المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

«جيش من رجل واحد» للريامي و«سيرك الحب» للصالحي: الاغتراب في الحداثة، وكوميديا ما بعد الحداثة

بواسطة | مايو 1, 2023 | قراءات

يحفل تراث النقد العربي بتصنيفات عدة للتمييز بين الشعراء وطبقاتهم وفق معايير تتعلق بطبيعة ومستوى عطائهم وأغراضهم وإجادتهم في عديدها. ومن بين تلك التصنيفات: (الشعراء المكثرون) و(الشعراء المقلون). ومن المهم هنا التنويه إلى أن توصيف شاعر ما بأنه مُقِلٌّ، لا ينال من مكانته، إنما بقصد مقارنته مع مَن هم مِن صنفه وطبقته. وعلى وفق هذا المعيار نرى ابن رشيق في كتابه «العمدة في صناعة الشعر ونقده» عدَّ في المُقلين: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وسواهما.

وإذا كانت قلة شعر طرفة مفهومة؛ لأنه مات مقتولًا وهو في منتصف العشرينيات من عمره، فإن ابن رشيق يضعه إلى جانب عبيد بن الأبرص أكبر الشعراء المعمرين في تاريخ الشعر العربي، حتى إن بعض الروايات المبالغ فيها زعمت أنه عاش 300 مئة سنة! وهو ما يبين أن الإقلال في الشعر له أسباب مختلفة، وإذا كان المكثر في الشعر العربي لا يخلو من إسفاف فإن المقل عادة ما يهتم بالجودة، فعطاؤه يكون على أساس النوعية والجودة، وليس على أساس الكم. وهنا نرى شعراء نالوا مكانة تضاهي المكثرين على الرغم من قلة شعرهم، وامتداد صمتهم لسنوات قبل أن يعاودوا القول الشعري، بل إن فيهم من صمت بعد قصيدة واحدة وهنا يمكن أن نذكر (أصحاب الواحدة) الذين حظوا بمكانة مرموقة، بل بشهرة واسعة بقصيدة واحدة لا غير!

من الإقلال ما يكون سببه التزام الصمت الشعري، وهذا بدوره قد يعبر عن موقف إزاء العالم أو يصدر عن شعور مؤقت بالعجز إزاء الكتابة، وقد يكون الصمت نفسه نوعًا من الكتابة الاستبطانية، أو المونولوغ الداخلي بالتأمل والاستغراق المختزنين في الداخل، وعدم التشتت عن الذات في الانتباه للمدينة والأشخاص والأحداث. لهذا فإن الشعر الذي يكتب بعد مدة صمت، غالبًا ما يكون أكثر كثافة، وخاضعًا للمراجعة، ومتسمًا بالتأمل.

لدينا هنا شاعران هما العماني عبدالله الريامي والمغربي عبدالإله الصالحي، يمكن إدراجهما وفق هذا التصنيف ضمن الشعراء المقلين، كلاهما عائد من صمت.

«جيش من رجل واحد» شعر أكثر فلترة

عبدالله الريامي يعود من الصمت بشعر أكثر فلترة، ومعمار أكثر صفاء وأقل حشوًا في قصيدته. وهو ما يظهر بجلاء في مجموعته الجديدة «جيش من رجل واحد» -(محترف أوكسجين للنشر، 2023م) – التي تحمل منذ عنوانها مفارقة قوامها: الحشد والقوة والبأس متمثلة بالجيش، والقلة والضعف والوحدة: متمثلة بالإنسان الفريد الوحيد. لكن هذه المفارقة سرعان ما تفصح منذ بدء الرحلة عن جانب آخر منها: الجانب المأساوي، وهو الضعف الإنساني والهشاشة: «أنا جيش/ من رجل واحد/ لا تخف على مستقبلك مني/ ما أزالُ مشغولًا بالماضي/ أسير إلى الوراء/ ضد التيار».

هكذا يصور تعبه، مبكرًا، معلنًا انسحابه مع فلوله في موكب للوراء، وهكذا يتحول (الجيش) الذي يفترض أنه حمى وعاصم ونجدة، إلى انكشاف، بل إلى عبء شخصي على الشاعر في هذا العام المليء بالمعارك الخاسرة، والهزائم الجماعية والفردية. هذا الاغتراب عن الحاضر، والزهد التام بأي مستقبل، المعبر عنه بمسيرة متقهقرة (لجيش قوامه رجل واحد) تصبح مرهقة حقًّا؛ لأنها مسيرة مُنهِكة ضد التيار. لكن ماذا سيجد الشاعر في رحلته العكسية أو انسحابه المضني؟ «لم أكن من شعراء المهجر/ ولم أحمل خريطة/ فهي لن تشير إلا إلى موجود».

لا بوصلة تحدد وجهة ولا خريطة تشير إلى غاية، فليس ثمة أمل وغاية سوى التيه في مفارقة مؤسية «كلما ضللت وصلت أسرع» وهذا ما يجعله تيهًا مركبًا؛ إذ تعتمل الحيرة بداخل الشاعر، وتتجسد بوضوح وحِدَّة نافرتين في مواضع عدة داخل الديوان: «عندما أهرب/ سيكون العالمُ لي/ أنا في كل مكان/ ولست في أيّ مكان».

المكان المهجور والمكان البديل

الواقع أن ثيمة (المكان المفقود) والبحث عنه: «لا يمكنك العثورُ عليّ/ وأبحث عنك في كل مكان». أساسية في ديوان الريامي، وقد تكون طروحات الفرنسي غاستون باشلار في كتابه «شاعرية المكان» نموذجية لمقاربة هذا الثيمة الواضحة في ديوان الريامي، ولا سيما تلك الفرضية التي يسوقها عن المنازل بوصفها إمَّا مكانًا مستذكرًا ومستعادًا، أو مكانًا في أفق الأحلام والتطلعات. إذًا لا يقف مصطلح المكان بمعناه الكامل في الشعر عند حدود الموقع الجغرافي وسمات البيئة المحلية فحسب، بل يشمل تاريخ الوجود البشري وما قبله. (المكان) يشمل كذلك من يعيشون فيه، وكما هو الحال في كل الشعر، فإن صوت الشاعر يبني المكان الشخصي في القصيدة. والآخرون جزء من مشهد القصيدة. ووسط تعقيدات عالمنا المعاصر، يمكن وصف محاولة الشاعر لإضفاء طابع مثالي على العالم بما يجعله مكانًا جديرًا بالعيش، مهمة شاقة إن لم تكن مستحيلة، فسرعان ما تتصادم هذه المحاولة مع نواميس الوعي السائد والرأي العام العشوائي، ولا سيما حين يسعى المجتمع لتدجين الفرد الشاعر وسلبه نزاهته وإدراجه قسريًّا في منظومة الحشد والسرب الجماعي.

«لم يتبق في ذهني/ مكان أختبئ فيه/ ولا مِن حولي/ إن لم تجده في الأول/ فلن يكون في الثاني».

عبدالله الريامي

وهنا يحدث التصادم بين عالمين، ولأن الشاعر يرفض المساومة ويتمرد على مثل هذه الصفقة من حيث عدم القدرة على التكيف الشخصي مع ما حوله، تكمن مشكلة الرغبة في إعادة تشكيل عالمه، في أن العالم قد تكوَّنَ بالفعل وهو أكثر رسوخًا من أية محاولة لتقويض جوانب منه وإعادة تشكيلها؛ لذا عليه أولًا نبذ ما هو قائم ومغادرته، وهنا يلجأ الشاعر إلى نوع من المخاتلة، لكنها مخاتلة بلا جدوى ذلك أن العالم البديل الذي يسعى له الشاعر يبدو كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه: «كن في لا مكان/ وفي كل مكان».

حتى يبلغ به اليأس والعجز إلى التسليم بالمصير: «لا مكان أذهب إليه/ سأتحلل على كرسي طاولتي». يتخذ المكان أحيانًا شكل المنزل، منزل الطفولة، أو منزل المهجر، أو منزل الأحلام، فالمنازل التي سكناها مرة وغادرناها إلى الأبد تبقى تواصل العيش بداخلنا. وهذه المنازل تحضر بشتى صورها في شعر الريامي: «لاحقتُ منزلًا/ يعبر الحدودَ كلَّ يوم». أو: «أَحْمِلُ على ظهري بيتًا/ أُسُسه تنغرسُ في كتفيّ».

وبما أن تلك المنازل التي عشنا فيها يومًا قد خُلِّدت بداخلنا، فإننا نسترجع ذكرياتها القديمة كما نسترجع حلمًا. أهم حاضن حدَّده باشلار لتقوية الصلة بين المنزل والفرد هو الحلم. «حقيقة أن طفولتنا لا تزال حية وجريحة، شعرية في داخلنا لم تتحقق على مستوى الحقائق بل على مستوى الحلم»، حتى يحل الحلم بديلًا ويصبح أنيسًا في العزلة والفراغ. «الغرف الفارغة هادئة/ أكثر من أي مكان آخر/ أُفَضلها فارغة/ لا أحد يملأ الفراغ».

ومن المهم هنا ملاحظة الجناس بين (غرف وفراغ) فمنازل الماضي تترك أثرًا في الجميع، وتكاد تصرخ بنا أن نستذكرها كي تستعيد الحياة من خلال ذاكرتنا. كما أنها مرتبطة لدينا بنوع من الشعور بالندم: فلم يتسنَّ لنا العيش فيها مدة كافية. بيوت الماضي مدفونة في الذاكرة، وتكاد تبدو غير واقعية، لكنها تمدُّنا بشعور بالسعادة عند تذكرها، ولأننا لم نعد نتذكرها بوصفها حقائق راهنة، فإن صورها تبدو شبحية وفقاعية:

«في هذا المنزل الفارغ/ بقايا صابون/ في هذا المنزل الفارغ/ هناك ظلام حيث كان نور».

على العكس من منازل الماضي، غالبًا ما تكون منازل المستقبل أكثر ثباتًا ووضوحًا؛ فهي يمكن أن تلوحُ حلمًا متاحًا لكل من يرغب في العيش فيها، ويتخيل بداخلها ما هو أكثر طمأنينة وجمالًا. بيد أن تخيل منزل المستقبل يسير في مسار مزدوج: بحيث يتوجب أن يحقق التوازن بين الحلم والواقع، وهي معادلة يصعب تحقيقها عادة؛ لذا فمن الأفضل ترك منزل المستقبل آمنًا في عالم الأحلام، والاستمرار في تأجيله وتخيله، لأنه، كما يقول باشلار «أن تعيش في مكان مؤقت أفضل من أن تعيش في مكان نهائي وأخير». «عندما أغادر منزلي/ يُظَنُّ أنني ذاهبٌ/ لفتح العالم/ وكل ما قمت به/ هو إغلاقُ الباب خلفي». «لا نَرِثُ في هذا المكان/ غير الله وعُمَان».

شقاء الوعي ومأزق العالم

الوعي الشقي، أو الشقاء بسبب الوعي، قديم وملازم للشعراء، وقد عبر المتنبي عن تلك الفكرة مبكرًا ببيته الشهير:

ذُو العقلِ يَشْقى في النَّعيمِ بِعَقلِهِ

وَأَخو الجهَالةِ في الشَّقاوةِ يَنعمُ

وشقاء وعي الشاعر، أعرق وأوثق من سواه من بني البشر، ومنذ أن جرى تعريف مفهوم الاغتراب فلسفيًّا من خلال أفكار هيغل وماركس انطلاقًا من فكرة الاغتراب الديني لدى فويرباخ، بدا أن تاريخ الإنسان هو تاريخ الاغتراب أيضًا. وحين يجري تطبيق آراء الفلاسفة حول مفهوم الاغتراب وتجلياته في عصرنا، ستظهر حالة الاغتراب التي ترسخت منذ حقبة الحداثة في القرن العشرين أن الفرد في حاضرنا صار أكثر عزلة مما مضى، وغدا معزولًا عن نفسه ومجتمعه. فمع التحديث، ازدادت التطورات التقنية في العالم، وواجه الأفراد العزلة حيث تحولت أنماط حياة الإنسان تدريجيًّا إلى آلية فأنتجت هذا الذعر في كيان الفرد الحديث المتناشز مع عصره بحيث لا يستطيع الشعور بالانتماء إلى مكان ما: «أنت خائف من طول البقاءِ هنا/ وأنا خائفٌ أن هذا هو المكان الوحيد الذي أعرفه».

تراث الخوف ترسخ في كيان الفرد الذي واجه ظروفًا شتى منذ خروجه من الكهف وصولًا إلى مجتمع اليوم الذي أدمجه، شاء أم أبى، في عصر الرقميات، فكان عليه مواجهة العديد من التغييرات الجسدية والنفسية. وبفعل هذه التغييرات المستمرة، يصبح المأزق صعبًا، وتنحسر قدرة الشعر القديمة، فيتخلى عن كونه (رسالة سامية) وإصلاحًا إنسانيًّا ليختزل دوره ويصبح مجرد تميمة للخلاص الفردي: «لا تكتب قصائد لتغيير هذا العالم/ اكتب لإنقاذ حياتك».

حين يشق على الفرد التكيف والتوافق مع التغيرات الاجتماعية من حوله ويعجز عن مواكبة التحولات الكبرى المباشرة، يجد نفسه عالقًا في مأزق هذه التغييرات والتحولات، وهو ما يظهر تأثيره فيه ويولد لديه أولًا شعورًا بالتجريد من القوة ثم يؤدي به تاليًا إلى الانسحاب، وفي نهاية المطاف، إلى الاغتراب. «أعيش حياتي فوق الغَرق/ ورأسي في مكان ما/ بين الغيوم وفوق الغرق».

الحياة في مكان والرأس في مكان آخر مما يعني اغترابًا مزدوجًا (شعوريًّا وفيزيائيًّا) حيث تبدو الأشياء والأفكار بالنسبة للوعي غريبة، وبعيدة وغير مجدية، ولا تستحق الاهتمام، بل حتى تبعث على الملل أو الاشمئزاز حتى تلك التي تخص الأشياء التي تتصل بأشخاص كنا نعرفهم. «سيكون العالمُ كله ورائي/ مثل المستقبل يعتم ويضيء».

وفقًا لمفهوم هيغل، يبدأ الاغتراب عندما تدرك الروح أنها ليست خارج النسق العام للعالم، بل مندرجة، قسريًّا ربما، بداخله. قد تنتهي حالة الاغتراب عندما يدرك الفرد وعيه الخاص ويتعرف إلى الروح التي تكونه. وفي هذا تأكيد لأهمية مفهوم الحرية.

بهذا المعنى يصبح الاغتراب تمردًا للوعي على ذاته ونسقه. وبهذا المعنى أيضًا، يكتسب مفهوم الاغتراب معنى إيجابيًّا عند هيغل. غير أن هذا التمرد والانقلاب في الوعي، حين لا يحدث في اللحظة المناسبة، وحين لا يحدث بتكيف متين أو في الارتباط الفعلي بين الذاتي والموضوعي، يبدأ الشقاء والتناشز. وتحت ضغط هذه الحالة غير المواتية، يشعر الفرد بأنه بعيد من وعي (شقاء الوعي) بل يرى نفسه كائنًا مؤقتًا في العالم وفي حالة من الإقصاء، بالمعنى الاجتماعي والروحي، وغير قادر على إيجاد مكان بديل في هذا العالم: «ستضطر إلى الجري/ إلى لا مكان للاختباء».

يهتم الريامي في «جيش من رجل واحد» بأن يقول (ما) يريد، لا بـ(كيف) يقول ما يريد؛ لذلك جاءت قصائده متخففة من أحمال إضافية لعبء القول نفسه، فهي لا تولي اهتمامًا كبيرًا للصورة، زاهدة في البلاغة، من مجاز وتشبيهات واستعارات، لا محسنات بديعية في شعره؛ لذا فهو شاعر معنى أكثر من كونه شاعر شكل. المعنى الذي ينشده هو ما يريد أن يخبرنا من خلاله عن سيرة شخصه، وحيرة ذاته، وهكذا جاءت كثيرًا من عباراته وحدات مكتفية بذاتها حتى تبدو مقاطع منفصلة عن سواها داخل القصيدة الواحدة. لكنها، جميعًا، تمثل في الواقع قصيدة واحدة عن سيرة الروح متشظية في تلك الأشتات.

«سيرك الحب» فكاهة تتطرف حد السخرية

بينما يكتب الريامي سيرة الروح المأزومة بحبر الباطن الناضح بالأسى، يلجأ الصالحي في «سيرك الحب» (محترف أوكسجين للنشر- 2023م) إلى تدوين (سيرة آخرين) عبر رسم بورتريهات متفرقة لأشخاص شتى، ويرمي بها منشورات احتجاجية ومتذمرة بوجه العالم، بلغة أقل يأسًا، وأكثر احتجاجًا وتنطوي على فكاهة كثيرًا ما تتطرف لتصل إلى حد السخرية. قد تكون الأزمة التي يعيشها الشاعران واحدة، بيد أن طريقة تعبير كل منهما عنها متباين في الطبيعة والمستوى. ففي الطبيعة فرَّقَ أرسطو، قديمًا، بين التراجيديا والكوميديا، من ناحية الغرض الفني والإيقاع الشعري. وعلى الرغم من أن لا شيء هنا من نزعة ملحمية، وفق التوصيف الأرسطي، لدى الشاعرين، فإننا نلمح في شعر الصالحي اقترابًا واضحًا من فكرة أرسطو عن عناصر وسمات الغرض الكوميدي، حيث تتجلى في أنحاء شتى من قصائده طقوس ديونيسوسية وباخوسية.

وإذ عدَّ أرسطو التراجيديا نوعًا من التغني بالبطولة، والذوات الساميات، فقد رأى في الكوميديا تعبيرًا عن الفشل في معرفة الذات. وهنا نجد قصائد الصالحي تنحو إلى التغني بالبطل المهزوم والمسحوق، في بورتريهات لشخصيات سحقتها الحياة بالمرض أو إدمان الكحول أو أصبحوا ضحايًا لأحلام محبطة، ليسَ في «سيرك الحب» وحده، بل في السيرك الأوسع والأقسى: سيرك الحياة، حيث ثمة نمورٌ مروَّضة لأرواح برية «الأبطال الذين تصالحوا مع الفناء في قمَّة الحياة». والواقع أن جميع القصائد، باستثناء اثنتين، مُصدرة بإهداءات لأشخاص، ربما في محاولة لخلق أجواء (ديثرامبوسية) من (كورس جماعي) للتعبير عن طقوس باخوسية، بإشراك آخرين في حفل تتدخل فيه أصوات المهزومين والمهمشين والساخطين. فكثير من قصائد الديوان تدور في حانات وعوالم القاع وتناقضات الحشد. ثم تتحول إلى مرثيات كما في قصيدة «أكذوبة الرحمة».

قصائد تتسم بنزعة (تراجيكوميديا) أو (فكاهة سوداء) وهي إحدى السمات الأساسية في أدب ما بعد الحداثة. هذا الأدب الذي تمثل جذوره في التراث العربي شعراء من طبقة هامشية وملعونة، ولا سيما العيارين والشطار والمحتالين والطفيليين، أشخاص حِكْمتُهم أن لا يحتكموا لقيم، ولا يدينوا بولاء محدد، وشعارهم كما يقول شاعرهم أبو دلف الينبوعي: «لنا الدُّنيا بِمَا فِيها من الإسْلَامِ وَالكُفْرِ»؛ فهم يمزجون الظرف والمجون بالزهد والعفة والاحتيال بالتسوُّل.

السيرك والفكاهة السوداء

(السيرك) الذي اختاره الصالحي مسرحًا لمعظم قصائده، هو في الأساس مكان ملتبس تلتقي فيه الملهاة بالمأساة منذ السيرك الروماني في حلبات (الكلوسيوم) حيث القتال الضاري حتى الموت للترفيه عن النبلاء، إلى عشاق العصور الوسطى من شعراء التروبادور، إلى الشعراء الذين قهرتهم الحياة في العصور الحديثة، إنه يعبر عن ثنائيتين متناقضتين: الحبس والتجوال، وإذ أخرج الحيوان من الغابة إلى قفص أو حلبة وجرى ترويضه فيها حتى يلاقي مصيره الأخير، فإن الإنسان تحول إلى مهرج أو بهلوان: «لن يغفر لك أحدٌ ذلك التاريخ الطويل في سيرك الحبِّ/ بعد أن انكسرتْ رِجلك بالصُّدفة فوق الحِبال/ نعم نعم لن تغفر لك الحياة/ أدنى هفوةٍ/ أيُّها البهلوان».

عبد الإله الصالحي

تذكرنا صورة البهلوان هنا ببهلوان نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت»: «الإنسان مجرد حبل ممتد فاصلًا ما بين الحيوان والإنسان المتفوق، إنه حبل يمتد فوق الهاوية. العبور عليه خطر، والمضي قدمًا خطر، والنظر للوراء خطر، والتردد والتوقُّف خطر: عظمة الإنسان تكمن في كونه جسرًا وليس هدفًا». لقد سقط بهلوان نيتشه من على الحبل قتيلًا ولم يبلغ الجانب الآخر: (الإنسان المتفوق) لكن زرادشت رثاه: «لقد اخترت المخاطرة مهنة وهو خيار لا ينطوي على عار، وقد أودت بك تلك المهنة إلى الموت الآن».

بورتريه آخر في مشهد هذا السيرك الواسع يرسمه الصالحي بصورة (مذيع أو مراسل) يحمل ميكروفونه لينقل وصفًا لما يجري من كوارث بكلمات قاصرة عن الإحساس والتعبير عن فداحة المشهد، وهو يستقي من قاموس لا شعري لوصف عالم نثري بل موغل في نثريته وعدوانيته وقبحه. ففي لحظة تبدو ضواحي باريس عالمًا سفليًّا وليس لحامل الميكروفون قدرة على وصفه: «لأنَّ القلب كبيرٌ والمعنى قليلٌ».

في بورتريه آخر يصور شابة تدخن وتتأمل القمر، وتحلم. بِمَ؟ أو بمن؟ سرعان ما نفهم أنها مهاجرة وتحلم بشخص عابر: «يصرف عليكِ دون حسابٍ». وعلى المنوال نفسه يرسم في قصيدة «فتاةٌ في مستهلِّ الثلاثين» بورتريهًا آخر لشخصية مشابهة في هذا السيرك. عذراء وجدت نفسها بتوالي الظروف فتاة ليل: «دون ماكياجٍ تشبهين شابًّا مُجرمًا/ في ضاحيةٍ عشوائيةٍ تنقصها الرحمة والحدائق/ دون ماكياجٍ تشبهين بائعة لبنٍ تطلب التَّوبة/ من عصافيرَ متَّسخةٍ».

قد يكون هذان المقطعان مفتاحًا مناسبًا لتأويل المفارقة التي ينطوي عليها عنوان المجموعة «سيرك الحب». ولا أدري لماذا قرأت جناسًا ناقصًا ينطوي على سخرية مع عنوان الأغنية الرومانسية الشهيرة للسيدة أم كلثوم «سيرة الحب» وما يعزز هذه الفرضية أن صوت أم كلثوم نفسه يتكرر مرات عدة في مقاطع من قصيدة «الركض في الاتِّجاه المعاكس للبيرة». «ثمَّ تقول أمُّ كلثوم: «لا تشغل البال بماضي الزمان». هكذا يتعمد نسبة رباعيات الخيام للمغنية، لا للمترجم ولا حتى للشاعر نفسه، في نبرة تهكمية مقصودة؛ ذلك أن قصائد الصالحي لا تنحو منحى غزليًّا تقليديًّا على ذلك النهج الذي أسسه الإغريق والرومان، فلا نحس فيه شيئًا من نكهة الرومانيين: كاتولوس وأوفيد، ولا لوعة العذريين العرب: المجنون وجميل وكثير وسواهم، ولا مغامرات وضاح اليمن ودون جوانية عمر بن أبي ربيعة، وصولًا لرومانسية (جماعة أبولو) ثم مخمليات نزار قباني وابتهالات أنسي الحاج، فهناك من أودى بهم الحب للنفي أو القتل أو الجنون؛ لذلك يقترح مصيرًا آخر للعاشقين: «ما أجمل أن تستخفَّ بالحبِّ/ وتشربَ البيرة التاسعة بلا هدف». أو يلجأ إلى الخفة في التنصل عن المسؤولية والهروب من اللحظات الدرامية المصيرية للحبيب، كما في قصيدة «أرى رجلًا صغيرًا يزحف على بطنه في نفق الحبِّ»: «أفكِّر فيكِ يا أليس/ وأنتِ تصارعين الموت على سرير المستشفى/ بعد الحصَّة الخامسة مِنَ العلاج الكيماوي/ ربحَ الورمُ الخبيث مزيدًا مِنَ المساحة في رأسكِ الصغير/ ربحَ ما يكفي كي أتخلَّى عنكِ وأهرب».

تتكرر هذه النبرة التهكمية عن الحب وسيرته في قصيدة «الحبُّ تحت الصِّفر»: «كنتُ أرغبُ في إحصاء نمشك الكثير، حَبّةً، حَبّةً/ وأنتِ طالَبْتِني ببرهان حُبٍّ».

حب ما بعد الحداثة!

هذه السير التراجيدية للعُشّاق، يعرف الصالحي عواقبها؛ لذا يحيل الحب إلى سيرك وطاولة قمار، ووسط هذه الأجواء جاء أغلب شعره عن الحب متصفًا بالمجون، والهجاء. تعبر قصائد الصالحي بوضوح عن نظرة ما بعد حداثية للحب وسواه من قيم أخرى. لقد تبنى المنظرون لأدب ما بعد الحداثة أعمال الماركيز دي ساد بوصفها نموذجًا لأدب ما بعد الحداثة المتحلل من ربقة القيم والعهد المقدس للحب، حيث تشكك فلسفة ما بعد الحداثة، في يقينية تلك القيم أصلًا، وتسخر من القضايا الكبرى، وتتحرر من كل التزام أخلاقي معهود.

وهي سمة من سمات عصر العولمة، أو مسايرة العصر، وتتخفف من أعباء الأسئلة الكبرى لأجل العيش (بسلام) وبشروط العصر، بدلًا من مكابدة الاغتراب، كما رأيناه في شعر الريامي الأكثر تمسكًا بالجمر. لكن هذا النزوع في الواقع ليس سوى وجه آخر للاغتراب معبر عنه بخيبة الأمل من الأفكار والقيم الكبرى، والاستياء من راهن يجهز على تاريخ الأحلام الكبرى للبشرية. هل أقول: إنه تعبير عن استسلام أم شراسة العالم، وتدجين للإنسان الحر؟ ربما لهذا ظهرت تنظيرات في العقود الأخيرة، تدعو إلى ما يمكن تسميته (تحديث الحداثة) عبر حداثة ثانية، تراجع الأولى وتلتزم بالمقاومة الإنسانية إزاء العصر الرقمي والعولمة، ونقد الأيديولوجيات القديمة في الآن نفسه. ففي قصيدة «فن الوصف» يراكم صورًا لأشياء متفرقة وأدوات وأمتعة شخصية ليعبر من خلالها عن فهمه لقصيدة الحب: «إذا وصفتَ هذا الكم العاديَّ منَ الموجودات في غرفةٍ/ طافحةٍ بالحبِّ/ من دون ذِكر العاشقَين/ ولا استعمال كلمة «حبٍّ»/ آنذاك قد تكون كتبتَ قصيدةً عنِ الحبِّ».

وإذا كانت لغة الريامي أكثر استبطانًا، وصوره أكثر استغراقًا في أحوال الذات، ونبرته كثيفة الأسى فإن لغة الصالحي أكثر انفتاحًا على الحياة، وكشفًا لتناقضاتها، وصوره أقرب للمشهدية اليومية، ونبرته أوضح تذمرًا وأشد تهكمًا، أشخاصه تائهون في الضواحي، أو مخدرون في الحانات، أو خاسرون، حتى لحبيباتهم لصالح (الأصدقاء) ولأنداد غير جديرين بالمنافسة، شخصياته زبائن حانات، ونزلاء مصحات ومراسلون صحفيون بين الكوارث والحروب والأوبئة يشتركون أحيانًا في مصير المحاربين المحاصرين: «أفكِّر دائمًا في ذلك المقاتل الشرس/ كيف يتدبَّر أمره بستِّ رصاصاتٍ/ وهو مُحاصَرٌ بجيشٍ منَ الأعداء؟/ أفكِّر في ذلك المقاتل/ وأحاول أن أتخيَّل نفسي مكانه».

يشتغل الصالحي على المفارقة من خلال بلاغة الجناس الناقص، وهو ما يظهر بصور عدة سواء كان لفظيًّا أو معنويًّا، حتى يصبح الحب معادلًا للحرب، والجنس فعلًا حربيًّا في قصيدة «إنَّها الحرب يا حبيبي»: «الحبُّ/ درسٌ متأخِّرٌ في الكَرِّ والفَرِّ».

لعل أوضح صور التراجيكوميديا في ديوان الصالحي تتجلى في قصيدة «هكتور المغربي» المهداة إلى محمد بنيس. فيها يستعير صورة البطل الملحمي الطروادي؛ ليعلن أن الحرب قد اندلعت بالفعل، لكن ليس في طروادة الأسطورة هذه المرة، بل في الجسد الذي اعتاد الخيانة والخذلان للبطل، وفي الحياة «طروادة هي حياتكَ»، وفي البارات، وحشد والآخرين الذين لا يصدقون أن حياة الشاعر هي حرب ملحمية حقًّا: «هم يهربون وأنتَ ترابط في بارٍ/ يخشى ارتياده عتاة المجانين/ يتجنَّبه المحتالون/ وفيه تشرب أحيانًا عانساتٌ متبرِّجاتٌ/ بارٌ تكاد كراسيه النظيفة تشبه مشروع حياتك».

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *