محمد الثبيتي إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي

محمد الثبيتي إحياء ما قبل النفطي من أجل ابتكار ما بعد النفطي

يمكن مقاربة المشروع الجمالي للشاعر السعودي محمد الثبيتي (1952—2011م) بتحليل نصوص «الذروة الشعرية» في ديوانه، وهي النصوص التي أحدثت اختراقات فنية ألهمت تجربة الطليعة الشعرية، وشغلت اهتمام الخطاب النقدي، وجمهور الشعر على حد سواء، إلى أن أصبحت علامة على التجربة الثبيتية، وشعر الحداثة في الجزيرة العربية، ومن المعالم الرئيسة للحركة الشعرية الحداثية في العالم العربي، حين يُكتب لهذه الحركة تاريخٌ منزوع العقد والأساطير، يقيها من تجمدها في لحظات تفوِّقٍ فوق تاريخية، من شأنها أن تعزز خطابَ مركزياتٍ موهومًا. تجادل هذه المقالة بأن إيجاد موقع مستحق للذات في سردية قاهرة تعميمية وتنميطية هو بالضبط «الحدث الشعري»، بتعبير جوديث بالسو، الذي يؤسسه مشروع الثبيتي والذي تم تكثيفه في آخر الثبيتيات الكبرى: (موقف الرمال ـ موقف الجناس).

شكل ثنائي هوية ممتدة

تتكون القصيدة من قسمين رئيسَين يرمز لهما الديوان المطبوع برقمي (1) و (2)، ما يشير إلى وعي الشاعر بوجود تمايزٍ ما في الرؤية بينهما. من هنا يمكن اعتبارُ دلالةِ هذا التقسيم جزءًا لا يتجزأ من الدلالة الكلية للنص. ويعضد هذا التمايزَ البصريَّ تمايزٌ إيقاعيٌّ؛ فالقسم الأول يحتوي على نقلات إيقاعية متعددة، حتى داخل البيت الواحد، ويكتفي القسم الثاني بتفعيلة (متفاعلن) وحدها، وبحرف روي واحد هو الميم. إن هذا يعزز فكرة النظر إلى القصيدة بوصفها «حدثًا شعريًا» يتمرحل في لحظتين اثنتين، تتوزعان على قسمي القصيدة اللذين يتنوعان بصورة سيكون لها دور كبير في تشكيل جوانب الحدث الكلية.

وإضافة إلى ذلك، يركز القسم الأول (11—20) على علاقة الشاعر بالنخلة، بوصفهما ماهيتين متمايزتين، ويعقد سلسلة طويلة من المقارنات بينهما مصدرها «مقولات» من صوت خارجي يخاطبُ الشاعر، في حين يفرد القسم الثاني (21—30) فضاءه الصوتي كاملًا لصوت الشاعر، ويجسد حالة التماهي بينه وبين النخلة. عشر صفحات لكل قسم تمنح المساحة الطباعية الظاهرة على الورقة دلالة الموازنة بين لحظة الآخر ولحظة الذات.

يمكن أيضًا لدارس الشعر القديم أن يقرأ التقسيم الثنائي لـ(موقف الرمال) في ضوء البناء الثنائي للقصيدة الكلاسيكية، كما يتجسد في بعض القصائد الجاهلية، أو في مرحلة القصيدة العباسية كما درسها شتيفان شبيرل في مقالته الرائدة حول الملكية الإسلامية وشعر المديح في بدايات القرن التاسع الميلادي. وعند شاعر منغمس في التراث الشعري كالثبيتي، تسعنا المقارنة بين اللحظة الأولى في الحدث الشعري لـ«موقف الرمال» وقسم النسيب الكلاسيكي، ولكنَّ الاختلاف هنا هو أن الذي يقف ويستوقف في نص الثبيتي هو الصوت الخارجي الذي يقدم للذات تعريفاتها، ويذكرها بهويتها المفقودة. ومن هنا فعبارات من مثل «أنت بعيدٌ كأنَّك ماء السماء» و «يا طاعنًا في النأي» تستدعي إلى الذاكرة المدربة ابتهالاتِ الشاعر الكلاسيكي بين يدي قسم النسيب. أما اللحظة الثانية، والتي تتحدث فيها الذات عن نفسها، فيمكن الزعم بأنها تعادل قسم الرحلة الكلاسيكي؛ فبالإضافة إلى الفكرة المركزية لهذه اللحظة والمتمثلة في البحث الدائم عن القصيدة، يدعم المعجم الشعري، المبني بشكل تامٍّ تقريبًا على فكرة الرحيل، هذا الزعم: يبدأ القسم بـ«أمضي إلى المعنى» ثم «وأمر ما بين المسالك والمهالك» والتي ترجِّع صدى فكرة المهالك التي يتكبد مشاقها الشاعر في قسم الرحيل الكلاسيكي، ثم «أمضي إلى المعنى» مرة أخرى، «وأجوب بيداء الدجى». ولكن الطرقات تتقاطع، ويستمر السفر لأنه ليس هنالك يمٌّ يلمُّ شتات أشرعة الشاعر، ولأن نجم سهيل الذي كان العرب يستبشرون به، ترك المكان وولى، فحلَّ ظل الشاعر أمامه كناية عن لا نهائية السفر.

إذن: أذهب إلى القول بأن هذا التقسيم الثنائي للحظتيْ «موقف الرمال» يأخذ دلالةً رمزية تسهم في إرساء الهوية في ميناء ثقافي يتأسس على التجربة التراثية للهوية الشعرية، ما يعزز من حالة النوستالجيا التي يثيرها المعجم ما قبل النفطي للقصيدة. هذه الميتاشعرية الإحالية إلى التراث الشعري، متمثلًا هنا في روح البناء الثنائي للقصيدة الكلاسيكية، تستمر في الإفصاح عن مصادر فنية كلاسيكية أخرى تحيل إليها.

النفري والثبيتي: بين السلطوية والتفاوضية

hbook0091اللحظة الأولى من القصيدة تستشف روح كتاب «المواقف» للصوفي محمد النفري (ت 354 هـ 965 م)، إذ تبدأ بالعبارة التي يفتتح بها النفري أبوابَ كتابه هذا: «أوقفني … وقال». في كل مقطع «يقول» هذا الصوت شيئًا عن العلاقة بين الشاعر والنخلة، وهذه المقولات وما يتفرع عنها من أصوات جانبية تشكل أجزاء القسم الأول. وعلى رغم أن القصيدة قد تحيل في عبارة «ضمّني» إلى حادثة نزول الوحي لتلتقط منها ما يشير إلى دور اللغة، ممثلة في كلمة «اقرأ»، في إيجاد هوية جديدة للجماعات المتخيلة، كما حدث للجماعة العربية بعد نزول القرآن الكريم، إلا أن «مواقف» النفري تظل أكثر قربًا لمعجم القصيدة وأسلوب الحوار فيها. هذا التشابه، على أية حال، يخفي اختلافًا جوهريًا بين (مقولات) النفري ومقولات (موقف الرمال). يتأسس هذا الاختلاف على أمرين رئيسين:

1) الفيزيائية (الثبيتي) التجريدية (النفري): المكان في (مقولات) النفري تجريدي، عبارة عن مفاهيمَ غيرِ مجسدةٍ في الواقع. هذه عينة من مواقف النفري التي يوقفه فيها الصوت قبل أن يخاطبه: (العز، الكبرياء، الأمر، الصفح والكرم، القوة، اقشعرار الجلود، والاصطفاء)، وهي المواقف التجريدية ذاتها التي نجدها عند بعض شعراء الحداثة العربية الذين استلهموا مواقف النفري. أما الثبيتي فمكانه جغرافي محدد هو الرمال، وهو لا يظهر إلا في افتتاح القصيدة ثم يغيب تمامًا. إن جغرافية مكان الثبيتي تدعم فكرة هوية محلية وطبيعية، لأنها تجسد الموقف في حيز جغرافي معين متصل بأبعاد ثقافية متميزة.

2) التفاوضية (الثبيتي) السلطوية (النفري): الحوار في (مقولات) النفري يسير في اتجاه واحد: من الصوت الخفي إلى النفري، وهذا الصوت لا يتحدث غالبًا إلا عن نفسه: «أوقفني… وقال: لا يستقل به من دوني شيء». «أوقفني …وقال: ما مني شيء أبعد من شيء». «أوقفني… وقال: أنا مظهر الأظهار». في بعض المناسبات يوجه الصوت كلامه إلى الطرف الثاني، ولكن فقط لتوجيه أوامر وتعليمات معينة من قبيل: «اجعل الحرف وراءك». هنا، إذن، تسيطر ذات الصوت الخفي، وتفرض رؤيتها على الآخر المتلقي والسلبي دائمًا.

على العكس من ذلك يظهر الصوت المتحدث في مقولات الثبيتي؛ حيث يتوجه بالحديث إلى الآخر: «أنت قريب»، «أنت بعيد»، كما أن جملَه خبريةٌ وليست إنشائيةً مستندةً على صيغة أفعال الأمر. إضافة إلى ذلك، يشترك الصوتان في تكوين النص، فهو ليس خطابًا سلطويًا، بل حواراتٍ تفاوضية. إن هذا يتفق تمامًا مع الحدث الكلي للقصيدة كما اقترحته هذه القراءة أعلاه، وهو ابتكار هوية بديلة للشاعر بوصفه رمزًا إبداعيًا للجماعة. هذا الابتكار يتم عن طريق التفاوض حول تعريفات مقترحة للشاعر تربطه بعناصر المكان الطبيعية والثقافية المعروفة، دون افتراض سلطوية متعالية له نابعةٍ من تجريدية مصدر مقولاته.

إن القصيدة توظف النفري بشكل رمزي فقط، منذ أن شاع الاستشهاد ببعض نصوصه من لدن ثلة من رموز الخطاب الشعري الحداثي لتدعيم التصور القائل بوجود كتابة شعرية تراثية، لا ترتهن لشروط الوزن التقليدية، بل تستند أساسًا على مبدأ التكثيف اللغوي، حتى ذهب بعض النقاد إلى حد المقارنة بين النص النفري والنص السوريالي المعاصر! يتشابه توظيفُ الثبيتيِّ النفريَّ مع توظيف الشعراء العباسيين رموزَ الشعر الجاهلي البعيدةَ عن تجربتهم الحياتيةِ، من أجل حفظ موقعٍ لمدونتهم الشعرية ضمن استمرارية شعرية أكبر وأشمل. هنا تحيل القصيدة إلى التجربة الصوفية فقط من أجل أن تملأ فضاءها التجريدي بعناصر المكان الثقافية. إنه توظيف من أجل التجاوز، وهو ينطلق من وعيٍ بالذات، وبتاريخيتها، وبقدرتها على التجديد المتأسس على العناصر الثقافية للمكان. هنا يبدو أن الثبيتي قد أخذ بنصيحة والاس ستيفينز وهو يقرر أن «قصيدة الجنة والنار قد كتبت»، ومهمة الشعر اليوم هي كتابة «قصائد أرض عظيمة»، أي قصائد عن هذا العالم الذي نعيشه.

تنوع الإيقاع ثراء الهوية

إن تنوع الأصوات في قصيدة الثبيتي يرفِده تنوع آخر يسهم في إضفاء حيوية على النص، ومن ثم على الأصوات المشتركة في صنعه. يتمثل ذلك في تنوع الإيقاع في القسم الأول، كما أشارت المقالة أعلاه. يبدأ القسم بتفعيلة (فاعلن)، وسرعان ما يدمج بها، في مقطع واحد، تفعيلةَ (متفاعلن)، إلى أن يضيف مقطعًا قصيرًا مستقلًا على تفعيلة (مفاعلن)، قبل أن يعود إلى حالة الدمج بين (فاعلن) و(متفاعلن) مرة أخرى. يعطي هذا التنوع الإيقاعي حركية للنص تبعده عن الرتابة الموسيقية، كما يتسق مع التطور الدرامي لحركة الأفكار داخل القصيدة.

يمكن التمثيل على ذلك بالمقطعين الأخيرين في القسم الأول؛ حيث تنحصر تفعيلة (فاعلن) في عبارة: «قال يا أيها النخل» في افتتاحية كلا المقطعين وحسب، وتأتي بقية أبيات المقطع على تفعيلة (متفاعلن) التي تسمح بورود جمل أطول لا تقطعها القافية. يعبر امتداد الجمل وقلة القوافي هنا عن تآلف ينمو بين طرفي عملية القول، ما يجعل الدخول في التفاصيل المطولة أمرًا ممكنًا، ولا يعسر الاستنتاج بأن الجمل القصيرة والمقفاة فورًا في المقاطع الأولى تبدو أشبه بشفْرات سرية بين طرفين غيرِ متآلفين تمامًا.

إن تنوع الإيقاع هنا يمكن قراءته أيضًا بوصفه إحالة إلى الإيقاع الكلاسيكي المكوِّن للهوية الشعرية التراثية. هذا يشير إلى تنوع روافد الهوية المحلية، ويمنح القصيدة هوية فنية غير ضيقة تؤهلها، من ثــمّ، لجدارة اقتراح هوية ثقافية منفتحة. وفي نص يقوم على إبراز هوية بديلة يصبح تنوع الثقافة المحلية عنصر مقاومة لواحدية ونمطية الهوية الصناعية النفطية المعولمة.

وكما وظف الثبيتيُّ النفريَّ للاختلاف عنه، وكما استخدم نظام التفعيلات في الشعر الكلاسيكي لابتكار حيوية إيقاعية لقصيدته، سوف نرى الآن كيف يستخدم إحدى أهم الأدوات الفنية للتراث الشعري، أعني الجناس، لابتكار الجديد من المكرور والمختلف من الشبيه من أجل تعزيز «الحدث الشعري» للقصيدة والمتمثل في إعادة إحياء هوية ثقافية ما قبل نفطية تتميز بالتنوع والثراء والارتباط بالمكان.

الرمل والجناس: الفريد من المتجانس

وشهدت اللحظة الأولى لـ«الحدث الشعري» تنوعًا إيقاعيًا نابعًا من تعدد الأصوات والشخصيات (الشاعر والنخلة)، حدث نوعٌ من التماهي بينهما في الأسطر الأخيرة لهذا القسم حين قال الصوت للــشاعر: «أنت والنخل سيان». هنا بدأت القصيدة تتحول إلى شخصية واحدة، فعبرت ثلاثة مقاطع بعد هذه الجملة عن النخلة، وحان الوقت الآن لكي تعبر الذات عن نفسها في القسم الثاني.

أهم ما يلحظ في القسم الثاني هو أن «الذات»، وقد اكتملت عملية التفاوض على الهوية البديلة، تتحدث عن نفسها بضمير المتكلم. يبدأ «الشاعر» تعريف نفسه بهذا المقطع: «أمضي إلى المعنى/ وأمتصُّ الرحيق من الحريق/ فأرتوي وأعُـلُّ من ماء الملامِ».

إن قصيدة يطغى عليها الجناس إلى درجة كبيرة كهذه القصيدة عليها أن تلفت الانتباه إلى أنها، في ما يبدو لفظيًا وزخرفيًا للوهلة الأولى، تعد المعنى مقصدها الفني الذي تمضي إليه فلا تفصل بين الشكل والمضمون، ولذا فليس بلا دلالةٍ أن تتكرر جملة «أمضي إلى المعنى» ثلاث مرات. وعلى عادة القصيدة في تأكيد تأسسها على عناصر ثقافية غير مصطنعة (محلية أو تاريخية)، تلجأ هنا إلى استخدام عبارة «ماء الملام» لتفتح من خلالها نافذة تحيل إلى المدونة الشعرية الأكثر تمثيلًا لفكرة امتزاج الشكلي بالمعنوي: مدونة أبي تمام.

إن القصيدة هنا تحيل، في لقطة فنية سريعة، إلى قصة أبي تمام (231 أو 232 هـ/ 845 أو 846 م) المشهورةِ في كتب التراث، حينما أرسل إليه أحدهم كأسًا يطلب فيها شيئًا من «ماء الملام»، كناية عن استنكار الأسلوب «المحدَث» الذي كان أبو تمام ينسج على منواله في مثل قوله: «لا تسقني ماء الملام فإنني … صبٌّ قد استعذبتُ ماءَ بكائي». فرد عليه أبو تمام بطلب ريشة من جناح الذل، إحالةً إلى الآية القرآنية الكريمة: «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة». يمثل أبو تمام هنا الأب الفني للهوية الشعرية المحتفية بالمعنى، وبأشكال الفنون اللغوية التي يمثلها الجناس في هذه القصيدة.

لقد كان أبو تمام، بحسب سوزان ستيتكيفيتش في كتابها عن أبي تمام والشعرية العباسية، يوظف الأشكال البديعيةَ بشكل ميتاشعري لتشفير الممارسة الشعرية الجاهلية، ولتأويلها بشكلٍ تستوعبه الحاضرة العباسية الجديدة، كما يؤهلها لأداء دورها الأسطوري الذي يحفظ لها استمراريتها ضمن التقليد الشعري التراثي. وفي «موقف الرمال موقف الجناس» توفر عبارة «ماء الملام» للتقنية البديعية المتمثلة في الجناس قوةَ تشفير شعرية أبي تمام الحداثية فنيًا، فتدخل قصيدة الثبيتي في حالة حوارية إليوتية طرفاها الموهبة الفردية والتراث، في الوقت الذي تحافظ فيه على استمراريتها في التقليد الشعري، مؤكدةً على علاقة تشابه بينها وبين سابقاتها، تتأسس على فلسفة الجناس التي تنتج المعنى الجديد من اللفظ المكرور، والمتفرد من المقلـَّـــد.

إن إحالة «موقف الرمال» إلى أبي تمام تندرج ضمن ميتاشعرية إحالية أكبر يتأسس عليها النص، وهذا النوع من الميتاشعرية كان التقنية البارزة التي وظفها الشاعر العباسي لإبراز حداثة نصه الشعريّ، كما تقترح هدى فخرالدين في كتابها الصادر مؤخرًا Metapoesis in the Arabic Tradition. هنا يتبدى الوسط الفني للقصيدة بحد ذاته تعبيرًا ميتاشعريًا وترميزًا لحالة حوارية بين الشاعر وسابقيه، وهذا يحوِّل الفعل الإبداعي إلى عملية قراءة تأويلية. في نص الثبيتي، نحن بصدد ميتاشعرية إحالية إلى ميتاشعرية إحالية أخرى هي نص أبي تمام، فهو بالتالي يمثل نص الميتاشعرية المزدوجة.

إن النص يوظف عناصر من التراث لتعريف هويته ممثلة في رمزه الإبداعي: الشاعر، وبهذا يحقق لهذه الهوية عمقها التاريخي. وفي تأسسه على الجناس تحديدًا، يفصح النص عن «موقف» من الوجود (لنتذكر العنوان: «موقف» الرمال) يمنح المبدع إمكانية اكتشاف الصقيل في المطمور والفريد في المتجانس؛ فمثلما يمكن أن تولد تجربة شعرية جديدة من الاحتماليات الفنية التي لم تزل كامنة في الجناس بشكلٍ يعيد إحياء «الإبداعي» في «البديع» على رغم انطماره تحت ركام التقليد، فكذلك يمكن أن تتولد الرمال، التي تبدو متشابهة ظاهريًا كتشابهِ الكلمات المتجانسة، عن ممكنات أخرى غير النفط، تتميز بالتواصل مع التجربة التاريخية للجماعة المتخيلة، وبالقدرة على الإبداع من داخل هذه التجربة.

ولكن: كيف يقوم الجناس بإنتاج المعنى هنا؟

النخلة والشاعر: الجناس المفهومي

ما المقصود هنا بالجناس المفهومي على أية حال؟ إن النص يقوم على استعارة كبرى يمكن اختصارها في عبارة «الشاعر هو نخلة». هذه الاستعارة ليست لفظية بل مفهومية تنقل كامل مجال النخلة المفهومي إلى الشاعر والعكس. لقد تطورت فكرة الاستعارة المفهومية ابتداءً من نشر جورج لاكوف ومارك جونسون لعملهما الريادي Metaphors We Live By. يقوم عملهما على فكرة مركزية تقول بأن الاستعارة ليست ظاهرة لفظية/لغوية، بل هي عملية ذهنية تقوم على أساس إبدال مجال مفهومي بآخر، وهي موجودة في لغة الكلام العادي أساسًا. أدت هذه الفكرة إلى تطورات مماثلة في النظر إلى الاستعارة الأدبية تكفلت بها تحديدًا الشعريات الإدراكية التي تأسست على العمل الرئيس لروفن تسور Reuven Tsur : ما الشعريات الإدراكية؟ ?What Is Cognitive Poetics.

فيما يتعلق بنص الثبيتي، يمكن القول بأنه نتيجة للتركيز على الاستعارة المفهومية «الشاعر هو نخلة»، أصبحت فكرة التشابه الفيزيائي التام بين العنصرين «الشاعر والنخلة» مركز جذبٍ أسلوبي في النص، ومن هنا كان لا بد أن تظهر «ملامحُ» شكلية تجسد هذا التشابه بينهما. جاء الجناس هنا ليكون بمثابة ملامح الوجه التي تظهر على المساحة الطباعية، لتؤكد بشكل ظاهري ملموس مدى التشابه بين «الطفلين» الشاعر والنخلة، كما تعبر القصيدة. ولأنه نابع من استعارة مفهومية فيمكن تسميته بالجناس المفهومي.

وحتى يهيئ النص لفكرة اعتبار الجناس في الألفاظ معادلًا شعريًا للتشابه الجسدي بين الفاعل الرئيس في النص وبين «الطفل» الآخر، أي النخلة، افتُـتحت القصيدة بإعطاء هذا الفاعل نفسه هوية قائمة على الأحرف المتفرقة:

«ضمني

ثم أوقفني في الرمالْ

ودعاني: بميمِ وحاءٍ وميمْ ودالْ».

إن الأحرف المتفرقة هذه دليل على أن هوية الذات تتشكل لغويًا، وبالتالي يكون التشابه في الأحرف بين صفاتها وصفات النخلة عن طريق الجناس دليلًا على تشابه الهوية بينهما، كما أن مساءلة تكوين القصيدة عن طريق الأحرف المتفرقة والجناس تعادل مساءلة تكوين صورة الهوية.

يمتد الجناس من هذه البداية حتى نهاية القسم الأول، ويظهر بشكل جزئي في القسم الثاني، حين انتهت علاقات التشابه وأصبح الشاعر والنخلة سيان. هذه عينة لمواضع الجناس الكبرى الرئيسة:

«أنت والنخل فرعانِ

أنت افترعت بنات النوى

ورفعت النواقيس، هنَّ اعترفن بسر النوى

وعرفن النواميس»

«أنت والنخل صنوانِ: هذا الذي تدعيه النياشينُ

ذاك الذي تشتهيه البساتين

هذا الذي: دخلت إلى أفلاكه العذراء

ذاك الذي: خلدت إلى أكفاله العذراء»

«أنت والنخل طفلانِ: طفلٌ قضى شاهدًا في الرجال

وطفلٌ مضى شاهرًا للجمالْ»

ونتيجة لدور الجناس في ترسيخ التشابه بين الشاعر والنخلة، انتهى القسم الأول بالتماهي بينهما، فأصبحا شيئًا واحدًا:

«أنت والنخل سِـيَّـانِ: قد صرت ديدنهن، وهنَّ يداكْ

وصرتَ سِـماكًا على سـمـْـكِـهـِـنَّ، وهـُـنَّ سـَـماكْ»

أما القسم الثاني فإنه يختتم بالشاعر وهو يتبرم من المكان النفطي ممثلًا بالبارجة، التي قد تكون ناقلة بترولية، أو بارجة حربية أجنبية تحميها، كما يتبرم من الصورة الثقافية النمطية لهذا المكان ممثلة بمن يسميهم النص: الخوارج. تجانس بين «البوارج» و«الخوارج» يطرح عديد الأسئلة على رؤية النص لنوعية العلاقة بينهما:

«في ساحة العثراتِ

ما بين الخوارج والبوارج

ضج بي صبري وأقلقني مقامي…»

وحتى يقاوم هذه السردية النمطية المشوهة للمكان، يعمد النص إلى تقديم تعريفات جديدة للهوية عن طريقة اقتراح تسميات للحبيبة، أو للقصيدة بما هي الأساس الأبرز لثقافة المكان، بل هي الوطن، مذ كانت التسمية هي أول ما تعلمه آدم لتتحقق له هويته الإنسانية:

«فمضيت للمعنى: أحدق في أسارير الحبيبة كي أسميها

فــضاقت عن سجاياها الأسامي!

ألفيتها وطني

وبهجة صوتها شجني

ومجد حضورها الضافي مناي

وريقها الصافي مدامي»

بعد ذلك، يصل الحدث الشعري إلى ذروة اكتماله حين تنشق السماء عن مطر من غمام الشاعر، أي عن قصائد، وتتكثف رموز العالم الطبيعي/الثقافي في مقطع واحد يهطل عليه هذا المطر ليخلق العالم الجديد المحتفل بثقافة المكان. هذا هو المعادل الفني لفكرة إعادة إحياء الهوية المفقودة عبر الفن الشعري، أو كما يسميها الشاعر: «نشر ما انطوى» من رموز الهوية:

%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b6%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%b3«ونظرتُ في عين السما

فخبت شرارات الظما

وانشق عن مطرٍ غمامي.

للبائتين على الطوى

والناشرين لما انطوى

والناظرين إلى الأمامِ.

للنخل

للكثبان

للشيح الشماليّ

وللنفحات من ريح الصبا

للطير في خضر الربى

للشمسِ

للجبل الحجازيِّ

وللبحر التِّهامي»

مرة أخرى، تأتي النخلة في صدارة رموز الهوية البديلة، وهي رموز طبيعية يعززها الحدث الشعري ليس من أجل الاحتماء بها من المستقبل المجهول، بل من أجل الذهاب إلى المستقبل دون التفريط بها، ولهذا تؤكد القصيدة أنها لـــ«ـناظرين إلى الأمامِ».

تكثيف‭ ‬ختامي‭: ‬من‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النفطي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعده

أخيرًا،‭ ‬إن‭ ‬اعتماد‭ ‬مفهوم‭ (‬الحدث‭ ‬الشعري‭) ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬نص‭ ‬الثبيتي،‭ ‬وبعض‭ ‬النصوص‭ ‬الأخرى‭ ‬المجاورة‭ ‬تاريخيًا‭ ‬وجغرافيًا،‭ ‬يجدر‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يوفر‭ ‬تفسيرات‭ ‬أكثر‭ ‬إقناعًا‭ ‬لمركزية‭ ‬رموز‭ ‬العالم‭ ‬الطبيعي‭ ‬بالنسبة‭ ‬للرؤية‭ ‬الشعرية‭ ‬لتلك‭ ‬النصوص،‭ ‬ولمحورية‭ ‬الأدوات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بشكلها‭ ‬الفني،‭ ‬مع‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الشكل‭ ‬والرؤية‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬فصل‭ ‬تقني‭ ‬بحت‭ ‬لغرض‭ ‬الدراسة‭ ‬النقدية‭. ‬إن‭ ‬الحدث‭ ‬الشعري‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬المسافة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال،‭ ‬يأخذ‭ ‬مادته‭ ‬منهما‭ ‬ليبني‭ ‬عالمه‭ ‬الخاص‭ ‬المتأسس‭ ‬على‭ ‬منطق‭ ‬وجودي‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬أيٍّ‭ ‬منهما‭ ‬يتبدى‭ ‬في‭ ‬المنتج‭ ‬الشكلي‭ ‬النهائي‭. ‬إن‭ ‬نص‭ ‬الثبيتي‭ ‬ومجايليه‭ ‬لا‭ ‬يعبر‭ ‬عما‭ ‬سمي‭ ‬بـ«ثقافة‭ ‬الصحراء‮»‬‭ ‬كما‭ ‬اقترحت‭ ‬بعض‭ ‬القراءات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يفهم‭ ‬أنها‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬جوهرانية‭ ‬للأشياء،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬نص‭ ‬يصمم‭ ‬حدثًا‭ ‬شعريًا‭ ‬هو‭ ‬حدث‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬رموز‭ ‬المكان‭ ‬الثقافية‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النفطية،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تشكل‭ ‬الصحراء‭ (‬الكثبان‭ ‬هنا‭) ‬إلا‭ ‬جزءًا‭ ‬واحدًا‭ ‬منها،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الانطلاق‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬‮«‬الناظرين‭ ‬إلى‭ ‬الأمامِ‮»‬‭: ‬إحياء‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النفطي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ابتكار‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬النفطي‭.‬

وبالنسبة‭ ‬لـ«ـموقف‭ ‬الرمال‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬فلقد‭ ‬أسهم‭ ‬اعتماد‭ ‬الحدث‭ ‬الشعري‭ ‬على‭ ‬الجناس‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬مساحة‭ ‬نصية‭ ‬للتجسيد‭ ‬الفيزيائي‭ ‬الملموس‭ ‬للهوية‭ ‬الشعرية‭ ‬البديلة‭ ‬الملتحمة‭ ‬بالطبيعي‭ ‬ممثلًا‭ ‬أساسًا‭ ‬بالنخلة،‭ ‬كما‭ ‬وفر‭ ‬إحالةً‭ ‬إلى‭ ‬سمة‭ ‬فنية‭ ‬تعد‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬الشعرية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬في‭ ‬عصرها‭ ‬الذهبي‭. ‬

لم‭ ‬تعد‭ ‬النخلة‭ ‬مركزًا‭ ‬للهوية‭ ‬البديلة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬التجسيد‭ ‬الطبيعي‭ ‬لها،‭ ‬مثلما‭ ‬أصبح‭ ‬الجناس‭ ‬التجسيد‭ ‬الأسلوبي‭ ‬للتماهي‭ ‬بينهما؛‭ ‬وبسبب‭ ‬هذا‭ ‬التماهي‭ ‬لم‭ ‬تذكر‭ ‬النخلة‭ ‬في‭ ‬العنوان،‭ ‬بل‭ ‬ذكر‭ ‬الجناس‭ ‬بوصفه‭ ‬العنصرَ‭ ‬الثقافيَ‭ ‬المتماهيَ‭ ‬معها‭. ‬وبتوظيفه‭ ‬للتراث‭ ‬الشعري‭ ‬ممثلًا‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬الثنائي‭ ‬للقصيدة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬والتجربة‭ ‬البديعية‭ ‬لأبي‭ ‬تمام،‭ ‬والتراث‭ ‬الروحي‭ ‬ممثلًا‭ ‬في‭ ‬حادثة‭ ‬نزول‭ ‬الوحي‭ ‬والمواقف‭ ‬الصوفية‭ ‬للنفري،‭ ‬وبإحالته‭ ‬إلى‭ ‬الأدوات‭ ‬الفنية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬ممثلةً‭ ‬في‭ ‬تنويعات‭ ‬التفعيلات‭ ‬العروضية‭ ‬والجناس،‭ ‬عمّق‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬جذور‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬البديلة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬مارس‭ ‬فيه‭ ‬الاختلاف‭ ‬الإبداعي‭ ‬عنها‭. ‬لقد‭ ‬قام‭ ‬النص‭ ‬بتفريغ‭ ‬طاقات‭ ‬المكان‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬مساحة‭ ‬الورقة،‭ ‬فكثفها‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬شعرية‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬حث‭ ‬الجماعة‭ ‬المتخيلة‭ ‬على‭ ‬‮«‬نشر‭ ‬ما‭ ‬انطوى‮»‬‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬المكان‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تتأسس‭ ‬عليها‭ ‬هويتها‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النفطية‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬محورًا‭ ‬لقصيدة‭ ‬أصبحت‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬الشاعر،‭ ‬حين‭ ‬ضاقت‭ ‬به‭ ‬الطرقات‭ ‬فلجأ‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬لاقتراح‭ ‬تسمية‭ ‬جديدة‭ ‬للقصيدة،‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬لاقتراح‭ ‬هوية‭ ‬جديدة‭ ‬أساسها‭ ‬المكاني‭ ‬هو‭ ‬النخلة،‭ ‬وأساسها‭ ‬الثقافي‭ ‬ـ‭ ‬الفلسفي‭ ‬هو‭ ‬الجناس‭. ‬