المقالات الأخيرة

الفن وحقوق الإنسان والتهديدات من أعلى

الفن وحقوق الإنسان

والتهديدات من أعلى

يمكن للفن، بمساعدة الصور أو الفيديوهات المقنعة، أن يعرض للناس المخاطر القادمة من أعلى، مثل: المراقبة المفرطة والهجمات العسكرية وتغير المناخ، التي تهدد جميعها سلامة الناس الجسدية والعقلية. وقد يساعد الفن أيضًا الأشخاص على التعامل مع الصدمات التي يعانونها بسبب هذه...

الحداثة بين سردي «النهاية» و«البداية»

الحداثة بين سردي «النهاية» و«البداية»

يأتي كتاب «لا شيء قيل من قبل»(1) ليتوج الجهد الذي كرسه المؤلف فيليب فوريست للتعريف بمنجز «النظرية الفرنسية» وأصولها وغاياتها وخلفياتها المعرفية وروافدها(2). يسعى الكتاب عمومًا إلى مناقشة من يزعم أن الحداثة انطفأت جذوتها، وأن الأدب لم تعد له جدوى في حياتنا الراهنة...

بورخيس، نزيل الغرفة 10 حكاية حوار

بورخيس، نزيل الغرفة 10

حكاية حوار

كانت الساعة الواحدة والنصف تقريبًا حين انتهت نشرة الظهيرة على القناة الثانية الفرنسية، وكان الخبر الأخير فيها عن وصول خورخي لويس بورخيس إلى باريس آتيًا من إيطاليا حيث حاز على جائزة «تشينو ديل دوكا» التي تهدف إلى تعزيز دور الفنون والآداب والعلوم. اتصلتُ من فوري...

في المخيال تولد الأديان ولادة ثانية

في المخيال تولد الأديان ولادة ثانية

المخيلة منجم الإبداع البشري، كل شيء يضيق فيه الواقع يتمكن الإنسان من تخيله. لا ينفرد الإنسان بالعقل وحده، بل ينفرد بملكة الخيال أيضًا. بواسطة التخيل أصبح الإنسان كائنًا يتطلع للمستقبل، ويرسم خريطة لتطوير أحواله والتقدم للأمام. يؤكد غاستون باشلار «أهمية المخيال...

بين الجمال والبروباغندا: آراء في وظيفة الفن

بين الجمال والبروباغندا:

آراء في وظيفة الفن

دائمًا ما يُطرح سؤال متعلق بالوجهة التي يمكن أن تتخذها الأشكال التعبيرية التي تجد نفسها في سياقات معينة تفرض عليها خدمة أغراض شتى. وتنبع وجاهة السؤال من الإيمان بما تملكه الأشكال التعبيرية من قوة التأثير من جهة، ومن توازي القيم الجمالية التي تنطوي عليها مع قيم أخرى لا...

خالد سليمان الناصري، هل غادر «بلاد الثلاثاء» أم لا؟

بواسطة | يوليو 1, 2020 | كتب

بعد مرور 11 عامًا على صدور مجموعته الأولى «صدّقت كل شيء» دار كنعان- دمشق، 2009م. رغم أنّه ورد في الجزء الرابع من (أنطولوجيا الشعر السوري) 1980- 2008م الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة ثقافية، 2008م. صفحة 203: خالد الناصري: مواليد دمشق 1979م. شاعر وصحافي. صدر له: على هيئتي 2009م.

خالد سليمان الناصري

11 عامًا، بدأت بعد مغادرة خالد الناصري على متن أوّل طائرة يصعد إليها في حياته، بجانبه على المقعد ذاته؟ قرينه في كلّ شيء؟ غياث المدهون، سوريا. المكان الذي ولد الناصري فيه وترعرع وشبّ، ليغدو شاعرًا وصحافيًّا، كما ذكر أعلاه، ومصمّمًا إعلانيًّا وفنيًّا، إضافة إلى عمله في مجال التبادل الثقافي وبرمجة المهرجانات الثقافية. الأمر الذي يدعو للإعجاب بقدر ما يدعو للعجب، كيف يمكن لهذا الحيز المكاني والزماني، الضيق، المهدّد، المأزوم، الذي كانت تحيا فيه دمشق، والذي يعبّر عنه الناصري في إحدى مقابلاته: «كنت أرى سوريا تنهار أمامي.. عشت دكتاتورية النظام السوري»، أن يتيح كلّ ذلك؟ ليحطّ عام 2009م، بعد تنقّلات ليست كثيرة، في مدينة (باليرمو) الإيطالية. وليقوم فيها بما يشبه المآثر؛ إعداد وإصدار موسوعات شعرية عربية إيطالية، إخراج أفلام قصيرة منها: (أنا مع العروسة- 2015م)، الحائز على أكثر من 130 جائزة دولية، كما قرأت في أكثر من مكان، والأهم من هذا كلّه، إنشاء دار «منشورات المتوسط»، بشعارها: «معًا لنحارب طواحين الهواء»، التي غدت في سنوات قليلة واحدة من ألمع وأميز دور النشر العربية، وهو الأمر الذي دفع رئيس بلدية (باليرمو) لمنحه الجنسية الإيطالية الفخرية في العام نفسه.

بعد 11 عامًا من الثورة والأمل، من الحب والموت، من الخراب واليأس. بعد 11 عامًا من الغربة والذاكرة المطعونة، يصدر الشاعر خالد سليمان الناصري مضيفًا اسم أبيه تجنّبًا لالتباسات الأسماء، عن دار أخرى غير دار المتوسط التي يملكها ويديرها، تجنّبًا لالتباسات النشر، مجموعته الشعرية الثانية (بلاد الثلاثاء- 2020) دار المدى.

11 عامًا، أظنّها مدة زمنية طويلة لشاعر يعبر من الثلاثين إلى الأربعين من العمر، العقد الخصيب كما يدعي، وفي ظروف تبدو ظاهريًّا مؤاتية جدًّا لكتابة الشعر وإصداره في الوقت ذاته. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أن الشغل الشاغل لـخالد سليمان الناصري كان منصبًّا خلال هذه المدة على إصدار كتب الآخرين، بدل كتابه.

* * *

وكأنني أجد في ذلك التعريف المبتسر، الذي أورده الجزء الرابع من أنطولوجيا الشعر السوري (1980- 2008م) اختيار رشا عمران وتقديم خضر آغا، ضالتي للكتابة عن «بلاد الثلاثاء»، بعد أن أتعبتني محاولات التقاط الطرف الصحيح لكبكوبة الخيطان المتشابكة والمعقودة التي تصنعها قصائد المجموعة. أوّلًا من ناحية اعتبار: (خالد الناصري- مواليد دمشق 1979م)، و(رائد وحش- مواليد خان الشيح 1981م)، و(قيس مصطفى- مواليد خان الشيح 1987م) الثلاثة الذين تضمّن الكتاب قصائدهم المختارة. و(غياث المدهون)، الذي أخصّه بالذكر؛ لأني عجزت عن معرفة أي شاعر فلسطيني آخر، بين ما يقارب 500 شاعر وشاعرة، أكتفي بإيراد أسمائهم في مقدمة الكتاب، شعراء سوريين. من دون أي إشارة لأصولهم الفلسطينية. وهو الأمر الذي على دلالته الجميلة من الزاوية التي أنظر منها الآن، يمكن عدُّه نقصًا في التوثيق. وثانيًا من ناحية أن قصائدهم المختارة، لا تتضمّن أي ذكر أو تلميح لفلسطينيتهم. وثالثًا من ناحية أسلوبية القصائد خاصة، فالثلاثة بالرغم من خصوصياتهم الشعرية، يندرجون بسلاسة تامة في السياق العام للقصيدة السورية التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي على شكل انعطافة، ثم تابعت في الثمانينيات كأنها قد اختارت طريق خلاص التي يستمرّ الداخلون الجدد لكار الشعر في كتابتها دونما طفرات كبيرة طارئة، لليوم.

* * *

لأنه، لا بداية ولا نهاية، كما لا حدود، للعلاقة بين فلسطين وسوريا، وبين الفلسطينيين والسوريين، أقول هذا تعبيرًا عن واقع إنساني معيش، لا عن تعصب أو أيديولوجية قومية، فكذلك، لا حدود للعلاقة بين الشعر الفلسطيني والشعر السوري. ولأنه لا يمكن إلَّا بدراسة موسوعية رصد وتتبع هذه العلاقة الأقرب للعضوية في كل شيء، فالشعراء الفلسطينيون السوريون، أو السوريون الفلسطينيون، أكثر عددًا من أن أفكر في مجرد ذكر أمثلة منهم، ولكني سأفعل! سأحاول! رغبة مني في تلمُّس مسار هذه العلاقة وتطورها، ولو على نحو مبتسر، من شاعر فلسطين الكبير (أبو سلمى 1901- 1980م) وحياته في دمشق حتى نيله الشهادة الثانوية من مدرستها (التجهيز الأولى)، ونيله لقبه لحبه فتاة سورية اسمها (سلمى)، إلى شعراء المقاومة والثورة (أحمد دحبور 1946- 2017م) المعروف بلقب «صبي المخيم»، و(عصام ترشحاني- 1944م) المقيم وما زال في حلب. و(صالح هواري- 1938م) الذي افتتحتُ به أوّل مقالاتي النقدية، أعدد كم صفة وكم مضاف ومضاف إليه في إحدى قصائده، و(عادل أديب آغا- 1944- 1988م)، و(محمود مفلح- 1943م)، و(راسم المدهون- 1948م)، و(طلعت سقيرق- 1953- 2011م مخيم اليرموك)، و(عبدالله عيسى- 1964م)، و(إياد حياتله- 1960م) صاحب: «هذا المخيم ضحكتي». وصولًا إلى جيل جديد طازج، شكّل في لحظة ما قطيعة تامة، أو شبه تامة، مع آبائه وأعمامه، ليس فقط شعريًّا، بل أيضًا وهو الأهم (ذكرياتيًّا): خالد سليمان الناصري وغياث المدهون- مخيم اليرموك- 1979م، صاحب مجموعة (بعيدًا عن دمشق- 2014م) ورائد وحش صاحب «قطعة ناقصة من سماء دمشق» وفي المقال الذي أمامي الآن عنها، أقرأ: «ماذا يكتب السوريون عن بلدهم؟ وكيف يكتبون؟» و(قيس مصطفى) الذي تنخر (دمشق) في كتابه الأخير «قصائد السنين الغفل» كالدودة في التفاحة، ليجيء بعد هؤلاء الأربعة، جيل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، و(رنا زيد – دمشق 1982م) تحدّد تاريخ ميلادها بتاريخ وفاة شاعر سوري: «ولدت قبل وفاة رياض الصالح الحسين بأشهر»، (خلدون رحمة- مخيم اليرموك 1984م): «نحت المخيم لبّ قلبي»، و(رامي العاشق- 1989م): «لا تسلني عن دمشق ولا تناديني إليها»، و(عامر صرصور – مخيم اليرموك 1990م).

واللافت أن هؤلاء الشعراء الشباب، جميعهم، بقضهم وقضيضهم، الذين يُعرَّفون حينًا؛ بالفلسطينيين السوريين، وحينًا آخر بالسوريين الفلسطينيين، كما فعلت أعلاه، خرجوا، أُخرِجُوا، غادروا، هربوا، اقتُلِعُوا، اجتُثُّوا.. من سوريا؛ لتصير سورياهم هذه، بدمشقها وبمخيماتها (اليرموك، وخان الشيح، ومخيم حمص، والرمل الجنوبي في اللاذقية)، وبمقاهيها وشوارعها ووسائط نقلها العامة، وبجيرانهم وأبناء حاراتهم ورفاقهم في المدارس والجامعات، وبقصص حبهم الباكرة، ذاكرتهم الأصلية، فردوسهم المفقود. رغم كلّ ما كانوا يقاسونه فيها… فلسطينهم الثانية. التي تخايلت يومًا وكأنّها صورة للوطن المستعاد؛ لتغدو مرة ثانية صورة للوطن الضائع.

* * *

– سؤال: «لماذا استغرق خالد سليمان الناصري 11 عامًا ليصدر «بلاد الثلاثاء»؟ أجبت سابقًا أنه كان مشغولًا بإصدار كتب الآخرين، إلَّا أن هذا لم يكن أكثر من استنتاج ظاهري، أقرب للتبرير! لأنه يجب أوّلًا أن يقرأ المرء ما تتضمنه «بلاد الثلاثاء» ليجيب. فإذ بالرجل يقف خلف النافذةِ التي تُطلُّ على العالَمِ، يبحثُ عن ذاكرتِه: «لكِنَّ الذاكرةَ الآن تُضرَبُ بالهِرَاوَاتِ والرَّصَاص» ص39 «ومع أنَّ النافذةَ افتراضيَّة.. لكِنَّ القتلى حقيقيون» ص41.

والحقيقة أن نافذته، حتى إن كانت تطلّ على العالم، فهو يصوّب نظره باتجاه سوريا، وليس بحثه عن ذاكرته، في ذاكرته، سوى التقاط ما يحدث هناك، والشعور به، ومن ثم الكتابة عنه؛ متوسّلًا أي خبر يسمعه، وأي صورة يراها، أو مقطع (فيديو) يشاهده، خلف تلك النافذة، بدءًا من حمزة الخطيب:

«يا حمزةُ، كيف لكَ أن تكونَ منتفِخًا، وواضِحًا هكذا، رغمَ كُلِّ هذي الثُّقُوبِ؟» ص40.

و(إبراهيم قاشوش): «لكنّ الذاكرةَ إذا ما اقتُلعَت حَنجَرَتُها،/ ورُمِيَت في النهر.. غنَّى النهر» ص44 مرورًا بقصف معرة النعمان:

«اسألُوا القَتَلَةَ، الذين حفرُوا في المعرَّةِ قبورًا جماعيَّة/ هل وجدوا…كُتُبَ المعرِّي المفقودةَ؟» ص61، وغاز (سارين خان شيخون): «غَلَبَنَا النعاسُ، فنمنا عميقًا، وحلمنا بأنَّنا نرقصُ. مَن رآنا نرقصُ في نومِنا ضحكَ. أمَّا نحنُ، فكان يخرجُ من فمِنا الزَّبَدُ» ص75 مختتمًا الكتاب بزورق مثقوب، مثقوب كجثمان (حمزة)، كحنجرة (القاشوش)، مثقوب كذاكرتنا المتورّمة، ورأسنا الساقط من على الجسر، مثقوب كسوريا: «إذا انثقبَ الزورقُ، هل سنغرقُ؟ سألتِ الطفلةُ أباها. فأجابَ: لا، يا حبيبتي. لا، سيتسرَّبُ الهواءُ للبحرِ/ سينتفِخُ البحرُ، ويُصبحُ بالونًا أزرقَ جميلًا، نتعلَّقُ به، ونطير» ص107، يذكرنا هذا الطباق، هذا التحويل الشاعري، الذي تندرج فيه مقاطع تكاد لا تحصى في الكتاب، بالفِلْم الإيطالي: (الحياة جميلة – 1997م)، حيث راح السجين يوهم ابنه، بأن كلّ ما يحصل في معسكر الاعتقال النازي من ضروب القسوة والرعب، ليس سوى مسرحية كوميدية، يشترك الجميع بتمثيلها.

* * *

– سؤال مركّب، مربك: لماذا لم يسأل أحد الذين أجروا المقابلات، الصحافية والتليفزيونية، مع خالد سليمان الناصري: «لماذا أطلقت عنوان: «بلاد الثلاثاء» على كتابك؟»؛ لأنه ليس هناك حاجة أن يسأل أيّ بلاد هي «بلاد الثلاثاء»؟، فالجواب من دون تفكير: سوريا. والناصري لا يتأخر في إهداء كتابه لطفليه بالإشارة إلى ذلك: «…اللذين أنجبتهما خارج بلاد الثلاثاء» ص5. ثم، وفي القصيدة الأولى من الكتاب يقول: «نحنُ الذينَ جِئنا من بلادٍ، تحدثُ الحُرُوبُ فيها كلّ ثلاثاء» ص9؛ ليتواتر ذكر (الثلاثاء) في عناوين قصائد المجموعة، كما في نصوصها، من دون أن نعلم أيّ حروب وقعت أيام الثلاثاء في «بلاد الثلاثاء»؟ ولماذا سوريا هي بلاد الثلاثاء، وليست بلاد الإثنين أو الأربعاء، مثلًا! حتّى في القصيدة التي خصّها بعنوان «بلاد الثلاثاء – احتمالات سقوط قذيفة» ص65، التي تفتتحها وتتردد بين فقراتها صيحة: «الحرب الحرب»:

«وأنا كلَّما صحتُ: الحرب الحرب/ سقطَ في آخرِ الشارعِ رأسٌ، وتدحرجَ تحتَ أقدامِ الأُمَّهات» ص65، المتضمنة بعضًا من أشهر أقوال العرب العاربة عن الحروب، كالشاعرين امرئ القيس وزهير بن أبي سُلمى، فإننا لا نجد حربًا محددة حدثت يوم الثلاثاء. بل نجد أنّه في قصيدة «خبط عشواء» ص13: «وفي تمامِ الساعةِ الرابعةِ إلا ربعًا، فجرًا، في يومِ الثلاثاءِ، الموافقِ للثامن عشر من شهرِ أيلولَ، سنةَ ألفٍ وتسع مئةٍ وتسعةٍ وسبعينَ، حَدَثَ ما يلي: وُلِدَ خالد» وبالتأكيد هذه الواقعة، التي لم يجد بعضٌ سواها لتفسير عنوان المجموعة، ليست حربًا. ومتابعة لهذا السياق، أي بالعودة إلى التاريخ، فإننا لا نحظى بأي حرب سورية حدثت يوم الثلاثاء، لا حرب فلسطين: السبت 15/ 5/ 1948م، ولا حرب حزيران: الإثنين 5/ 6/ 1967م، ولا حرب تشرين: السبت 6/ 10/ 1973م، حتى إن حدثت أوّل مظاهرة سورية في سوق (الحريقة): الثلاثاء 15/ 3/ 2011م. ومجزرة كيماوي (خان شيخون): الثلاثاء 4/ 4/ 2017م. فإن هذا كلّه يقودنا، إلى عدم حاجتنا لهذه المطابقة المباشرة. وكأننا نسينا أننا نتكلم عن الشعر.

نعم.. (الثلاثاء) اليوم الأوسط، الحيادي، الفاتر، الأبيض الباهت، الذي ليس عيدًا ولا يوم عطلة في أي دين، أو لأي قومية، الذي يمرّ وكأنه خطّ واصل بين بداية الأسبوع ونهايته، يمر دون أن يحدث فيه شيء يستحق الذكر، هو اليوم الذي كنا، نحن السوريين: «لا نصلحُ لشيءٍ، ربَّما، فقط، نُصلحُ للانتظارِ من الثلاثاءِ إلى الثلاثاء» ص9.

* * *

وبقدر الغموض في العنوان، بقدر المباشرة في غلاف الكتاب؛ رأس مقنّع ومكمّم ضد الغازات الكيماوية. وبألوان، هي الأخرى، فوسفورية. وأحسب أنّنا من دون أن ننظر لصفحة التوثيقات(2)، نستطيع أن نخمّن أنه من تصميم الناصري. مصمّم أغلفة منشورات المتوسط كافّة، مستخدمًا الحروف الطباعية ذاتها، والنمط الإعلاني ذاته. غير أنّه من اللافت، اختياره لمصطلح «نصوص» بدل «قصائد»، أو «شعر»! رغم أن المحتوى، برأيي، شعريّ من دون أدنى شبهة، وإن إدماج بعض المقاطع النثرية، أو تضمين بعض الاقتباسات، لا يخرجه من هذا التصنيف على الإطلاق.

* * *

تنقسم مجموعة «بلاد الثلاثاء» إلى ثلاثة فصول؛ لكلّ من الثاني والثالث عنوان محدد، أمّا الأوّل، فقد فات الناصري أن يعطيه عنوانًا، أو حتّى رقم صفحة، لا في المجموعة ولا في فهرس محتوياتها، أو ربما تعمّد ذلك، فإنه يمكن للقارئ بقدر من السهولة أن يلاحظ، أنه يتضمن قصائد كتبت قبل الحدث السوري 2011م، ولا علاقة مباشرة لها به، وإن كان ذلك استنتاجًا شخصيًّا من قبلي؛ فهي، كأسلوب، قصائد ذات بناء فني مركب على نحو تراكمي، وطابع بلاغي ولغوي واضح، يشطح لأن يكون غنائيًّا حينًا، وواقعيًّا حينًا آخر، وإن بفسطاط، تتمحور حول علاقة الذات بالمكان والرحيل عنه، والدروب التي لا رجعة منها؛ كما في قصيدة «أدعية»، وأيضًا، وبشكل أوضح، في قصيدة «خبط عشواء»، التي يبدؤها باقتباس من «أبي العلاء»: «وحقَّ لمِثلي ألَّا يُسألَ، فإن سُئلَ، تعيَّنَ عليه ألَّا يُجيب»، وهذا على إبهامه، يدلّ على أنّ كاتبه أسير حيز لا يسمح له بالكلام على هواه! وهذا يصحّ في «بلاد الثلاثاء» وما يماثلها من بلاد الله الضيقة: «فلجأتُ إلى مدينةٍ، وجدتُها تكرَهُ الغرباءَ، وتُكثِرُ منهم/ فلم أفهمها؛ لذا كان لا بدَّ لي أن أُولَدَ فيها» ص15، «هذه المدينةُ لا تؤنسن» ص18، «في الليلِ أمشي/ دمشقُ مئذنةٌ عجوزٌ…/ هذه المدينةُ لم تعد تُشعِرُني بالوَحدَة/ عمَّ سأكتبُ إذن؟» ص19، وكذلك علاقته بالشعر في قصيدة «على قبر بودلير»: «أن تصبحَ شاعرًا، علَّكَ إذا ما سرتَ محمومًا في/ شارعٍ، تدفَّأ بكَ المُشرَّدون/ أأكون شاعرًا..إذن؟» ص30.

أمّا الفصل الثاني «يوميَّاتُ رجلٍ خلفَ النافذة»، فالقصائد متابعات شعرية للحدث السوري. وللأسف، ليس متابعات لفرحه وانتصاراته؛ الفرح بقيامة شعب عاش دهرًا في سجون الخوف والصمت، وفي هزّة من هزّات القدر، حطّم جدران زنازينه وأبوابها، ونزل إلى الشارع هاتفًا: «حرية حرية». بل هي متابعات، توثيقات شعرية، لحربه ومأساته، لمجازره والموت الفالت في أرجائه: «سأكتبُ عن المَوتى حتَّى يتَّسعَ الضوء» ص37.

قصائد عن.. حمزة الخطيب: «أيَّةُ ذاكرةٍ مَخصِيَّةٍ ستكونُ لنا؟»، وإبراهيم القاشوش: «أيّةُ ذاكرةٍ من صريرٍ ستكونُ لنا!» وعن سارين (خان شيخون): « هلْ غازُ السارين هو الشيطان»، ثم أم قصائد الكتاب: «بلاد الثلاثاء» الأشبه بقصيدة بانورامية، يحصي بها القنّاص خلفَ النافذة، القذائف… هذه أخطأت هدفها وهذه أصابت: «قذيفةً أخطأت هَدَفَهَا، وأصابت نظرةَ الوداعِ الأخيرة» ص 66، «سيأخذُ بيدَيَّ إلى سوقِ الأربعاءِ، فنسمعُ الباعةَ ينادون…/ وهو يتحرَّكُ خلفَ بَسطةِ الخضارِ، إلى أن أصابت قذيفةٌ فمَه» ص66، «النيزكَ كانَ قذيفةً أصابت بيتَ الخال/ تبيَّنَ أنّ القذيفةَ أخطأت هَدَفَهَا، وأنّ هدفَها كان حُلمَ الطفل» ص70.

يتضمّن الفصل الثالث «نصوصٌ على هامشِ المجزرة» 7 قصائد لا تشغل سوى 13 صفحة، من عدد صفحات الكتاب البالغة 112 صفحة. أخصّ بالذكر 3 منها، مكتفيًا ببداياتها الآسرة: الأولى، «تصوّف»: «يقينًا أنِّي طَرَقتُ البابَ مرارًا/ لكنَّ المصباحَ لم يشتعل، ولا انفتحَ الباب…» ص95، الثانية، «اترك مجالًا للريح»: «أن تذهبَ بأشياءِ المائدةِ/ شرشفِ الطاولةِ/ علبةِ المحارمِ/ المحارمِ الوسخةِ/ قنِّينةِ الماءِ الفارغةِ/ الزِّبديَّةِ البلاستيكيةِ التي فرغت من سلطةِ اللبنِ والخيار» ص100، الثالثة، «ف ص ق ر ث غ ت» بالأحرف المسمارية: «وإن لم يجئ زمني،/ سأجيءُ أنا/ سأجيءُ مخمورًا يترنَّحُ؛ لأُذكِّرَ الآخرين بالمُوسيقا/ سأجيءُ محمومًا يتعرَّقُ/ لأُشعِرَ المُشرَّدينَ في شتاءاتِ المدينةِ بالدِّفءِ» ص106. الصورة ذاتها في قصيدة «على قبر بودلير».

ورغم أنّ عنوان الفصل «نصوصٌ على هامشِ المجزرة»، «المجزرة» وليس «الثورة» أو غيرها من التسميات التي يتراشقها السوريون حسب مواقعهم السياسية، وذلك تأكيدًا لما ذهبت إليه، من أن الناصري ينظر للحدث السوري، رغم موقفه السياسي الصريح من النظام السوري، نظرة إنسانية، ومن ثَمَّ مأساوية وكارثية. فالحقيقة، أن ما يمكن عدُّه أفضل قصائد المجموعة، أبعد ما يكون عن المجزرة، وعن هامشها أيضًا، ما عدا القصيدة السابعة في هذا الفصل، التي أحسن الناصري صنعًا باختيارها القصيدة الأخيرة في المجموعة، والتي أجدني بدوري، مضطرًّا لأن أجاري الجميع في تردادها أكثر من مرّة، وأجاريه في الختام بها:

«إذا انثقبَ الزورقُ، هل سنغرقُ؟ سألتِ الطفلةُ أباها. فأجابَ: لا، يا حبيبتي. لا، سيتسرَّبُ الهواءُ للبحرِ، سينتفِخُ البحرُ، ويُصبحُ بالونًا أزرقَ جميلًا، نتعلَّقُ به، ونطير» ص107.

* * *

سؤال أخير: بعد كلّ هذا، ترى، هل صحيح أن خالد سليمان الناصري قد غادر «بلاد الثلاثاء»؟ أم ماذا؟

اللاذقية 31/ 5/ 2020م

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *