محكومون بأساسيات قَسَم أبقراط. فهل من الأخلاقي أن يلجأ الطبيب الذي يشفي المرضى ويساعدهم على الحياة إلى قتلهم في محاولة إنهاء آلامهم؟ يعرف الدكتور محمد جديدي البيوتيقا على أنها محاولة متعددة الأصوات للنظر في التداعيات الأخلاقية والاجتماعية التي يفرزها التقدم العلمي والتقني في الميدان البيوطبي، ومن جانب آخر هل من الأخلاقي أن يشهد الطبيب آلام مرضاه ويقف من دون اتخاذ أي إجراء يساعدهم في محنتهم؟ إن إحساس الطبيب بآلام المريض في هذه الحالة يمثل حالةً أخلاقية عليا يجب أن نأخذها في الحسبان.

هل يمكن للقتل أن يكون أخلاقيًّا؟ شغلت السينما والدراما الأميركية مؤخرًا بفكرة القتل الأخلاقي من خلال إصدار أعمال عدة يعمل فيها الإنسان العادي معوله في ترسانة العدالة الكونية من خلال تحقيق جرائم قتل أخلاقية عدة. لكن في الحقيقة هذا السؤال أصعب مما يبدو عليه في هذه الأعمال؛ فلن يستطيع شخص ما أن يقوم بدور سفاح الخليج كما قام به ديسكتر مورغن في مسلسل ديكستر. ولعبة القتل الأخلاقي لعبة سياسية في معظم الأحيان، لكن وبتضييق الخِنَاق على هذا السؤال لندرجه تحت باب الموت الرحيم، نحن في حاجة لأنْ نخلق إنسانًا جديدًا موضوعيًّا بالكامل، وهذا مستحيل؛ فالإجابة هنا مرهونة بمرجعيات صاحبها الأخلاقية والدينية والمعرفية. فتعريف القتل الأخلاقي مختلف ما بين رجل الدين والسياسي والطبيب، فلكل منهم شروط تجعل قتل (الذات أو الآخرين) أخلاقيًّا.

هل يمكن حدوث أخطاء؟ الإجابة عن هذا السؤال أسهل من غيرها، فهي ببساطة «نعم»؛ لأنه ليس من وجود لمرجعية ثابتة يقينية واضحة تحدد مدى انطباق الشروط الموضوعة لتنفيذ طلب الموت -بمساعدة طبية- الذي يقدمه المريض. فكيف يمكننا محاكمة أهلية مريض ما في ظل ظرف جسدي- نفسي صعب كهذا؟ وهل يكفي أخذ رأي طبيب آخر في كل الحالات؟ وهل الرأي الطبي دائمًا سيكون مصيبًا؟

سنة 1975م دخلت فتاة عشرينية تدعى كارين (Karen- Ann Quinlan) في غيبوبة من دون أي سبب واضح وأخفق أطباء Newton medical centre في نيوجرسي في تشخيص سبب غيبوبتها أو حتى منعها من الاتجاه نحو الأسوأ، وفعليًّا ساءت حالتها بدرجة كبيرة حتى صارت تعتمد على نحو كامل على أجهزة دعم الحياة بما فيها أجهزة التنفس الصناعي. وفي تلك المرحلة من الغيبوبة الميؤوس من علاجها طالب الأهل بفصل الأجهزة عنها لتموت. ولما كانت قوانين الولاية تجرم ذلك وتَعُدُّه قتلًا، قدم أهل كارين طلبًا للمحكمة يلتمسون فيه استثناءهم من القانون، ويطلبون الإذن بالسماح لهم بفصل أجهزة دعم الحياة عن كارين من دون ملاحقة قانونية. وفعليًّا دخل الأهل في معركة قانونية كبيرة انتهت إلى قرار المحكمة العليا في ولاية نيوجرسي بالموافقة على طلبهم بناءً على تقارير الأطباء التي تجزم بأنه لا يوجد أي أمل في الشفاء أو حتى في الحياة من دون الاعتماد على أجهزة دعم الحياة. وفُصِلَت الأجهزة فعليًّا عن جسد كارين، وهنا كانت المفاجأة فكارين لم تمت! بل عاشت تسع سنوات إضافية في غيبوبتها من دون أجهزة دعم الحياة قبل أن تموت سنة 1985م.

مخاوف أخرى

هل الموت الرحيم قانوني؟ لا تسمح معظم دول العالم بالموت الرحيم قانونيًّا، لكن بعضها لا يُجرِّم المساعدة الطبية غير المباشرة على الموت، بحيث يعفى الطبيب من المساءلة القانونية في مثل هذه الحالات، كما هي الحال في بعض الولايات الأميركية التي تطلق على مفهوم الموت الرحيم مصطلح (assisted suicide) «المساعدة على الانتحار». لقد كان التاريخ الخاص بالموت الرحيم مليئًا باللَّبْس والارتباك؛ فالخوف من تقنين مفهوم قد يُستخدَم للتغطية على جرائم الأطباء وأخطائهم كان سيد الموقف. إضافة إلى أن تعريف مفهوم الموت الرحيم نفسه يختلف من قانون لآخر، وشروطه كذلك. لكن على نحو عام توجد ١٥ دولة حول العالم توافق على الموت الرحيم، أو تسمح به ضمن شروط محددة ومن هذه الدول: هولندا وبلجيكا وسويسرا وكولومبيا وكندا والهند والمكسيك وبعض الولايات الأميركية وفرنسا وإسبانيا.

هل اختبارات أهلية/ جدية المريض المقبل على الموت الرحيم يقينية؟

كارين آن كوينلان

للأسف، التشابكية في نقطة شروط تنفيذ إجراءات الموت الرحيم أكبر من تلك الموجودة حول المفهوم نفسه. فالموت الرحيم نوعان: إرادي وغير إرادي، فإذا كان القرار يقع في يد شخص آخر في حالة الموت الرحيم غير الإرادي، فإنه يقع على عاتق المريض نفسه في حالة الموت الرحيم الإرادي. فكيف نعرف أن هذا الشخص، وبالاعتماد على سلامة المستويين النفسي والعقلي، يريد حقًّا أن يموت الآن؟ وكيف نتأكد من أنه ليس قرارًا انفعاليًّا؟ في الحقيقة تُخضِع معظم الدول التي تسمح بالموت الرحيم، المريضَ لاختبارات الأهلية العقلية، وتشترط أن يكون طلبه للموت مُلِحًّا ولمدة طويلة؛ فالطبيب لا يمتثل لطلب المريض سريعًا، ولكن في معظم الحالات تكون الآلام الجسدية التي يقاسيها المريض هي الفيصل الذي يقنع الأطباء أو لا يقنعهم، إضافة لمدى صعوبة أو استحالة علاج الحالة. لكن هل هذا كافٍ؟

اتجهت كندا مؤخرًا للسماح بالمساعدة الطبية على الموت لمرضى الاكتئاب المزمن، فهل هناك أي طريقة في العالم لنقيس بها مدى تألم شخص ما نفسيًّا؟ هل الطب التلطيفي حل بديل مناسب؟ تلجأ بعض الدول في محاولة منها للهروب من جدلية الموت الرحيم والصراع الاجتماعي الطبي الديني الأخلاقي القانوني حوله إلى ما يعرف باسم الطب التلطيفي، الذي يقصد به إعطاء المريض مسكنات وأدوية تخفف آلامه حتى انتهاء حياته بحيث لا يقضي اللحظات الأخيرة من حياته، سواء طالت أو قصرت، وهو يتألم بسبب أمراض أو حالات طبية استعصى شفاؤها. وقد تفاجأت حقيقة أن مثل هذه العيادات موجودة أيضًا في الدول العربية، فمدينة الحسين الطبية، ومستشفيات أخرى، في الأردن تحتوي على عيادة خاصة اسمها عيادة الألم، من عشر سنوات، وهذه خطوة أقرب ما تكون إلى الإنسانية حقيقة.

الإشكالية الأخيرة تتعلق بموقف الأديان من المساعدة الطبية على الموت. وهنا ترفض الأديان الإبراهيمية الثلاثة الموت الرحيم وتجرمه.

أخيرًا، أقول: إن جدلية الموت الرحيم هي جدلية إيجابية؛ لأنها في الأساس تفكر في الآخر، الذي طرحها هو شخص قرر أن يفكر بما يحتاجه الآخر الذي يتألم أكثر مما فكر بألم الفقد الذي سيشعر به، وهنا كان أقرب درجة للإنسانية الحقيقية.

الموت، ثلاثة انقلابات كبرى في المفهوم

الموت، ثلاثة انقلابات كبرى في المفهوم

التقت عبقريةُ فرانسيس فورد كوبولا مخرج فِلْم العراب في الجزء الثالث من السلسلة السينمائية، عبقريةَ شكسبير في مسرحيته الشهيرة الملك لير، تحديدًا في مشهد صرخة آلباتشينو؛ وهي بالمناسبة صرخة اعتراض في وجه نهر الزمن الجاري لحظة موت ابنته مقتولة على السلالم بين يديه، إلا أني في الحقيقة لا أشير إلى أن العبقرية كانت في درامية آلباتشينو الحادة في أثناء الصراخ بل على العكس من ذلك؛ فإنها كانت بكتم المخرج لها (الصرخة)؛ إذ بدت نقطة الالتقاء بينهما جلية لما أراد شكسبير أن يعلن موت الملك لير المأسوف، حيث اكتفى بلفظة (مات)، حرفيًّا كتب (He died) إن التقاءهما الفاتن كان نتيجة لإدراك الإضافة الدرامية الكبيرة التي تخلقها فكرة الموت وحدها من دون أي تلميعات أخرى تبتذلها، فالحالة التي عبرت عنها الأمثلة السابقة حالة عميقة وغزيرة على المستوى الوجداني الآني في الفِلْم والمسرحية، وعليه؛ أشرح ثلاثة انقلابات رئيسة في مفهوم الموت في ذهنية الإنسان، وأعنون هذه الانقلابات بأسماء نقاط الانقلاب التي خلقتها كالآتي:

– انقلاب أول لحظة موت أنكيدو بطل ملحمة جلجامش.

– انقلاب ثانٍ لحظة ولادة المسيحية (العهد القديم والجديد).

– انقلاب ثالث عام 1957م على يد ويليام كوينهوفن.

فرانسيس فورد كوبولا

وبناء على ذلك فإن القول بلسان فولتير: إن «الجنس البشري هو الجنس الوحيد الذي يعرف أنه سيموت، وأدرك ذلك بالتجربة»، يضفي الغموض على أنْ لا بُدَّ للإنسان من الوصول إلى مرحلة معينة من التطور النفسي والعقلي قبل أن يتعلم من التجارب التي يمرّ بها، فالإنسان البدائي أتيحت له فرصة مشاهدة أشخاص يموتون أكثر من الإنسان في القرن الحادي والعشرين، إلا أنه استطاع أن يدرك حتمية ذلك عندما اتجه نحو الفردانية وتخلى تدريجيًّا عن مفهوم الحياة الذي خلقته الجماعة/ العشيرة/ القبيلة، الذي يقول: إنه خالد بخلود العشيرة وممتد بامتدادها، ففي اللحظة التي يتجاوز فيها فكرة بعثه داخل الجماعة يصل إلى النتيجة القائلة بحتمية الموت وتصبح «كل نفس ذائقة الموت» قاعدة عامة، خصوصًا إذا ما طور في أثناء ذلك طرائق تفكير منطقي تساعده على الربط والتحليل والاستنتاج وإطلاق الأحكام حول مشاهداته اليومية.

والانقلاب بين اعتقاد الإنسان بأنه خالد على الأرض وأنه فانٍ وثقت لأول مرة في ملحمة جلجامش الشهيرة -على الأقل لكونها أقدم الوثائق التي كشفت عن إدراك الإنسان لحتمية الموت- فجلجامش البطل الضخم الجثة، ثُلُثاهُ إلهٌ وثُلُثُهُ إنسان، لم يترك خطيبة لخطيبها ولا حبيبة لحبيبها، ألقى الرعب في قلوب الناس، حتى تضرعوا للآلهة أن تخلق له غريمًا يصارعه باستمرار، فخلقت أنكيدو لكنهما بعد مصارعة عنيفة حطمت أرجاء البيت تعانقًا وصارا صديقين، وتمضي الأسطورة إلى أنهما اتفقا يومًا على قتل نور السماء المقدس فعاقبتهما الآلهة، وحكمت على أنكيدو بالموت، وقد بكاه جلجامش بكاءً مرًّا دام سبعة أيام حتى خرج الدود من أنفه؛ فجلجامش اكتشف أنه هو نفسه سيلقى مصير صديقه أنكيدو الرهيب؛ إذ يقول: «أي نوم هذا الذي غلبك وتمكن منك؟ لقد طواك ظلام الليل فلم تعد تسمعني، إذا ما مت أفلا يصير مصيري مثل مصير أنكيدو؟ ملك الحزن والأسى روحي وها أنا ذا أهيم في القفار والبراري خائفًا من الموت».

إن اكتشاف حتمية الموت لا يعدو أن يكون سوى المرحلة الأولى من مراحل اكتشاف الإنسان للموت، واللحظة التي اكتشف فيها جلجامش ذلك أقرب ما تكون من لحظة هدم مفهوم الخلود على الأرض منها إلى أن تكون لحظة بناء مفهوم الفناء التام، فالموت ساعتئذ كان تغيرًا في طريقة اتصال الإنسان مع الآخرين، مثل المرض، الذي يوهن الإنسان ويغير لونه ويقعده عن الحركة ويمنعه من الكلام… إلخ، فالجمجمة والعظام باقية وإن تحلل اللحم وتغير لونه، وإن الميت يزور أحباءه في الحلم ويكلمهم، أي أن الإنسان في تلك المرحلة لم يكن قد آمن بأنه فانٍ بقدر ما آمن بأنه غير خالد على صورته، ونسب ذلك إلى غضب الآلهة وعقابها والأرواح الشريرة والقوى الخارقة المنتقمة، وإن هذا ليس ببعيد من التأملات الآشورية والبابلية اللاحقة التي تظهر الموت وكأنه انفصال للروح عن الجسد وفناء للثاني وتحلله وهبوط للأولى إلى العالم السفلي في نمط حياة آخر، ومن هنا نؤكد أن عزاء الإنسان بعد الانقلاب الأول في المفهوم على خسارته للإيمان بالخلود كان بالإيمان بالبعث بلا شك.

* * *

وتلا ذلك من قبل نظرة فيثاغورس الأورفية للموت الذي نقلها لتلاميذه؛ حيث تتناسخ الأرواح وتتطهر وتزداد نقاوة كلما دار دولاب الميلاد حتى تعود أخيرًا لتتحد مع الله، وحتى ولادة المسيحية عددًا من أطروحات ثنائية (النفس، الروح) (خالدة/ غير الخالدة)، أطروحات أصورها كسحابة تغطي معظم أرض التصورات والمفاهيم التي حول الموت في تلك الحقبة، فقبل الدين المسيحي لم يصبح الاعتقاد ببعث الموتى في نهاية الزمان نظرية أساسية، فالمسيحية قالت بملء الفم: قُهِرَ الموت، هذا العدو المرعب قُهِرَ بالبعث من القبور، وهذا بعث للجسم وليس للنفس أو الروح وحدها فهذي الأخيرة من أمور الوثنية كما أسلفنا، فبعث المسيحية -العهد الجديد تحديدًا- قيامة للأجساد الميتة، فالمسيح الرب (كما في الديانة المسيحية)، انتصر على الموت، انقلاب جديد في مفهوم الموت جعل الإنسان الذي يؤمن به ينظر بهدوء في عينيه، ومع أن هذا التصور قوبل بالسخرية من الوثنيين (فالانقلابة حادة)، إلا أنه ساد حتى ألف عام أو يزيد، تحديدًا حتى تعاظم حالة الرفض التي خلقتها حالة الشك في:

أولًا- صدق الوعد بالخلود «فإذا كان الرب انتصر على الموت، فهل يستطيع الإنسان الضعيف فعل ذلك أيضًا؟».

ثانيًا- ألوان العذاب الخالدة في الآخرة، التي أدت في نهاية المطاف إلى تحولها من عزاء إلى مصدر إرهاب، فلكي تتجنب العذاب على وصف هوزينجا أن ينطبق عليك حين قال: «إننا في الموت حين نكون في قلب الحياة»، وهو ما لا يقدر عليه إلا قلة من المترهبنين العباد الزاهدين، وهنا كانت خيبة الأمل الهدامة التي نشأت بسبب فقدان التطلع إلى حياة أخرى وخلود في نعيم.

* * *

ومر المفهوم بعدة تذبذبات ذات انتشار محدود حتى انقلابه مرة أخرى عام 1957م، فلما كانت مناداة المريض باسمه ثلاث مرات وقرص أذنه، ووضع مرآة أمام أنفه وملاحظة آثار التنفس عليها، أو حتى توقف قلب المريض عن النبض لمدة دقيقتين عند اختراع السماعة الطبية… إلخ، كلها تعريفات/ طرائق استخدمت للاستدلال على وفاة الإنسان وإطلاق حكم جازم بأنه قد مات، فإن المهندس الكهربائي الأميركي ويليام كوينهوفن نجح مع فريق من الباحثين والأطباء بإيقاف حالة ارتجاف بطيني* عند إنسان باستخدام تيار كهربائي بمقدار محدد ونجح في ذلك بعد تجارب عدة على الفئران، قام بها عندما بدأ توزيع الكهرباء في الولايات المتحدة الأميركية بدايات القرن العشرين؛ إذ لاحظ كوينهوفن أن العمال يموتون بسبب توقف القلب عن النبض عند تعرضهم لحوادث صعق بالكهرباء، وفكر فيما إذا كانت جرعة أخرى من التيار الكهربائي قد تكون قادرة على إعادة الحياة لهم.

ومن هنا سال شلال غزير اسمه شلال أجهزة دعم الحياة المساندة، من أجهزة إيقاف الارتجاف البطيني المستخدمة عند إجراء الإنعاش القلبي الرئوي، مرورًا بأجهزة غسيل الكلى، وانتهاء بأجهزة التنفس الصناعي والأعضاء الصناعية…، شلال لحظة تدفقه خلقت انقلابة في مفهوم الموت بعد مدة طويلة من ارتباطه بتوقف القلب عن النبض والتنفس من جهة، وبقدرة الإنسان على التحكم بساعة الموت أو الرجوع عنها من جهة أخرى، فإن الإنسان غير المسموح له بالرجوع عن الموت صار له ذلك، وإن الإنسان الذي لا يعرف من أمر ساعة موته شيئًا صار له أن يتحكم بها، أي مثلًا إن وفاة الأم الحامل لم تعد تعني وفاة جنينها، فصار جسمها قادرًا على إتمام عمليتي الحمل والولادة بشكل مثالي بمساعدة الأجهزة بعد عدة شهور حتى بعد توقف قلبها وتنفسها وأجزاء من دماغها، وصار قرار تمديد حياتها مناط بالأطباء، ففصلها عن الأجهزة الطبية تعني وفاة الجنين، وتأخير ساعة موتها حتى ولادته تعني كثيرًا، ومن هنا انطلقت أصوات تتساءل عن مدى شرعية وأخلاقية ذلك، حتى أطلقت جامعة هارفارد بسبب تبعات إنجاز كوينهوفن تعريفًا جديدًا للموت يستخدم حتى الآن بوصفه هذا الأخير «حالة لا رجوع فيها من توقف جميع وظائف الدماغ بالجملة، بما فيه جذع الدماغ».

ولذلك فإن الانقلاب الأول يمكن فهمه من خلال دراسة إدراك الطفل للموت، والانقلاب الثاني يختلف تمامًا عن تحنيط الجسد بغية حفظه انتظارًا لبعث الروح، بل هو أقرب ما يكون للآية «يحيي العظام وهي رميم» والانقلاب الثالث امتد على شكل جدليات الموت الرحيم والانتحار وتجارب الاقتراب من الموت واختبارات الموت السريري.


‭*‬الرجفان‭ ‬البطيني‭:‬‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬توقف‭ ‬القلب‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬بسبب‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬القلب‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ارتجاف البطينين‮ ‬بدل‭ ‬انقباضهما،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬توقف الدورة‭ ‬الدموية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الوفاة‭ ‬بالسكتة‭ ‬القلبية،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يُتدارَك‭ ‬الأمر‭ ‬علاجيًّا‭ ‬خلال دقائق معدودة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عملية الإنعاش‭ ‬القلبي‭ ‬الرئوي‭.‬

الرقص فلسفيًّا.. تعبير فيزيائي يظهر سطوة الجسد وقوته

الرقص فلسفيًّا.. تعبير فيزيائي يظهر سطوة الجسد وقوته

يذكرنا الرقص كتعبير فيزيائي يُظهر سطوة الجسد وقوته بالراقصة الأميركية مارثا غراهام في القرن العشرين حين كانت تنقلب على الرقص الكلاسيكي بارتدادات حادة في رقصاتها على المسرح في نظر الكثيرين، وهي بذلك كانت أقرب ما تكون إلى الانقلاب على العادات والتقاليد والقوالب والقيود التي تحد من سيولة الجسد وباتجاهين تمهد لحالة من سيولة الذهن والصلة التعبيرية بينهما، فإن اللحظة التي يسيل بها اللحم لحظة تمهد لسيلان الذهن، واللحظة التي يسيل بها الذهن تمهد لسيلان اللحم، فالراقصة التي تقرأ لإيمانويل كانط في الكواليس في أثناء التحضير للرقصات، أفضل من تعبر عن معنى الرقص المنشود، سيولة يقصد بها الوضوح والصدق، تشذيب الجسد حتى يعبر بأفضل شكل عن الإنسان.

بناء على هذه الحالة الدالّة، فإني أتناول الرقص على ثلاثة مستويات: المستوى البيولوجي؛ عضليًّا وعصبيًّا. المستوى النفسي باعتبار الرقص لغةً. المستوى الاجتماعي، السياقات الأركيولوجيّة.

المستوى البيولوجي

على المستوى العضلي يحسن الرقص باعتباره نشاطًا بدنيًّا من أداء القلب وجهاز الدوران بشكل عام، ولما كان التحكم بالتنفس في أثناء الأداء الجسدي مهمًّا فإن ذلك ينعكس إيجابًا على أداء الرئتين والجهاز التنفسي، وبما أن ساعة واحدة من الرقص تحرق في المتوسط 500 سعر حراري فإن الرقص أداة فعالة للتحكم في وزن الجسم إذ يزيد من حجم الكتلة العضلية على حساب الدهون، مما يساعد أيضًا في تخفيض مستويات الكولسترول الضار، وبالتالي يقلل من احتمالية الإصابة بالجلطات وأمراض الشرايين والقلب. وأخيرًا وليس آخرًا فالرقص يرفع من مستوى مرونة عضلات الجسم والتي تكون الحاجة لها ملحة في منطقة الحوض وأسفل الظهر عند النساء مثلًا في حالة الحمل وفي أثناء الولادة.

أما على المستوى العصبي فإذا ما تجاهلنا هدية الدماغ الهرمونية: ثنائية (السيراتونين/الميلاتونين) التي تعبر عن أثرها الكاتبة النمساوية فيكي باوم عندما تقول: «هناك اختصارات للسعادة والرقص واحد منها»، فإن الرقص يساعد على خفض مستويات القلق والتوتر والضغط العصبي التي تؤثر في التنظيم الهرموني للجسم الذي بدوره يرفع من مستوى صحة الجهاز العصبي من العصبونات إلى الدماغ، فالدراسات تشير إلى أن التمارين الهوائية التي تتخلل الرقص تقلل من حجم التقلص الذي يصيب التلفيف الحصين وهو جزء من الدماغ وظائفه متعلقة بالذاكرة عند الإنسان- عند التقدم بالسن وبالتالي يحسن من الذاكرة والأداء الدماغي والتوازن، إذ إنه (الحصين) يتقلص في مرحلة الشيخوخة مما يسبب مشكلات في الذاكرة والأداء الذهني حسب New England Journal for Medicine.

واذا ما تجاوبنا مجازيًّا مع مقولة المغني والراقص الأميركي جيمس براون: «يمكن حل أي مشكلة في العالم عن طريق الرقص»، فإن منظوره صحيح، فلا أقدر على التصنيف والتحليل واتخاذ القرارات وإصدار الأحكام من دماغ وعقل صاف تخلص من التوتر والقلق والتشويش عن طريق الرقص.

المستوى النفسي باعتبار الرقص لغةً

تتفق الراقصتان الأميركيتان إيزادورا دنكن ومارثا غراهام على أن الرقص هو طريقة للتعبير عن الذات إذ تقولان: إن «الرقص هو اللغة الخفية للروح»، وإن «الأشياء التي تستطيعان إخبارك بها لا تستحق أن ترقصاها»، فالرقص حسب وجهة نظرهما عبارة عن لغة فيزيائية للتعبير عن مكنونات الإنسان، وطريقة تواصل مع الآخرين والذات، تتجاوز كل حواجز اللغات الأخرى ولا يحكمها قصور المفردات، حتى وإن تعاطى معه بعض بأطر أكثر ضيقًا وتحديدًا. الكاتب والممثل الفرنسي جان لوي ترينتينيان عرف الرقص على أنه: «حالات الروح التي تترجم إلى تعبير جسدي أو فيزيائي»، فهو على الأقل وسيلة فعالة للتعبير حتى وإن حكمتها فلسفات عديدة.

ولهذا فإن الإنسان الأول عبر عن نفسه وعن حاجته للتواصل مع الآخرين من خلال رقصات خلدها على شكل رسوم على جدران الكهوف أو نقوش، أو حتى تماثيل منحوتة تبدو وكأنها تؤدي حركات راقصة.

وعبرت بعض القبائل البدائية الأسترالية مثلًا عن حنينها لعملية التجديف، وحياتهم على الزوارق من خلال رقصة يقف فيها الرجال والنساء صفوفًا متجاورة، ويمسكون بالعصي التي ترمز للمجاديف ويحركون أجسادهم والعصي في مشهد يشبه التجديف، وتناغم حركة المجموعة يخلق عرضًا بديعًا يعبر عن مكنوناتهم حتى يصلوا إلى حال من التلذذ والنشوة بدون أي واجبات دينية فقط تعبيرًا عن رغبتهم وحنينهم.

المستوى الاجتماعي: السياقات الأركيولوجيّة

عبر ثلاثة اتجاهات: أولاً، الرقص أدب وسائل التواصل الاجتماعي: الأدب هو «أحد أشكال التعبير الإنساني عن مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه باستخدام الأساليب الكتابية من نثر وشعر وغيرهما». إلا أن المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي في الخمس سنوات الأخيرة لا يخفاه أن الرقص أصبح شعرها ونثرها وروايتها.

فالمساحة الشخصية المتنصلة من العبء الاجتماعي الذي يحمله الواقع، والتي توفرها هذي المواقع/التطبيقات وبخاصة تطبيق تيك توك الأخير الذي شكل ظاهرة دعمتها فكرته الأساسية، إذ يعتمد فقط على المحتوى البصري على شكل فيديو، سمحت لرواده بالتعبير عن أنفسهم باستخدام أجسادهم بشكل كبير، سواء أكانوا راقصين محترفين يمتهنون الرقص التعبيري الدرامي، التجريدي والفلكلوري، أم مجرد هواة يتعاملون مع أجسادهم بأريحية أكبر.

وأسهمت هذه الظاهرة في عالم الإعلام في إيجاد حالة أكبر من تقبل الأجساد عند المراهقين والإنسان بشكل عام، فأصبحت صور الأجساد المترهلة أو التي تحوي ندوبًا وعلامات تمدد الجلد والسيلولايت تنتشر تمامًا مثلما تنتشر صور الممثلات وعارضات الأزياء المثالية، في دعوة من رواد هذه المواقع لتقبل أجسادهم والابتعاد من النظرة السلبية تجاه النفس والتي ولدتها الصورة المعدلة التي سبقتها خصوصًا على موقع إنستغرام.

ثانيًا، الرقص بين المطرقة والسندان: إن حالة الجمود التي أسقطتها بعض الشعائر  على الجسد – جسد الأنثى بشكل خاص- تتضاد مع الحالة السائلة المرنة التي يسقطها الرقص عليه، باعتبار الأخير لغة وأسلوب تعبير لذلك هما لا يلتقيان عمليًّا، كما أن هذه الحالة العامة عند أصحابها مرت بثلاث مراحل: جمود جسدي جزئي، ثم جمود ذهني كلي، يتبعها جمود جسدي تام، بشكل خالف السيولة الطبيعية في جسم الإنسان على مستوى الذكر والأنثى التي يتماشى شكل جسمها الخارجي المنحني مع صفتي المرونة والسيولة بشكل أكبر.

وخالف الحالة السائلة التي لم يستطع تجميدها بشكل ملحوظ عند الطفل، إلا أن هذه الحالة وباعتبارها تفاعلًا كيميائيًّا باتجاهين تتفاعل مع بيئة خصبة من المعتقدات والعادات والتقاليد، التي تشجع على تجميد الجسد وضبطه لدرجة جعلت عين هذا الجسد لا ترى الجمال في اللوحات الراقصة وتعتبره خروجًا عن الأطر والنواميس، فهذا التغيير الطارئ البعيد كل البعد من فلسفة الرقص الذي استخدم الإيحاء الجنسي كذريعة يتفق تمامًا مع حالة الجمود الذهني والجسدي عند حامليه.

أما المطرقة فإن أفضل تجسيد عربي لها كان في ثلاثية نجيب محفوظ الروائية التي استحالت سينمائية باسم «ثلاثية القاهرة»: بين القصرين(1964)، قصر الشوق(1967)، السكرية(1973)، ففي أول فِلْمين نشاهد الأب الصارم الذي يحكم العائلة بيد من حديد وهو يسهر ويعربد في بيوت مومسات يظهرهن الفِلْم على أنهن راقصات، في مشاهد تعرف الراقصة على أنها مومس ولا شيء غير المومس.

وفي فِلْم السيرة الذاتية «شفيقة القبطية» مثلًا تم الاستعانة بهند رستم لأداء الدور الرئيس لا لأنها تجيد الرقص فقط، إنما لأنها أيقونة إغراء تتماشى مع الصورة التي تريد السينما تجسيدها، والصورة نفسها التي تعكس ثقافة الجمهور، الذي يرى الراقصة فتاة منحرفة أو حتى مدمنة مخدرات كما في فِلْم «الإمبراطور» (1990). فصاحبات المهنة لا يلجأن لها إلا بسبب مشكلة اقتصادية أو أسرية، ونادرًا جدًّا ما يتم تصوير رقصهن التعبيري أو الدرامي مثل الذي تجسده رقصة بحيرة البجع الشهيرة، أي طرح قضية وقصة، أو حتى الرقص التجريدي الذي يعبرن فيه عن هواجسهن بدون رسالة، بشكل محترم، لأن ذات المجتمع الذي يعاني بسبب حالة الجمود التي أطّر بها جسمه، يخاف من أن تهتز هذه الصورة أو حتى تنتهي حين تصبح السيولة أو تظهر بشكل مقبول.

ثالثًا،‭ ‬الرقص‭: ‬الإيقاع: لما‭ ‬كان‭ ‬الجمود‭ ‬لا‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬رغبة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬فإنه‭ ‬برع‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬السيولة‭ ‬والمرونة‭ ‬التي‭ ‬يعبر‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬رقصات،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬رفعت‭ ‬فيها‭ ‬أول‭ ‬فرعونية‭ ‬سرّتها‭ ‬للأعلى‭ ‬ثم‭ ‬للأسفل‭ ‬بشكل‭ ‬متواصل‭ ‬حلقي‭ ‬ليبارك‭ ‬الإله‭ ‬خصبها‭ ‬باعتبار‭ ‬السّرة‭ ‬مركزًا‭ ‬للجسد‭ ‬والأطراف‭ ‬ومرتبطة‭ ‬بالخلق‭ ‬والولادة،‭ ‬والتي‭ ‬يعتبرها‭ ‬الأركيولوجيون‭ ‬والأنثروبولوجيون‭ ‬رقصات‭ ‬مرتبطة‭ ‬بشعائر‭ ‬الإخصاب‭ ‬وغريزة‭ ‬الاستمرار‭ ‬والبقاء‭.‬

فالفلاح‭ ‬في‭  ‬الجزء‭ ‬الشمالي‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬مثلًا‭ ‬حين‭ ‬يرقص‭ ‬الدبكة‭ ‬يدب‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بقدميه‭ ‬فهو‭ ‬متصل‭ ‬بالأرض‭ ‬سبب‭ ‬استمراره،‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يتصل‭ ‬به‭ ‬بالإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يشاركه‭ ‬الأرض‭/ ‬يرقص‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬حلقة‭ ‬تمثل‭ ‬دورة‭ ‬حياة‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬يعتاش‭ ‬منها،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬الشام‭ ‬حيث‭ ‬تأخذ‭ ‬الدبكة‭ ‬شكلًا‭ ‬أكثر‭ ‬قساوة‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بقساوة‭ ‬الصحراء‭ ‬والبداوة‭ ‬تحت‭ ‬تسمية‭ ‬الدحية،‭ ‬فهي‭ ‬تتطلب‭ ‬ضبطًا‭ ‬شديدًا‭ ‬للتنفس‭ ‬حتى‭ ‬يستمر‭ ‬التناسق‭ ‬والتناغم‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجموعة،‭ ‬وتشبه‭ ‬مواجهات‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬ذروتها،‭ ‬فالدبيب‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬يتسارع‭ ‬ويخلق‭ ‬زوبعة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬التراب،‭ ‬والردادة(١) التي‭ ‬تقول‭:‬

هلا‭ ‬هلا‭ ‬به‭ ‬يا‭ ‬هلا                     لا‭ ‬يا‭ ‬حليفي‭ ‬يا‭ ‬ولد

تستحيل‭ ‬إلى‭ ‬همهمات‭ ‬غير‭ ‬مفهومة،‭ ‬خليط‭ ‬متسارع‭ ‬يشبه‭ ‬اللهاث،‭ ‬وإنْ‭ ‬تجاوزنا‭ ‬الفكرة‭ ‬القائلة‭ ‬إن‭ ‬الرقصة‭ ‬أصلًا‭ ‬جاءت‭ ‬للاحتفال‭ ‬بالنصر‭ ‬وللتعبير‭ ‬عن‭ ‬السيطرة‭ ‬والقوة‭ ‬والسطوة‭ ‬للقبيلة،‭ ‬فهم‭ ‬يحملون‭ ‬سيوفهم‭ ‬وأسلحتهم‭ ‬وهم‭ ‬يرقصون،‭ ‬فإن‭ ‬حالة‭ ‬الثوران‭ ‬في‭ ‬الذروة‭ ‬التي‭ ‬تخلط‭ ‬بين‭ ‬الدبيب‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬والتصفيق‭ ‬والهمهمة‭ ‬التي‭ ‬تصيب‭ ‬الراقصين‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬يحتم‭ ‬على‭ ‬الحاشي(٢)‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬سكينًا‭ ‬أو‭ ‬خنجرًا‭ ‬في‭ ‬يدها،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬رقصت‭ ‬بينهم،‭ ‬أن‭ ‬تذكّر‭ ‬أيديهم‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تطالها‭ ‬عند‭ ‬تلك‭ ‬النقطة‭ ‬ببداوتها‭ ‬وتردها‭ ‬عن‭ ‬جسدها‭.‬

مع‭ ‬أني‭ ‬أرجح‭ ‬السبب‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬اعتزاز‭ ‬البدوي‭ ‬المنتصر‭ ‬بالأنثى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬إلهة‭ ‬يومًا‭ ‬ما‭ ‬لدرجة‭ ‬جعلها‭ ‬مركزًا‭ ‬لرقصته‭ ‬الحلقية،‭ ‬وتختلف‭ ‬دبكة‭ ‬النساء‭ ‬عن‭ ‬الرجال‭ ‬بالقوة،‭ ‬فدبيب‭ ‬أرجلهن‭ ‬أنعم‭ ‬تتبعه‭ ‬خطوتان‭ ‬ثم‭ ‬يعدن‭ ‬للضرب‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بدرجة‭ ‬أخف‭ ‬تأكيدًا‭ ‬على‭ ‬الهيمنة‭ ‬الذكورية،‭ ‬والصورة‭ ‬النمطية‭ ‬الرأسية‭ ‬بين‭ ‬الجنسين‭.(٣)‬

وذلك‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الاحتفال‭ ‬والارتباط‭ ‬بالحياة،‭ ‬أما‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬منها‭ ‬فإن‭ ‬الرقصات‭ ‬الجنائزية‭ ‬التي‭ ‬تدلل‭ ‬عليها‭ ‬النوّاحات‭ ‬مثلًا‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬الأخيرة،‭  ‬فلطم‭ ‬تلك‭ ‬النسوة‭ ‬ونواحهن‭ ‬المتناسق‭ ‬يخلق‭ ‬إيقاعًا‭ ‬لدرجة‭ ‬تحيل‭ ‬الحالة‭ ‬الجنائزية‭ ‬إلى‭ ‬رقصة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬المولوية‭ ‬ثنائية‭ ‬الوجد‭ ‬والجذب‭ ‬التي‭ ‬تمتاز‭ ‬بحركات‭ ‬دائرية‭ ‬مزدوجة‭ ‬يرتدي‭ ‬مؤديها‭( ‬العاشق‭) ‬بنطالًا‭ ‬طويلا‭ ‬تحت‭ ‬التنورة‭ ‬يرمز‭ ‬للكفن‭ ‬الذي‭ ‬يرتديه‭ ‬المشتاق‭ ‬للقاء‭ ‬ربه،‭ ‬ويلبس‭ ‬السكّة‭ ‬وهي‭ ‬غطاء‭ ‬مخروطي‭ ‬للرأس‭ ‬ترمز‭ ‬لحجر‭ ‬القبر‭ ‬الذي‭ ‬يوضع‭ ‬عند‭ ‬رأس‭ ‬الميت‭.‬

أخيرًا‭ ‬نجيب‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭: ‬لماذا‭ ‬نقول‭ ‬إننا‭ ‬لا‭ ‬نرقص؟

تختصر‭ ‬إجابة‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬بإننا‭ ‬لا‭ ‬نرقص‭ ‬لأن‭ ‬صورة‭ ‬الراقص‭/‬ة‭ ‬ارتبطت‭ ‬في‭ ‬أذهاننا‭ ‬بانطباعات‭ ‬سلبية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬نظرتنا‭ ‬للرقص‭ ‬بعيدة‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬مفهومه‭ ‬كفلسفة‭ ‬ولغة،‭ ‬وطريقة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬النفس،‭ ‬فالشخص‭ ‬الذي‭ ‬يتلوى‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬ويشبهه‭ ‬الناس‭ ‬بالديك‭ ‬المذبوح،‭ ‬يرقص،‭ ‬ويصنع‭ ‬إيقاعا‭ ‬خاصًا‭ ‬به‭ ‬كمحاولة‭ ‬منه‭ ‬للاندماج‭ ‬مع‭ ‬إيقاع‭ ‬الكون‭ ‬والطبيعة‭ ‬حوله،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬فيهما‭ ‬يرقص‭ ‬من‭ ‬سنابل‭ ‬القمح‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬وحتى‭ ‬أمواج‭ ‬البحر،‭ ‬وخير‭ ‬من‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬هي‭ ‬الكاتبة‭ ‬والشاعرة‭ ‬الأميركية‭ ‬مايا‭ ‬آنجيلو‭ ‬حين‭ ‬قالت‭: ‬‮«‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬لديه‭ ‬إيقاع،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يرقص‮»‬‭.‬


هامش:

(1) الردادة: جملة تتكرر بشكل منتظم في أثناء الغناء والرقص في الدبكة.

(2) الحاشي: المرأة التي تدخل الرقصة تحمل خنجرًا أو عصا ويكون جسمها مغطى بالكامل وهي التي   تبدأ بترديد الشعر بين صفي الرجال.

(3) أؤرِّخ لهذه الحوادث بناء على تجربة شخصية عاينتها بنفسي في العديد من مناطق الأردن.