الدِّين والرؤية الجمالية للعالَم

الدِّين والرؤية الجمالية للعالَم

ليس هناك مجتمع يخلو من الدين والفن والحُبّ. التدين العقلاني الأخلاقي، والحُبّ، والفن، يغذي كل منها الآخر ويتغذى منه. الرؤية الجمالية لله والعالم تتوالد عبر التفاعل الإيجابي الخلّاق بين هذه العناصر الثلاثة. الفن رديفُ الدين في التاريخ، حيثما عاش إنسانٌ في أيّ مكانٍ وزمانٍ تظهرُ في حياته تعبيراتٌ للدين وتعبيراتٌ للفن. لا تضادَّ بين جوهر الدين وما ينشدُه الفن الأصيل. كلاهما ينشدُ فضحَ ظلام العالم، وإنقاذَ الروح من مواجع الحياة، وتأمينَ ملاذٍ يتنفس فيه الكائنُ البشري بعد اختناقه بحرائق الشرور التي تنهشُ قلبَه، وتعبثُ بكلِّ شيء جميل في حياته.

حاجةُ الطبيعة الإنسانية لتذوق ‏تجليات الجمال وتعبيراته المتنوعة البصرية والسمعية في العالم حاجةٌ أساسية، كحاجة الإنسان للحبِّ والإيمان والدين. لا يمكن أن يخلقَ اللهُ في الطبيعة الإنسانية حاجةً أساسية ويُحرِّم على الإنسان إشباعَها. رأيتُ موسيقا أطفال منشورة قبل خمس سنوات على يوتيوب، بعنوان «Baby shark dance»، بلغت مشاهداتُها حتى اليوم عشرة مليارات مشاهدة. وهو مؤشرٌ على احتياج الإنسان العميق للفنون البصرية والسمعية، وبخاصة أن الأطفالَ أكثرُ تعبيرًا عن الطبيعة الإنسانية واحتياجاتها العميقة، بوصفهم ما زالوا لم يخضعوا لقيم المجتمع ومعتقداته وثقافته.

يحتاج الإنسانُ إلى لغةٍ خارجَ اللغة يتحدثُ فيها للوجود، ويتحدثُ فيها الوجودُ إليه، لغةٍ يتذوقُ فيها إيقاعَ أنغام الوجود وألحانه. الموسيقا لغةٌ يتذوقُها كلُّ إنسان مهما كانت لغتُه وثقافتُه وديانتُه. الموسيقا ‏لغةُ الروح قبلَ العقل، لغةُ القلب قبلَ الفكر، لغةٌ آسِرةٌ تُصغي إليها المشاعرُ كأجمل ما تصغي لأية لغة. لغةُ الواقع المحسوس تُنهِك القلب، الموسيقا ‏لغة يستريحُ فيها القلبُ عندما يُرهقه المكوثُ طويلًا في لغةِ الواقع المحسوس.

الحضورُ الواسع للفنون الجميلة في أي مجتمع يقوّم السلوك، ويخفضُ من وتيرةِ العنف، ويؤثرُ بشكلٍ مباشر في إشاعة الأمن والسلم الاجتماعي. الفن الذي أتحدث عنه هو الفن الأصيل، الذي يُهذِّب المشاعرَ والعواطفَ والذوق، ويقوّم السلوك. ولا أعني الفن المُمْتَهَن المُبتذَل، الذي يهدر العفاف، ويغوي بالتهتُّك والمجون، ويُحرّض على الكراهية والعنف.

كلُّ مجتمعٍ يتوطنه التدينُ العقلاني الأخلاقي، والحُبُّ، والفنُ، تتوطنه قيمُ احترام المختلف في المعتقد، والعيشُ المشترك في إطار التنوع والاختلاف. الدينُ والحُبّ والفن يغذّي كلٌّ منها الآخر ويتغذّى منه. الرؤيةُ الجمالية لله والعالَم تتوالد في سياق التفاعل الإيجابي الخلّاق لهذه العناصر الثلاثة. أتحدثُ هنا عن التدينِ العقلاني الأخلاقي، والفن الأصيل الذي يهذب الذوق والأخلاق. لا أتحدثُ عن الواقع الذي فرضته إكراهات تاريخية مريرة ما زالت تتحكمُ به حتى اليوم.

لا يمكن أن يستغني الإنسانُ عن الجمالِ، حاجةُ الإنسان لمتعة تذوق تجليات الجمال في العالَم رافدٌ يعزّز السلامةَ النفسيةَ والروحية. تذوقُ الجمال انكشافٌ متبادل، ففي الوقت الذي ينكشفُ للإنسان فيه جمالُ العالَم، ينكشف له جمالُ ذاته، بمعنى أنه مثلما ينكشف فيه المُشاهَد بشكل مُضِيء، يتحقّق فيه المُشاهِد بشكل مُضِيء أيضًا. حين يبتهج الإنسانُ بتذوق تجلياتِ جمال الله في الوجود يتكامل إلى مرتبةٍ وجودية أسمى. وقتئذٍ يكونُ الشعورُ الجمالي تعبيرًا عن الشعور الديني، والشعورُ الديني تعبيرًا عن الشعور الجمالي.

الجمالُ مرآةُ الحُبّ

يقترن الشعورُ الجمالي بالحُبّ إثباتًا ونفيًا، الحُبّ مرآةُ الجمال، الجمالُ مرآةُ الحُبّ. لا حُبّ ما لم يتجلَّ المحبوبُ جميلًا. عندما يلتقي الإنسانُ جمالَ المحبوب كأنه يلتقي نفسَه؛ لأنه يرى كلَّ ما يتمناه لصورته فيه. الحُبّ مصدر الوعي الجمالي في حياة الكائن البشري، وهو ما يصيّر كلَّ شيءٍ في الوجود جميلًا. الحُبّ يلوّن الحياةَ بأجمل معانيها، ويكشف للإنسان أجملَ صورها المكتنزة. الحُبّ يضيء الحياة، ويبدّد وحشةَ الكائن البشري فيها. حين ينبض قلبُ الإنسان بالحُبّ يرى كلَّ شيء كأنه مخلوقٌ من جمال.

لما كان الدينُ، وفقًا لتعريفي، «حياةٌ في أفق المعنى»، يكونُ إنتاجُ المعنى الجمالي أحدَ أهداف الدين المحورية، وفي ضوء هذا الفهم يفرض الدينُ على أتباعه الإسهامَ في رسمِ صورةٍ أجمل للعالَم، وإن الكفَّ عن الإسهام في رسم هذه الصورة لا يعدّ موقفًا إيمانيًّا أصيلًا. التعبيرُ الجمالي عن الدين ضرورةٌ، بوصفه ضمانةً لإحياء رسالة الدين الحية المُلهمة لمعاني الخير والمحبة والجمال والسلام في كلِّ عصر، ويكون هذا التعبير أشدَّ ضرورة عندما يتفشّى قبحُ التعبير المتوحش عن الدين.

مشاهدةُ القلوب لتجلياتِ الجمال الإلهي في الوجود، تصيّر كلَّ شيء مرآةً ينعكس عليها ذلك الجمال، وتتذوق في كلِّ شيء جمالًا يشاكله. يتسعُ في فضاء مشاهدة القلوب الأُفقُ الروحي للجمال ليكون أُفقًا كونيًّا مشتركًا، لا تضيقُ فيه مضايقُ المكان والزمان. الأفقُ الروحي للجمال يكفلُ حمايةَ الإنسان من الاغتراب الوجودي، وتكريسَ سكينة الروح وطمأنينة القلب.

شحةُ الجماليات في أعمالنا، وطغيانُ الفنون المبتذلة، واضمحلالُ الأبعاد الجمالية في البناء والعمارة والسينما والمسرح ووسائل الإعلام والدعاية والإعلان وكلِّ شيء؛ تجعل الإنسانَ ينفرُ من الحياة ويشعرُ بالغربة والاختناق. يكتئبُ الإنسانُ عندما يرى العالَمَ مشوّهًا قبيحًا مظلمًا، لا يبوحُ بأي معنى جميل، يفيضُ على قلبه الطمأنينة، وعلى روحه السكينة.

إن كان الإنسانُ يعيشُ في ‏مجتمع لا يكترث بالجمال، ويطغى فيه صوتُ الكراهية والعنف، يتبلد ذوقُه الفني، وتتعطل حواسُّه الخاصة بتذوق الألوان والأصوات والألحان. تذوقُ الجمال يحتاج تربيةَ الذوق الفني منذ الطفولة، ولا بد أن تتواصلَ هذه التربيةُ كلَّ حياة الإنسان. تربيةُ الذوق الفني ذاتُ صلةٍ مباشرة بالرؤية الجمالية للعالَم، ونمطِ تمثّلها في اللاشعور الفردي والمجتمعي. تنعكس رؤيةُ العالَم على صلة الإنسان بما حوله، مِن: بشر، وكائنات حيّة، وأشياء، كما تنعكس على نمط صِلته بالله. تربيةُ الذوق الفني تدخل عنصرًا أساسيًّا في إنتاج رؤية مضيئة للعالَم. الرؤيةُ المضيئةُ للعالَم تعيد إنتاجَ الذوق الفني مثلما يعيد الذوقُ الفني إنتاجَها.

إن كانت بصيرةُ الإنسان حاذقةً، وذوقُه الفني صافيًا، وحاستُه الجماليةُ مضيئةً، تصبح رؤيتُه للعالَم مضيئةً، يرى هذا الإنسانُ صورةَ الله مشرقةً، ويكتشف تجلياتِ جماله في الموجودات. ويستطيع مَنْ يمتلك رؤيةً مضيئةً للعالَم أن يساهم في تشكيل صورًا مضيئة للأشياء؛ إذ يمكنه أن يعيد بناءَ كلّ شيء في الأرض بشكل يكشف لنا عن جماله، يقول غوته: «يمكنك أن تصنعَ الجمالَ حتى من الحجارة التي توضع لك عثرةً في الطريق».

التربيةُ في بلادنا تجهلُ الأثرَ الحيوي البنّاء للذوق الفني والحاسة الجمالية في تفكير الإنسان وفهمه ورؤيته للعالَم ومشاعره ومواقفه وسلوكه، ولا تتنبّهُ لما يمكن أن تُساهم فيه من خفض وتيرة العنف في المجتمع بكلِّ تعبيراته.

عندما لا تعبأ العائلةُ والمدرسةُ بتربية الذوق الفني وإثراءِ الحاسة الجمالية للأبناء يدخل هذا الذوقُ والحاسةُ الجمالية حالةَ خمولٍ وسبات، وربما يُصابُ الإنسانُ ببلادة تذوقِ الفنون السمعية والبصرية، والعجزِ ‏عن الشعور بجمال الألوان والصور والموسيقا والألحان والأصوات، ‏ويظهر أثرُ ذلك في نمطِ إدراك صورة الله، وكيفيةِ فهم الإنسان للدين، وطريقةِ قراءته لنصوصه، وفي ثقافة الإنسان، ورؤيته للعالَم، ‏وعلاقاتِه الاجتماعية، وكلِّ شيء في حياته.

تربيةُ الذوق الفني وتنميتُه تخفض كثيرًا من الحزن والكآبة والغضب والحقد والضغينة والعنف والجريمة، وتعزّز السلمَ المجتمعي، وترسخّ السلامَ العالَميّ. تربيةُ الذوق الفني أخصبُ أرضية لاستنبات الحُبّ وتغذيته وتكريسه. كلُّ مجتمع يتجاهل تربيةَ الذوق الفني، ويفشل في تهذيبه، يفشل في بناء حضارة حيّة، تتناغم وإيقاعَ العصر، وتستجيب لاحتياجات الإنسان المادية ولمتطلبات حياته المعنوية.

من ورّطته الأيامُ وفرضت عليه ظروفُ حياته صلةً بكائن بشري يعجز عن رؤية ما هو جميل في العالَم، لا تتحسّس مشاعرُه الفنون وتتذوقها، ولا يرى تجليات جمال الله في الوجود، عليه الهروبُ منه لئلا تتسمم حياتُه، ويلبث حزينًا يبكي قلبُه كلَّ يوم.

عندما يتغذّى الحُبُّ من الجمال ويغذيه يكون أحدَ أثرى منابع الأمل والتفاؤل والثقة بالغد، الثقةُ بالغد ضرورةٌ لتواصل إنتاج الحياة لأجمل معانيها. يعيش القلبُ بالحُبّ كما تعيش السمكة بالماء. كلّما اشتدّ الحُبُّ اشتدّت رغبةُ الإنسان في الحياة، كلّما نضب الحُبّ نضبت رغبةُ الإنسان في الحياة. الحُبُّ يساعد الإنسانَ في التغلب على قلقِ الموتِ، الحُبُّ يمكن أن يكون إكسيرًا للحياة، يموت الإنسانُ داخلَ الإنسان لحظةَ يموت الحُبُّ في الأرض. الحُبُّ يضيء الحياةَ بمعناها الأجمل، ويبدّد وحشةَ الكائن البشري وغربتَه فيها. الظمأ البشري للمحبّة حاجةٌ لا تتوقف ولا تنتهي. لحظةَ يفتقد الكائنُ البشري الحُبَّ تفتقد حياتُه معناها الآسِر، فقدان الحُبّ في حياة إنسان عاطفي مُرهَف الحسّ يقوده للحزن والتشاؤم والاكتئاب، وأحيانًا يكون أحدَ أسباب الانتحار.

الرؤية الجمالية للعالَم تحرر الإنسان

جمالُ العالَم أحدُ أثرى العناصر المُلهِمة لروح الإنسان، جمالُ العالَم يساعد على تحرير الإنسان من اغترابه الوجودي، ويدعوه للتفاعل الإيجابي مع كلّ ما حوله. الإنسانُ الذي يرى العالَم جميلًا ينخفض شعوره بالغربة. مَنْ يكون قادرًا على تذوق تجلياتِ جمال العالَم يعيش سلامًا للروح، وكلُّ من يعيش سلامًا للروح يحيا الخلقُ بجواره في سلام. يتحدث ابنُ عربي عن الصلة العضوية بين الجمال والحُبّ بقوله: «ولا شك أن الجمالَ محبوبٌ لذاته، فإذا انضاف إليه جمالُ الزينة فهو جمالٌ على جمال، كنور على نور، فتكون محبة على محبة، فمن أحب الله لجماله، وليس جماله إلا ما يشهده من جمال العالَم، فإنه أوجده على صورته، فمن أحب العالَم لجماله فإنما أحب الله، وليس للحق منزه ولا مجلى إلا العالَم… فأوجد اللهُ العالَم في غاية الجمال والكمال خلقًا وإبداعًا، فإنه تعالى يحب الجمال، وما ثم جميل إلا هو، فأحبّ نفسه، ثم أحبّ أن يرى نفسَه في غيره، فخلقَ العالَم على صورة جماله، ونظرَ إليه فأحبّه حُبّ مَنْ قيده النظر، ثم جعل عزّ وجل في الجمال المطلق الساري في العالم جمالًا عرضيًّا مقيدًا، يفضل آحاد العالَم فيه بعضه على بعض بين جميل وأجمل». (محيي الدين بن عربي. «الفتوحات المكية» مجلد 4. مج 4: ص 269.)

الجمالُ أحدُ الروافدِ المُلهمةِ لبناء الحضارة، وأحدُ عواملِ تطورها وترسيخِ وجودِها وتراكم ثرواتها. تفتقدُ الحضارةُ هويتَها الإنسانية المبدعة حين تفتقدُ الرؤيةَ الجماليةَ للعالَم، ويتبلّدُ لدى إنسانِها الذوقُ الفني. تنمو الحضاراتُ وتثري منجزها وتتسع بنمو وغزارة الفنون واتساع الرؤية الجمالية للعالَم، تفتقرُ الحضاراتُ وتضمحل بنضوب منابع الفنون وضيق الرؤية الجمالية للعالَم.

أكثرُ مَنْ يتحدثون ويكتبون عن الفن والجمال لا يهتمون بالصلة العضوية بين الدين والفن والجمال، أكثرُ مَنْ يتحدثون ويكتبون عن التربية والتعليم لا يهتمون بالصلة العضوية بين التربية والتعليم والفن والجمال، أكثرُ مَنْ يتحدثون ويكتبون في الفلسفة لا يتنبهون لأثر الفن والجمال في بناء العقل الفلسفي، أكثرُ مَنْ يتحدثون ويكتبون في الفكر لا يتنبهون لأثر الفن والجمال في بناء التفكير المبدع الخلّاق. أصحاب المشروعات الفكرية الذين انشغلوا بالكشف عن عواملِ الانحطاط وبواعثِ النهوض عند العرب، منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، لا يتنبهون للأثر الأساسي لتربيةِ الذوق الفني وإيقاظِ الحاسة الجمالية في النهوض والبناء والتنمية. كلّما زاد الوعيُ الفني ونضجت الحاسةُ الجمالية ازدادت قدرةُ الإنسانُ على بناءِ رؤيةٍ مضيئة للعالَم، وازدادت قدرتُه على جعل محيط عيشه على الأرض أجمل.

لم يهتم أكثرُ المصلحين والمجدّدين في عالَم الإسلام الحديثِ ببناءِ رؤيةٍ جمالية للعالَم تتكشف فيها الأبعادُ الجمالية للنصوص الدينية وما يكتنزه تراثُ العرفاء من قيم فنية وجمالية، ولم يهتموا بإيقاظ الحياةِ الجمالية في الدين. مَنْ ينشدُ إعادةَ فهم الدين في ضوء متطلبات العصر، عليه إعادةُ الاعتبار للجمال بوصفه قيمةً محوريةً لرسالة الدين، والبحثُ عن كلِّ ما من شأنه الكشفُ عنه في النصوص الدينية، وتفسيرُ هذه النصوص في سياق الحاجة الراهنة لبناءِ وترسيخِ الرؤية الجمالية للمسلم وتربيةِ ذوقه الفني، فكلُّ إنسانٍ يفتقدُ الرؤيةَ الجماليةَ للعالَم ويفتقرُ للذوقِ الفني تشتدُّ عزلتُه عن العالَم؛ لأنه لا يرى في العالَم ما يشي بجماله، أو يراه قبيحًا ولا يجد وشيجةً تربطه بما حوله.

الموقفُ الديني الذي يُصرّ على إدانة الفن والجمال، ويزدري كلَّ أشكال الحُبّ والفرح والمسرات، يعمل من حيث لا يدري على طردِ الدين من الحياة، وتجفيفِ منابع إيقاظ المشاعر والعواطف الإنسانية الأصيلة. لا ينقذنا من التديّن المتطرف إلا حضورٌ فاعلٌ للفنون بتعبيراتها البصرية والسمعية، وتديّنٌ يتكلمُ لغةَ المحبة، وحياةٌ روحية تسهم في إثرائها الفنون، وتضيئها الرؤيةُ الجمالية للعالَم.

الإلحادُ وأصلُ الحاجةِ للدين حين ينتقم الدين لنفسه في كلّ مرة تجري إزاحتُه

الإلحادُ وأصلُ الحاجةِ للدين

حين ينتقم الدين لنفسه في كلّ مرة تجري إزاحتُه

ما أشدَّ غُربةَ الإنسان وما أقساها، يعيشُ الإنسان غريبًا ويموتُ غريبًا. الإنسان غريبٌ في هذا العالَم، غريبٌ عن وجوده في الحياة، غريبٌ عن الزمان والمكان، غريبٌ بعد الموت في العالَم الآخر، وحده لحظةَ الموتِ يخوضُ تجربةً وجودية لا تشبهها أيةُ تجربة كان يخوضها في حياته. أقسى أشكال الغربة غربةُ الروح في هذا العالَم، الروحُ التي تفتقرُ للصلة بالوجود المطلق تأكلها وحشةُ الوجود المادي، وتستنزفُ طاقتَها ظلماتُه، فتتيه وينتابها القلقُ والخوفُ، وأحيانًا الهلع.

الحياةُ لغزٌ، الموتُ لغزٌ، الطبيعةُ البشرية لغزٌ. الإيمانُ والدينُ مرآةٌ تكشف عن الاحتياج الأنطولوجي للكائن البشري، أصلُ الحاجة للإيمان والدين تكمنُ في سعي الإنسان للكشف عن معنى وجوده ولغز الحياة والموت، وتلهُّفِ وجوده للاتصال بالوجود المطلق المستغني بذاته عن كلِّ شيءٍ.

في مقابلةٍ تليفزيونية على إحدى الفضائيات العربية مع معماري عراقي مثقف واسع الاطلاع، تحدّث فيها عن إلحاده بصراحة، قائلًا: «أنا ملحد بكل ما للكلمة من معنى». ولد ونشأ المهندس المعماري رفعت الجادرجي في محيطٍ تقليدي ببغداد، أبوه كامل الجادرجي كان سياسيًّا ومثقفًا غير تقليدي، وهو من أبرز رواد الديمقراطية ودعاتها في العراق. سمعتُ الحوارَ كلَّه بتأمل أكثر من مرة، رأيته يفسِّر الدينَ والمقدّسَ، وحاجةَ الإنسان للصلة بوجودٍ مطلق تفسيرًا سيكولوجيًّا وسوسيولوجيًّا وأنثروبولوجيًّا. لا يغور رفعت الجادرجي فلسفيًّا ليرى الأبعادَ العميقةَ للحاجة إلى الدين في وجود الإنسان، ولا يذهب تفكيره بعيدًا ليطلّ على الميتافيزيقا وعالَم ما وراء المادة.

حاجةُ الإنسان للصلة بوجودٍ مطلق يفرضها نوعُ وجوده، ونتيجةً لها يفرض الدينُ حضورَه الأبدي، وينتقم لنفسه كلّ مرة تجري إزاحتُه فيها ليعود عاصفًا، مهما كانت محاولاتُ بعض الفلاسفة والمفكرين لرفضِه، والكشفِ عن بؤس تمثلاته وتطبيقاته العملية. الحاجةُ الوجودية هذه أسعدتْ كبارَ ملهمي الروح المعلمين في إطار الأديان المعروفة وغيرَهم ممن عاشوا مُتيّمين بحب الله، وأشقت كثيرًا من البشر، عندما زجّتهم في صراعٍ مع أنفسهم والناس والعالَم من حولهم.

لا أريد أن أحكم على تفسيرِ رفعت الجادرجي وشعورِه وتعبيرِه الصريح عن موقفه؛ لأن كلَّ تفسيرٍ لا يمكن أن يتحرّر كليًّا من بصمةِ الذات، وكيفيةِ نشأتها وتربيتها، وتكوينِها المعرفي، والبنى اللاشعوريّة الغاطسة فيها، واحتياجاتِها المتنوعة.

‏الظواهرُ الدينية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية ‏وكلُّ تمثيلات الدين المجتمعية تدرسها علومُ الإنسان والمجتمع الحديثة، ‏مثل: سوسيولوجيا الدين، وأنثروبولوجيا الدين، وسيكولوجيا الدين، وغير ذلك. التفسيرُ السيكولوجي والسوسيولوجي والأنثروبولوجي والاقتصادي والسياسي والتاريخي للظواهر الدينية شديدُ الأهمية؛ لأننا لا يمكن أن ندرس تمثلاتِ الدين في حياة الفرد والجماعة من دونه، غير أن هذا التفسيرَ لا نستطيع أن نرى في أدواته منشأَ الحاجة الوجودية للدين، ولا يسعفنا في اكتشاف الجذرِ العميق لهذه الحاجة؛ لأنه يقف خارجَ فضاء الميتافيزيقا.

ماهية الدين والسؤال الفلسفي

جذرُ هذه الحاجة وأصلُها لا تتمكن من الغوص في مدياته إلا الرؤيةُ الفلسفية؛ لأنها يمكن أن تطلّ على الميتافيزيقا. ماهيةُ الدين لا يمكن التفكيرُ فيها خارجَ السؤال الفلسفي؛ إذ لا ينكشف شيءٌ من العالَم الميتافيزيقي بلا منظارٍ فلسفي. اللهُ، الوحيُ، النبوةُ، الآخرةُ، وغيرُ ذلك، تبحثها فلسفةُ الدين لأنها تحاول أن تغوص فيما هو ميتافيزيقي. كما تبحث فلسفةُ الدين كيفيةَ حضور الميتافيزيقي في البشري،‏ وينكشف فيها شيءٌ من تحقّق الإلهي في البشري لحظةَ اتصال البشري بالإلهي، ونمطُ ‏الحالة الروحية والعاطفية لحظة شهود البشري للإلهي.

العلومُ الطبيعية والبحتة والتطبيقية وعلومُ الإنسان والمجتمع لها مدياتٌ قصوى تقف عند تخومها ولا تتخطاها، إنها تظلّ مقيمةً في آفاق الزمان والمكان والحركة والمادة وأبعادها وخصائصها وشؤونها. ما دامت مناهجُ وأدواتُ ووسائل العلم تجريبيةً فهناك قصورٌ ذاتي في هذه المناهج والأدوات والوسائل يعجز معها العلمُ عن عبور فضاء المادة وأحوالها وما يتصل بها، ولا يمكنه الكشفُ عن ماهية الأشياء وجوهرها، كما لا يمكنه الإطلالةُ على العالَم الميتافيزيقي. ما يتناوله العلمُ يلبث في حدود المادة، بخلاف الفلسفة واللاهوت اللذين بوسعهما إدراكُ شيء من أبعاد الميتافيزيقا وعوالمها وشؤونها. وفي العرفان تنكشف مواطنُ أشواق الروح البشرية وأحوالها واحتياجاتها العميقة، لحظة يعلن جوهرُ الدين عن حضوره المُضِيء باستبصارات العرفاء وإشراقات تجاربهم المضيئة.

علّق هايدغر على عبارته «العلم لا يفكّر»، بقوله: «إن هذه العبارة التي خلّفت كثيرًا من الضجيج إثر نطقي بها، تعني أن العلم لا يشتغل في إطار الفلسفة، إلا أنه، ومن غير أن يعلم، ينْشدّ إلى ذلك الإطار. فعلى سبيل المثال: إن الفيزياء تشتغل على المكان والزمان والحركة. إلا أن العلم، بما هو كذلك، لا يمكنه أن يحدّد ما الحركة، وما المكان، وما الزمان». العلمُ إذًا لا يفكّر، بل إنه لا يمكن أن يفكّر في هذا الاتجاه باستخدام وسائله. لا يمكنني على سبيل المثال أن أقول ما الفيزياء باتّباع مناهج الفيزياء. ماهية الفيزياء لا يمكنني أن أفكّر فيها إلا من طريق سؤال فلسفي).

تتوقف التفسيراتُ العلميةُ للدينِ عند معاينةِ حضورهِ الفردي والمجتمعي، ودراسةِ وتحليل آثاره المتنوعة في حياة الإنسان ومختلف تعبيراته، لكنها تخفقُ في البحث عن المديات الأعمق لأصل الحاجةِ للدين في الهوية الوجودية للكائن البشري. تقودُ هذه التفسيراتُ بعضَ الناس أحيانًا إلى نفي الحاجةِ للدين، ويتمادى بعضُ مَنْ يتبناها ليقولَ بنفي وجود الله، من دونِ أن يسوقَ أيَّ برهانٍ على هذا النفي. ويقولُ أناسٌ آخرون: إن الإيمانَ مجردُ شعورٍ نفساني، تفرضُه على الإنسان سيكولوجيتُه وبيئتُه وتربيتُه وثقافتُه، وهي محاولةٌ أخرى لنفي وجودِ الله بلا دليلٍ.

الدينُ يحمي الإنسانَ من مأزقِ الواقع وثقلِه وشدّةِ وطأته عندما يأخذه للمتخيَّل، الفن ينجز شيئًا من هذه المهمة أيضًا. كلٌّ من الدين والفن ينقل الإنسانَ من مضايق الواقع واختناقاته، عندما يرحله لعالَم المتخيَّل، المتخيَّل ملاذٌ لذيذٌ يستريح فيه الإنسانُ من كآبة الواقع ومراراته، يفعل ذلك كلٌّ من الدين والفن، كلٌّ منهما على شاكلته وبطريقته الخاصة. الدينُ لا يتوقفُ عند ذلك، بل يعزّزُه بإشباع حاجة الإنسان للخلود؛ لذلك لن تموتَ الأديانُ إلا أن يموتَ الموتُ.

الخلاص من أعباء الوجود الموحش

يظلّ الإنسانُ غريبًا عن وجوده، عبءُ هذا الوجود وقيودُ الزمان والمكان هي أغلالُ الكائن البشري، إنها أقسى من طاقة هذا الكائن على تحمّلها. الإنسان لا يطيقُ ما يواجهه من آلام في هذه الحياة، وطالما شعرَ بالملل والسأم والضجر واللاجدوى وفقدان كلِّ معنى؛ لا يطيقُ الإنسان تحمّلَ آلام الوجود المادي الذي يختنق فيه، وينهك روحَه، ويبدّد طاقاتِه، ويعبثُ بسلامه الباطني. وذلك ما يدعوه للخلاصِ من أعباءِ وجوده الموحش الكئيب، وإنقاذِ روحه من ضيقِ عالَم المحسوسات وضغطها الشديد، وحصارِ الزمان والمكان، وكلِّ ما يصادرُ أمنَه النفسي، ويحدُّ من تَوْق رُوحه للخلاص من ظلام المادة وأغلالها.

الفقرُ في كينونة الكائن البشري يدعوه لطلب الكمال ما دام حيًّا. الفقرُ نقص، النقصُ أمرٌ عدمي، وذلك يعني أن الكمالَ الذي يطلبه هذا الكائن لا بدّ أن يكون وجوديًّا. ولما كان أصلُ الحاجة هو الفقر الوجودي، فهي تضعف وتشتدّ عند البشر، تبعًا لمختلف العوامل الفاعلة والمؤثرة في حياتهم إثباتًا ونفيًا، مضافًا إلى أنها تتنوع بتنوع طبائع البشر وثقافاتهم وإثنياتهم، وفي ضوء ذلك يمكننا فهمُ تنوع وتعدّد الأديان، ويمكننا أن نهتدي لمعرفة وظيفة الدين في حياة الفرد والجماعة، وكيف يكون الدينُ ترياقًا تسكن فيه الروحُ ويطمئن فيه القلبُ ويستفيق فيه العقل، عندما تتكرّس وظيفتُه بتحقيقِ الكمال، وتحريرِ الكائن البشري من الاغتراب الوجودي، وكيف يكون الدينُ سمًّا مميتًا عندما ينسى وظيفتَه، وينشغل بالصراعات العبثية على المال والثروة والسلطة.

الحاجةُ للدين وجوديةٌ بوصفها حاجةً لكينونة الكائن البشري، وأعني بذلك الفقرَ الذاتي للهوية الوجودية لهذا الكائنِ، بالمعنى الفلسفي للكينونة والهوية الوجودية، وليس بالمعنى السيكولوجي، أو السوسيولوجي، أو الأنثروبولوجي. إن الهويةَ الوجودية للكائن البشري هشةٌ ضعيفةٌ خاويةٌ بطبيعتها؛ لذلك تظلُّ هذه الهويةُ تعيش قلقًا ووحشةً واغترابًا وجوديًّا في هذا العالَم، تفزع من الاغتراب المقيمِ فيها، والمتغلغلِ في كلِّ أبعادها، فتطلب بإلحاحٍ حمايةً وأمنًا يخلّصها من القلق والهشاشة الوجودية.

أما من أين تنبع هذه الهشاشة، فهي رديفةٌ لتكوينِ هذا الكائن وطبيعةِ وجوده البشري، ومواجهتِه المريرة للموت، بوصفه قدرًا حتميًّا يقضي على الوجودِ الدنيوي لهذه الطبيعة. يظلُّ يغذّي هذه الهشاشةَ ويفاقمها حضورُ الموت ومداهمتُه المباغتة للكائن البشري. ولا يُسعف الهويةَ الوجودية لهذا الكائن ويفيض عليها الأمنَ والطمأنينةَ والسكينةَ إلا الاتصالُ بالوجود المطلق، الغني عن الكلِّ، المكتفي بذاته عن كلِّ شيء سواه، القادرُ على إفاضة الوجود على كلِّ موجود فقير وإثرائه، بنحوٍ يتسامى بالاتصال به الكائنُ البشري، فتبلغ ذاتُه مرتبةَ غنًى يخفض كثيرًا من قلقه ووحشته واغترابه، وفي حالات معينة يسمو بروحه وينزله في مقامات سامية.

الوجود المطلق المستغني بذاته عن كلِّ شيء سواه هو: الله أو الإله أو الرب أو الروح الكلِّي أو روح العالَم، وغير ذلك، بمختلف تسمياته المتنوعة بتنوع الأديان واللغات والثقافات والإثنيات. هو الله في الأديان الإبراهيمية، بتنوّع تصوراته في اليهودية والمسيحية والإسلام، تبعًا للاختلاف في رسم صورة الله لدى فرقها اللاهوتية والكلامية.

تختلف التسمياتُ وتتعارض تصوراتُ الآلهة في الأديان، على نحو نرى فيها أحيانًا صورًا متضادّة للآلهة، لا يجمعها إلا القولُ بوجودٍ مطلقٍ غنيّ بذاته، يستلهم منه وجودُ الكائن البشري المحدود الهشّ الفقير كثافةَ وجوده وغناه. كلُّها تعبّر عن تلك الحاجةِ العميقة التي تشي بالقصورِ الذاتي لوجود الكائن البشري، وهو ما يجعله ضحيةَ اغترابٍ ميتافيزيقي مُنهِك، وظمأ أنطولوجي لا يرتوي إلا بالاتصال بوجود كامل. الاتصالُ الذي أعنيه هنا هو ضربٌ من الاتصال الوجودي.

أما التفسيرات التي تذهب إلى أن أصلَ وجود الدين هو الجهلُ والخوفُ والفقرُ والصراعُ الطبقي، فلا أرفضها ابتداءً، ما أرفضه من هذه التفسيرات هو أنها لا تقدّم لنا تفسيرًا لأصل الحاجة للدين وراءَ كلِّ ذلك، ولا تدلّنا على الجذورِ البعيدةِ للدين المتوغلةِ في الطبيعة البشرية خارجَ الواقع الذي يعيش فيه الإنسان. الجهلُ والخوفُ والفقرُ والصراعُ الطبقي، كلُّ هذه العوامل تعزّز الحاجةَ للدين وترسّخ حضورَ هذه الحاجة وتضخمها، على نحو يمكن معه استغلالُها بالشكل الذي يميت فيه الدينُ الوعيَ ويشلّ الحياة. ويمكن استغلالُها بخبث لاستعبادِ العقل والروح والقلب، وتمثُّلِ الدين في حياة الفرد وحضورِه في المجتمع بأسوأ أشكاله.

وقوفُ هذه التفسيرات عند تمثّلات الدين في حياة الفرد والجماعة أوقعها في أُحادية واختزال يحجب الأصلَ الوجودي للحاجة إلى الدين. الحاجة للدين مختبئة في أعماق الوجود البشري، لو لم تكن هناك حاجةٌ للدين لا يمكن لهذه العوامل أن توجدها من عدم. لا أنفي أن تمثّلاتِ الدين في الواقع تخضع للخوف والجهل والفقر والصراع الطبقي، وبسببها يمكن أن يُستغلَّ الدينُ ويتحقّق بأشكال بائسة، كما توظِّف كلَّ ذلك وتستثمره بأوضاع مأساوية مختلفُ المعتقدات والأيديولوجيات والهويات في النزاعات والحروب وكلِّ أشكال الشرّ.

الحاجة للارتباط بموجود لا متناهٍ

حيثما كان الدينُ كانت العبادةُ والطقوسُ؛ لأن الدينَ يعبّر عن الحاجة للارتباط بموجود لا متناهٍ في وجوده وقدرته وعلمه وكلِّ شيء، ‏العبادةُ والطقوسُ هي التعبيرُ عن هذا الارتباط العضوي. كلما اشتدّ جهلُ الإنسان اشتدّت هذه الحاجةُ وتفاقمت في كيفيتها؛ لذلك لا يكتفي الكائنُ البشري أحيانًا ‏بالارتباط بالإله المجرّد من المادة وآثارها، بل يشعر بحاجته إلى مزيدٍ من الآلهة المحسوسة القريبة منه في الأرض. لا يشبع حاجةَ الإنسان أحيانًا للإله ‏وجودُ الآلهة أو الإله المجرَّد في السماء، ‏يحتاج الإنسانُ ليشبع حاجتَه إلى إله مجسَّد في الأرض.

الغلوُّ في كلِّ الأديان والتجسيدُ المادي للإله وتقديسُ الكائنات الأرضية كلُّها تعبّر عن هذه الحاجة، لا ينجو كثيرٌ من أتباع الأديان المعروفة من الحاجة الماسة لحضور مقدَّس حسّي في الأرض. الدينُ قدرُ الإنسان، مهما تنكّر له الإنسان وتمادى في تمرّده عليه فإنه يفرضُ حضورَه بأشكال مضمرة وظاهرة، بوصفه مكونًا أنطولوجيًّا للهوية الوجودية للكائن البشري، وبنيةً لا شعوريّةً عميقةً غاطسةً في شخصية الفرد والمجتمع.

الدينُ نظامٌ لإنتاج المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في حياة الإنسان، وكلُّ ما يتعارض مع إنتاج ذلك المعنى ليس من الدين في شيء، في فهمي للدين. وكلُّ ما ورد في النصوص الدينية مما يتعارض مع ذلك المعنى ينبغي تأويلُه وقراءتُه في سياقاته التاريخية الظرفية؛ لأن تأبيدَ ما هو ظرفيّ لكلِّ زمان ومكان ينقض الغرضَ الأساسي للدين.

مسارُ القلبِ غيرُ مسارِ العقلِ، ما دام القلبُ يحتضنُ الإيمانَ فلا جدوى من تكرار محاججات المتكلمين التقليدية غير المنتجة لطمأنينة القلب وسكينة الروح. يحتاج الناسُ إلى من يتعلمون منه كيف يستمعون إلى نداء قلوبهم. تبتهج الحياةُ عندما يبتهج القلبُ بالأنوار، طريقُ القلب أقصرُ وأسهل وأجمل الطرق إلى الله، وأسرعُها حضورًا في ملكوت أنواره، طريقُ القلب يجعل الدينَ مُلهِمًا للنور والمحبة والفرح. ‏هذا طريقٌ يعرفه أصحابُ التجارب الروحية، وهو منبعُ طمأنينة القلب وسكينة الروح والسلام الذي يعيشونه في حياتهم.

الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان وجودَ الله ويوصله به، ويشكّلُ المنبعَ الأغزرَ لمعنى الحياةِ والأملِ بالخلود، وهو حالةٌ يعيشها الإنسانُ وحقيقةٌ يتذوقها، هذه الحقيقة أمرٌ وجوديٌّ، وهي تختلف عن التصور الذهني أو الشعور النفساني. ما لم يكن الدينُ تجربةً وجوديةً تتحقّق وتتسامى بها الذات، يظلّ يخضع للاستغلال من أجل توظيفه في مختلف مصالح البشر المتضادّة.

الإيمانُ يختزنُ كُنوزَ الله في القلب، أجملُ وأرقّ لغة تتحدّث به هي لغةُ القلب. الإيمانُ ليس فكرةً نتأملها، أو معرفةً نتعلمها، أو معلومةً نتذكرها. الإيمانُ حالةٌ للروح نعيشها، وتجربةٌ للحقيقة نتذوقها، ثمرتُه تُعرف بمقدار إثرائه للسلام الباطني. الإيمانُ كما يعيشُهُ ويتذوقُهُ أصحابُ التجارب الروحية مسعًى أبديٌّ لاستبصارِ تجلياتِ الحبِّ والخير والجمال في كلمات الله التدوينية والتكوينية.

الإيمانُ ظاهرةٌ تفشلُ وسائلُ الكشفِ العلمي المتاحة عن إدراك كنهها وتحليلِ جوهرها، وإن كانت تدرسُ آثارَها المتنوعة في حياة الفرد والمجتمع.

الإلحاد بوصفه ظاهرة

لا أتحدث عن الإيمان والإلحاد بمنطق الداعية، أحاول أن أتعرف إلى الإلحاد بوصفه ظاهرةً في الحياة البشرية، وإلى الإيمان بوصفه بصيرةً مُلهِمةً تكشف للإنسان معنى وجوده وحياته. وكما لا يمكن الاستدلالُ العقلي على الإلحاد، كذلك لا يمكن الاستدلالُ العقلي على الإيمان. هذا ما يقوله فلاسفةٌ أمثال: إيمانويل كانت، وسوررين كيركيغورد، وغيرُهما، ويقوله عرفاءُ في مختلف الأديان؛ أمثال: محيي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، ومايستر إكهارت، وغيرُهم.

الطبيعةُ البشريةُ ملتقى الأضداد، التضادُّ بين الروح والعقل قدرٌ فرضته علينا طبيعتُنا المخلوقة بهذه الكيفية. نرى التضادَّ بين الروح والعقل بوضوح، فعندما يتحدث العقلُ تصمت الروحُ، وعندما تتحدّث الروحُ يصمت العقلُ؛ إذ لا تستفيق الروحُ إلا عندما يصمت العقل، ولا يستفيقُ العقلُ إلا عندما تصمت الروحُ. ما دام الإنسانُ مقيمًا في العقل لن تمتلئ الروح، وما دام الإنسانُ مقيمًا في الروح لن يمتلئ العقل.

عندما يتوهج العقلُ تنطفئ الروح، وربما تصير رمادًا، وعندما تتوهج الروحُ ينطفئ العقل، وربما يخمد إلى الأبد. عندما يغيب العقلُ يغرق المرءُ في كهوف ظلام الوهم والخرافة والضياع. لذلك تُخفِق محاولاتُ الجمع بينهما في: وعاءٍ واحد، وآنٍ واحد، وموقفٍ واحد، لامتناع الجمع بين طريقين متوازيين، وذلك ما يحكيه الاختلافُ والتنوّع في آراء ومواقف الفلاسفة واللاهوتيين والعرفاء في كلِّ الأديان.

لا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالروح عن العقل فيضيع في متاهات الحياة المظلمة، ولا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالعقل عن الروح فيهجر ما تغتني به آثارُ العرفاء من بصائر مُلهِمة للروح، ويصعب جدًّا على الإنسانِ الجمعُ بينهما. ذلك هو أحدُ أقدار الإنسان الوجودية وما فرضته عليه طبيعتُه البشرية. لحظةَ اجتياز هذا الامتحان العسير بنجاحٍ يصل الإنسانُ في سفره إلى طورٍ وجودي يستطيع فيه أن يعيش من دون أن يضحي بالعقل قربانًا للروح، أو يضحي بالروح قربانًا للعقل. وهو من أعسر اختبارات المرء في الحياة وأشقّها وأشقاها، إنه الاختبارُ الوجودي المزمن الذي يولد بولادتنا، إنه اختبارٌ يعيش معنا ونعيش معه ليلًا ونهارًا، إنه اختبارٌ يخفق فيه كثيرٌ من البشر، اختبارٌ لا ينجو منه أحد، ولن يظفر باجتيازه بنجاح إلا الأفذاذ.