عجائبية السرد… قراءة في «نصوص» سماء عيسى

عجائبية السرد… قراءة في «نصوص» سماء عيسى

للسرد عجائبية يبعثها القادر على تحويل مادة الأحداث إلى ما يعدل عن متصور الذهن، وإلى ما يخرج عن حدود المعاينة والملامسة، ليعانق التخييل والتجريد والتمثيل. العجائبي فعلٌ في السرد يُحولُ الأحداث عن الممكن توقعًا إلى حدود التوهم والمفارقة. ونعمل في هذا المقال على بيان عجيب السرد، الداخلِ بعضه في استثمار الأساطير الحافة بنا والمعتقدات التي واجه بها الإنسان ما لا يقدر على تفسيره، والداخلِ بعضه الآخر في النظر في الواقع المؤسس لعجيبه الخاص؛ ذلك أن العجيب لا ينحصر في استحضار نماذج عليا، يُوظفها الكاتب في كتابته، بل قد يُحول بفعل الرمز والتحويل ثِقل الواقع إلى عجيب، مثل سلخ الإنسان حيًّا أو تسميره، هي أساطير الحياة اليومية على حد عبارة رولان بارت في كتابه المميز «أسطوريات».

الأسطورة باب من أبواب العجيب، فهي عالم من «العوالم الممكنة» التي يلجأ إليها الكاتب، يجد فيها ملجأ للإشارة، ومأوى لتحمل التعبير عن واقع قد يفوق في وقعه اليومي والتاريخي خيالية الأسطورة. عالم الغيب، فضاء من الممكن الذي وسع رؤية الكاتب، ووجد فيه تفسيرًا لأسئلة الوجود الحارقة.

ولقد ارتبط السرد في الثقافة العربية بالعجيب، يظهر ذلك في صنوف من السرد بعضها معروف، وأغلبها مهجور ومجهول. يظهر ذلك في «ألف ليلة وليلة»، في «كليلة ودمنة»، في «حي بن يقظان»، في نسخه المتعددة لابن طفيل ولابن سينا، في قصص المتصوفة، في «الغربة الغريبة» للسهروردي المقتول، في «منطق الطير» لفريد الدين العطار، أو «رسالة الطير» للغزالي. ومن هذا الفضاء الكُتُبي، المعرفي يصدر سماء عيسى، ذلك أن عجيب السرد عنده يعسر إدراكه بعيدًا من هذه الأرضية العرفانية، ويعسر تلقيه دون إدراك هذه المرجعيات الممزوجة بواقعٍ عُماني محلي يمتلك مفاتيح غيبه.

جدل الواقعي والعجائبي

يدخل سماء عيسى في نصوصه ضمن هذا الفضاء العجيب الذي يَنطقُ فيه الطير والشجر، وتبوح فيه الأرض، وتعود فيه الأرواح المفارقة، ويتحرك فيه الجماد، يؤسس لنفسه لغةً للمكاشفة مرتَكَزُها الذات الرائية الراوية، الناظرة في عمق الوجود، وفي مصير الإنسان ومساره وقدره، يخرج عن رصد حركة الواقع المباشر في خطاياه اليومية ليكشف عجز اللغة عن البوح بما في النفس من أعباء ثقال. يساير في ذلك شيخه النفري، القائل: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». هي نصوص عجيبة غريبة، غير أنها لا تجعل السرد غايتها وقصْدَها، وإنما يُقيمها كاتبها على لحظات من المكاشفة والمصارحة، يقول فيها ما يتجنسُ حينًا وما يتعسر على التجنيس أحيانًا، ليدخل في حال من عبور الأجناس، واعتماد فعل الكتابة دون برنامج مخصوص.

اختار لهذه الكتابة عنوانًا «النصوص». هي نصوص؛ لأنها «مهملة»، أو كـ«المهملة»، تجمع نفحات الكاتب ونفثاته، مساحة حرة، بعضها منتسب إلى التقييد والتسجيل، وبعضها من لطائف الإشارة، وبعضها مشدود إلى قصدية القصص. «شرفة على أرواح أمهاتنا» و«الجلاد». وهي نصوص يجتمع فيها جدل الواقعي والعجائبي، هو جدل يُشكل قدرًا يواجهه المبدع أراد ذلك قصدًا أو حُمل ذاك قسرًا. لسماء عيسى فضاءات يصدر عنها، في تشكيل عالمه الأدبي، هي فضاءات عالقٌ بعضُها ببعض، تنسُج خطابًا متشربًا لخطابات عدة، متأصلًا في واقع يومي مقلق، وواقعٍ تاريخي مؤرق. ولذلك فهو لا يذهب إلى العبارة رأسًا وإنما وسيلته الإشارة، يُلقيها، وعلى متلقيها أن يكد الخاطر لبلوغ القصد المرجو. عوالم يغشاها سماء عيسى، في نثريات لا تتحدد بجنس مخصوص، وإن كانت إلى السرد أقرب، فيها نفثات الصوفي، يعالج الوجد، ويتوق بشوقه إلى الذوبان في المعشوق: «كان العاشق يخفي كل شيء ابتداء من عينيه حتى قلبه، وذلك كي لا يرى أحد ما حقيقة عشقه، أو يقرأ معشوقه الإلهي ويستدل عليه. أجمل فرضيات العشق الصمت والكتمان وعشق الجرح والحفاظ على أسرار المحبوب في ظلام الينابيع والجذور البعيدة» (الجلاد 35). وفيها أوراق من الذاكرة تسجل وفاء وتقييدًا، وفيها من طلب الحكاية الرامزة ما يبعث النفس على إدراك حقائق الموجودات.

لا يُبْدي سماء عيسى في نثرياته الأسطورة سافرةً بائنةً، بل هي لمْحُ قراءةٍ، ورؤيةُ بصير، هي عبارة الإشارة، يخفف بها المستعمل عجز اللغة عن حمل الوجد. بل هو يستعمل كائنات ووقائع تؤسس لفضاء من العجيب، إيحاءً ورمزًا، ويستعمل هذا العجيب لتقوية لغة الإيحاء، التي تُشكل جوهر الشعر، كأن يستعمل صورة الراحلة التي لا رأس لها، أو الطائر المعلم، دفنَ أخيه، أو الوحش المتحول تكرارًا ومرارًا، «أسير في ليل لا ينتهي. كنت أعمى، وكان طفل يقودني إلى الصحراء، وكانت راحلة دون رأس تسير بي إلى قبر يغوص وحيدًا عميقًا في الرمال» (الجلاد 57).

كتاب الأُم

تظهر الأسطورة في صُورة الأم، الهم الأكبر، الغالب على منثور الكاتب. هي ثيمة أساس، تتوزعُ منافعها، وأشكالها، وهيئاتها، يتخذها الكاتب بؤرة سرد، ومجال انصراف؛ إذ تفارق خِلْقتَها، بَشَرًا، وجنسَها امرأةً، ووضعها أمًّا، لتدخل أسطورةَ الخلق، تنشئ المبادئ والأعمال. تتداخلُ والأرْضَ في عطائها وصمْتها وخلْقها. الأم المهمومة بفعل الموت، المفقودة، الحاضرة، الغائبة، الصلبة، «أما أمهاتنا فما كن يبتسمن إطلاقًا» (الجلاد 55)، تلتبس بالأرض وتُضارعها. هي صورة مستقاة من رمزية الآلهة الأم. تُداخل عشتار في صورتها الأمومية، خصوبةً وتضحية وصبرًا، «وحيدةٌ في الحب ووحيدة في الموت، وحيدةٌ كتراب الأرض وكحجارة الوادي، وحيدةٌ كطير في السماء. ما هي قريبةٌ منك حريةُ الروح مثلما ألمُ الجسد الذي لن يفارقك إلا بالموت (…) أتأملك في الساعات الأخيرة لليل، وأنت في الغيب العميق لحياةٍ ما برحت إلا أن تغيب، ولشجرة ما برحت إلا أن تجف، السماء أطبقت جسدَها على الأرض فيبست الثمار وتكدست الجثث، وتصحرت الحياة» (شرفة 12).

تتأسس عبر هذه النصوص صورة نمطية للأم التي بِفَقْدها تنعدم الخصوبة، ويتوقف الكون، أما ملامحها، فهي مملوءة حزنًا: «كانت أمي صبية جاءت من القرى، وظلت كذلك القروية، حتى عندما غادرت المنزل، وأنا صبي كنت أحمل تلك الصورة العذبة عنها، الصبية الريفية الهادئة الخجولة، التي لا تتحدث إطلاقًا (…) كان صمتها مقدسًا هادئًا وبريئًا، حتى مع رغد العيش الذي عاشته في السنوات الأخيرة من عمرها، ظل الحزن هو ما يكسو ملامحها، كان مسيطرًا عليها منذ الطفولة، لم أجدها يومًا ما تضحك أو حتى تبتسم، إلا والحزن الدفين يغطي في عذوبة نادرة ملامح وجهها الريفي الهادئ» (شرفة 15). «لكنني التقيت عند النبع بأمي، وحيدةً تحمل جرة كانت عيناها -كالعادة- دامعتين من الحزن، وكان وهج الحياة قد انطفأ بقلبها منذ أمد بعيد» (شرفة 22).

وقد خصص سماء عيسى كتابًا بتمامه لهذه الأم، هو «شرفة على أرواح أمهاتنا»، وقد راوح في إنشائية معنى الأم بين عجيب الأحداث ومألوفها، بين شخصيات غائبة ملامحها وتقاسيمها وأحداث تأتيها تدخل عالم الغرابة الموصول بفكرة الضياع والبحث عن معنى للموت. الموت الذي سادت روحه تأملًا ومَوْلدَ أحداث، وكان معجمه غالبًا في النثر كما هي الحال في الشعر، يتحول فعل الموت إلى هاجس ملازم للذات الكاتبة، تُصرفه مناحيَ شتى، يُنهي الشخصيات أحيانًا ويُحييها أحيانًا أخرى، وهو داخلٌ في الفضاء العجائبي الذي غَلَبَ على المدونة، «مضى من أحب إلى الموت» (شرفة 17)، يتحول إلى فعل عجيب، بإحياء الجثث وبعثها، «كررت الطرق على الزجاج، وكررت الجثة الصراخ: من هناك؟ أما أنا فقد كررت الصمت، حتى علا الطرق على الزجاج، فآويت إلى ركن مظلم» (الجلاد 20)، أو بالتحاور معها، أو بإسناد أفعال إليها.

الموت والوحش

ثيمةُ الموت لاحقت أغلب الشخصيات بطرق مختلفة، حتى صارت قصدَ الكاتب: «لم يكن هناك ثمة أمل في صراع ما بين الجثث وهي تتراص في سكون عميق، كأنها أخيرًا تسكن بيتًا واحدًا مفقودًا، كأنها تتآخى أخيرًا وتعود إلى جذورها العميقة الأولى، جذور حب فطري أولي لا يدركه الأحياء، وبالطبع لا يدركه الموتى. لكن جذور الشجر وأوراقها. عتمة الليل وشمس النهار، وعصافير البهجة وهي تمرح بين القبور هي التي تدرك كل هذه الأسرار المعتمة. أسرار الغياب والأفول والشوق الدائم إلى عشق تراب الأرض وأعماقها». (الجلاد 63).

صور التحول، تأخذ بعدها العجائبي والغرائبي، في مظاهر متعددة، وتُقيم مناحي من السرد، ووجوهًا لشخصيات لا تُوصَل بالضرورة بعالم البشر. ولعل أهم تحول تكررت صورته، هو التحول إلى المسيح عليه السلام، عبر استلهام مشهد صلبه: «عندما صحوتُ من النوم وجدتني مُسَمرًا غير قادر على الحراك، تذكرتُ وجوهًا ملثمة اقتحمت غرفتي ليلًا ودقت المسامير في جسدي، حتى التصقت بالأرض. جاءت طفلة من الغابة تحمل وعاء من الحليب، عندما رأت المسامير تملأ جسدي، دمعت عيناها، تركت الوعاء ورحلت» (الجلاد 49).

وكذلك التحول إلى صورة الوحش، الذي يأخذ أبعادًا، ورموزًا، ويتحول إلى فكرة تقتضي تقصيها وتتبعها. فالوحش في الأساطير الموروثة هو رمز الشر ومعاداة الخير، وهو متخذ هيئاتٍ عدة. يظهر ذلك في مواقف عديدة يدعو فيها الكاتب صورة الوحش، أو يُغير جوهر الموجود لمدة من الزمن وجيزة، يؤدي فيها الوحش دوره ليعود بعد ذلك إلى عنصره: «أنا صديق لكل أولئك الذين رحلوا قبلي، والذين سيرحلون بعدي، صديق للطفل الذي تحول إلى وحش رماني في فناء الدار، بعدها عاد الوحش طفلًا، والطفل سكن الجرة الممنوحة لي من أمي» (شرفة 36). الوحش الذي لم يتخذ هيئة ولا وجهًا، يألفه الأطفال وينتظرون منه تفاعلًا وتواصلًا.

الطفولة رمز البراءة والانطلاق والنيات الحسنة، والخير، تُوضَع في مقابل صورة الشر: «كان باكرًا علينا ونحن نلعب بين الأشجار، معرفة أن وحشًا مختبئًا خلفها، وأنه يُراقبنا، يبتسم تارة ويغضب تارة أخرى. كنا نلعب وكنا نعتقد أنه حتى لو ظهر وحش ما فسيلعب معنا، أو على الأقل سيبتسم لنا ويمضي» (الجلاد 55). لكن الوحش يخيب هذا التوقع ويتوالد، ليتدرج الكاتب في تصوير مشهد جهنمي، له صلة مرجعية بأساطير نهاية الكون: «فجأة ونحن على الجسر أمامنا جبل وخلفنا جبل، وتحت الجسر هاوية عميقة تمتلئ أرضها بحجارة مسنونة وأفاع تنتظر سقوط أحد ما. فجأة أطلق الوحش صيحته وقفزت من فمه وحوش صغيرة باتجاهنا، نظرت إلينا شزرًا وقامت بتقطيع مقدمة الجسر ونهايته، ثم رحلت ووقفت على قمم الجبال تراقب سقوطنا إلى الهاوية واحدًا خلف الآخر» (الجلاد 56).

ذاك وجه من فضاء المعاني المتزاحمة في هذه النصوص التي خرج فيها سماء عيسى من جُبة الشاعر، ولم يخرج، وهو الممتلئ بعقود من الشعر ترسخ به عَلَما من أعلامه، لم يُفارق الناثر جوهر الشاعر، فبقيت روح الأعمال شعرية، في غلبة الذات المتكلمة، وسيادتها، وفي واحدية الرؤية، وفي انسيابية اللغة الرمزية التي طغت على النصوص.

وأخيرًا، يُمكن أن نوجز خلاصة القراءة في أن العجيب غالب على هذه النصوص التي يدخل أغلبها في باب السرد، وقد تأسست عجائبية السرد، على مبدأ التحويل والتشويه وعلى مبدأ الغرابة في الأحداث. وأن توظيف الأسطورة لا يظهر بشكل سافر، بل يُغيب الكاتب ملامحها قدر الإمكان، وإنما الأسطوري ذهني في كتاباته. يُمارس سماء عيسى دور الكاتب الحق الذي يصنع المعاني والأشكال ولا يتتبعها أو يحوك على أمثلتها، فهو لا يهتم بتحقق السرد؛ بل همه الأساسي أن يقول نفاثة صدره، وعلى ذلك وُجدت نصوص قصيرة مكثفة بالرموز، كان بالإمكان تفكيكها، وتمطيطها وبناء عوالم دلالية منها، غير أنه اقتصر على النوى يبسطها عرضَ شاعر.

وجع السرد في رواية «تغريبة القافر»

وجع السرد في رواية «تغريبة القافر»

«كل شيء يغيب، الناس والبلاد، أخبار اللي عرفناهم وحكاياتهم، كل شيء يغيب وما يبقى لنا إلا الوجع» هكذا كان موقف الشخصية الرئيسة، في خلاصة لتجربة السرد. هذه الشخصية التي تتأسّس من الوجع ورجْع صدى الماء تقفوه صوتًا وأثرًا حدّ التلبّس والتأرّق من عدم استخراجه من بواطنه، وتتكوّن على هذا الوجع في مراحل تَشَكُّل الحكاية وتَحْمل معها في سياق رجْع الوجع شخصيات مملوءة حكايات ومشحونة بوجع الواقع وفجائعه، وبتاريخ من الجوع واضطراب الحال في كونٍ يُعْقَد بتمامه، في وجوده وتحقّقه على الماء الذي لا يُخصب الزرع والضرع فحسب، ولا يهزّ الأرض فتربو وتبهج فقط، وإنما هو واقعٌ في الأنفس موقع تجذّر الكائنات في الوجود وبقائها في مرابعها ومراتعها، وللماء في الثقافة العربية أبعادٌ وأحوالٌ وأدبٌ منه نتج.

من الماء والبحث عن الرواء يتأتّى السرد ويتولد، فهو المستهل والمسار والمنتهى في مُعلَن الرواية وظاهرها، غير أن العمْق حاملٌ لمعانٍ وهمومٍ، وباعثٌ لأبعادٍ تتخطّى ظاهرَ الماء إلى حوامل من الشخصيات تنوء بمحمولات تنقلها من وُجودِها العابر إلى عمق الوجود، وتملأ الروايةَ بمعان تُخرجها عن ظاهر السائد الروائي المؤسّس لواقعية اجتماعية، صارت غالبة تَحْمل من ثوابت القضايا ودَارجِها الكوني، إلى سردٍ واقعي أقرب ذاتيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا. ذاك الواقع الممزوج بمسحة عجائبية وأسطورية أحيانًا لا تجافي الواقع ولا تنفر منه.

غير أن رواية «تغريبة القافر» لا تتحدد في وجودها برحلة البحث عن الماء، وإنما هذه الرحلة هي السطح الشافّ عن أوجاع الوجود في حمْل الرأس لأفكارٍ ورؤى يُدركها العامة بأدوات فهمهم، وأقربها وسْمًا ونعتًا وجوابًا، الجنون أو التواصل مع الجن ومع العالم الغيبي. فلا غرابة أن تكون الأم منساقةً وراء طَرْق في رأسها وحالةٍ من المخاضِ الذي لا تحمل فيه جنينًا فحسب، بل تحمل فكرةً لم تؤذِ بطنها ومناعتها بل أوجعت رأسها. الطفل القافر يُعلن نهايته قبل التكون ويمد حاملته بأوجاعه، بما سيكون عليه في مقبل السرد؛ ولذلك غمر الماء المكان في بداية السرد حاملًا في أثنائه الموت والحياة، موت الحاملة وميلاد المحمول، وغمر الماء السرد في منتهى الرواية مفضيًا إلى تعمية القراءة، في حالٍ لا نعلم منها ما صار في وجود الشخصية المركزية حياةً أو موتًا؛ إذ تكون النهاية طَرْقًا على الصخر مُفجّرًا ماءً يحمل معه كل شيء: «تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء»، وبقيت بذلك النهاية مفتوحة يملؤها القارئ بما شاء من احتمالات التقدير والتأويل.

المعنى من العنوان

زهران القاسمي

روايةُ زهران القاسمي «تغريبة القافر» تحمل مذ عتبتها الأولى عبارتين دالتين «التغريبة» و«القافر»؛ أما التغريبة فتتعدّى حدّها المألوف ارتحالًا إلى الغرب لتؤسّس لمعنى نصّي سياقي، وهو رحلة القافر للقفْر أو لتقصي منابع المياه. وأما دلالة كلمة القافر، فهي أيضًا تتعدّى ما يُمكن أن تؤديه حسب تجذرها من معاني القفر إلى معنى قريب غريب وهو مقاومة القفر، أو البحث عمّا يدفع القفر؛ لتكون العتبة دالة على ما يجمع شتات أحداث الرواية وتفرق شخصياتها، منها نُدرك تدريجيًّا المعنى من العنوان الذي يُشكّل النص الروائي الأصغر الذي تتفكّك أبعاده طيّ الرواية، ليكون القافر هو الوتد أو المحور الذي يحمي الرواية من التفكّك؛ إذ فتح زهران القاسمي مسالك تَفرّعت عن الأصل وأسّست حكاياتها، غير أنها ظلت رهينة منبع الفلج، تخرج عنه لتعود إليه. تتكون شخصيات الرواية في دائرة القافر، فهي وإن امتلكت وجودها الخاص وعوالمها فإنها حية من أجل إيجاده وتمهيد السبيل لبعثه على الهيئة التي أراده الكاتب أن يكون عليها، يُسخّر الفضاء السردي لبعث القافر، الشخصية المعقّدة (بالمعنى السردي)، الحاملة لعبء الحياة قبل الميلاد، المتتبّعة مسالك الماء قبل انبعاثها.

رواية تحكي من الحيوات متخيّلَ حياةٍ، تُداخلُ رؤوس الشخصيات وما يدور فيها من محمول يفزع ضجْعتها ويهز ثباتها، أصواتٌ تنساب سردًا نحو الموت أو الحبْس أو العزلة، في مقاومة الحياة والسعي إلى الحياة في درجة أولى وإلى إثبات الوجود في مستوى ثانٍ، فمن بَسيطِ الحاجة يقوم للسرد أودٌ وتتكون شخصيات متماثلة متباينةٌ، هي الشخصيات في أصل جوهرها الواقعي، بعيدًا من القضايا الدارجة إلى ملامسة عمق البشر.

لم تكن مريم بنت حمد ود غانم الغريقة التي اختارت راحةَ ما يؤلمها من رأسها في الماء حدّ الغرق، سوى نواة باعثة لمكوّنات السرد في الرواية مؤسسة للفضاء التخييلي، فهي أمّ القافر احتواءً واحتمالًا جنينيًّا في البطن، فليست الوالدة وليست الأم عنايةً ورعايةً، منها تتشكل القصة بالوجيعة والألم، وتجري الوجيعة على مختلف الشخصيات المُجاورة المُشاركة في تمهيد الفضاء السردي لبعث القافر، وتأمين نمائه وتحقق كونه، كاذية بنت غانم، آسيا بنت محمد، إبراهيم بن مهدي، سلام ود عامور الوعري، كلها شخصيات موجوعة، حاملة لألم ما بين ثنياها، منشغلة الفكر طيلة السرد.

رواية «تغريبة القافر» تدخل ضمن حقل سردي مُرغِّب، قليل الحضور في الرواية العربية، يعمل على تمثل عادات الشعوب وأساطيرها ومعتقداتها، وتحويلها إلى قصص يُروَى ضمن نسق جامع وخيط رابط، هو في هذا المقام شخصية القافر، العجائبية والواقعية في الآن نفسه. تحمل الشخصية لعنتها وميزتها منذ تكونها جنينًا يتخبط في أحشاء أمه، لعنة الماء يقفره من قبل أن يُبعث كونًا في الحياة، ولا تقصر اللعنة عليه فردًا، وإنما هي شاملة من ارتبط به بسببٍ في زمن يسبق مولده أو يُزامنه، هي لعنةُ القرى تَردّ كل فعل لا تتقبله ولا تُدركه نفسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا إلى أجوبة غيبية جاهزة.

وجهان للماء

ينفتح السرد وينغلق على فعل الانعتاق والتحرّر من الوجيعة، «قبل حملها بأشهر اعتراها صداع مزعج، فعزت ذلك إلى قضاء وقت طويل في تطريز الملابس، وكانت كلّما اشتد عليها الصداع تركت ما في يدها واستلقت قليلًا. لكنها منذ أن حملت صارت تسمع داخل رأسها طرقات هائلة، زعمت أنها تكاد تفلقه، وعندما تنام تحلم بزندين كبيرين يحملان مطرقة ضخمة ويهويان بها على صخرة صماء». ذاك حلم الأم وواقعُ ألمها وهي حامل بالقافر الذي أدى بها إلى السعي وراء الماء تضع رأسها فيه لترتاح، والذي أفضى بها إلى الموت غرقًا في البئر استجابةً لدعوة الماء، «تعالي تعالي». هو الحلم يتحول واقعًا وتنتهي الأم ميتة في الماء، حاملة لروحٍ حية، هي جوهر الحكاية وفؤادها. فكان الماء داء الأم ودواءها.

ويختار الكاتب أن يكون مبدؤه موتًا منه تنبعث حياة أشبه بالموت؛ إذ يخرج الحيّ من الميّت في حدث فارق يُشكّل أرضةً يُدير فيها الراوي عدسة الرؤية ليشمل قسمًا من أهل القرية بتعريف مختصر موجز، ويُرافق الماء مراسم دفن الأم، لتصحب الابن شخصيتان تكتسبان حضورهما منه، المربية كاذية بنت غانم، المرأة العزباء، التي حملت هموم المختلفين (سلام ود عامور إذ كانت تُطعمه في عزلته، وسالم بن عبداللّه الذي رعته بعد يُتمه) وآسيا بنت محمد المرضعة التي فقدت كل مولوداتها، والتي «اعتادت أن تمشي مُنكّسة رأسها، وهي تقطع طرقات القرية. واعتادت أن تُسرع الخطى كلما اقترب منها أحد، وأن تختار كلّما ذهبت إلى البساتين مكانًا كثيف الظلال لتجلس فيه». إبراهيم بن مهدي مسكون الرأس أيضًا سافر وترك آسيا زوجته، «كان رأسه مملوءًا بأصوات الزرع والغرس، فلم يسمع سوى خرير الماء وصوت المسحاة وهي تعزق الأرض».

الأمر نفسه بالنسبة إلى ود عامور الذي يعيش اغترابًا مذ طفولته. وينغلق السرد على تتالي ضربات القافر على الصخر الذي يحبسه، «تتالت الضربات، وتحول جسده كله إلى يدين لا همّ لهما إلا ضرب ذلك الجبل الجاثم أمامه كأنه يضرب كل ما عاشه مذ كان طفلًا، يهوي بالمطرقة على سجنه، على غيابه، على اليأس من مغادرته تلك العتمة، على شوقه الجارف إلى زوجته، على الهدير الذي يصم أذنيه ويمنعه من سماع أي شيء سواه، على العزلة التي تمتد وتمتد، على الفكرة التي لا يرغب في مواجهتها»، فيكون الماء في الوضعين ابتداءً ومنتهًى حاملًا لمعنيي الموت والحياة.

الحكاية الأصل وفروعها

تنفتح الحكايات من مجاورة عدد من الشخصيات للقافر (سالم بن عبدالله)، ويُحسن الكاتب إدارة عدسة الرؤية، ليتنقّل من خيط السرد الجامع إلى تفرّعات تُثري الخطّ الرئيس وتُغنيه، «كاذية بنت غانم» الأم المربية، يخصها الكاتب بحيز من السرد خفيف، يسترجع به صورتها وتاريخ تنشئتها، «عندما كانت كاذية بنت غانم في الخامسة من عمرها هجر أبوها البيت وخرج هائمًا في الوديان والقرى، يحمل طبلًا معلّقًا على كتفه ويضرب عليه بعصًا غليظةٍ…».

«الوعري ود عامور» شخصية أخرى قائمة على الاختلاف والنكران، تُنكره أمه بسبب تغيّر هيئته وهو صغير، ينشأ مرفوضًا منكرًا، وحيدًا، متّهمًا بأنه من الجن، ينتهي به المطاف إلى أن يقتل والدُه أمَّه دفاعًا عنه ويعيش هو هائمًا، مؤكّدًا انتسابه لعالم الجن، فيحمل رؤية أمه وجريرة مقتلها وسوء اعتقادها بسبب ما تهيّأ لها من استبدال الجن لابنها، الذي يعيش حياته حاملًا لهذا الثقل، منزويًا عن الناس، متهمًا بالغرابة، متوجعًا أنّه علة موت أمه التي رأت فيه جنًّا، وأصرّت على لفظه وعملت على التخلّص منه. «كلّ محاولات الجيران ومعارفها في القرية لتغيير رأيها باءت بالفشل، فاستمرّت تبكي وتنوح ولدها الغائب (والمقصود بالغياب استطارة الجنّ) وتلعن الحسّاد والسّحرة والجنّ في قريتها، وتعتبر أنّ الجميع كانوا ضدّها وقد تحالفوا ليخفوا عنها الحقيقة الجليّة، حقيقة اختفاء ولدها عند الجنّ، وأنّهم استبدلوا به الولد الجنيّ الذي صار يعيش معها»، فلا يجد له من حلّ سوى أن يؤكّد هذه الغرابة وأن يختار العيش بعيدًا من البشر. «زاد الوعري في توعّره بعد أن فقد أهله ولم يبقَ له أحد، صار يهيم في البلاد ولا يقبل أن يتحدّث مع أحد، يذهب كلّ يوم إلى الوديان العميقة ويختبئ بها، ثمّ يعود في عتمة الليل لينام في بيته».

هو شبيه القافر في الاغتراب والفقد والنكران والانتساب إلى العالم الغيبي، فتلتقي هذه العناصر بما تحمله من حكايات عجيبة أو قابلة للتحقّق وبما تُعلنه أو تُضمره من رؤى وأفكار في مسارٍ للسرد جامع هو شخصية القافر التي تحدّد همّها ومنبع مشاغلها ومولّد السرد فيها بالهيام في تقفّي أثر الماء وقوعًا تحت سلطةٍ عجيبة هي القدرة على سماع الماء والاستطاعة على تتبّع مآتيه.

يصطنع الراوي عللًا وأسبابًا للدخول في فتح الحكايات، والخروج عن خطّ السرد الواحد بإحداث متفرّعات حدثيّة يستطرد بها الراوي في خروجه عن الحكاية الأصل، ليضيء حكايات جانبيّة لشخصيّات مُجاورة، تُستَدْعى حكاياتها إدراكًا لحالها وبيانًا لطبيعة تشكّلها، فتكون الشخصيّات هي مولّدة الحكاية، حتّى إن كانت عَرَضيّة، فإنّ الراوي يستغلّها لتكون سندًا لحكايةٍ تُرْوى أو اعتقادًا أسطوريًّا يغلب بين الناس يُكشَفُ. ومن ذلك المرأة العجوز التي قالت في زوجة القافر بعد ملاحظة سلوكها الغريب، «وزادت امرأة عجوز انحنى ظهرها وتقوّس وهي تمشي بينهم باحثة عن موضع تجلس فيه»، «هذي المصايب كلها من ذاك المكان بو سكنوا فيه، كل المصايب تجي من هناك». وتدخل في حكاية المكان في بعده الأسطوري، وكذا الأمر بالنسبة إلى إدارة الراوي لفروع الحكاية الأصل، فكلّ شخصيّة من الشخصيّات المذكورة تحمل ألمًا وحكاية، يختصرها الراوي استطرادًا متناغمًا مع خطّ السرد الرئيس.

من الألم يتوالد السرد في خطّ مدروس، واضح المعالم، عالم قائم على الصراع من أجل البقاء، يكون فيه الماء عامل بعثٍ وفناء، علة خصوبة وقَفْرٍ، باعثُ السرد ومنهيه بحدثٍ لا يُرْكِدُ النهايات وإنّما يجعلها تجري منسابة، أو عاصفة.


هوامش:

(١) زهران القاسمي: تغريبة القافر. دار مسكلياني. الشارقة الإمارات- دار رشم. تونس. ط1. 2022م. ص173.

(٢) م. ن. 228.

(٣) م. ن. 18.

(٤) م. ن. 32.

(٥) م. ن. 62.

(٦) م. ن. 227-228.

(٧) م. ن. 76.

(٧) م. ن. 88.

(٩) م. ن. 94.

(١٠) م. ن. 205.