الجزائر العاصمة: مغارة وكنيسة ومزار! حكايات وقصص تستعيد ألق المدينة

الجزائر العاصمة: مغارة وكنيسة ومزار!

حكايات وقصص تستعيد ألق المدينة

أول ما وصلت هناك، كان الهاجس صوتًا يدوّي في أذني: «أنت في الجزائر..». إنها الزيارة الثالثة بعد أول مشاهداتي للجزائر العاصمة في بداية التسعينيات من القرن الماضي. تغيرت المدينة كثيرًا، وثلاثة أيام هن مدة مكوثي في العاصمة بعد إقامتي في مدينة وهران الباهية، عشرة أيام مع أفواج المسرحيين في المهرجان العربي للمسرح.. وثلاثة أيام في مدينة أعرفها ولي فيها ذاكرة وحكايات عبر أعوام مضت، لكني حددت مكانًا واحدًا لزيارته وتركت بقية الأمكنة لأكتشفها في حينها، في ثلاثة الأيام هذه، لكن محطتي الأولى في العاصمة الجزائر كما حددتها مسبقًا ستكون مغارة ثيربانتس، والبقية ستأتي عفو مسيري وخطواتي المشوقة دائمًا لمغامرات جديدة فيها بوح وكشف.

نشيد الحنين

ها أنا وسط الجزائر العاصمة التي كان اسمها البكر إكوزيوم زمن المؤسسين الأوائل لها من الفينيقيين. قريبًا من المسرح الوطني، وعلى مرمى التفاتة من البرلمان أقف مستعيدًا تاريخ المكان والإنسان، ليتشكل في ذهني عقد البوح، حكايات وقصص تستعيد ألق المدينة، فتتقافز في القلب عصافير الحنين إلى غير أمكنة وأزمنة فيها. غير أنه يبقى في مدار الجزائر، وفي ظلال النشيد الذي حفظناه عن ظهر قلب في المدارس ونحن على مقاعد الأبجدية الأولى: «قسمًا بالنازلات الماحقات/ والدماء الزاكيات الطاهرات/ والبنود اللامعات الخافيات/ في الجبال الشامخات الطاهرات/ نحن ثرنا فحياة أو ممات/ وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر/ فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا».

مغارة ثيربانتس.. صوت الأسير

وحدي من يعانق أحاديث الناس، وأنا في المقهى القريب من المسرح البلدي، سأكمل احتساء قهوتي، وأسير نحو وجهتي التي حددتها لتكون مغارة ثيربانتس في رحلة للبحث عن السجن الذي أُسر فيه مؤلف رواية «دون كيخوتة». المقهى نقطة البدء عندي في كل المدن التي زرتها، كأنه بداية الحرز قبل فك أسرار الدروب والأزقة والأمكنة فيها، وها قد اكتمل تشكلي باحثًا عن مفاتيح أسطر خطواتي التي ستقودني إلى كهف الأسير، فأبدأ المسير. ومع خطواتي كان السؤال يلح عليَّ: لماذا لم أزر هذا المكان الذي أبحث عنه الآن، حين كنت هنا قبل نحو خمسة عشر عامًا؟! عرفت الجواب لاحقًا. كانت المغارة مهملة، ولم تكن مهيأة لاستقبال الزوار، وقد بدأ الالتفات بجدية لتهيئتها عام 2006م.

على أي حال أنا لم أعرف عن مغارة ثيربانتس، على الرغم من أنني كنت قريبًا منها، إلا بعد سنوات حين زرت بيت ثيربانتس في إسبانيا عام 2001م، آنذاك كنت في مدريد، يرافقني صديقي الآثاري الدكتور خالد الحموري. هذا الفتى النبيل من قرية بيت راس في مدينة إربد شمال الأردن، كنت في زيارة له آن كان طالبًا يدرس الآثار في مدريد، وهو الذي نبهني إلى أن بيت طفولة مؤلف رواية دون كيخوتة، في مدينة (ألكالا دي إيناريس) قريبًا من مدريد، حُوِّلَ إلى متحف يضم كتبه، وترجماتها، ومقتنيات تحاكي شخصيته.. في ذلك الوقت زرت ذاك المتحف، ولم أكن أعرف كثيرًا من تفاصيل حياة ثيربانتس. بعدها بحثت حوله، وحياته، وإبداعاته، ومن سيرته عرفت أنه سُجِنَ في الجزائر، وكان سجنه مغارة على تلة من تلال الجزائر العاصمة.

ها أنا الآن، أكمل تلك الرحلة في دروب حياة ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا، لأصل المغارة التي سجن فيها. بعد أن ركبت المترو من محطة البريد المركزي في العاصمة، لأصل أقرب محطة من مغارة ثيربانتس. هناك مسافة تفصل بين المحطة والمغارة، مشيتها وأنا أسأل المارة عنها، وسط حي بلكور الشعبي الذي يسمى محمد بلوزداد، فيشيرون لي باتجاهها، وأصعد أدراجًا تفضي إلى أدراج، قبل أن يكون الوصول إلى مغارة ثيربانتس، هناك في تجويف هضبة مرتفعة، في منطقة الحامة.

أقف على رصيف الشارع المار أمام المغارة، وأقرأ لافتة مكتوبًا عليها مغارة ثيربانتس. أنتظر لحظات، وقبل أن أدخلها تتداعى في خاطري سيرة الأسير الذي سجن هنا خمسة أعوام، وكيف كانت ظروف سجنه، ومعيشته، وتفاصيل انتظاره في ظلمة المغارة هنا، وكيف انعكست تجربته هذه في إبداعه فيعود إلى معاناته في بعض فصول رواياته، وبخاصة دون كيخوتة.

مضت أعوام كثيرة على تداعيات تفاصيل قصة أسره ثم سجنه عام 1575م. تقول تفاصيل الأحداث: إن ثيربانتس كان على متن سفينة مزودة بمجاديف لدفعها، وكانوا يطلقون على هذا النوع من السفن اسم (القادس)، كان عائدًا فيها ومعه أخوه رودريغو من نابولي في إيطاليا إلى إسبانيا، حيث اعتقلهما ومن معهما في السفينة، أسطول عثماني صغير بقيادة أرناؤوط مامي، قريبًا من الساحل الوعر (كوستا برافا)، على الساحل الشرقي شمال إقليم كتلونيا الإسباني، واقتيدا إلى الجزائر، حيث كان الأسر والسجن.

هنا كان السجن.. سأدخل البوابة الحديدية، بجوارها نخلة، وفي القلب مهابة من حضور روح ثيربانتس.

أتهيأ للدخول

هنا كان ثيربانتس بلحمه ودمه وروحه مسجونًا خمسة أعوام، كان ينتظر الفدية، كان يحلم ويتأمل ويتألم.. جدران المغارة تحاكي ثيربانتس، وقد كان يختزن وهو هنا كثيرًا من الشخصيات والأحداث التي بثّها في روايات سيكتبها بعد تحريره من الأسر.. هذا الكهف هو الكهف ذاته الذي عَبّر عنه الروائي واسيني الأعرج في واحد من نصوصه بقوله: «في عمق الكهوف نشأت كل الممنوعات التي غيرت وجه العالم، القرآن في غار حراء، ومقدمة ابن خلدون في مغارة فرندا، ومغارة سرفانتس التي خرج منها أجمل نص وأخطره ضد محاكم التفتيش».

درجات عدة، والمغارة، وساحة، وحديقة تزينها الأشجار، وروح ثيربانتس هائمة في المكان، وكأن صوته يأتي من أقصى يمين الساحة، حيث لوحة من السيراميك مكتوب عليها: «.. والذي سألني بلغة مستعملة في كل البلاد البربرية وحتى في القسطنطينية بين الأسرى والموريسكيين، لا هي بعربية ولا هي بقشتالية، ولا لغة أية بلاد أخرى، ولكنها خليط من كل ذلك، وبفضلها كنا نتواصل، ونفهم بعضنا البعض/ (حكاية الأسير)، الفصل الحادي والأربعون، للعبقري النبيل دون كيشوت دي لامانشا، لميقال دي سرفانتس».

نوتردام إفريقية.. السيدة السوداء

اليوم الثاني في الجزائر العاصمة.. إنها تتراءى لي من بعيد.. كنت في الليلة الفائتة أشرع النظر إليها.. في البدء لفتت انتباهي بأضوائها المبهرة، وهي في أعلى القمة، كأنها تريد أن تلف كل المدينة ببركة حضورها، وبسلام حلولها، كأنها تبعث رسائل المحبة والسلام، وهي قابعة هناك، في الأعالي. ليلًا، وأنا أحدق فيها، سألت واحدًا من أصدقائي الجزائريين عنها، فقال هي السيدة الإفريقية، وصمت، وتوقفت عن الكلام قليلًا، ولكن صديقي فهم دلالات الصمت، فقال ستراها غدًا، فهي مكان لا بد من زيارته، وقد وصلت الجزائر، إذ إنها من أهم المعالم اللافتة هنا.

في اليوم التالي، حملتني السيارة إلى هناك، لتكون زيارة تلك الكنيسة التي تحمل في تفاصيلها حكاية تروى حول بنائها، ومعمارها، وقصة تدشينها، والرهبان الذين كانوا فيها.. ربما تكون الزيارة لها قصيرة من حيث المدة الزمنية، لكنها حفرت في الوجدان كثيرًا، والتفكير بها لم ينقطع حتى بعد أن غادرتها، كما أن البحث حول حكاية الاسم والبناء بقيت تشتعل في الذاكرة حتى دشنتها بحثًا، ومعلومة، ومعرفة.

عين على البحر، وأخرى تعانق السماء، والسيدة الإفريقية، كاتدرائية، تحرس المكان، وتبث بركتها في كل الأرجاء. تأسست عام 1872م على يد الكاردينال لافيجيري، على نتوء صخري بالمنحدر الشمالي الشرقي لمونت بوزريعة، تتوسط الأحياء الشعبية هناك. وُصفت بأنها نوتردام إفريقيا، وأنها «كنيسة حج للأشخاص المرضى والبحارة»، تتجلى قيمتها الإنسانية، رمزًا للتعايش والتسامح الديني، من خلال النقش الموجود على الحنية: «سيدتنا الإفريقية، قومي بالدعاء لنا وللمسلمين». وللكنيسة في الذاكرة، والتاريخ، والكتب التي وثقت لها، قصة تروى، بدأت حين عُيِّنَ القسيس (بافي)، أسقفًا للجزائر عام 1836م، قادمًا من مدينة ليون الفرنسية، مصطحبًا معه راهبتين هما (مارغريت بيرغر) و(آنا سانكان). كان حلم الراهبة مارغريت بيرغر أن تشيّد للعذراء معبدًا في البلاد التي جاءت إليها، فوضعت غصن زيتون وتمثالًا للعذراء في مكان مرتفع اسمه الكهف، وسمّت هذا المكان سيدة الكهف، وهو المكان ذاته الذي سيكون اسمه كنيسة السيدة الإفريقية. عندما رأى الأسقف بافي حماس مارغريت، للمعبد الذي اتخذته معتكفًا لها، اشترى المكان، وشُرِعَ في البناء بتاريخ 14/10/1855م، بعد أن وجّه الأسقف نداء للتبرع لتغطية نفقات البناء، وكانت أموال كثيرة وصلت للمساهمة في تشييد السيدة الإفريقية، إضافة إلى هدايا منها صليب كبير، وجرس، وسيف من الجنرال (بيليسيه)، وسيف من الجنرال (يوسف)، وهدايا أخرى من الجنرال (بيجو)، و(سونيس)، وغيرهم. أما تمثال السيدة الإفريقية، فقد كان في الأصل في مدينة ليون، ثم انتقل إلى أكثر من مكان في الجزائر، ومنها كنيسة في بسطاوالي، وحين اكتمل بناء كنيسة السيدة الإفريقية، نُقِلَ إليها؛ إذ إن اللون الأسود لمعدن البرونز، يوحي بالقرب من لون إفريقية، القارة السوداء، وتمت التسمية بعد ذلك نسبة إلى هذا التمثال: كنيسة السيدة الإفريقية. توفي الأسقف بافي في 16 نوفمبر 1866م، وأكمل المسيرة بعده الذي خلفه في منصب الأسقفية، وهو لافيغري، وواصل جهوده لاستكمال بناء كنيسة السيدة الإفريقية، إلى أن افتُتِحَ في 2/7/1872م، في حفل مهيب، ونُقِلَ تمثال السيدة الإفريقية إلى الكنيسة يوم الأحد الموافق 4/5/1873م، ثم بعد ذلك منح البابا بيوس الخامس تاجًا يُحلّى به رأس تمثال السيدة الإفريقية، مع ترقية هذه الكنيسة إلى رتبة بازيليكية.

أمام باب ضريح الثعالبي

اليوم الثالث.. خطوة أخرى

ها أنا أتهيأ لزيارة ضريح الفقيه الذي كان رمزًا لمدينة الجزائر، فكانت تُعرف بـ(مدينة سيدي عبدالرحمن). تلك هي الجزائر، عاصمة بقدر ما تحمل من محبة، بقدر ما فيها من تاريخ، وهذا الضريح جزء من تاريخها. ولكن المدينة في كل أحوالها هناك جمال يعانقها، وذاكرة تسكنها، وتمايز يجمع بين النمط الإسلامي في جانب منها، وفي الجانب الآخر هناك نمط أوربي، وأنا الآن في الأحياء القديمة من العاصمة، هنا القصبة حيث الشوارع الضيقة، والبيوت العتيقة، والمساجد، والقلعة المبنية في القرن السادس عشر، وكل تلك التفاصيل التاريخية، التي جعلت من القصبة تراثًا معماريًّا تاريخيًّا، اعتُمِدَ تراثًا عالميًّا في اليونسكو عام 1992م.

ها أنا أسير في القصبة، وقلبي دليلي إلى الأمكنة وأسرارها، فأتتبع معه أدراج المدينة لأصل مساجدها، وقصورها، ومقاماتها، وأتمعن في بيوتها، ويأخذني المسير باتجاه ضريح سيدي عبدالرحمن الثعالبي. وهنا عند الاسم أتوقف للتوضيح حتى لا يكون هناك خلط بين الفقيه عبدالرحمن الثعالبي المفسر والفقيه المولود في الجزائر، وبين أبي منصور الثعالبي النيسابوري الأديب عالم النحو واضع كتاب «يتيمة الدهر».

هنا أنا أقف أمام بوابة الضريح، لكنها مغلقة الآن، وكأني حضرت متأخرًا، غير أن وعيي بالمكان كان سابقًا على قدومي إليه، فأنا أعرف هذا الضريح، مررت قربه قبل نحو خمسة عشر عامًا، لكنه تغير كثيرًا، وما حضوري الآن إلا للسلام على روح سيدي عبد الرحمن الثعالبي، أو بتفصيل أكثر المفسر الفقيه أبو زيد عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف بن طلحة بن عامر بن نوفل الذي يعود نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أعرف سيرته العطرة؛ هو المولود سنة 785هـ الموافق 1384م، في وادي يسر جنوب شرق الجزائر العاصمة، وقد رافق والده إلى المغرب الأقصى، والتقى علماءها، وعاد إلى بجاية، وذهب إلى تونس مع والده الذي توفي هناك، وبقي هو طالبًا للعلم، وارتحل إلى مصر، ثم إلى تركيا حيث أقيمت له زاوية هناك.. رحلة العلم لم تتوقف عند الثعالبي، غير أنه عاد إلى الجزائر، متفرغًا للعلم والعبادة في الجامع العتيق، إلى أن توفي في 23 رمضان عام 875هـ الموافق 15 مارس 1479م، عن عمر يناهز التسعين عامًا، ونقل جثمانه من بيته إلى هذه الربوة من باب الواد، ليصبح ضريحه مزارًا يقصده كل طالب حاجة وسكينة ونقاء روح. ها أنا من وراء باب الضريح أسمع رجع صدى صوت تلميذه الشيخ أحمد بن عبدالله الزواوي وهو يرثي الثعالبي:

لقد جزعت نفسي بفقد أحبتي/ وحق لها من مثل ذلك تجزع

ألمّ بنا ما لا نطيق دفاعه/ وليس لأمر قدر الله مرجع