المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

بيروت.. غواية الخراب .. مبانٍ شهيرة عاشت أهوال الحرب تلهم كتابًا وفنانين

بواسطة | سبتمبر 3, 2018 | تحقيقات

بات لافتًا في بيروت مدى اهتمام مجموعة من الفنانين والكتّاب والمصورين من عشاق الفنون المعاصرة، ببعض المباني القديمة التي عليها أثر الحرب الأهلية (1975 – 1990م)، فهي تشكل نقطة ارتكاز للمشاريع الفنية المابعد حداثية ورسوم الغرافيتي والتصوير والرواية والفن التشكيلي، وأحيانًا تصل إلى المبالغة في الدوران حول الموضوع نفسه. وأشهر هذه المباني «بيت بيروت» و«السينما البيضاوية» وفندق هوليداي إن، وبرج المر، وفندق سان جورج. وما يجمع هذه المباني، هو الخراب الذي أصابها وفتك بها، والحكايات التي خرجت منها، وتحمل الكثير من المعاني والتأويلات سواء عن الحرب أو الأمكنة أو لبنان أيام ما يسمى «الزمن الجميل»، و عن «العمارة البيروتية» وأسطورتها وتاريخها وتكوينها. فسان جورج يعتبر أول عمارة من الباطون المسلح في بيروت، وبرج المر كان أعلى مبنى في لبنان حتى زمن قريب، وسينما الدوم تقع في مول سيتي سنتر الذي يؤرخ باعتباره أول مول تجاري في الشرق الأوسط، أما مبنى بيت بيروت فهو مزيج من الثقافة العثمانية، وشيّد في زمن الانتداب الفرنسي وبقي صامدًا خلال الحرب الأهلية، وربما هو من «فلول» العمارات القديمة التي في طريقها إلى الانقراض في بيروت.

برج المر

ولكل مبنى من المباني المذكورة حكايته. برج المر الذي يعتبر محسوبًا على وسط بيروت، ومصممًا ليمثل مركزًا تجاريًّا، شيّده الوزير السابق ميشال المر في بداية السبعينيات في إطار المنافسة على من يمتلك أعلى برج في بيروت وكان ينافس برج «رزق» في الأشرفية، شرق بيروت، وقدر له أن يشكل معقلًا للقناصين والميليشيات خلال الحروب الأهلية اللبنانية، ولم تشهد طوابقه أي إضافة من عام 1975م، بقي شاحبًا باهتًا، يحمل ذكريات قاسية وأليمة، رغم مرور نحو ثلاثة عقود على نهاية الحرب، لا يرى المارة من المبنى إلا هيكلًا مهجورًا، وذاكرة وحيرة، في كل طابق من طوابق البرج الـ34، تركت مجموعة مسلحة بعض البصمات، من خلال رسمات غرافيتي، أو عبارات وكلمات أو حتى أعلام مجموعات مسلحة، البرج الذي يطل على معظم أحياء العاصمة بيروت، استخدم نقطة قتالية إستراتيجية، فهيكل البرج وتصميمه وطوابقه العالية جعلت منه موقعًا «مثاليًّا للقنص»، حيث رسم ذلك في مخيلة اللبنانيين دائرة وهمية قطرها 2 كلم حول البرج، تخيف كل من يفكر في الاقتراب منه، في خضم المعارك التي قتلت المئات، وفق ما يذكر الباحث سون هوغبول في كتابه «في الحرب والذكرى في لبنان». وكان في البرج أيضًا سجن كبير بحسب الروايات، لاعتقال المسلحين من كل الأطراف، حسب المجموعة المسيطرة على المبنى، ومنذ تسلمته شركة سوليدير كانت الحيرة بين هدمه وترميمه، شكل رمزًا جاذبًا للأعمال الفنية والبصرية والتشكيلية والتقاط الصور وتحميله الكثير من المعاني.

فقد صور الفنان نصري الصايغ برج المر بطريقة فنية ونشر صوره في كتاب «لياليّ أمر من أيامكم»، العنوان هو تحوير متعمّد لعنوان فيلمٍ للمخرج البولوني أندره زولافسكي. يقول الصايغ: «ليالي زولافسكي أجمل بالتأكيد، لياليَّ أيضًا هي أجمل، لكنّها، في لحظات، تبدو أمرّ. هذه المرارة التي تخنق الحلق، عنيدةٌ. ليالٍ بيروتية مصنوعة من ترحلاتي المتخيّلة، تشقّقات فجر سكرى بنشوة الصور، التي لا تزال هشّة. ليالٍ مرّة حيث تمتزج الكتابة فيها بالأثر الفوتوغرافي، وهي لعبة كلمات. في ذلك المكان حيث ربما وبتواضع محاولة لتثبيت ذاك الدوار الرامبوي «نسبة إلى الشاعر آرثر رامبو»: «لقد حان دوري. هذه قصة إحدى نوبات جنوني». عن سبب اختياره برج المر للتصوير يقول: «دخلتُ في علاقة غرام ممنوع مع برج المر بالتحديد الممنوع أن نصوّره بسبب وجود الجيش (اللبناني) ولما يملك من خصوصية، فله ماضٍ وتاريخ. التقطت الصور من سيارتي من زوايا مختلفة ليلًا. كانت الصور لقاء وإحساسًا لا غير، البرج ما زال حيًّا مع أنّه ميت. هو جزء أساس من الماضي الذي لم يتبرّج، وبقي معلمًا جغرافيًّا للمارين وسائقي السيارات». يضيف الصايغ: «برج المر هو معلم مكرّم لدى الفنانين، هذا البرج يسكن ذاكرتنا الجماعية كمجموعة قصص وحكايات وحقائق تشمل قناصين ومحاربين يسقطون من فوق سطحه».

وتزامن كتاب الصايغ مع مبادرة من الفنان والمهندس جاد خوري إذ ضخ شرايين البهجة في نوافذ البرج، من خلال وضع ستائر ملونة للبرج، تكسر شحوبه النمطي وتخفف من صورته التي ترتبط بالحرب ومآثرها، وبحسب خوري فإن الستائر تعطي روحًا للمدينة، واستمرت النوافذ لمدة شهر سرعان ما أزيلت من شركة سوليدير.  رسم الفنان أيمن بعلبكي برج المر بشحوبه وكآبته وخلفيته زهورًا تبعث الأمل مع التركيز على دوره في الحرب، وركزت الفنانة جنان مكي باشو، على نوافذ البرج في عمل لها، إذ تبدو النوافذ أشبه بقبور مبنية في الفضاء، مشهدية مؤثرة غامضة تدل على متاهة الحرب ولعبة القناص القاتلة، ولا تزال تداعياتها حتى الآن في الأذهان والنفوس.

وفي السينما حضرت رمزية البرج بين صور المخرج محمد سويد في فلمه «حرب أهلية»، وفي فلم «شو عم بيصير» لجوسلين صعب التي حولت البرج المثقل بتاريخ القنص إلى سوق عكاظ، مسكونًا بالكتب والشعر… في المقابل، أخرجت لينا غيبة فلمًا متحركًا قصيرًا عن البرج، سمته «برج المر». وهي عاشت في محيطه، كانت تراه كل يوم من زاوية مختلفة. يبدأ فلم «غيبة» بجملة بصوت الفنان حامد سنو، يغني واحدة من أغاني مشروع ليلى: «حبيبي»، وينتهي بكلمتين منها: «حبيبي خليك…»، حيث يصير للبرج رجلان يتنقل بهما ذاهبًا نحو المجهول. وكتب المغربي محمد الخلاد قصيدة بعنوان: «لا يمُوت الحُلم مرتين» يقول فيها:

بيت بيروت، بريشة أيمن بعلبكي

(1)

بُرْجٌ من مَرارةِ الناس

أهذا ما تبقَّى من بيروت

جدارٌ يرتفع حجرًا حجرًا

في فراغِ الخَرَاب

ومَبَانٍ مفقوءةُ العيون

تسكنها ظِلال مرعبة

وذكريات مثقوبة بالرصاص؟

… (…)

بيت بيروت

ومن المباني الغواية «بيت بيروت» (بناية بركات سابقًا) الذي رممته بلدية بيروت وحولته متحفًا للحرب اللبنانية. تبدأ حكاية «بيت بيروت» عام 1924م. بعدما عمّر يوسف أفتيموس (1866 ــــ 1952م) المهندس المعماري الطليعي، البيت عام 1924م بطابقين فقط، أتى بعدها ليكمل بناء المبنى في عام 1932م، لكنه عندما رأى الدرج الذي بناه المهندس الشاب فؤاد قزح، تنازل عن إكماله وسلّم الأخير العمل بسبب كفاءته. استعمل الأسمنت وطلاه باللون الأصفر بحِرَفية عالية حتى صَعُبَ التمييز بينه وبين الحجر المصقول. ارتفع قزح بباقي طوابق المبنى وربط بينها بواسطة جسور معلقة في الهواء ظلّلتها الأعمدة. مع بداية الحرب الأهلية عام 1975م، وجد سكانه أنفسهم في قلب الحدث وفي وسط الحرب، على خطوط تماس بين «الشرقية والغربية»، ومن المفارقات أن من بين سكانه طبيبًا ينتمي إلى حزب الكتائب، وبجواره مواطنًا ينتمي إلى حركة فتح. غادر السكان المبنى لتحتله الميليشيات المتحاربة التي جعلت من هندسته المفتوحة على المدينة نقاط تمركز أساسية، استخدم المقاتلون شبابيك المنزل للقنص، واستطاع القناص موالفة ديكوراته ومتاريسه مع هندسة البيت. حيث تعاونت الميليشيات مع المهندسين لإجراء تغييرات هيكلية، مثل تعزيز الجدران، وفتح ثقوب بحجم صندوق البريد لإطلاق النار منها. في زمن السلم ما لم يدمره القصف بدأت تقضمه الجرافات، كان أصحاب مبنى بركات يستعدون لهدمه، الصدف أنقذته، إذ كانت المهندسة اللبنانية منى حلاق تتردد باستمرار إلى محيط المبنى بوصفه نموذجًا ذا قيمة عمرانية يرتبط مباشرة بذاكرة الحرب. أثناء مرورها أمام المنزل في عام 1997م، استوقفتها بعض التغييرات الطارئة عليه، فقد رأت جزءًا من حديد المنزل وبلاطه الملوّن مفككًا، تمهيدًا لعملية الهدم. ذهبت منى فورًا إلى «جريدة النهار»، طالبة منهم نشر صورة المبنى مع عبارة «وقف الهدم». خمسة أيام من الجهد، من قبل منى وبعض الأصدقاء استطاعوا فيها وقف عملية الهدم. «بيت بيروت» اليوم، احتفظ بشكله الخارجي، لكنه تحول متحفًا لذاكرة هذه المدينة. وهو يمثل مركزًا ثقافيًّا للفن الحديث، وقد بات يستقبل أعمال رسامين ونحاتين وفنانين كثر بعد انتهاء أعمال الترميم التي استغرقت سبع سنوات. وتكمن أهمية الحفاظ على مبنى بركات في كونه يوثّق لمرحلة انتقالية في تاريخ لبنان العمراني، يروي ذاكرة حرب دمرت مدينة كانت في طور التشكل، كل حجر فيه له حكايته وكل غرفة لها قصتها، خصوصًا أنه نجا من طموحات وحوش المباني الخرسانية التي كانت تفكر في هدمه.

 

مبنى بركات بات مقصدًا للمصورين الأجانب والشبان، وعرضت فيه الفنانة زينة خليل رسوماتها واستخدمت فيها أقمشة مثل الكوفيات المغمسة بالحبر الأسود الذي هو نتيجة مزج الرماد والصباغ. أما الصور ومقاطع الفيديو فهي توثّق الأمكنة التي شهدت طقوس الشفاء وتظهر حالة الدمار الذي خلفتها الحرب في تلك الأمكنة. واهتمت به الفنانة النرويجية ماري ميد هالسوي… بعنوان «جروح» يدّعي «شفاء جروح بيروت»، تلك التي خلّفتها الحرب اللبنانية بمظاهرها العمرانية والنفسية. اختزلت هالسوي حرب خمسة عشر عامًا بإعادة بناء جدار البيت الأصفر في إحدى غاليريهات لندن، راسمةً ثقوبه لكي يتسنى لها أن تغطيها بالأقمشة. وسبق لمنى حلاق أن جمعت الأغراض الشخصية الخاصة بسكان المبنى قبل الحرب، وفي عام 2001م، قدمت الحلاق معرضًا تجهيزيًّا بعنوان «وجوه ضائعة» في بيروت ضمّ أدوات، وملابس، ومعدات طبيّة، وأحذية ورسائل عثرت عليها في شقّة طبيب الأسنان نجيب الشمالي الذي كان يسكن الطابق الأول من المبنى. إلى جانب معرض تجهيزي آخر بعنوان «يوسف أفندي أفتيموس 1866م- 1952م، عمارة فوق الزمان».

هوليداي إن

فندق «هوليداي إن»، مبنى سان شارل سابقًا، شُيّد بين عامي 1963م و1964م. وكان جزءًا من مشروع «سانت تشارلز سيتي سنتر» الذي كان يضم أيضًا مبنى تجاريًّا ومركز تسوق وصالة سينما. لطالما كان فندق «هوليداي إن» في بيروت رمزًا «لعصر لبنان الذهبي» تحوّل إلى أهم مقر لعقد المؤتمرات في لبنان، وإقامة أهم الحفلات الكبيرة فيه، ومن أهم زواره النجمة العالمية داليدا وأم كلثوم وفريد الأطرش، وصُوِّر أكثر من 15 فلمًا داخله (مصري لبناني سوري مشترك). وسرعان ما بات شاهدًا على الحرب الأهلية. كل شيء منزوع من الغرف، الدهان، البلاط، الأبواب، النوافذ، الأثاث، الأخشاب، التمديدات الكهربائية والصحية. لم يبقَ شيء سوى الجدران. وشعارات الذين مروا من هنا. وهو بعد أن شكّل علامة فارقة في الأفلام العربية التي كانت تُصوّر في لبنان، صار أيضًا محطة لتصوير الأفلام التي تتحدث عن الحرب منها فلم «التزييف» لشلوندورف كتابة نيكولاس بورن. وخلال الحرب كتبت الروائية السورية غادة السمان روايتها «كوابيس بيروت عن الحرب». تبدأ الرواية وهي تحاول بمساعدة أخيها إخلاء منزلها من النساء والأطفال وأخذهم لمكان آمن نسبيًّا وبعيدًا من القصف، ولكنها ما إن تعود إلى شقتها بعد عملية الإخلاء الناجحة حتى تفاجأ بأن فندق هوليداي إن، الذي يقف أمام بيتها مباشرة قد تعرض «للاحتلال» من قبل المسلحين، وهكذا تجد نفسها عالقة في شقتها في قلب الأحداث وفي قلب الطلقات النارية غير مجهزة بالموارد الغذائية مع احتمال انقطاع الماء والكهرباء عنها، وتتساءل والحال كذلك عن جدوى الأدب والشعر في هذه الحالة، وتتمنى لو أنها تعلمت بعضًا من فنون القتال للدفاع عن النفس في مواقف عصيبة كهذه! واختار الروائي ربيع جابر اسم الفندق ليكون عنوان روايته «طيور الهوليداي إن»، وهي عن حرب السنتين في لبنان، ورسمه أيمن بعلبكي تحت اسم «القناص». حتى اليوم لا يزال فندق «هوليداي إن» منتصبًا وسط بيروت، إذ لم يجر ترميمه نظرًا لضرورة هدمه وإعادة بنائه من جديد، الأمر الذي يحتاج إليه كلفة مالية باهظة.

  السينما البيضة

يستوقف معظم المارين في وسط بيروت مشهد مبنى بيضاوي الشكل، عليه بقايا من اللون الأبيض. إنه مبنى «سينما سيتي»، بُني عام 1965م ولا يزال شاهدًا على نهضة الستينيات، لم يبق منه غير هذا الهيكل البيضاوي الفضائي المهجور. آل صمدي وآل صالحة هم من بنوه، بعدما صمّمه المهندس جوزف فيليب كرم. مع إعادة إعمار وسط بيروت الذي بدأته شركة سوليدير في أوائل التسعينيات، وُضعت مخططات عديدة بقصد ترميم القبّة الباطونية، كان أبرزها ذلك الذي قدّمه المعماري برنار خوري، ويقضي بتحويل التصميم البيضوي إلى كتلة ضوئية مغلّفة بمرايا تلتقط قشرتها الخارجيّة وتعكس محيطها. لكن، سرعان ما أجهض هذا المخطّط، عام 2004م، من دون سبب وجيه. الفنان سمير خداج قدم في سيتي سنتر عام 2003م، أعمالًا تجهيزية ضخمة في ترجمته الرهيبة لمأدبة بترونيوس الفاجرة Satyricon، إلى مسرح روماني لوليمة خيالية. عمالقة وملوك وجنود ورجال عاديون وراقصات ومهرجون يتوزعون حول الموائد ويحيون. كل هذه التماثيل لا تستعيد «ساتيريكون» فقط. الفنانة هاتي بيدر رسمت الصالة البيضاوية في مشهدية تجمع التناقضات، الفنان أيمن بعلبكي رسم السينما من ضمن رسمه المباني التي ترمز إلى الحرب بدءًا من بيت بيروت ومبنى هوليداي إن وكثير من المباني التي دمرت وأزيلت من بيروت. الروائي اللبناني ربيع جابر كتب رواية «بيريتوس مدينة تحت الأرض» انطلاقًا من ذلك المبنى المهجور، كتب في تعريف الرواية: حارس سينما سيتي المهجورة ينزل ذات ليلة ماطرة إلى مدينة تحت بيروت تسمى بيروت أيضًا. ماذا يجد بطرس «تحت»؟ نساء فاتنات الجمال، وعائلات كاملة تحيا في نور الشموع طعامها السمك الأعمى وخبز السمك والجذور البرية… من أين أتى هؤلاء؟ ومن هم العميان في حي العميان؟ هل نزلوا من «فوق» أيام الحرب اللبنانية التي قتلت أكثر من مئة ألف إنسان، وأخفت في الظلمات 17 ألف مخطوف؟ أم أنهم ولدوا تحت رواية عن عالمين، عن التهجير والقتل والبقاء على قيد الحياة.

السينما البيضة، بيروت سيتي سنتر

فندق سان جورج

وربما فندق السان جورج أقل جاذبية لأعمال الفنانين من المباني التي ذكرناها سابقًا، لكن حكايته التاريخية أكثر غواية. فهو الفندق الذي أُحرِق خلال حرب الفنادق، واحتله الجيش السوري حتى عام 1996م، ودخل أصحابه في نزاع مع شركة سوليدير، وانهار جزء منه في الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري عام 2005م. «السان جورج»، هذا الفندق له رمزيته المعمارية والمكانية والسياسية، فقد صممه المهندس الراحل أنطون تابت، عام 1929م، وبات السان جورج من أشهر العمارات في بيروت، لكونه شيّد بالباطون المسلح. وفي عام 1945، أقام فيه الفنان صليبا الدويهي معرضًا فرديًّا، واعتبر فيما بعد أهم معرض له في لبنان، وكان موضوعه القرية والوديان بطريقة فلكلورية. وكان السان جورج موئلًا ومقصدًا للإعلاميين والسياسيين على مستوى عالٍ، فعلى مر السنين أصبح ملهاه الليلي، ملتقى رجال السياسة اللبنانيين والسفراء والملوك، مثل محمد ظاهر شاه ملك أفغانستان، والملك الأردني حسين. كما كان مقرًّا للمشاهير، أمثال المغني الفرنسي شارل أزنافور، والجاسوس البريطاني كيم فيلبي، ونجوم هوليوود من أمثال إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون، إضافة إلى فنانين عرب مثل أم كلثوم. وحين فازت جورجينا بلقب ملكة جمال الكون خصص لها الفندق غرفة بمواصفات خيالية، إذ طليت مقابض أبوابها وحنفياتها بالذهب الخالص، كما حمل باب الغرفة الرئيسي الحرفين الأولين من اسمها اللذين كتبا أيضًا بأحرف ذهبية.

فندق سان جورج

ومقهى «السان جورج» العنوان الدائم لكبار الصحافيين، من المصري محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام، إلى اللبنانيين سليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث، وعفيف الطيبي رئيس تحرير جريدة اليوم، وحنا غصن رئيس تحرير جريدة الديار… إضافة إلى عدد من الصحافيين الذين عملوا في الوقت نفسه كأبرز عملاء للاستخبارات الغربية والإقليمية. ومراسل صحيفة «كونتيننتالي»، المصري خيري حماد، كان من أبرز عملاء الاستخبارات المصرية، وقد عمل على نسج علاقات واسعة مع عدد كبير من السياسيين اللبنانيين، ومع ضباط أمنيين في المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية. وكان الفندق يحتوي منتديات شهيرة. فبلاج «سان جورج» الملحق بالفندق، كان مقصدًا للبورجوازية اللبنانية السياسية والاجتماعية. أما السياسي المداوم على السباحة يوميًّا في «سان جورج»، فكان ريمون إده، العازب الأشهر في زمانه. يقول الصحافي سمير شاهين: ومن ذكريات بلاج «سان جورج»، أتذكر أن النائب السابق مخايل الضاهر تعرف إلى زوجته في هذا البلاج. أما هنري فرعون السياسي والمالي الشهير، فكان يُشاهَد يوميًّا في إحدى الزوايا يلعب «الطاولة» النرد على مبالغ كبيرة مع ميشال نادر مستثمر البلاج. وكان السفير عبدالرحمن الصلح من بين أكثر الوجوه السياسية المترددة على هذا البلاج. أما كامل الأسعد، فكان يؤثر السباحة في بلاج محدود الحجم، يقع في الجانب الآخر من الفندق تحت اسم «إيليت» Elite حيث كان يمارس أيضًا لعبة التنس.

وأبعد من الصحافة والزعامة اللبنانية، كان الفندق «وكرًا» للجاسوسية العالمية. يسرد الصحافي سعيد أبو الريش قصصًا عن جواسيس «السان جورج»، والأنشطة الأمنية الأميركية والأجنبية في بيروت، وعن مؤسسات أميركية تتخذ طابع العمل الإنمائي والثقافي، وكانت في الواقع تهدف إلى جمع المعلومات وتحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية في عيون العرب. وبقي الأشهر هو الجاسوس فيلبي، الذي ما زال الغموض يلف أسرار تهريبه من بيروت، وكان من أبرز عملاء الاستخبارات البريطانية والسوفييتية في الوقت نفسه. ويحاول كتاب سعيد أبو الريش، فك هذا الطلسم، فيذكر أن فيلبي، بعد استقراره في موسكو، أبلغ فيليب نايتلي من «صانداي تايمز»، بأن الاستخبارات البريطانية سمحت له بالهرب لتحاشي اعتقاله ومحاكمته التي ستؤذي حتمًا كبار أركان جهازها. كان النادل اللبناني، ينقل إلى الأمن العام كل ما يسمع ويرى. وبعد تقاعده في كاليفورنيا، لحق به أبو الريش إلى لوس أنجليس، ليستطلعه أخبار الماضي، فرفض البوح بما يملك من أسرار.

«بار السان جورج، إذا نظرنا إلى خصوصيته العالمية، فيجب الأخذ بعين الاعتبار أنه ركن يقع داخل بيروت لكنه منفصل عنها. إنه نموذج مختلف ومراوغ، منه تطل على العالم وتتدخل فيه أيضًا!! أي تغيير وليكن انقلابًا أو تعديلًا وزاريًّا… لا بد من أن يمر أحد فصوله داخل البار، وإذا وقع بصرك على شخصين يتبادلان حديثًا هامسًا، فتوقع شيئًا ما سيحدث غدًا، أو في القريب العاجل في إحدى عواصم المنطقة». هكذا يصف أوستن رجل الاستخبارات الأميركي أحد أبطال رواية «الضغينة والهوى» لفواز حداد بار السان جورج، والسان جورج ورد في روايات عديدة منها «يمنى» لسمير عطالله، و«بيروت» لإسكندر نجار، ويوم احترق الفندق في المرة الأولى في حرب الفنادق، كأن غلاة الميليشيات يحرقون بيروت من خلاله.

***

وتقف المباني المذكورة والمصابة بجروح الحرب والغارقة في خرابها أو حنينها، شاهدة على زمنها المرير وعلامة على زمن «جميل» قضى ولم يبقَ منه غير الحكاية.

المنشورات ذات الصلة

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي، مبادرة وزارة الثقافة السعودية، تستطلع «الفيصل» آراء عدد من الشعراء العرب، حول راهن الشعر...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *