المؤرخ لا يلتفت إلى الوراء دائمًا، قد يتشوف إلى المستقبل أحيانًا

المؤرخ لا يلتفت إلى الوراء دائمًا، قد يتشوف إلى المستقبل أحيانًا

مدخل: يُنظر عادةً إلى علم التاريخ على أنه مستودع للخبرة البشرية المتراكمة عبر العصور، فهو السجل الخالد لنشاطات الناس وأعمالهم في الزمن الغابر، فمنه تُستلهم التجارب، وتُستنبط الحِكَم والأمثال، وتُؤخذ الدروس والعِبر. ومن هنا؛ جاء التلازم العضوي الوثيق بين التاريخ والماضي البشري، فارتسم في أذهان الناس أن مادة التاريخ هي القَصَص والأخبار، ووظيفته الوحيدة فقط هي سَرْد تلكم الأخبار واستخلاص ما فيها من عبر وعظات، فهو دائم الالتفات إلى الخلف. تلك نظرةٌ قد تُعبّر عن الأخبار أو القصص التاريخي، غير أنها تتقاصر حقًّا عن مفهوم التاريخ الذي يسعى إلى مَدّ نطاق الدرس التاريخي إلى استشراف المستقبل واستكناه ملامحه، من خلال قراءة الحوادث الماضية، ورصد معطيات الحاضر.

ربما سبق إلى الظن أن هذا هو المفهوم الجديد للتاريخ كما يتمناه الدارسون المُحدثون، غير أن فحص المصادر التاريخية يكشف أن قدامى المؤرخين المسلمين امتلكوا مهارة استشراف المستقبل، وقدّموا -في حالات مُعينة- رؤية استباقية لما ستكون عليه أحوال الأمة الإسلامية فيما بعد، منطلقين في ذلك من إلمامهم بقوانين الصيرورة التاريخية، ووعيهم التاريخي بواقعهم المعيش.

الإنسان وزمانه؛ ليست مُشاكلة ثقافية وإنما هي مُشكلة معرفية، باعثُها الأكبر تفاعل الإنسان مع بيئته، وسَعْيه الحثيث نحو السيطرة على مواردها. وقد أدرك مُبكرًا أنه لن يصل إلى غايته المنشودة إلا بالمعرفة، فمضى يجمع علم الأولين، وينظر في إمكانية العثور بين طياته على أجوبة لسؤالاته الراهنة. ثم لم تطمئن نفسه حتى أخذ يتطلع إلى اختراق حُجُب المستقبل، يلتمس آفاقًا جديدة لحياة أفضل، أو على الأقل الحصول على معرفة وقائية تقلّل من أخطار محتملة قد تتهدده في مشوار حياته المنظور. فماذا صنع؟

لقد جرّب (تقنيات) عدة للتنبؤ بمستقبله، والتسلل إلى الأمام، فمارس الكهانة، واستسلم للشعبذة، وضرب على الرمل، وزجر الطير، وتشاءم وتيامن، فلم يجد في ذلك ضالته المنشودة في استكمال وحدة زمنه بأبعادها الثلاث: الماضي، والحاضر، والمستقبل. وعبّر زهير بن أبي سُلْمى عن هذا اليأس المعرفي، بقوله:

وأعلمُ عِلْمَ اليوم والأمس قبله            ولكنني عن علم ما في غدٍ عمِ

ومع ذلك فلم تنتهِ محاولاته عند هذا الحدّ؛ بل استشعر إمكانية استدارة الزمن من خلال تناوب الفصول وتعاقب الكواكب، في حركة دائرية مستمرة، فاهتدى من خلالها إلى أن الضعف سيجيء من بعده قوة، وأدرك أن الكمال سيتلوه نقص، واشتق قيَمًا ومبادئ يحيا بها، لكنها لم تروِ ظمأه في ملاحظة المستقبل كأنه يراه. فأكبّ على أخبار الماضي مفتشًا فيها عما يصلح مقايسته بوقائع الحاضر، أو ترشيحه للاستيلاد مرة أخرى، فما أشبه الليلة بالبارحة.

صحيحٌ أن التاريخ لا يُعيد نفسه، ولكنه قد يعود إلى نموذج سبق أن تحقق يومًا. ومن هنا نشط المؤرخون إلى الاضطلاع بالمهمة التي كانت ولا تزال حُلمًا كبيرًا للإنسان، رغم قناعته باستحالة معانقته بكامل تفاصيله وتلاوينه، إلا في حدوده الدنيا التي يُمكن تصنيفها ضمن نطاق (الإرهاصات)، أو توقعات المرحلة المقبلة. وكان رائدهم في الاتجاه قناعة أصيلة بأن الزمن وحدة متماسكة، وأن الحاضر ما هو إلا نقطة التقاء الماضي بالمستقبل.

هنا؛ يظهر بُعدٌ آخر للتاريخ وأهميته في حياة الإنسان، ودوره في رصد قصة الحضارة البشرية وتمكينها من التجاوز. ولطالما افتأت كثيرون على دراسة التاريخ، وتساءلوا إما عن وظيفته الفكرية، وإما عن جدواه في حياتنا المعاصرة، أو عن قيمته العلمية. تلك تساؤلات مطروحة منذ مُدة، ولعلها تعكس أزمة للعلوم الإنسانية بعامة لا في التاريخ «التخصص» فحسب. غير أن النظر إلى مثل هذه التساؤلات من زاوية أخرى يكشف لنا أن «التاريخ» مجالٌ معرفيٌ مثيرٌ للجدل ولا يزال. ولا أدل على ذلك من أنك تجد كثيرًا من الناس يأكلون التاريخ ويشربونه ويتنفسونه ويتحدثون به في مجالسهم، ثم لا يتورعون عن انتقاصه «وظيفيًّا» رغم احتفائهم به «معرفيًّا»؟

إدراك رسالة التاريخ

لعل الخلل في ذلك يعود إلى تقصير قسمٍ من المؤرخين في إدراك رسالة التاريخ وتبيين مقاصده وأهدافه. ذلك أن المجتمعات قديمها وحديثها لا تستغني عن التاريخ ولا تستطيع أن تفعل! فما قيمة الإنسان وهو يأكل ويشرب ويلبس ويعمل ويمارس حياته اليومية، لكنه فاقدٌ للذاكرة! هو حتمًا غير سوي. وطالما وُجد في تلافيف العقل البشري جهازٌ للذاكرة، فسيظل التاريخ موجودًا في أذهان الناس وفي وجدانهم. ومن هنا؛ نعتقد أن للتاريخ أبعادٌ أخرى، لم يُعنى بها المؤرخون المعاصرون كما يجب. أو لعلهم تركوها تحت سطوة تكاثر التخصصات العلمية وتنوعها وتفرعها، فصارت ملتبسة في حقول علمية أخرى.

ينطلق المؤرخ اليوم في ممارسة عمله من مفهومه للتاريخ بأنه «السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه»(1). أي أن مجال عمل المؤرخ هو في أحداث الماضي فقط. ولا مراء في ذلك، فهذا حقٌّ لا شك فيه. وسواء أكان عمل المؤرخ في حوادث الماضي جمعًا ورصدًا (تاريخ)، أو تحليلًا وتدقيقًا واستنتاجًا (تأريخ)، فكلاهما يصنعان تاريخًا وإن اختلفت مناهجهما. وثمة تعريف آخر حاول مقاربة الحاضر في دراسة الماضي، إذ رأى «أن صياغة أحداث الماضي أو استدعاءها من الذاكرة، تتوقف على ما يطلبه الحاضر وما يرسمه للمستقبل»(2). فكأن التاريخ هنا حاجة معيشية، يأخذ منه الناس ما يحتاجونه معرفيًّا وذهنيًّا (وحقوقيًّا) فيستكثرون أو يقللون.

وإذا نحن مشينا خطوة ثالثة في هذا الاتجاه، لاحظنا أن هناك من يدمج المعرفة التاريخية ليس فقط بواقع الناس المعيش؛ بل بمستقبلهم المنشود، منطلقًا من فكرة «ترويض الزمن وتسخير ما مضى منه لخدمة ما هو حاضر منه وما هو آتٍ؛ إذ لا نستطيع معايشة الماضي في الماضي، أو المستقبل في المستقبل، بل نعايش الماضي والمستقبل في الحاضر»(3). فهو ينتظم خط الزمن بأبعاده الثلاثية، وتلك لحظة ذهنية فارقة، يستدعي فيها الناس ماضيهم إلى حاضرهم، ويستفيدون منه في التجاوز بهم إلى المستقبل.

فهل يؤدي التاريخ مثل هذه الوظيفة الفكرية؟ الواقع إن صناعة التاريخ تسهم في الرفع من مستوى الوعي وتعميقه، ليس عند المؤرخ فحسب، بل أيضًا عند المواطن(4)، فبالتاريخ يتكون المعقول، وبالمعقول ينتظم الواقع، أي يتم تنظيمه(5). وحين يكون المجتمع على درجة عالية من الوعي، فإنه لا شك يكون في وضعية أفضل لتحديد خياراته المقبلة.

ثم إن الناظر في المشكلات السياسية اليوم بين الدول والأمم يجد معظمها يتمحور حول (الحقوق التاريخية)، وتلك قضيةٌ تتطلب إسهام المؤرخ، لصياغة مستقبل أفضل بين طرفي النزاع. وحين يتأمل الدارس التوترات العرقية والمذهبية بين أبناء المجتمع الواحد اليوم، فإن المؤرخ هو الأكثر تأهيلًا لتوصيف هذه المشكلة القائمة. فلا عجب، أن تستفيد المراكز الإستراتيجية ومعاهد الدراسات المستقبلية من المعرفة التاريخية، فيما تجريه من بحوث ودراسات لملاحظة ما عسى أن يكون عليه الواقع القريب، أو أن تُسهم في صياغة ملامحه.

ولئن كان توظيف التاريخ أو الدعوة إلى الاستفادة منه في الدراسات المستقبلية تشكل مفهومًا آخر في وظيفة التاريخ، فهل كان قدامى المؤرخين المسلمين على وعي بهذه الممارسة الذهنية للتاريخ على هذا النحو؟ لقد استشعر نفرٌ من المؤرخين واجبهم في هذا الجانب، فاستشرف بعضهم محاولة قراءة المستقبل، وتقديم خلاصة تجاربهم في بيان تحذيري/ توجيهي للأمة عسى أن تستفيد من الخطأ، وتستفيق من الغفوة، وتستعد لمواجهة التحديات القادمة، وكأنما أعلنوا بشكل مُضمرٍ عن مهمة جديدة لعلم التاريخ.

انظر إلى «الطبري» (ت: 310 هـ/ 922م) المؤرخ حين بلغه استخلاف ابن المعتز (295 هـ/ 907م). فقد سأل عن مرشحه للوزارة، فقيل: محمد بن داود. ثم سأل عن مرشحه للقضاء، فقيل: أبو المثنى. فأطرق الطبري قليلًا ثم قال هذا أمرٌ لا يتم! فقيل له: وكيف؟ قال: كل واحد ممن سميتموهم متقدمٌ في معناه، عالي الرتبة، والزمان مدبرٌ، والدنيا مولية. وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال، وما أرى لمدته طولًا(6).

لكأن الطبري هنا، يرى أن الأفراد لا يصنعون التاريخ مهما كانت مواهبهم، وإنما الأمم تصنع أبطالها، فهم -أي الأبطال- ممثلو المجتمع ونتاج تقدمه. وتلك رؤية نادى بها مفكرون في العصور الحديثة(7).

استشفاف المستقبل

وهناك نماذج أخرى من تجارب مؤرخي الإسلام في استشفاف المستقبل، نجدها مبثوثة في أمهات مصادرنا، فقد استشعر «صاحب أخبار مجموعة» نهاية مُحزنة للمسلمين في الأندلس، فعلّق على ما تناقلته بعض الروايات من تفكير الخليفة عمر بن عبدالعزيز (99- 101هـ/ 717- 719م) بنقل المسلمين من الأندلس لانقطاعها عن دار الإسلام، فقال: «وكان رأيُه انتقال أهلها منها لانقطاعهم عن المسلمين، وليت الله كان أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم إلى بوار، إلا أن يرحمهم الله»(8). قد تشي هذه الفقرة بأن قائلها عاش في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي(9)، حيث شهدت بلاده الأندلس تفككًا سياسيًّا عُرف بعصر الطوائف، وازداد تشاؤم الناس إثر تعاظم الخطر المُحدق بهم. ومهما كان نصيب هذا الافتراض من الصواب؛ فإنه لا يحجب عنا أن «صاحب أخبار مجموعة» قرأ ملامح عصره بشكل جيد، ورصد أخبار بلاده وما كان من آراء الخلفاء والولاة فيها، فاستنتج -مُحقًّا- هذا المصير الماحق المُنتظر.

ثم لننظر ما الذي قدّمه ابن الأثير (ت: 629هـ/ 1231م) في كتابه «الكامل»؟ لقد تناول حوادث سنة (617هـ) مُستعرضًا ما وقع فيها من فظائع المغول في المشرق الإسلامي، مُستشعرًا فيها أيضًا، اقتراب مثل هذه الوقائع الدموية في دار الخلافة نفسها، وما ذاك إلا لضعفها وعَجْزها عن مدّ يد العون إلى المسلمين في المشرق، فافتتح حوادث سنة (617هـ) بعنوان: «ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام»، ثم استهلّ حديثه استهلالًا غير عادي، بحرارة وألم لا يُخْطئهما وجدان القارئ، فقال: «لقد بقيت عدة سنين مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مِتّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا…»(10).

من الواضح أن ابن الأثير في هذا النص المُثير، كان يبكي رسوم الخلافة نفسها، وطَمْس معالمها قبل أن يتحقق ذلك. كان يتوجس من زلزال قادم إلى كُرسي الخلافة وقُبة الإسلام، وليس فقط في الجزء الشرقي من ديار المسلمين، فما أصدق لهجته إذ قال بأنه «يكتب نعي الإسلام والمسلمين». وقد استجاب الله دعوته، فمات (سنة 629هـ/ 1231م)، قبل أن تتوارد جحافل المغول (سنة 656هـ/ 1258م) على بغداد عاصمة الخلافة العباسية وتفعل بها الأفاعيل. وأما نذيرُه الذي أذاعه في حولياته التاريخية قبل حلول الكارثة الكبرى بنحو ربع قرن، فلم يُغْن شيئًا؛ إذ لم يستمع إليه سامع، ولم ينتصح به مُنتصح.

وإذا عُدنا مرة أخرى إلى مؤرخي الغرب الإسلامي؛ وجدنا نماذج لمؤرخين وُفقوا إلى مهارة استشفاف المستقبل، وملاحظة إرهاصاته. فقد رصد ابن خلدون (ت: 808هـ/ 1405م) تأثر الأندلسيين في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي بمن جاورهم من الممالك الإسبانية النصرانية، ومحاولاتهم التشبُّه بهم، في الملبس، وفي المأكل والمشرب، وفي أنماط الحياة، وفي وسائل الترفيه، فعدّ ذلك مؤشرًا على الاستلاب الثقافي، وانبهارٌ يُفضي إلى انصهار. إنه ذوبان حضاري يُمهّد للاضمحلال السياسي، فقال: «… حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله»(11).

تجديد قراءة مؤرخينا المسلمين

لم يكن الغرض الأصلي لإيراد مثل هذه النظرات العميقة لبعض مؤرخي الإسلام، هو المُصادقة على صحة رؤاهم وسلامة استنتاجاتهم. كلا؛ فإن الحُكم لهم أو عليهم فيما ذهبوا إليه بيد التاريخ وقارئيه. إنما الأهم في مثل هذه الوقفات هو الدعوة إلى تجديد قراءة أعمال مؤرخينا المسلمين، فقد ينتج عن إعادة النظر في مُدوّناتهم تغييرًا جزئيًّا في مفهوم الكتابة التاريخية لديهم؛ إذ كشفت الأمثلة السابقة أنهم لم يكونوا أسرى حوادث الماضي، بل اتخذوا منها مادة للمقايسة والرصد. وانطلقوا مع تحولاتها التاريخية يرقبون درجات التطور الحضاري، ويتأملون دركات الضعف والاضمحلال، محاولين إثراء ذهنية المجتمع بالخبرات والتجارب السابقة، متشوّفين إلى دعم مسيرته القادمة عبر رصد الظواهر الحضارية وتحليلها، وقراءة الشروط التاريخية لإمكانية انبعاثها مُجددًا.

ربما نلاحظ أن هذه النصوص الاستشفافية يغلب عليها الطابع التشاؤمي، وأن كاتبيها صاروا مُنذرين لا مُبشرين؛ إذ لا يوجد من بينها نصٌّ استشرف واقعًا أفضل لأمته. ولا ضَيْر في ذلك -فيما أرى- فالمُهم في هذه المرحلة ونحن نرتاد أفقًا معرفيًّا (ربما يكون جديدًا)، أن نؤصّل لهذه المُمارسة الذهنية في كتابات مؤرخينا القدامى. لقد أدخلوا (المستقبل) في دراساتهم التاريخية، فلم يكتبوه وأنّى لهم ذلك! وإنما استنتجوا فواتحه في مهارة ذهنية تجمع بين الإبداع والإمتاع. ولقد انطلقوا من ملاحظة حاضرهم القائم في استنتاج ملامح مستقبلهم القادم، ولم تكن توقعاتهم ضربة لازب أو خَبْط عشواء! وتلك عملية تتطلب من المؤرخ إدراكًا واسعًا للشروط المادية والثقافية المعيشة، تعوِّضه عن غياب القوانين الحتمية في الصيرورة التاريخية. فالتاريخ علمٌ لا يخضع لقوانين محددة، بحيث يستتبع الأول منها الآخر.

حريٌّ بأقسام التاريخ في الجامعات أن تنهج النهج ذاته، فتلتفت إلى إحياء هذه الوحدة الزمنية المفقودة في دراسة التاريخ. تلك هي مُهمة المؤرخ المدقق؛ أما الاقتصار على إدراك حوادث الماضي البشري ونشرها فحسب، فتلك مهمة عالِم التاريخ.

والفرق بين المؤرخ المُفكر وبين عالِم التاريخ بيِّنٌ لا يخفى. الأول يكتب الماضي ليُحلله، والآخر يجمع الماضي ليكتبه.

الخلاصة

أن المؤرخ يدرس الماضي ولكن لا يعيش فيه، ويرصد الحاضر ولا ينفصل عنه، ويتطلع إلى المستقبل ولا يَسْتدبرُه. إنه يتعامل مع تحولات الزمن بأبعاده الثلاثية، مُنطلقًا من تراثٍ معرفي هائل استخلصه من حوادث التاريخ، ومستفيدًا من مهارة ذهنية عالية اكتسبها من صناعة التأريخ. ولسوف يستعيد علم التاريخ هيبته المفقودة حين يتجه مؤرخ اليوم هذه الوجهة، وهو ليس بِدعًا في هذا الاتجاه العلمي، فقد سبقه مؤرخون في العصر الإسلامي إلى هذا الفهم لطبيعة عمل المؤرخ.

عندئذٍ؛ سيكون التاريخ في خدمة المجتمع، بل في خدمة الأمة بأسرها.

______________________________________________________________________________________________________

الهوامش:

1. قسطنطين زريق، نحن والتاريخ، ط 6، (بيروت: دار العلم للملايين، 1985 م)، ص 49.

2. قسطنطين زريق، نحن والتاريخ، ص 35.

3. البخاري حمّانة، من أجل فلسفة عربية للتاريخ ـ الفلسفة العربية المعاصرة، ط 1، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988م)، ص 241، 243.

4. عبدالله العروي، مفهوم التاريخ، ط 2، ( بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992م)، ج 1، ص 24.

5. عبدالله العروي، مفهوم العقل ، ط 2، ( بيروت: المركز الثقافي العربي، 1997م)، ص 10.

6. السيوطي، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر، تاريخ الخلفاء ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، ط 1، ( القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1371 هـ/ 1952م)، ص 379.

7. علي أدهم، ممثلو الإنسانية لوالف والدو إمرسن -تراث الإنسانية– ( القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، د. ت)، المجلد الثالث، ص 420.

8. مجعول المؤلف، أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها والحروب الواقعة بها بينهم، تحقيق إبراهيم الأبياري، ط 1، ( القاهرة ـ بيروت: دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، 1401هـ/ 1981م)، ص 30.

9. خوليان ريبيرا، تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية، وكتاب أخبار مجموعة لمؤلف مجهول -دراسة موازنة- ضمن كتاب دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة للطاهر أحمد مكي، ط 3، (القاهرة: دار المعارف، 1987م)، ص 36 وما بعدها.

10. ابن الأثير، أبو الحسن علي بن محمد، الكامل في التاريخ، ط 4، ( بيروت: دار الكتب العلمية، 1424 هـ/ 2003م)، ج 10، ص 399.

11. ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد، المقدمة، (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، د. ت)، ص 147.