من احتلال الأرض إلى تحوّلات النص

من احتلال الأرض إلى تحوّلات النص

صنع الله إبراهيم

مما لا شك فيه أننا إزاء عنوان رئيس يبتغي دلالة شمولية، تنسحب على متن كبير ومتعدد ومتنوع، اتّخذ أولًا، من قضية فلسطين، الأرض التي اغتصبها اليهود الصهاينة وفرضوا فيها دولة إسرائيل منذ سنة 1948م، موضوعَه. وثانيًا، اختص بهذا الموضوع كليًّا بلسان وإبداع الفلسطينيين داخل التراب المحتل وخارجه فيما سُمِّيَ بالشتات، واصطلح عليه أدب المقاومة الفلسطينية، أي اصطلاحًا موضوعاتيًّا بالدرجة الأولى، ذا بعد سياسي قبل كل شيء، متفاوت القيمة، ويشفع له غرضُه كل هنة ليغلب عليه. ثالثًا، يغطي عنوان الملف بعد ذلك كل ما كتب في الأدب العربي من المحيط إلى الخليج، تحت تأثير هزيمة وما سمي (نكسة حزيران) لسنة 1967م، تجاوزت مصر لتستقر في الواقع السياسي ووجدان الشعوب العربية إحساسًا بهزيمة شاملة، وتدقَّ ناقوسَ خطر بشأن وضع أمتنا ومصيرها من جميع النواحي، وتهزَّ كثيرًا من القلاع والمفاهيم الفكرية والأيديولوجية.

لنسجل أيضًا أن التصنيف أعلاه يتَّبع خطًّا زمنيًّا، وتبعًا لهذا ينطبع بسِمة الموضوع ومقتضى الغرض، ما ينسجم مع التسمية العامة/الشعار: «الصراع العربي الإسرائيلي» نعلم أنه مرّ بأطوار، وشهد أحداثًا جِسامًا وتشعّبات وتقلّباتٍ هائلة، نقول باختصار: إنها رسّخت الاحتلالَ والاستيطانَ على حساب مزيد من طرد الفلسطينيين وتضييق سُبل عيشهم، وضرب فُرص السلام المنشودة لإقامة دولتهم، نجم عنه أن زادت من حدة الصراع على الصعيد العربي، ليصبح المحورَ الأول لأزماته الخارجية، وتكاد علاقاته الدولية تشترط به. لا بأس لو قلنا بأن وصفَ ما بيننا نحن العرب والكيان الصهيوني بـ(الصراع) ينطوي على خفوت في المعنى وتخفيف من حدة نزاع يتسم اليوم بالديمومة ويبدو كأنه واقعٌ شبه مقبول وقد ترسّخ الآن في ذاكرة أجيال أو يزول من البال، كذلك حضوره في التعبيرات الرمزية منها الأدب يُرى وهو ينتقل من حالته الساخنة إلى فتور، ومن المفارقة، وبسبب (استقراره) بات توثيقُه ودرسُه وتقويمُه ذا مشروعية وصدقية كُبريين، وبعيدين من تأثير العاطفة والتأسِّي، وبخاصة أن الإبداع الأدبي العربي، بعد النكسة أضحى منطبعًا جزءًا وكلاًّ بنزاعنا مع إسرائيل وربط كل الخسارات والخيبات العربية، بشكل وبآخر، بها، حدًّا يمكن معه القول: إنه بكائيةٌ، أو مرثيةٌ طويلة للذات العربية، هي الطلليات الحديثة، مقابل طلليات شعر الجاهلية. لا يفوتنا الإلماع في مختصر هذه القراءة، لا يسمح نطاقها الضيق بأي توسّع، إلى توجيهه الحاسم، ولو غير المباشر، لإحساسنا بالفقد والخسارة، في توليد ثيمات جديدة في أدبنا، وبلورة رؤى وموضوعات وهواجسَ صار الفردُ تدريجيًّا في قلبها، وبالعلاقة الحيوية بين المضمون والشكل، اكتسب الأخير خصائصَ مستجدّة تمثل راهنًا كيانيتَه الحديثةَ والحداثية.

أدب المقاومة

سعد الله ونوس

أصبح أدب المقاومة اليوم وراءنا، جزءًا من تراث الأدب الفلسطيني، بين الداخل والمنفى، له أعلامه المشهورون، جلهم رحلوا، منهم: فدوى وإبراهيم طوقان، وتوفيق زياد، وإميل حبيبي، وغسان كنفاني، وسميح القاسم، ومحمود درويش. درويش بالذات من أعطى لهذا الأدب الشرعية والهوية بقصيدة اشتهرت وصارت عنوانًا لأدب ومرحلة (سجِّل أنا عربي!) في ديوانه «أوراق الزيتون» 1964م السنة التي تأسست فيها منظمة التحرير الفلسطينية لتتحول القصيدة إلى ما يشبه بيانًا سياسيًّا بصيغة شعرية للمنظمة وهوية لفلسطين. عمَّر أدبُ المقاومة طويلًا، وصار سلاحَ مواجهةٍ ورسالةً نضالية، وانتشر في البلاد العربية واستنسخه أدباؤها روحًا ومعجمًا ومضمونًا فيما عدُّوه معركةً قومية ضد إسرائيل. ثم ما لبثت الذائقةُ الفلسطينيةُ والتلقِّي النقدي أن تبدلا جذريًّا، ضَجَرا من أدب عُدّ غثا ورتيبًا، خصوصًا تصنيفُه نضاليًّا ملتزمًا ومتسامَحًا معه، بوصفه أدبَ القضية، أي دون المرتبة الإبداعية، وهو ما عبر عنه محمود درويش نفسُه بصرخته: «أنقذونا من هذا الحب القاسي!» (1969م) داعيًا إلى تحرير الشعر الفلسطيني من إسار الأيديولوجي واللحظة السياسية، ورفض تبجيله بهذه الصفة ليلتحق بسيرورة إبداعية هي الرهان، وهو ما مثّل بعد عامين على هزيمة 1967م نقطة تحول في شعره، وفي سياق التغيير الجوهري الذي امتد إلى الإبداع العربي برُمّته، عندما هزمت إسرائيل العرب جميعًا وأحسوا بهوان جماعي.

يمكن القول انطلاقًا من هذه الحقبة بمعطياتها الموضوعية، وارتداداتِها النفسية والاجتماعية: إن صراع العرب مع إسرائيل وحلفائها، عرف على صعيد الكتابة الأدبية، شعرًا ومسرحًا وروايةً خصوصًا تحوّلًا جذريًّا، ومكانيًّا، أولًا، لم يعد مركزه الجغرافيا الفلسطينية المحتلة وحدها، إذ امتد أبعد منها إلى مصر وسوريا والأردن مباشرة، والبلدان العربية قاطبة. ثانيًا، أحدثت الهزيمة في إطار الصراع تغييرات في الرؤية والمنظور والفهم والمعالجة الفنية، عمومًا في مفهوم الأدب من حيث وظيفته ومادته وعوالمه وتبعًا لذلك طرائقه، مما يطول شرحه. لنقل بإيجاز شديد بأن صراعنا مع الكيان الصهيوني انتقل من محنة اغتصاب التراب الفلسطيني، إلى فاجعة انهيار داخلي، هزَّ البنيانَ العربيّ في الصُّعُد كافة، ومنها الأدب، الذي فقد تماسكَه الواقعيَّ والموضوعيّ الفجّ والواثق، ليتشظّى في موضوعات شتى، وتتعدد أنْويتُه وتحتل فيه الأنا الفردية والهامش والغُفل مكانَ الصدارة عوض القيم الثبوتية الجماعية، التي أدت في النهاية إلى الهزيمة والخسران.

عز الدين المدني

لقد جعلت الهزيمة بتبعاتها أدبَنا وثقافتَنا عامة، تعيش أزمة وجودٍ وقلقٍ خلخل ثوابت واقتناعات راسخة، وقاد إلى مراجعة الأيديولوجيات والثقافة المهيمنة، تكسرت على صخرة الهزيمة وخيبة أمل مريرة من الحاضر والمستقبل. أدبيًّا، تحديدًا، انبثقت حساسيات غير مسبوقة، في الرواية، بمصر خاصة. انتقل فيها الإحساس بالتمزق والتشتت من المجتمع إلى النص، وأدى اختلال القيم في العلاقات إلى تفكك البنية الواقعية التي سادت سرد التخييل طويلًا، برزت معها خطابات تحررت من النزعة التقريرية، التبشيرية، وانتقدت السلطة الاستبدادية المركزية (الناصرية) واحتفت برؤى ملتبسة، مغتربة، متموِّجة، للفرد وتذبذبه وهواجسه عوض هيمنة الهم الجماعي باسم الواقعية. ليس أفضل من أعمال نجيب محفوظ أبي الرواية العربية، وصنع الله إبراهيم وإدوار الخراط لالتماس ملامح هذا التحول. في القصة القصيرة يُتوّج بنصوص إبراهيم أصلان ومحمد البساطي، ومحمد زفزاف في المغرب، مع آخرين بالطبع. في المسرح قدّم سعد الله ونوس نموذجًا فريدًا مَثّل انعطافًا في الدراما العربية، في مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» بناها على قاعدة «تغيير وتطوير عقلية وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لأمتنا». ما قاده إلى تجاوز القالب المسرحي لزمانه واستعارة حكايات وشخصيات من التراث في صورة قناع ووسيط إبدالي لتعرية عيوب الحاضر والتشهير بالسلطة، وفضح العجز العربي بمقت وسخرية. كذلك فعل ممدوح عدوان، ومثلهما أقوى عز الدين المدني في تونس، والطيب الصديقي في المغرب.

روح استنهاض الأمة

الطيب الصديقي

أما الشعر، فيحتاج إلى وقفة مستقلة، حسبنا القول: إن حركة تحديثه انبثقت وتفاعلت في خضم أحداث وتغيرات المشرق العربي في سياق اغتصاب الصهاينة لفلسطين، وظروف الزمن الاستعماري وإكراهاته. هل من شك في أن هذا الاغتصاب جرى في حقبة غياب السيادة العربية واستضعاف العرب، وهو ما ولّد مبادرات وأفعالًا سياسية وثقافية، تقابل أو تماثل إلى حد ما سبقها قبل نصف قرن في خضمّ الهجمة الاستعمارية والوعي بضرورة النهضة. أجل، تشكل الشعر العربي الحديث وتجدد بروح استنهاض الأمة والبحث عن مصير جديد. شعرٌ إذ يعانق القضايا المصيرية، انبجس أولًا من معين الذات الفردية وعبَّر عن تباريحها. بذا، كان الشاعر لسان الجماعة، وذاتَه في آن، وهو ما دفعه إلى تطوير أدواته لغةً ومعجمًا وإيقاعًا وبلاغة. أُعدّ ما حدث في الشعر المغربي جزءًا من حركة التحديث وإعادة التأسيس هذه، وجدت نموذجه الأمثل في شعر أحمد المجّاطي. تُجسد قصيدته «القدس» ـ همُّنا وجرحُنا العربي الراهن ـ مثالًا بليغًا لقوة الالتزام بالقضية، ولحداثة النص الشعري كذلك.

فدوى طوقان

لا يختلف اليوم عن أمس في موقع الاحتلال الصهيوني للأرض العربية من ناحية المقاربة الأدبية إلا في الدرجة والمنظور. لقد كبُر العداء وعمّ في كتابات أدبائنا، وتحولت إسرائيل بؤرة في كراهيتنا لكل ما يعادي مطامح أمتنا، بل تماهت كجرح غائر مع مطالب الشعوب الأساس، لم تبق موضوعًا مفردًا لتصبح إحدى خلايا سرطان التخلف والخراب والاستبداد العائمة في الجسد العربي، الكاتب الفلسطيني يظل لسان القضية الجهير والمنتظم، روائيًّا خاصة (يحيى يخلف، مثالًا). وارتقت المعالجة فنيًّا إلى مستوى صور الاستعارات والخيال ولغة المجاز والتخييل الصّناع، حيث تأتلف الذات بموضوعها وتغدو الكتابة محفلًا لجرحها. لا مناص في النهاية من القول بأن خفوت نزعات العروبة والقومية، وتَصدُّر الخطابات الظلامية، وأشكال عنفها المدمر، وأوضاع الحرمان في العالم العربي، مع ما شهدناه في السنوات الأخيرة من هزات مثيرة وربيع سرعان ما أفل، وما هو في حال سيرورة ومجهول؛ كاد كل هذا ينقل الصراع مع إسرائيل في الإبداع العربي إلى الخلف حتى التواري، لكن من طبيعة الأدب الكمون؛ لذلك سيبقى اغتصاب الصهاينة لحق العرب في قلب أدبنا.

إيمانويل ماكرون.. رئيس لزمن سياسي جديد

إيمانويل ماكرون.. رئيس لزمن سياسي جديد

لن نبالغ إن قلنا: إن فرنسا تعرف مع انتخاب رئيس الجمهورية الجديد إيمانويل ماكرون أهم ثالث حدث مر حتى الآن في تاريخ ما يسمى «الجمهورية الخامسة» التي دشنها الجنرال شارل ديغول في نهاية يونيو من سنة 1958م بعد الاستفتاء الذي أوصله إلى الحكم وخول له سلطات واسعة، جعلته يقود البلاد باسم اليمين الجمهوري. الحدث الثاني هو وصول فرانسوا ميتران إلى قصر الإليزيه في مايو 1981م، في محاولته الانتخابية الثانية باسم اليسار الفرنسي، والحزب الاشتراكي تحديدًا، ليسقط هيمنة اليمين ويزيح خصمه الرئيس فاليري جيسكار ديستان، ويبقى رئيسًا في سباعيتي حكم متواصلتين انتهت في مايو 1995م، ليسترجع اليمين من جديد قصر الإليزيه في شخص الرئيس جاك شيراك. وتستمر دورة الرئاسة بعد ذلك منتقلة إلى ساركوزي، اليميني دائمًا، ينتزعها منه فرانسوا هولاند باسم الحزب الاشتراكي.

الحدث الثالث في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا، لن يمس بطبيعة الحال مبدأ ونمط تداول السلطة المعتاد منذ سنة 1958م بين القوتين السياسيتين الكبريين في المجتمع الفرنسي، ممثلتين بما سيصطلح عليه اليمين الديغولي، كتلة متجانسة من عدة أطراف، واليسار قوة مكونة من قوتين أساسيتين ببرنامجين مختلفين، الحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي، اللذين تحالفا سنة 1981م حول برنامج واحد للحكم. يتمثل الحدث الثالث بقوة وإثارة غير مسبوقة حقًّا، في وضع حد لما كان يبدو لدى أهل السياسة، والرأي العام في فرنسا بمنزلة تحصيل حاصل، نعني حصر تداول السلطة بين هاتين القوتين وحدهما، ودوام احتكارهما لمنصب رئاسة الجمهورية، ومنه الأغلبية البرلمانية التي منها تتشكل الحكومة التنفيذية الموالية غالبًا للرئاسة. نعم، لقد وُجد دائمًا يمين ووسط، وتبلور يمين متطرف، وكذلك يسار متطرف، حاول كل منهما تقديم بديل للمتداولين، ولم ينجح فيه قط، إلى هذه الانتخابات الرئاسية التي عاشتها فرنسا في عامنا هذا، وأنجبت رئيسًا للجمهورية لم يكن بتاتًا في وارد أي تكهن أو حساب مطلقًا لدى المكونات السياسية المعروفة، بأيديولوجياتها ومراكز نفوذها وتجذرها التاريخي وتمثيلياتها الشعبية الراسخة، على امتداد ما يربو على نصف قرن.

هل كان الرئيس فرانسوا هولاند، وهو يدعو الشاب ماكرون، وهما في حفل عشاء ببيت صديق مشترك، ليلتحق به أمينًا عامًّا مساعدًا في قصر الإليزيه، قبل عامين فقط، وليعينه بعد عام في فرصة اهتزاز وتمرد لجناح من الاشتراكيين ليحل محل وزير الاقتصاد المتمرد مونتبورغ؛ هل كان هولاند عندئذ يحسب لحظة واحدة أن هذا الشاب الخجول، المتكتم، إنما المسلح بتكوين جامعي صلب، ويمتلك أسلوب عيش خصوصي، ويعرف كيف يحرق المراكب دون دخان، هو نفسه من سيودعه في نهاية مدته الرئاسية بمدخل قصر الرئيس، هو يغادر إلى الشارع العام، والنزيل الجديد، ماكرون، يدلف بدلًا منه إلى عرين الحكم، لا، ليس هذا وحسب، بل إنه يدخل إلى قصر الإليزيه فوق حطام القوتين السياسيتين التقليديتين للبلاد، اللتين انهارتا معًا، وخسرتا في وجه مجموعة سياسية غُفل وحديثة التأسيس تسمى حركة «إلى الأمام» أخطر رهان سياسي، وهي التي لم تَر النور إلا في يوليو من العام الماضي، ويحصل مؤسِّسُها وفريقه الصغير على أكثر من عشرين مليون صوت ناخب، ونسبة 66% من أصوات الناخبين في الدورة الانتخابية الثانية حول الرئاسة، مقابل 33% ونيف لحزب اليمين المتطرف بزعامة ماري لوبين الذي كان شبحه يهدد حقًّا بالفوز.

الطريق الملكي

يحتاج الأمر إلى عرض معطيات كثيرة لفهم ما جرى. لنختزل قائلين: إن هذه الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة جدًّا عبرت في الزمن المنفلت لخسارة مشاريع القوى السياسية الكبرى، وعجزها عن تقديم حلول ناجعة في ميادين الاقتصاد والتعليم والشغل، ولتخبطها بين اختيارات ليبرالية واشتراكية هجينة وتلفيقية، وخصوصًا لأن الفُرقة دبَّت في أوصالها التنظيمية، ففقدت البوصلة، وفتحت هشاشتها الطريق «الملكي» لماكرون؛ كي يعبر ويدخل اليوم إلى قصر الإليزيه دخول الفاتحين. في جعبته، وهذا ما يحتاج إلى وقفة خاصة، برنامج عمل سياسي اقتصادي، جريء وصادم، ليبرالي في جوهره، واشتراكي واجتماعي وديمقراطي في خططه ومنهجه الإصلاحي. وضعته نخبة خلفية من اقتصاديين وأرباب عمل ومقاولات كبرى، و«أوليغارشية» جديدة مضادة لأخرى سابقة عليها، تريد العمل على رأب الصدع بين رأس المال والفئات الاجتماعية المتضررة، واستمالة الطبقة الوسطى، واستيعاب مطامح جيل جديد لم يعد يجد في اليمين واليسار التقليديين مكانًا ولا تعبيرًا عن آماله وثقافته الجديدة العولمية. هذا الجيل الذي انجذب إلى فتوة ماكرون، وامتلاكه لشجاعة المبادرة وخلخلة البناء التقليدي «الإستبلشمان» هو الرصيد الشعبي الأكبر الذي يراهن على ربح المستقبل، وعلى البقاء في الاتحاد الأوربي، والحفاظ على عملة موحدة (الأورو)، وجعل فرنسا تسترجع مكانتها في سياق العولمة.

خلافًا لما ذكره بعض بتسرع وعدم فهم، فإن الرئيس الفرنسي الجديد لم يأت من عدم، بل هو من سلالة سابقيه، ومر بسلك التدريس والتكوين الذي عبر منه الرؤساء السابقون جميعًا تقريبًا، لا بأس من الإشارة إلى بعض العناصر والمعلومات التي تفيد في معرفة الشخص والشخصية والمسار وتبلور المشروع الذي هو قيد التكوين، أي لم يكتسب بعد هوية واضحة، وله اتصال وامتدادات في شعاب شتى من المجتمع ومكوناته الاجتماعية والاقتصادية والعرقية والثقافية والدينية، ولا شك في أن المسلمين وذوي الأصول العربية، مَشارِقة، وخصوصًا مغاربيين، في قلبها. وهو في التاسعة والثلاثين يستطيع إيمانويل ماكرون أن يفتخر بأنه حصل على الثانوية العامة في ليسيه لوي لو غران بباريس، الذي يعد من أهم مشاتل إعداد النخبة الفرنسية بأقسامه التحضيرية التي تهيئ لولوج المدارس العليا، وليس الجامعة المفتوحة للجميع، عبر مباريات صارمة، ومنها الالتحاق بأقسام التكوين التي تقود إلى قيادة المصالح الإستراتيجية للدولة. هكذا التحق من الليسيه بمعهد العلوم السياسية الباريسي، الرفيع، وبعده بالمدرسة الوطنية للإدارة، شأن أسلافه جيسكار وشيراك وهولاند، وبعد التخرج رأسًا إلى وزارة المالية مفتِّشًا للضرائب، وهو تقليد لدى كبار الخريجين، ليختطفه بنك روتشيلد الشهير، ويصبح من كبار أطره في مدة وجيزة حقق له مكاسب مالية ضخمة، فلمع نجمه في الوسط المصرفي ومجتمع ما يسمى بصيادي الكفاءات، وقد أشرنا للمصادفة التي حملته إلى العمل بجانب الرئيس السابق هولاند، وكانت أول خطوة له في طريق الحكم. هي إذن أرضية صلبة نشأ فوق أديمها هذا الشاب الذي بعد أن أثبت كفاءته، وجد من يشحنه بطاقة جديدة ولمشروع لم يكن في الحسبان.

نعم، هو سليل المدرسة القديمة، وفي الوقت نفسه ابن جيله، واختطَّ له طريقًا يلائم مواهبه واستعداداته. فنيًّا، هو عازف بيانو، وهاوي مسرح، وقارئ دؤوب، بل مؤلف، وكم مرة أفصح أن قرة عينه في كتابة الرواية. ليس غريبًا والحال هذه أن يختاره الفيلسوف الهرمونيطيقي الفرنسي بول ريكور ليتخذه مساعدًا له في تنظيم أرشيفه وإعداد محاضراته، أمضى سنة بجواره، ولا شك أنه تعلَّم الكثير من هذا الأستاذ الذي ترك فرنسا وأصبح من أعلام الجامعات الأميركية، خلال الثمانينيات والتسعينيات. هكذا تظهر صورة أخرى للرئيس الجديد، بسيما المثقف والفنان، والشغوف بتحديث بلاده وتوثيق عُراها بروابط التقدم والنمو العالمي. هذه القيمة المُضافة تربطه بفرانسوا ميتران، الرئيس المثقف بحق، الذي لم يكن يفوته أسبوع من دون أن يطرق مكتبات الحي اللاتيني وهو رئيس، يمشي إليها بقدميه ويقتني كتبه شأن أي قارئ عادي.

إلحاح على العلمانية

هي ثقافة قانونية، وسياسية، وإدارية، واقتصادية، وأدبية، وفلسفية، وفنية، تكاد إذن، تصبح موسوعية، على غرار المثقفين الفرنسيين الكلاسيكيين، يمتلكها هذا الرئيس الـشاب، ولنقل: إنها من نسغ ليبرالي، متعدد ومتفتح ومستنير. وهو ما يجعله في خطبه وتصريحاته وأوراقه الصحفية، لا يمل ولا يكل من الإلحاح على اللائكية (العلمانية)، وعدّها النهج الفكري والحياتي والثقافي الأنسب لفرنسا، والضامن لتعايش واحترام مكوناتها العرقية والدينية والفكرية المختلفة. وخلال حملته الانتخابية تعرض لتشنيع وتهجم من اليمين المتطرف وخصوم غيره، بدعوى أنه يُمالئ الطوائف الدينية، ومنهم المسلمون خاصة، وربط هذا الاتهام بشبهة الإرهاب، الوصمة التي أضحت لصيقة اليوم، من أسف، بالإسلام والمسلمين في الغرب. كان ماكرون قد تعرض لأول هجوم عاصف من القوى اليمينية حين ندد بالحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، وأقر بضرورة الاعتراف بضراوة هذا الاستعمار، واعتذار فرنسا عنه، وهو ما يمثل خلافًا كبيرًا داخل الدولة الرسمية وبين الأحزاب مجتمعة. يعدّ تبني علمانية الدولة، الذي ينهض على الفصل بين هذه والأديان، والمسألة الدينية عمومًا، حسب القانون الذي أقر منذ سنة 1905م وبناء عليه يُتعامَل مع جميع الأديان، هو منطق ماكرون وحركة إلى الأمام، والمسلمون مشمولون به، وحقوقهم الدينية وشعائرهم مرعية وفقه، خلافًا لمناهضة اليمين المتطرف وعنصريته، أو نفاق اليمين التقليدي الذي كثيرًا ما يمنع عمداء مدنه على المسلمين توفير مسجد وأماكن عبادة لائقة. بل إن موجة الإرهاب التي ضربت فرنسا تسببت لدى الاشتراكيين أنفسهم في خلط الأوراق من هذه الناحية، ليصبحوا بدورهم وباسم مكافحة الإرهاب مناوئين. عند ماكرون فإن اللائكية هي صمام الأمان ومقياس التعامل مع الدين وأهله.

ويبقى ملف الهجرة والمهاجرين خاضعًا لمقاييس اقتصادية محضة، ولسوق العمل، من  دون وجود أي توجيه سابق ذي طابع وطني أو شوفيني، متعصب، كما هو الشأن مع اليمين المتطرف الذي يدعو إلى إغلاق الحدود، والتضييق على الحقوق المدنية للأجانب وحرمانهم مكتسبات عديدة بشكل عنصري سافر، باسم حق الفرنسيين أولًا.

المشهد الفرنسي مفتوح على احتمالات كثيرة

الآن، ينبغي لنا أن ننتظر نتائج الانتخابات التشريعية في يونيو المقبل، التي ستسفر عن ولادة البرلمان الجديد وبأغلبية غير السابقة حتمًا، لا أحد قادر أن يتكهن من سيحصل عليها. هل سيتمكن ماكرون، الذي نقل حركته إلى مستوى حزب سماه «الجمهورية إلى الأمام»، وبها سيخوض هذه الانتخابات بتحالف مع حزب الوسط لزعيمه بايرو، وعلى جناح من اليمين الديغولي ممثلًا في عمدة بوردو آلان جوبي، وفئات ممثلة للمجتمع المدني غير مسيَّسة على الإطلاق، ويأمل التوافر على أغلبية تتيح له تطبيق برنامجه الرئاسي، أم هو اليمين الديغولي، الممثل في حزب «الجمهوريون» الذي خسر مرشحه فيون في الدورة الأولى للرئاسيات، ويبدو الرئيس السابق ساركوزي من يقوده خفية؛ الحزب الذي يدفع بالسيناتور فرانسوا باروان رأس حربة في حملته للانتخابات التشريعية، ويعول على حصد أغلبية البرلمان، وبذا يستطيع تشكيل الحكومة وفرض برنامجه على رئيس الجمهورية، وهو رهان صعب يريد من ورائه الديغوليون التقليديون المتشددون أن ينتقموا لخسارتهم، ويعيدوا ساعة فرنسا إلى الوراء، أو إلى مربع ما قبل ماكرون.

هكذا، يتبدى المشهد السياسي في فرنسا مفتوحًا على احتمالات شتى لهندسة شكله وتركيب فسيفسائه. غير أن ما لا يقبل الجدال، ولا يحتمل أي مناورة، هو أن فرنسا انتقلت إلى عهد حكم جديد، تفككت فيه الثنائية التقليدية، أو الزوج: يمين/ يسار، وانبثقت فيه قوى ليبرالية وسطية، ويسارية شعبية وشعبوية، زيادة على تنامي قوة اليمين المتطرف. مشهد سيعرف مزيد تفكك وإعادة بناء المجتمع السياسي بتشكيل تنظيمات مستجدة قادمة من قلب التنظيمات القديمة، وإن بأطروحات وبرامج تحاول أن تتلاءم مع الواقع الراهن، الداخلي والأوربي، والعولمي، ومن المهم أنها -أغلبها- تلتقي حول ضرورة الحفاظ على الوحدة، ودعم البناء الأوربي والعملة الأوربية الأورو، والمنافسة على الصعيد العالمي، وعلى مستوى المبادئ إنعاش قيم الجمهورية وتحصينها: الحرية والعدالة والمساواة. وهذا ما التزم به بقوة الرئيس إيمانويل ماكرون.