قصيدتان

قصيدتان

من أنا حتى أحتقر سكّينًا لها نصل

تلك الأشياءُ المصنوعةُ لأغراضٍ جادّة

التي لا تعرفُ دربًا للهزار

حتى وإن رُصّعت غالبًا بأسلاكٍ رفيعةٍ من النُّحاس

أو الفضّة

إلا أنّها تكتفي بالحدّ الأدنى من الزّخارف

دون ما يشتّتُ الانتباه

ودون ما يثقلُ الوزن

وذلك ليُسهّل عليها أداء مهامها المُحدّدة

تافهةً كانت أم خطيرةً

استجابةً لاستغاثة

أو تلبيةً لنداء الواجب

أو فقط انصياعًا كاملًا للأوامر.

نعم أستطيعُ أن أتخيّل سكّينًا تصلُحُ كنوعٍ من التُّحف، كما أنّي أعلمُ أنّ هناك سكاكين تجمعُ وتُستّفُ على الرفوف، كالصّمديّات، هناك مهووسون لديهم هوايات بجمع أيّ شيء، وإنشاء مجموعاتهم الشخصية منها، كالكتب التي لا يقرؤونها. والمجلّات التي يجمعونها عددًا عددًا، تبعًا لأرقامها المتسلسلة، حريصين على ألّا يفوتهم رقمٌ واحدٌ من أعدادها، وإلّا لا قيمة للمجموعة كلّها، والطوابع التي تحتلُّها رؤوسُ الملوك والملكات المقطوعة، المتآكلة من هذا الطرف أو ذاك، والسليمة ذات الأسنان المنتظمة، منها ما هو مختومٌ بالأحبار الكحولية، ومنها ما ليس عليه ختمٌ أو توقيع، وهذا هو الأفضل. والنقود المعدنية التي لا تصدأُ أبدًا، وكذلك العُملات الورقية بمختلف أشكالها، الصغيرة منها بحجم راحة كفّ طفل، والكبيرة بحجم الخرائط الميدانية، وأخيرًا وليس آخرًا، زجاجات المشروبات الروحية الفارغة وأغطيتها، مع أنّهم لم يذوقوا طعم ما يحتويه أيُّ نوعٍ منها، ولن أنسى عُلب الثقاب الأجنبية، جيّدة الصنع ذات الأحجام المتطاولة، والمحلية ذات الشعارات الوطنية، ونموذجي المفضلُ عن هؤلاء المهووسين، صديقي الشاعرُ الراحلُ مُحمّد سيدة الذي دفعتهُ قصصُ حبّه الفاشلةُ، فتاةً إثر فتاة، لمحاولة أخذ حياته بيده، كما يفعلُ العشاقُ الحقيقيون، على حدّ قول، المغنّي الأميركي (دون ماكلين) في إحدى أشدّ أغنياته شهرة: (الليلة ذات نجوم كثيرة)، عن الرسام الهولندي الشهير الذي كان يشكو من الصرع (فنسنت فان كوخ)، فراح يحزُّ رسغهُ بواسطة شفرة حلاقة، قديمةٍ ومثلّمةٍ على ما أعتقد، وقد أدهشتهُ قسوةُ جلده وسماكتُه، فراح يصرخ: «أنا تمساح، أنا تمساح». تابع بعدها انتقامهُ من الحياة، بممارسة هواياتٍ مُتعدّدة، منها إنشاءُ مجموعاتٍ كبيرة، من أغلب ما ذكرت، راح يقايضُها ويتاجر بها، كأفضل المرابين، أمّا الحصى والحجارةُ فقد كان كريمًا بإهدائها للجميع؛ لأنّها تبقى أبدًا بلا ثمن، إضافةً لطيور الكناري التي وجدوها، عند اقتحامهم لقبوه، بعد وفاته بعشرة أيام، في قعر أقفاصها، ميتةً من الجوع والعطش. وكذلك شاعرٌ آخرُ مصابٌ بذات الأعراض، كان يحلو لهُ أن يأخُذ صوره، مستعرضًا عضلاته، وهو يرتدي القمصان الداخلية من دون أكمام، ما يطلقُ عليه أهلُ الشام اسم (شيّال)! لتبدو خلفهُ خمسُ سكاكين معلّقةً على الحائط بترتيبٍ زكزاكيٍّ مُنتظم، كلُّ سكّين، يقولُ لضيوفه عنها:

«أحضرتُها من هذا المكان في سوريا

أو من قبرص

أو من هنا في السويد

أو من مكانٍ ما في العالم

لا أذكرُ ما قادني يومًا إليه

ولكلّ سكّينٍ من هذه السكاكين التي ترونُها قصّة

وذكرى خاصّةُ عالقةٌ بها

منها ما طعنني الآخرونُ به في ظهري

نعم صدقوا!

ومنها ما نزعتُهُ

بصعوبةٍ شديدةٍ من كتفي»

* * *

دون أن يجد داعيًا

لأن يُريهمُ مواضع الندب التي خلّفتها كلُّ تلك الجراح.

أتكلمُ هكذا بخفّةٍ عن السكاكين

ولكن من أنا حتى أحتقر

سكّينًا

أو أيّ شيءٍ آخر في الوجود

لهُ نصل؟

سؤالُ (باربرا ووترز) الضائع

«يا لهُ من سؤال!» صاحت الممثلةُ الراحلةُ صاحبةُ المواقف السياسية المُحرجة (جين فوندا) ابنةُ العملاق الراحل بدوره منذ سنين (هنري فوندا)، في مقابلتها الأخيرة مع الراحل (لاري كينغ)، بنظّارته الدائرية ذات الإطار العظميّ الأسود، وحمّالة سراويله العريضة الحمراء، ترى ماذا كان يعنيه بجعلها علامةً فارقةً له: (رجلٌ لا يثقُ بسرواله)!

أرجوك لا تقُل لي: إنّهما لم يرحلا بعد

فأنا أوّلُ من يعلمُ هذا!

لكنّي أكتبُ هذه القصيدة على أمل

أن يأتي يومٌ ما ويقرؤها أحدٌ ما

وذلك بعد رحيلهما

ورحيلي أيضًا

بزمنٍ يطولُ أو يقصُر.

وكأنّ السيدة (فوندا) وجدت أنّهُ حان الوقتُ، بعد كلّ هذه السنين، لتُبدي ندمها على تلك الصورة التي نُشرت لها، وعُمّمت على نطاقٍ واسع، وهي تمتطي ظهر دبابةٍ أميركيةٍ تم الاستيلاءُ عليها من قبل قوات الفيتكونغ، خلال زيارتها التاريخية لفيتنام، أيام فورتها الثورية في عقد الستينيات: «شكّل ذلك إهانةً إنسانيةً للأميركيين» قالت ذلك بتأثرٍ زائد. ولكن،

عن أيّ صورةٍ مهينةٍ تتحدثين يا سيدتي؟

مقابل صورة طفلة النابالم العارية حتى من مزقة قماشٍ تغطي عورتها

تركضُ صارخةً بظهرها المشتعل

هربًا من قذائف (النابالم) الأميركية

التي شكّلت إهانةً

ليس للأميركيين فحسب

بل للبشرية جمعاء.

أمّا أسئلةُ الصحافية الأميركية المخضرمة (باربرا ووترز) للرؤساء الذين كانت تهرعُ لإجراء المقابلات معهم، وهم على حافة السقوط، كصدام حسين، ومعمر القذافي، وعيدي أمين، أرجو ألّا يأتي أحدٌ الآن، ويتظاهر بالفهم، ليقول لي: إنّ باربرا لم تجر مقابلةً مع هذا الأخير! وذلك لأنّهُ من الواضح، أنّي أوردتُ هذه الأسماء، على سبيل المثال لا الحصر، فالسيّدةُ صحافيةٌ احترافيةٌ بامتياز، وأسئلتُها البارعةُ، باعتقادي، تُحضَّرُ من قبل طاقمٍ من المُختصّين في محطّة (ABC). ولكنّها، مهما أبدت من جرأةٍ، قد تصلُ لحدّ الوقاحة في بعض الأحيان، جرأةٍ مجانيةٍ بأيّ حال؛ لأنّهُ لن يقوم أحدٌ من أتباع هؤلاء الرجال القُساة باقتياد سيدةٍ عجوزٍ خرفةٍ تجاوزت الثمانين، إلى أحد الطوابق السفلية لقصورهم الرئاسية، وتلقينها درسًا عمليًّا في أصول مخاطبة الرؤساء العظام، لمجرد سؤالٍ طائشٍ مهما بلغت وقاحتُه، فأسئلتُها على كثرتها دائمًا ناقصة. ناقصةٌ بسبب افتقادها لحسّ الدعابة الذي كان يتمتّعُ به السيدُ (كينغ)، كبقية المهرّجين اليهود العظام الذين اكتسبوا عن استحقاق، تلك الشهرة الواسعة، أمثال العباقرة: (شارلي شابلن) و(غروشو ماركس) و(ميل بروكس) و(جين وايلدر) وآخرهم (جيري سينفيلد) و(آدم ساندلر) و(بن ستيللر)… ما هذا! ألم يخلُق الله، من يريدُ أن يرسُم البسمة على وجه العالم، إلّا أبناء عمومتنا، اليهود؟ أذكرهُ في مقابلته للثلاثة الباقين أحياءً من فرقة الرولينغ الستونز، (ميك جاغر) و(كيث ريتشارد) و(شارلي وات)، أنّهُ رحّب بهم صائحًا: «أهلًا وسهلًا بالأولاد». وكانوا قد تجاوزوا السبعينات من أعمارهم بالعديد من السنوات.

ذلك أنّهُ كان خليقًا بها أن تختتم مقابلاتها الثلاث بسؤالٍ واحدٍ، يصلُحُ أن توجّههُ للتماسيح الثلاثة، دون استثناء، بغضّ النظر عمّا يقالُ عن التباينات والاختلافات الشديدة فيما بينهم، بما يتعلّقُ بالشكل الخارجي، وعدد النجوم والنسور والتيجان، التي يضعونها على أكتافهم، على وجه الخصوص:

«والآن، سيدي الرئيس، اسمح لي في خاتمة حوارنا الشائق هذا، أن أسألك سؤالًا لا علاقة له بالسياسة، كما أنّهُ لا علاقة له بالحبّ والحياة العائلية، إنما بالنظام الغذائي الفعّال الذي تعتمدونه للحفاظ على الوزن، على النحو الذي يسمح لمؤخرتكم بالالتصاق على كرسيّ الحكم زمنًا طويلًا يقاربُ نصف القرن، وهو:

هل تفضّلُ سيادتُك تناول الشعب

كعصيرٍ

أم

كمسحوق؟».

خالد سليمان الناصري، هل غادر «بلاد الثلاثاء» أم لا؟

خالد سليمان الناصري، هل غادر «بلاد الثلاثاء» أم لا؟

بعد مرور 11 عامًا على صدور مجموعته الأولى «صدّقت كل شيء» دار كنعان- دمشق، 2009م. رغم أنّه ورد في الجزء الرابع من (أنطولوجيا الشعر السوري) 1980- 2008م الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة ثقافية، 2008م. صفحة 203: خالد الناصري: مواليد دمشق 1979م. شاعر وصحافي. صدر له: على هيئتي 2009م.

خالد سليمان الناصري

11 عامًا، بدأت بعد مغادرة خالد الناصري على متن أوّل طائرة يصعد إليها في حياته، بجانبه على المقعد ذاته؟ قرينه في كلّ شيء؟ غياث المدهون، سوريا. المكان الذي ولد الناصري فيه وترعرع وشبّ، ليغدو شاعرًا وصحافيًّا، كما ذكر أعلاه، ومصمّمًا إعلانيًّا وفنيًّا، إضافة إلى عمله في مجال التبادل الثقافي وبرمجة المهرجانات الثقافية. الأمر الذي يدعو للإعجاب بقدر ما يدعو للعجب، كيف يمكن لهذا الحيز المكاني والزماني، الضيق، المهدّد، المأزوم، الذي كانت تحيا فيه دمشق، والذي يعبّر عنه الناصري في إحدى مقابلاته: «كنت أرى سوريا تنهار أمامي.. عشت دكتاتورية النظام السوري»، أن يتيح كلّ ذلك؟ ليحطّ عام 2009م، بعد تنقّلات ليست كثيرة، في مدينة (باليرمو) الإيطالية. وليقوم فيها بما يشبه المآثر؛ إعداد وإصدار موسوعات شعرية عربية إيطالية، إخراج أفلام قصيرة منها: (أنا مع العروسة- 2015م)، الحائز على أكثر من 130 جائزة دولية، كما قرأت في أكثر من مكان، والأهم من هذا كلّه، إنشاء دار «منشورات المتوسط»، بشعارها: «معًا لنحارب طواحين الهواء»، التي غدت في سنوات قليلة واحدة من ألمع وأميز دور النشر العربية، وهو الأمر الذي دفع رئيس بلدية (باليرمو) لمنحه الجنسية الإيطالية الفخرية في العام نفسه.

بعد 11 عامًا من الثورة والأمل، من الحب والموت، من الخراب واليأس. بعد 11 عامًا من الغربة والذاكرة المطعونة، يصدر الشاعر خالد سليمان الناصري مضيفًا اسم أبيه تجنّبًا لالتباسات الأسماء، عن دار أخرى غير دار المتوسط التي يملكها ويديرها، تجنّبًا لالتباسات النشر، مجموعته الشعرية الثانية (بلاد الثلاثاء- 2020) دار المدى.

11 عامًا، أظنّها مدة زمنية طويلة لشاعر يعبر من الثلاثين إلى الأربعين من العمر، العقد الخصيب كما يدعي، وفي ظروف تبدو ظاهريًّا مؤاتية جدًّا لكتابة الشعر وإصداره في الوقت ذاته. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أن الشغل الشاغل لـخالد سليمان الناصري كان منصبًّا خلال هذه المدة على إصدار كتب الآخرين، بدل كتابه.

* * *

وكأنني أجد في ذلك التعريف المبتسر، الذي أورده الجزء الرابع من أنطولوجيا الشعر السوري (1980- 2008م) اختيار رشا عمران وتقديم خضر آغا، ضالتي للكتابة عن «بلاد الثلاثاء»، بعد أن أتعبتني محاولات التقاط الطرف الصحيح لكبكوبة الخيطان المتشابكة والمعقودة التي تصنعها قصائد المجموعة. أوّلًا من ناحية اعتبار: (خالد الناصري- مواليد دمشق 1979م)، و(رائد وحش- مواليد خان الشيح 1981م)، و(قيس مصطفى- مواليد خان الشيح 1987م) الثلاثة الذين تضمّن الكتاب قصائدهم المختارة. و(غياث المدهون)، الذي أخصّه بالذكر؛ لأني عجزت عن معرفة أي شاعر فلسطيني آخر، بين ما يقارب 500 شاعر وشاعرة، أكتفي بإيراد أسمائهم في مقدمة الكتاب، شعراء سوريين. من دون أي إشارة لأصولهم الفلسطينية. وهو الأمر الذي على دلالته الجميلة من الزاوية التي أنظر منها الآن، يمكن عدُّه نقصًا في التوثيق. وثانيًا من ناحية أن قصائدهم المختارة، لا تتضمّن أي ذكر أو تلميح لفلسطينيتهم. وثالثًا من ناحية أسلوبية القصائد خاصة، فالثلاثة بالرغم من خصوصياتهم الشعرية، يندرجون بسلاسة تامة في السياق العام للقصيدة السورية التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي على شكل انعطافة، ثم تابعت في الثمانينيات كأنها قد اختارت طريق خلاص التي يستمرّ الداخلون الجدد لكار الشعر في كتابتها دونما طفرات كبيرة طارئة، لليوم.

* * *

لأنه، لا بداية ولا نهاية، كما لا حدود، للعلاقة بين فلسطين وسوريا، وبين الفلسطينيين والسوريين، أقول هذا تعبيرًا عن واقع إنساني معيش، لا عن تعصب أو أيديولوجية قومية، فكذلك، لا حدود للعلاقة بين الشعر الفلسطيني والشعر السوري. ولأنه لا يمكن إلَّا بدراسة موسوعية رصد وتتبع هذه العلاقة الأقرب للعضوية في كل شيء، فالشعراء الفلسطينيون السوريون، أو السوريون الفلسطينيون، أكثر عددًا من أن أفكر في مجرد ذكر أمثلة منهم، ولكني سأفعل! سأحاول! رغبة مني في تلمُّس مسار هذه العلاقة وتطورها، ولو على نحو مبتسر، من شاعر فلسطين الكبير (أبو سلمى 1901- 1980م) وحياته في دمشق حتى نيله الشهادة الثانوية من مدرستها (التجهيز الأولى)، ونيله لقبه لحبه فتاة سورية اسمها (سلمى)، إلى شعراء المقاومة والثورة (أحمد دحبور 1946- 2017م) المعروف بلقب «صبي المخيم»، و(عصام ترشحاني- 1944م) المقيم وما زال في حلب. و(صالح هواري- 1938م) الذي افتتحتُ به أوّل مقالاتي النقدية، أعدد كم صفة وكم مضاف ومضاف إليه في إحدى قصائده، و(عادل أديب آغا- 1944- 1988م)، و(محمود مفلح- 1943م)، و(راسم المدهون- 1948م)، و(طلعت سقيرق- 1953- 2011م مخيم اليرموك)، و(عبدالله عيسى- 1964م)، و(إياد حياتله- 1960م) صاحب: «هذا المخيم ضحكتي». وصولًا إلى جيل جديد طازج، شكّل في لحظة ما قطيعة تامة، أو شبه تامة، مع آبائه وأعمامه، ليس فقط شعريًّا، بل أيضًا وهو الأهم (ذكرياتيًّا): خالد سليمان الناصري وغياث المدهون- مخيم اليرموك- 1979م، صاحب مجموعة (بعيدًا عن دمشق- 2014م) ورائد وحش صاحب «قطعة ناقصة من سماء دمشق» وفي المقال الذي أمامي الآن عنها، أقرأ: «ماذا يكتب السوريون عن بلدهم؟ وكيف يكتبون؟» و(قيس مصطفى) الذي تنخر (دمشق) في كتابه الأخير «قصائد السنين الغفل» كالدودة في التفاحة، ليجيء بعد هؤلاء الأربعة، جيل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، و(رنا زيد – دمشق 1982م) تحدّد تاريخ ميلادها بتاريخ وفاة شاعر سوري: «ولدت قبل وفاة رياض الصالح الحسين بأشهر»، (خلدون رحمة- مخيم اليرموك 1984م): «نحت المخيم لبّ قلبي»، و(رامي العاشق- 1989م): «لا تسلني عن دمشق ولا تناديني إليها»، و(عامر صرصور – مخيم اليرموك 1990م).

واللافت أن هؤلاء الشعراء الشباب، جميعهم، بقضهم وقضيضهم، الذين يُعرَّفون حينًا؛ بالفلسطينيين السوريين، وحينًا آخر بالسوريين الفلسطينيين، كما فعلت أعلاه، خرجوا، أُخرِجُوا، غادروا، هربوا، اقتُلِعُوا، اجتُثُّوا.. من سوريا؛ لتصير سورياهم هذه، بدمشقها وبمخيماتها (اليرموك، وخان الشيح، ومخيم حمص، والرمل الجنوبي في اللاذقية)، وبمقاهيها وشوارعها ووسائط نقلها العامة، وبجيرانهم وأبناء حاراتهم ورفاقهم في المدارس والجامعات، وبقصص حبهم الباكرة، ذاكرتهم الأصلية، فردوسهم المفقود. رغم كلّ ما كانوا يقاسونه فيها… فلسطينهم الثانية. التي تخايلت يومًا وكأنّها صورة للوطن المستعاد؛ لتغدو مرة ثانية صورة للوطن الضائع.

* * *

– سؤال: «لماذا استغرق خالد سليمان الناصري 11 عامًا ليصدر «بلاد الثلاثاء»؟ أجبت سابقًا أنه كان مشغولًا بإصدار كتب الآخرين، إلَّا أن هذا لم يكن أكثر من استنتاج ظاهري، أقرب للتبرير! لأنه يجب أوّلًا أن يقرأ المرء ما تتضمنه «بلاد الثلاثاء» ليجيب. فإذ بالرجل يقف خلف النافذةِ التي تُطلُّ على العالَمِ، يبحثُ عن ذاكرتِه: «لكِنَّ الذاكرةَ الآن تُضرَبُ بالهِرَاوَاتِ والرَّصَاص» ص39 «ومع أنَّ النافذةَ افتراضيَّة.. لكِنَّ القتلى حقيقيون» ص41.

والحقيقة أن نافذته، حتى إن كانت تطلّ على العالم، فهو يصوّب نظره باتجاه سوريا، وليس بحثه عن ذاكرته، في ذاكرته، سوى التقاط ما يحدث هناك، والشعور به، ومن ثم الكتابة عنه؛ متوسّلًا أي خبر يسمعه، وأي صورة يراها، أو مقطع (فيديو) يشاهده، خلف تلك النافذة، بدءًا من حمزة الخطيب:

«يا حمزةُ، كيف لكَ أن تكونَ منتفِخًا، وواضِحًا هكذا، رغمَ كُلِّ هذي الثُّقُوبِ؟» ص40.

و(إبراهيم قاشوش): «لكنّ الذاكرةَ إذا ما اقتُلعَت حَنجَرَتُها،/ ورُمِيَت في النهر.. غنَّى النهر» ص44 مرورًا بقصف معرة النعمان:

«اسألُوا القَتَلَةَ، الذين حفرُوا في المعرَّةِ قبورًا جماعيَّة/ هل وجدوا…كُتُبَ المعرِّي المفقودةَ؟» ص61، وغاز (سارين خان شيخون): «غَلَبَنَا النعاسُ، فنمنا عميقًا، وحلمنا بأنَّنا نرقصُ. مَن رآنا نرقصُ في نومِنا ضحكَ. أمَّا نحنُ، فكان يخرجُ من فمِنا الزَّبَدُ» ص75 مختتمًا الكتاب بزورق مثقوب، مثقوب كجثمان (حمزة)، كحنجرة (القاشوش)، مثقوب كذاكرتنا المتورّمة، ورأسنا الساقط من على الجسر، مثقوب كسوريا: «إذا انثقبَ الزورقُ، هل سنغرقُ؟ سألتِ الطفلةُ أباها. فأجابَ: لا، يا حبيبتي. لا، سيتسرَّبُ الهواءُ للبحرِ/ سينتفِخُ البحرُ، ويُصبحُ بالونًا أزرقَ جميلًا، نتعلَّقُ به، ونطير» ص107، يذكرنا هذا الطباق، هذا التحويل الشاعري، الذي تندرج فيه مقاطع تكاد لا تحصى في الكتاب، بالفِلْم الإيطالي: (الحياة جميلة – 1997م)، حيث راح السجين يوهم ابنه، بأن كلّ ما يحصل في معسكر الاعتقال النازي من ضروب القسوة والرعب، ليس سوى مسرحية كوميدية، يشترك الجميع بتمثيلها.

* * *

– سؤال مركّب، مربك: لماذا لم يسأل أحد الذين أجروا المقابلات، الصحافية والتليفزيونية، مع خالد سليمان الناصري: «لماذا أطلقت عنوان: «بلاد الثلاثاء» على كتابك؟»؛ لأنه ليس هناك حاجة أن يسأل أيّ بلاد هي «بلاد الثلاثاء»؟، فالجواب من دون تفكير: سوريا. والناصري لا يتأخر في إهداء كتابه لطفليه بالإشارة إلى ذلك: «…اللذين أنجبتهما خارج بلاد الثلاثاء» ص5. ثم، وفي القصيدة الأولى من الكتاب يقول: «نحنُ الذينَ جِئنا من بلادٍ، تحدثُ الحُرُوبُ فيها كلّ ثلاثاء» ص9؛ ليتواتر ذكر (الثلاثاء) في عناوين قصائد المجموعة، كما في نصوصها، من دون أن نعلم أيّ حروب وقعت أيام الثلاثاء في «بلاد الثلاثاء»؟ ولماذا سوريا هي بلاد الثلاثاء، وليست بلاد الإثنين أو الأربعاء، مثلًا! حتّى في القصيدة التي خصّها بعنوان «بلاد الثلاثاء – احتمالات سقوط قذيفة» ص65، التي تفتتحها وتتردد بين فقراتها صيحة: «الحرب الحرب»:

«وأنا كلَّما صحتُ: الحرب الحرب/ سقطَ في آخرِ الشارعِ رأسٌ، وتدحرجَ تحتَ أقدامِ الأُمَّهات» ص65، المتضمنة بعضًا من أشهر أقوال العرب العاربة عن الحروب، كالشاعرين امرئ القيس وزهير بن أبي سُلمى، فإننا لا نجد حربًا محددة حدثت يوم الثلاثاء. بل نجد أنّه في قصيدة «خبط عشواء» ص13: «وفي تمامِ الساعةِ الرابعةِ إلا ربعًا، فجرًا، في يومِ الثلاثاءِ، الموافقِ للثامن عشر من شهرِ أيلولَ، سنةَ ألفٍ وتسع مئةٍ وتسعةٍ وسبعينَ، حَدَثَ ما يلي: وُلِدَ خالد» وبالتأكيد هذه الواقعة، التي لم يجد بعضٌ سواها لتفسير عنوان المجموعة، ليست حربًا. ومتابعة لهذا السياق، أي بالعودة إلى التاريخ، فإننا لا نحظى بأي حرب سورية حدثت يوم الثلاثاء، لا حرب فلسطين: السبت 15/ 5/ 1948م، ولا حرب حزيران: الإثنين 5/ 6/ 1967م، ولا حرب تشرين: السبت 6/ 10/ 1973م، حتى إن حدثت أوّل مظاهرة سورية في سوق (الحريقة): الثلاثاء 15/ 3/ 2011م. ومجزرة كيماوي (خان شيخون): الثلاثاء 4/ 4/ 2017م. فإن هذا كلّه يقودنا، إلى عدم حاجتنا لهذه المطابقة المباشرة. وكأننا نسينا أننا نتكلم عن الشعر.

نعم.. (الثلاثاء) اليوم الأوسط، الحيادي، الفاتر، الأبيض الباهت، الذي ليس عيدًا ولا يوم عطلة في أي دين، أو لأي قومية، الذي يمرّ وكأنه خطّ واصل بين بداية الأسبوع ونهايته، يمر دون أن يحدث فيه شيء يستحق الذكر، هو اليوم الذي كنا، نحن السوريين: «لا نصلحُ لشيءٍ، ربَّما، فقط، نُصلحُ للانتظارِ من الثلاثاءِ إلى الثلاثاء» ص9.

* * *

وبقدر الغموض في العنوان، بقدر المباشرة في غلاف الكتاب؛ رأس مقنّع ومكمّم ضد الغازات الكيماوية. وبألوان، هي الأخرى، فوسفورية. وأحسب أنّنا من دون أن ننظر لصفحة التوثيقات(2)، نستطيع أن نخمّن أنه من تصميم الناصري. مصمّم أغلفة منشورات المتوسط كافّة، مستخدمًا الحروف الطباعية ذاتها، والنمط الإعلاني ذاته. غير أنّه من اللافت، اختياره لمصطلح «نصوص» بدل «قصائد»، أو «شعر»! رغم أن المحتوى، برأيي، شعريّ من دون أدنى شبهة، وإن إدماج بعض المقاطع النثرية، أو تضمين بعض الاقتباسات، لا يخرجه من هذا التصنيف على الإطلاق.

* * *

تنقسم مجموعة «بلاد الثلاثاء» إلى ثلاثة فصول؛ لكلّ من الثاني والثالث عنوان محدد، أمّا الأوّل، فقد فات الناصري أن يعطيه عنوانًا، أو حتّى رقم صفحة، لا في المجموعة ولا في فهرس محتوياتها، أو ربما تعمّد ذلك، فإنه يمكن للقارئ بقدر من السهولة أن يلاحظ، أنه يتضمن قصائد كتبت قبل الحدث السوري 2011م، ولا علاقة مباشرة لها به، وإن كان ذلك استنتاجًا شخصيًّا من قبلي؛ فهي، كأسلوب، قصائد ذات بناء فني مركب على نحو تراكمي، وطابع بلاغي ولغوي واضح، يشطح لأن يكون غنائيًّا حينًا، وواقعيًّا حينًا آخر، وإن بفسطاط، تتمحور حول علاقة الذات بالمكان والرحيل عنه، والدروب التي لا رجعة منها؛ كما في قصيدة «أدعية»، وأيضًا، وبشكل أوضح، في قصيدة «خبط عشواء»، التي يبدؤها باقتباس من «أبي العلاء»: «وحقَّ لمِثلي ألَّا يُسألَ، فإن سُئلَ، تعيَّنَ عليه ألَّا يُجيب»، وهذا على إبهامه، يدلّ على أنّ كاتبه أسير حيز لا يسمح له بالكلام على هواه! وهذا يصحّ في «بلاد الثلاثاء» وما يماثلها من بلاد الله الضيقة: «فلجأتُ إلى مدينةٍ، وجدتُها تكرَهُ الغرباءَ، وتُكثِرُ منهم/ فلم أفهمها؛ لذا كان لا بدَّ لي أن أُولَدَ فيها» ص15، «هذه المدينةُ لا تؤنسن» ص18، «في الليلِ أمشي/ دمشقُ مئذنةٌ عجوزٌ…/ هذه المدينةُ لم تعد تُشعِرُني بالوَحدَة/ عمَّ سأكتبُ إذن؟» ص19، وكذلك علاقته بالشعر في قصيدة «على قبر بودلير»: «أن تصبحَ شاعرًا، علَّكَ إذا ما سرتَ محمومًا في/ شارعٍ، تدفَّأ بكَ المُشرَّدون/ أأكون شاعرًا..إذن؟» ص30.

أمّا الفصل الثاني «يوميَّاتُ رجلٍ خلفَ النافذة»، فالقصائد متابعات شعرية للحدث السوري. وللأسف، ليس متابعات لفرحه وانتصاراته؛ الفرح بقيامة شعب عاش دهرًا في سجون الخوف والصمت، وفي هزّة من هزّات القدر، حطّم جدران زنازينه وأبوابها، ونزل إلى الشارع هاتفًا: «حرية حرية». بل هي متابعات، توثيقات شعرية، لحربه ومأساته، لمجازره والموت الفالت في أرجائه: «سأكتبُ عن المَوتى حتَّى يتَّسعَ الضوء» ص37.

قصائد عن.. حمزة الخطيب: «أيَّةُ ذاكرةٍ مَخصِيَّةٍ ستكونُ لنا؟»، وإبراهيم القاشوش: «أيّةُ ذاكرةٍ من صريرٍ ستكونُ لنا!» وعن سارين (خان شيخون): « هلْ غازُ السارين هو الشيطان»، ثم أم قصائد الكتاب: «بلاد الثلاثاء» الأشبه بقصيدة بانورامية، يحصي بها القنّاص خلفَ النافذة، القذائف… هذه أخطأت هدفها وهذه أصابت: «قذيفةً أخطأت هَدَفَهَا، وأصابت نظرةَ الوداعِ الأخيرة» ص 66، «سيأخذُ بيدَيَّ إلى سوقِ الأربعاءِ، فنسمعُ الباعةَ ينادون…/ وهو يتحرَّكُ خلفَ بَسطةِ الخضارِ، إلى أن أصابت قذيفةٌ فمَه» ص66، «النيزكَ كانَ قذيفةً أصابت بيتَ الخال/ تبيَّنَ أنّ القذيفةَ أخطأت هَدَفَهَا، وأنّ هدفَها كان حُلمَ الطفل» ص70.

يتضمّن الفصل الثالث «نصوصٌ على هامشِ المجزرة» 7 قصائد لا تشغل سوى 13 صفحة، من عدد صفحات الكتاب البالغة 112 صفحة. أخصّ بالذكر 3 منها، مكتفيًا ببداياتها الآسرة: الأولى، «تصوّف»: «يقينًا أنِّي طَرَقتُ البابَ مرارًا/ لكنَّ المصباحَ لم يشتعل، ولا انفتحَ الباب…» ص95، الثانية، «اترك مجالًا للريح»: «أن تذهبَ بأشياءِ المائدةِ/ شرشفِ الطاولةِ/ علبةِ المحارمِ/ المحارمِ الوسخةِ/ قنِّينةِ الماءِ الفارغةِ/ الزِّبديَّةِ البلاستيكيةِ التي فرغت من سلطةِ اللبنِ والخيار» ص100، الثالثة، «ف ص ق ر ث غ ت» بالأحرف المسمارية: «وإن لم يجئ زمني،/ سأجيءُ أنا/ سأجيءُ مخمورًا يترنَّحُ؛ لأُذكِّرَ الآخرين بالمُوسيقا/ سأجيءُ محمومًا يتعرَّقُ/ لأُشعِرَ المُشرَّدينَ في شتاءاتِ المدينةِ بالدِّفءِ» ص106. الصورة ذاتها في قصيدة «على قبر بودلير».

ورغم أنّ عنوان الفصل «نصوصٌ على هامشِ المجزرة»، «المجزرة» وليس «الثورة» أو غيرها من التسميات التي يتراشقها السوريون حسب مواقعهم السياسية، وذلك تأكيدًا لما ذهبت إليه، من أن الناصري ينظر للحدث السوري، رغم موقفه السياسي الصريح من النظام السوري، نظرة إنسانية، ومن ثَمَّ مأساوية وكارثية. فالحقيقة، أن ما يمكن عدُّه أفضل قصائد المجموعة، أبعد ما يكون عن المجزرة، وعن هامشها أيضًا، ما عدا القصيدة السابعة في هذا الفصل، التي أحسن الناصري صنعًا باختيارها القصيدة الأخيرة في المجموعة، والتي أجدني بدوري، مضطرًّا لأن أجاري الجميع في تردادها أكثر من مرّة، وأجاريه في الختام بها:

«إذا انثقبَ الزورقُ، هل سنغرقُ؟ سألتِ الطفلةُ أباها. فأجابَ: لا، يا حبيبتي. لا، سيتسرَّبُ الهواءُ للبحرِ، سينتفِخُ البحرُ، ويُصبحُ بالونًا أزرقَ جميلًا، نتعلَّقُ به، ونطير» ص107.

* * *

سؤال أخير: بعد كلّ هذا، ترى، هل صحيح أن خالد سليمان الناصري قد غادر «بلاد الثلاثاء»؟ أم ماذا؟

اللاذقية 31/ 5/ 2020م