المقالات الأخيرة

الفن وحقوق الإنسان والتهديدات من أعلى

الفن وحقوق الإنسان

والتهديدات من أعلى

يمكن للفن، بمساعدة الصور أو الفيديوهات المقنعة، أن يعرض للناس المخاطر القادمة من أعلى، مثل: المراقبة المفرطة والهجمات العسكرية وتغير المناخ، التي تهدد جميعها سلامة الناس الجسدية والعقلية. وقد يساعد الفن أيضًا الأشخاص على التعامل مع الصدمات التي يعانونها بسبب هذه...

الحداثة بين سردي «النهاية» و«البداية»

الحداثة بين سردي «النهاية» و«البداية»

يأتي كتاب «لا شيء قيل من قبل»(1) ليتوج الجهد الذي كرسه المؤلف فيليب فوريست للتعريف بمنجز «النظرية الفرنسية» وأصولها وغاياتها وخلفياتها المعرفية وروافدها(2). يسعى الكتاب عمومًا إلى مناقشة من يزعم أن الحداثة انطفأت جذوتها، وأن الأدب لم تعد له جدوى في حياتنا الراهنة...

بورخيس، نزيل الغرفة 10 حكاية حوار

بورخيس، نزيل الغرفة 10

حكاية حوار

كانت الساعة الواحدة والنصف تقريبًا حين انتهت نشرة الظهيرة على القناة الثانية الفرنسية، وكان الخبر الأخير فيها عن وصول خورخي لويس بورخيس إلى باريس آتيًا من إيطاليا حيث حاز على جائزة «تشينو ديل دوكا» التي تهدف إلى تعزيز دور الفنون والآداب والعلوم. اتصلتُ من فوري...

في المخيال تولد الأديان ولادة ثانية

في المخيال تولد الأديان ولادة ثانية

المخيلة منجم الإبداع البشري، كل شيء يضيق فيه الواقع يتمكن الإنسان من تخيله. لا ينفرد الإنسان بالعقل وحده، بل ينفرد بملكة الخيال أيضًا. بواسطة التخيل أصبح الإنسان كائنًا يتطلع للمستقبل، ويرسم خريطة لتطوير أحواله والتقدم للأمام. يؤكد غاستون باشلار «أهمية المخيال...

بين الجمال والبروباغندا: آراء في وظيفة الفن

بين الجمال والبروباغندا:

آراء في وظيفة الفن

دائمًا ما يُطرح سؤال متعلق بالوجهة التي يمكن أن تتخذها الأشكال التعبيرية التي تجد نفسها في سياقات معينة تفرض عليها خدمة أغراض شتى. وتنبع وجاهة السؤال من الإيمان بما تملكه الأشكال التعبيرية من قوة التأثير من جهة، ومن توازي القيم الجمالية التي تنطوي عليها مع قيم أخرى لا...

كنا نبحث عن «كتابات تهز القلب»

بواسطة | يناير 1, 2022 | فضاءات

في بداية علاقتي بالكتابة، في التسعينيات، كنت أنحاز لتلك الكتابات التي تأتي من عمق وجودي، كانفجار يترك فجوة في النفس: فان جوخ، لوتريامون، هنري ميللر، بيكيت، أنتونين أرتو، رامبو، جان جينيه، دوستويفسكي، لوركا، أوكتافيو باث، ريلكه، وغيرهم. أهم ما يميز هذه الكتابات ارتباطها بالحياة، وتأسيسها لشكل أخلاقي جديد. كانت الحياة وقتها، وما زالت، يملؤها السأم، تحتاج لكتابات تهز «القلب». وهذا «القلب» كان يصنع هناك في أوربا وأميركا، وأميركا اللاتينية. أما مصريًّا فقد كان هذا القلب تابعًا بشكل ما، كان هذا العمق الوجودي في الكتابات المصرية مسيسًا، باستثناءات قليلة.

على الرغم من فنية الكتابات المصرية والعربية، وتماسكها الشكلي، فكانت تجنح أكثر للسرد الحكائي الأفقي للذات، وليس القفز داخل هذه الذات واكتشاف طبقاتها، بانفجارات ورموز تختصر الحكاية وتحولها إلى شعر. كان الشعر سيد العالم في هذا الوقت من التسعينيات. ربما هذا النوع من الكتابات الوجودية الممسوسة بروح جماعية كان يتحقق في بعض نتاجات السوريالية المصرية وبخاصة أشعار جورج حنين، التي ترجمها المترجم المخلص لمشروع السوريالية بشير السباعي، لها هذا الغموض الحقيقي، وشكلت إحدى علامات الكتابة التي تهز القلب في حقبة التسعينيات.

الحياة بأثر رجعي

كنا نبحث، كأصدقاء مبتدئين في الكتابة، عن الصدق، داخل النص. كان هذا «الصدق»، أكثر التصاقًا بالشعر؛ لأنه صدق غير محكي، تجلط دلالي، ورمزي، يتشكل عبر زمن متقطع داخل سيرة حياة الكاتب، بعد أن تتحول، هذه السيرة، إلى رموز ذائبة ومنثورة في تاريخ أكبر منها. هذه العلاقة الجدلية بين التاريخ الشخصي والتاريخ العام، كانت تشكل نقطة تقاطع مهمة، في هذه الكتابات المؤثرة التي تهز القلب. إلى أي مدى يملك هذا الرمز الوجودي الغامض، سواء في قصيدة أو مقولة، أو أي نص؛ نفاذية لأن يمر مثل سهم من الضوء عابرًا بتواريخ، وكاشفًا عن تفاعلات وجذور هذه العلاقة الجديدة/ القديمة.

كنت/ كنا، كأصدقاء يحبون الكتابة، نبحث عن هذا التاريخ الأكبر، وليس التاريخ السياسي فقط، الذي لا نراه متمثلًا في حياتنا اليومية والأدبية الفقيرة، كأننا نحمل وزر غيابه. أبحث عن سير التشرد والاستبياع الحياتي، التي يتناثر فيها الصدق، أكثر من جودة الكتابة. كانت الحياة وقتها تتلخص في الشعر، الذي يحتفظ تاريخه بنموذج إنساني مفارق، ليس له علامات طريق موروثة، ولكن له انفجارات نفسية تصنع هذا الطريق. كانت هذه الكتابات تسحبني إلى البدايات، إلى مشترك إنساني، هو وحده الذي يملك الحق في أن يهزني، ويصلنا، مرة أخرى، بهذا القلب القديم/ الحديث، نقطة الاتصال بين الماضي والحاضر.

ديستويفسكي

عندما يطول بنا زمن السأم، أنا وشلة أصدقائي الكتاب، يبزغ هذا الخاطر، التنقيب، عبر ذاكرتنا، عن «كتابات تهز القلب». كتابات تغير من نظرتك للحياة، ومن نفسك، ربما لن تغير هذا السأم الذي نتنفسه، ولكن ستغير من طريقة نظرتك له، ولنفسك. هذا العمق المخدر أو المتيقظ الذي نغرق فيه، عندما نقرأ مثل هذه النصوص، فنخلع عن أجسامنا هذا الجلد الراكد. كان هذا التنقيب كفيلًا بأن يرتفع معه سقف هذه الحجرة الواطئة، أو السماء الواطئة، أو البلد، التي نجلس تحتها.

داخل هذه الكتابات هناك وعد دائم بأن هناك مفاجأة، بالرغم من أن زمن كتابتها يسبقنا زمنيًّا، ولكن ظل زمنها له القدرة على التأثير فينا، أو يمكن أننا كنا، ككتاب مصريين شباب في وقتها، نعيش زمنهم الذي ولى، وما زلنا نتأمل إنسانهم ومثلهم الأعلى في الكتابة. كان هذا «الإنسان» قد دخل عصور ما بعد الحداثة، ولم يعد له المواصفات نفسها التي نفضلها. كنا نعيش عصرهم بأثر رجعي. كانت التسعينيات نقطة تحول، نهاية زمن الحلم لهذا النوع من الكتابات المؤثرة التي تهز القلب. لا شك أنها ستظل، ولكن ستتغير طريقة النظرة لها، لن يكون لها التأثير نفسه، ستتحول لنماذج أدبية، وروحية، توضع في متحف التاريخ الأدبي، وليس كتجارب حية قادرة على التغيير.

الكتابة من مكان آخر

هذه الهزة الروحية التي تسببها قراءة هذه الكتابات كانت شرطًا من عقدك مع الحياة ومع الأدب، أن تشعر بزلزال يمر بجسدك، قد تقاومه، أو ترفضه، أو تضع حاجزًا بينك وبينه، ولكن في النهاية تستسلم له، حتى لو كان استسلامك يجعلك تتخلى عن جزء حميم في نفسك. كان نموذج «الموظف الكاتب، أو «الكاتب الموظف» يخيفنا، بعد أن أخافنا أكثر في بيوتنا التي كان فيها آباؤنا موظفين. العلاقة بين السلطة والآباء والكتاب والموظفين، في دولة الموظفين الأدبية؛ كانت تخيفنا، وبالتالي جنحنا ناحية اللاوظيفة للأدب، ولحياتنا الشخصية، ومحاولة التحرر منها، بقوة الموت الكامن في حياتنا اليومية، وبقوة الخوف من الدخول في نموذج أبوي. حولنا هذا الموت البرجوازي لموت من نوع آخر داخل نصوصنا، التي سنكتبها آنفًا، لتنتقل لنا عدواه، ونحوز شرف الموت في سبيل الكتابة، بدلًا من الموت في سبيل الوظيفة.

أحيانًا كما نتخفى وراء هذه الكتابات، التي تهز القلب، وراء هذه الأسماء الكبيرة لأصحابها، ووراء استحالة الوصول إليها. نتخذ من كتَّابِها الأعلام قناعًا في أحاديثنا، على المقاهي وفي البارات الفقيرة، لكي نخفي عورة كتاباتنا الوليدة. نضع المثال الأقصى؛ كي ترفع من نظرتنا لأنفسنا، ولنصوصنا، وحياتنا الضيقة. نرفع كتاباتنا المتمناة إلى هذا المستوى من الاستحالة، ونقول لأنفسنا، كشلة كتاب مبتدئين: «هذا هو حلمنا.. فلا تنظر لي الآن، ولكن انظر لحلمي هذا، هذا رهاني، على الحياة والكتابة». النص الذي نكتبه، وقتها، ككتاب مبتدئين، شعرًا أو نثرًا؛ كان أسهل في التشبه بهذه «الكتابات التي تهز القلب». حدث أحيانًا كثير من الخلط في فهم طبيعة هذه الكتابات المثل، وفي فهم طبيعة تحولاتنا، فتحولت نصوصنا أحيانًا إلى قناع.

كان نشاط الخيال والأمل أكبر بكثير من قدرتنا على الحلم، وربما حتى الآن. ولكن رحلة الحياة، بعدها، وتحولاتها، وكل ما حدث فيها من رد اعتبار للتجربة، وللعيش، ومحاولة التفلت من السلطة، وأحيانًا الاستسلام لها؛ أعادت بأثر رجعي حقنا في أن نتشبه بهؤلاء الكتاب وبنصوصهم. كل حلم حلمناه كان يتحقق بأثر رجعي؛ لأن الحلم كان متخلفًا عن الحياة، أو يسبقها، كان يقع في مكان مجهول، ليس في الدماغ، ولكن في ثنايا الزمن الذي يجري، في الوصلات الفارغة بين السنوات. عادة ما تكشف هذه «الكتابات التي تهز القلب» عن ماضٍ إنساني كامن فيها، سواء ماضي صاحبها، أو ماضي الجماعة الكبيرة التي ينتمي إليها. بداخلها، غالبًا، ميزان مختلف للعدالة، يريد أن يعيد التوازن للإنسان، فخلف هذه الكتابات يكمن قانون إنساني، يتأثر بالنقص، وأيضًا يمنح الحياة توازنها، ويكمل ويفسر نواقصها مثل الأديان والرسالات الكبرى. قد لا يتحقق العدل على الأرض، ولكنه «صورة» من هذا العدل، تتحقق في هذه الكتابات، كأنها أخذت بثأرنا جميعًا أمام من ظلمنا.

تأتي هذه الكتابات من وراء الوعي، فتحمل شجن صوت جماعات قديمة، عندما كان الضمير الجمعي جزءًا من صيرورة الفرد المغني، الساحر، للقبيلة. لا تقطع هذه الكتابات مع الماضي، ولكن تضعه في صيرورة حياتية، كما يقول هنري برغسون في كتابه «حدس اللحظة». تحرك هذه الكتابات الماضي، وتسحبه للحاضر، ويتحول الزمن لزمن واحد أبدي، تخرج منه الكلمات والمشاعر والرؤى، والأفكار. شيء قريب من هذيان اللاوعي، ولكنه الهذيان الأصيل، عندما كانت المخيلة جزءًا من العقل، والعقل جزءًا من المخيلة. كتابات ليست قديمة أو حداثية، ليست ماضوية أو مستقبلية، لها القوة أن تتجاوز هذا التصنيف الزمني؛ لكونها منبثقة من قاع وجود إنساني يتجاور فيه الماضي والحاضر والمستقبل. ربما تكون هذه الكتابات جزءًا من أي رسالة دينية، مهما كان محتواها، فهي تملك قوة تأثير كامنة في تكوينها الانفجاري، أو في خلطها الماضي بالحاضر في وحدة واحدة. لا تهتم هذه الكتابات بالشكل الفني؛ لأنها تبتدع شكلًا لها، على مقاس هذا الانفجار الذي يعيشه صاحبها، حياتيًّا وفكريًّا. أصحابها عادة ما يعيشون لحظة تحول تتجسد في كتاباتهم، أو تكون حياتهم بأكملها، لحظة تحول طويلة.

كان جزءًا من خصائص هذه «الكتابات التي تهز القلب»، أن تكون متخلصة من ضغط الخارج، ومتأثرة به، في آن، متخلصة من أي مفهوم استهلاكي للكتابة، ومُخلصة لهذا النداء الداخلي مهما كان، فالكتابة معنى وليس مادة، ولا يمكن أن تسلم نفسها لقانون السلعة، إلا حدث تحول في مسار كتلتها ومادتها وهدفها. جاءت هذه الكتابات لتكون أعلى، أخف، وطافية على الدوام، تتحرك في مكان خلفي، أو فوقي، أو ورائي، أو تحتي، بعيدًا من أي مركز مستلب بالاستهلاك والكذب والاستعراض، كما قال الفيلسوف الفرنسي جي ديبور. كنا نبحث عن النقاء في مكان آخر، بعيد من مركز الكتلة الاجتماعية، حتى لا تدخل كتاباتنا في مجال الجاذبية والانسحاق، ربما هذا يمنحها استقلالها وأيضًا يمنحها هشاشتها.

ربما في الكتابات الحديثة، في الألفية وما بعدها، تغير مفهوم «القلب». أصبحت أغلب الكتابات محكمة شكليًّا، وتوزَّع ميراث هذا «القلب القديم» على زوايا فعل جديدة. تمكنت الحرفة، لو شيدت بناءها الصناعي المحكم، وتوارى القلب وراء هذا، وتوارى الكاتب، وتوارى انفعاله، صار جزءًا من ماكينة كتابة ضخمة، شديدة التعقيد، وعديدية التصنيفات. ربما تحدث الآن الحياة في مكان، بينما الكاتب يكتب من مكان آخر، بعيدًا منها، من مكان افتراضي. أصبحت الكتابة محكومة بالسطح البراق والآلي للحياة. سُحِبَت الطاقة من الحياة، وضخها في شرايين هذه الآلات، والأرقام، والتعقيد الشكلي، وأصبح هناك نوع من الاستمناء الذهني ربما ليعوض انفجارات لذة «القلب» القديم.

العودة إلى زمن مفقود

خرجنا كشلة كتاب أصدقاء من مكان واحد، ثم تفرقنا وعشنا في سياقات مختلفة. كلما تهنا نعود لهذا المكان العلامة، لتلك الكتابات الأثر. نعود لمشترك لم يتغير عبر تلك السنوات، ربما بسبب قوة تمسكنا بالماضي، ليس كزمن وثني، بعيد، ولكن كزمن متجدد دومًا. نعود لتلك الكتب التي أحببناها، وأَنْسَتْنا سأمَ الحياةِ وموتها المبكر. أتذكر «ريلكه» عندما صرح في إحدى رسائله لشاعر شاب، بأن هناك كتابين يعود إليهما دومًا، من كُتُب مكتبته، ولا يفارقانه، ويحملهما معه حيث ذهب: الإنجيل وكتب الشاعر الدانماركي «ين بيتر جاكوبسون». أغلب كتب «ريلكة» تلمس الوحدة والحداد، برغم هدوئها الظاهري، تلمس فيها الوحدة بعمق، وتسعى لها كأحد أشكال العيش التي تحمل أملًا/ يأسًا وجوديًّا بالخلاص. عند قراءة ريلكه ورسائله ومراثيه لدوينو، ستنعكس عينك على الداخل، تتلمس نفسك، ليست كطبقات تاريخية، ولكن كوجود ملموس متوحد تأتنس به.

أوكتافيو باث

ربما في أثناء رحلة الحياة، التي تفوق رحلة الفكر، لا يصلح إلا أن تتخلى عن كثير من الكتب التي أحببتها، وستحبها، حتى يتعمق إيمانك بالنهاية، عبر «كتاب واحد» أو أكثر قليلًا، يتلخص فيه تاريخك مع القراءة، ومع الخيال؛ لأن اللحظة لا تتسع لأكثر من هذا، لا تحتاج لتشوش بل لتركيز شديد. لن يحمل القلب إلا ما يقدر على حمله؛ لأن الميزان، في البعث، شديد الرهافة: قلب في كفة، وريشة ماعت في الكفة الأخرى.

أوكتافيو باث، الشاعر والكاتب المكسيكي، الحاصل على نوبل، كان يبحث عن «وحدة» من نوع آخر. حرارة هدوء كتابات أوكتافيو باث هي التي تهز القلب، تفكيكه للأساطير ومعرفته بها، وإرجاعها لأصل إنساني واحد، سواء في كتابه «اللهب المزدوج» أو في «متاهة الوحدة». هناك أصل واحد للإنسان خرجت منه كل الأساطير، وخرج منه هذا التشابه في الحب، والعزلة، والإيروسية، والتصوف. كلها اختيارات خرجت من مقاومة الوحدة أو للعزلة، والتمرد عليها. في البدء كان هناك طريقان: إما طريق الاتحاد بالله عبر التصوف، أو الاتحاد بالآخر عبر الإيروسية. الطريقان ضد الوحدة. في كل لحظة، في كتابات أوكتافيو باث، بقعة الاختيار هذه تزداد اتساعًا لتشمل الكون بثقافاته المتعددة. بينما الكاتب يقف بينها، غير منحاز لإحداها، بل مع الجميع، من دون مواقف مسبقة، ربما هذا الموقف الهادئ، يولد هذه الحرارة الإنسانية التي تستشعرها وأنت تقرأ كتاباته، التي تقف وراءها «الوحدة»، ومقاومتها، سواء كانت «الوحدة» موقفًا إنسانيًّا وجوديًّا، أو مكانًا خرج من الاختلاف.

مقام الوحدة والعزلة

ربما منحتنا هذه «الكتابات التي تهز القلب» إيمانًا من دون عنوان، وهذه هي أهميتها، أنها تجدد ثقتك في الله والكون، والطبيعة، عن طريقك، كفرد منفتح على الحياة، وليس كفرد طقوسي. كفرد فاعل ومنفعل، حتى لو اتخذت طرقًا أخرى للبحث في الحياة. على الرغم من أنها عصور تحرر ولكنها كانت عصور إيمان من نوع جديد؛ لذا كانت فكرة الأخلاق، جزءًا أساسًا من طرح هذه الكتابات، سواء الإيمان بالله، أو الإنسان، وما يقف وراءه من لاوعي أو جماعة إنسانية كبيرة، أو شعب.

أتذكر رواية «الدرويش والموت» للكاتب البوسني محمد سليموفيتش، ومناجاة بطله الشيخ أحمد نور الدين حول العدل والحياة والموت، هذا الصوت الاعترافي الذي كان يكلم به نفسه، طوال الرواية، وخلال المِحَن التي يتعرض لها، ويذوب صوته وسط سهول وسهوب البوسنة. كنت مخطوفًا بأن هناك داخل هذه الرقعة الغربية التي تسمى يوغسلافيا، من يتكلم بلغة وروح مسلمة متسائلة.

أتذكر أيضًا دوستويفسكي في خطبته الشهيرة بمناسبة الاحتفال بإزاحة الستار عن تمثال بوشكين عندما قال في «يوميات كاتب»: «الحقيقة ليست في خارجك، بل في داخلك أنت؛ جِدْ نَفْسَك في نَفْسِك، وأخضع نفسك لنفسك، امتلك نفسك، وعندئذ سترى الحقيقة. هذه الحقيقة ليست في الأشياء، ليست خارج ذاتك، وليست في مكان وراء البحار، بل هي، قبل كل شيء، في عملك على نفسك، فإذا انتصرت على نفسك، وذللتها لإرادتك، تغدو حرًّا، إلى حد لم تتخيله قط، وتبدأ القيام بعمل عظيم، وجعل الآخرين أحرارًا، وترى السعادة لأن حياتك ستصبح ملأى، وستفهم أخيرًا شعبك وحقيقته المقدسة». ص 645 – يوميات كاتب.

كان غرض هذه «الكتابات التي تهز القلب» أن تلمس هذه النفس التي تبحث عنها، أو تلك الروح العميقة، التي نحملها جميعًا. هذه الروح ليست لك وحدك، وإن كانت داخلك كما قال دوستويفسكي، هناك شعب مقدس بداخلها، هناك ذاكرة جمعية، تعيش بداخلها هذه النفس وتتغذى وتنمو، وتكتشف الحقيقة. يرى دستويفسكي أن نموذج «الشاعر بوشكين»، نموذج روسي أصيل، لكونه نموذجًا عالميًّا متعددًا، هو تعبير عن الروح الجمعية في روسيا المقدسة. فرد يعبر عن مجموع، أو مجموع مختزن داخل فرد. هذا القلق الفردي المنفتح على الآخرين سواء كان فردًا بعينه، أو شعبًا. من هذه الإحداثيات تتولد تلك الكتابات التي تهز القلب، نتيجة هذه التفاعلات الحساسة، لتهز قلوبنا؛ لأننا جزء منها بشكل ما، نحن «آخرها»، أي كان مصدرها ومكانها ولغتها. هذه الهزة التي تصيبنا من كتابات معينة، لكونها أيقظت هذه «الذاكرة الجمعية» التي تعيش داخلنا، فالفردية مهما تطرفت، حتى لو كانت فردية «غريب كامو»؛ أصيلة، وغير منفصلة عن جماعتها الإنسانية. ربما كنا كشلة أصدقاء كتاب، أحببنا هذه الكتابات البعيدة، لكونها تمثل مجتمعًا آخر لنا؛ لأن المجتمع الحقيقي من حولنا، لم يكن حاضرًا، ولا منفعلًا بنا، ولا نحن منفعلين به، كنا نريد أن نندمج فيه بشروطنا، وليست بطريقته المترهلة في العيش.

نص الأرض الخالد

«كتابات تهز القلب»، تلك الكتابات التي تنضح بالألم المقترن باللذة؛ الألم لأنه وسيلة التعرف إلى «القلب»، بكل ما يحتويه، ولا يظهر بأكثر صورة تجردًا، وسموًّا، إلا وهذا الألم يسيجه من الداخل، ليلفظ المعنى العميق من داخله للخارج. الألم كوسيلة تعبير فردية، واللذة، كمكافأة من تلك الروح الجمعية على هذا الألم. لذة الاكتشاف وسبر غورها.

جان جينيه

في مكان آخر وعبر منحوتات وحياة النحات والرسام السويسري ألبرتو جياكوميتي، يكتشف الكاتب الفرنسي «جان جنيه» عزلة من نوع آخر، لها أبواب خلفية، تفتح على عزلات أخرى. في كتابته عن جياوكوميتي والمعنونة بـ«الجرح السري»، التي ترجمها من الفرنسية الدكتور محمد برادة، العزلة مادة للتعرف إلى الآخرين، الجماعة. داخل العزلة لا تقابل نفسك فقط، ولكن تقابل الآخرين الذين يعيشون داخل نفسك. هذا النص شديد التأثير في حقبة التسعينيات، والمؤسس لكتابة مغايرة وشديدة الخصوصية. يبدو أننا ككتاب مبتدئين آنذاك، كنا نبحث عن الآخرين من خلال اعتزالنا المجتمع وأداءاته المترهلة. يكتب جان جينيه على لسان جياكوميتي: «أنا وحيد، إذن أنا مأخوذ داخل ضرورة لا تستطيعون أن تفعلوا ضدها شيئًا. إذا لم أكن سوى ما أنا عليه، فإنني غير قابل للتحطم، ولما كنت هو ما أنا موجود عليه، فإن عزلتي من دون تحفظ، تعرف عزلتكم».

أتوقف قليلًا عند «لوركا»، الشاعر الإسباني، ونصه الخالد الذي تداولناه فيما بيننا، وتحيرنا أمام غموضه الجذاب كأننا أمام لغز صعب حله، بل لا نريد حله. هذا الكتاب البرتقالي الصغير في حجم الكف، الذي كان يحمل مختارات من أشعاره، بجانب مقدمة عبارة عن محاضرته بعنوان «نظرية الدويندي وعمله»، التي ترجمها أحمد حسان، أحد المفتونين بالنصوص المركبة، التي تحمل روحًا وجودية تقدمية. كان هذا الكتاب وهذه المقالة خاصة، إحدى الأيقونات الجمالية للتسعينيات. يتحدث فيها لوركا عن هذا المصطلح الغريب «الدويندي»، الذي أثر في كثيرين عند قراءته، ومحاولة تفسيره، وفك شفرة غموضه، وطاقته الكامنة. كان هذا النص من أسمى درجات هذه «الكتابات التي تهز القلب»؛ لأنه يضعنا مباشرة في رحاب روح خفية، وغامضة وداكنة، فالدويندي كما يقول لوركا «الروح الخفية لإسبانيا المعذبة». هذه الروح الخفية تتناثر بين الشعر والرقص، وفنون أخرى، ليس لها مكان محدد لتتواجد به، ولكن طريقة التبدي في لحظة معينة، عندها يتحقق «الدويندي»، كأنه شبح يظهر بقدر يسمح برؤية سريعة، بلمحة، كأي شيء ثمين، وعميق، ليس له وصفة جاهزة للوصول إليه. يكتب لوركا عن هذه الروح الجمعية، التي ينبثق منها «الدويندي»:

هذه «القوة الغامضة التي يحسّها الجميع لكن لم يشرحها أي فيلسوف «هي، باختصار، روح الأرض، إنها الدويندي نفسه الذي ملك قلب نيتشه، الذي كان يَنْشُدُه في أشكاله الخارجية على جسر ريالتو، أو في موسيقا بيزيه، دون أن يجده أو يدرك أن الدويندي الذي كان هو يقتفي أثره قد قفز من الإغريق الغامضين إلى رقصات قادس، أو إلى الصرخة الديونيسية المقطوعة الرأس لسيجيريّا سيلـﭬيريو».

«أمّا مانويل تورِّيس، الرجل الذي في عروقه من الثقافة أكثر من أي شخص عرفتُه، فإنه عندما استمع إلى دي فايّا يعزف مقطوعته «ليلية جنّة العريف» Nocturno del Generalife، قال قولته الرائعة: «كلُّ ما فيه أصواتٌ داكنة فيه دويندي. وليس هناك صدقٌ أعظم».

لقد صاغتنا هذه الكتابات بفنائها المتواري، زرعت هذا «الدويندي الشبحي» في خيالنا، وجعلتنا نؤمن بالفناء كجزء من حيوية الوجود ولهيبه ودفئه. ربما الكتابات التي ستأتي مستقبلًا، سيكون لها طريق آخر للفناء؛ لأن لها «قلب جديد» يتشكل بعيدًا من العصر الذي عشناه. سيؤمن كتاب هذا العصر بلا شك مثلنا بالفناء، ولكن الفناء هذه المرة ربما له طريق آخر، ربما لن نلمسه بهذا الوضوح القديم. بالطبع داخل كل كتابة أو قلب، هناك مكان خالد، هو جزء من حركة الماضي، ولكن في عصر يتشكل فيه الخلود بشكل استهلاكي، سينعزل هذا الماضي. فالخلود مثل الفناء، ليس هو النهر الذي نشاهده مرتين. ربما من هذه النقطة المفصلية، أؤرخ لموتي، أو لخلودي المقنع.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *