عبدالله العثيمين: محددات الشخص ومكونات النص

عبدالله العثيمين: محددات الشخص ومكونات النص

إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

«يعني الكاتب بالشخص ذات المبحوث من حيث تكوينُها وبيئتُها ورحلتُها الحياتية المجردة، أما النص فهو ناتج هذه الشخصية سلوكًا وتفاعلًا ومواقف».

محددات الشخص: البيئة والتكوين

عاش اثنين وثمانين عامًا ملأى بعصامية نادرة نقلته من دائرة مغلقة إلى مدار مفتوح، فلم يرضَ بانغلاق مثلما لم ينقدْ إلى اندلاق، وظلَّ الإنسانُ في داخله متحكمًا في ظاهره؛ فبدت سيرته الممتدة موصولةً بجذوره، مستجيبةً للتحديات، مؤمنةً بمبادئه، وهو ما يجعل قراءة عبدالله العثيمين مرتبطةً بمحددات شخصيته البسيطة المركبة مستندةً إلى ثلاثة أسسٍ أسهمت في تخليق معالمها وهي:

* التربة والتربية. * التحدي والاستجابة. * الانتماء والمبدئية.

ولعلنا نحاول الإلمام بهذه المحددات التي تكشف جوانب فاصلةً في مسيرة الأستاذ الدكتور عبدالله الصالح العثيمين (1355- 1437هـ/ 1936- 2016م)

جائزة-الملك-فيصل-العالمية

أولًا- التربة والتربية

ينتمي عبدالله بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبدالرحمن العثيمين إلى فرع الوهبة من بني تميم مجتمعًا في الانتماء القَبلي مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهو الشخصية التاريخية التي اختارها العثيمين لتكون مدار بحثه في الدراسات العليا، ومجالًا لبعض تآليفه في مرحلة ما بعد الدكتوراه، مؤكدًا أنه يفكر خارج الصندوق بما قدمه من أبحاث عنه مما ينفي وجود تأثيرٍ مباشرٍ لهذه الجذور في تكوينه الثقافي، مثلما يشير إلى بعدٍ مهمٍّ في دائرة نَسبِه ضمن مجتمعٍ لا ينفكُّ عن توثيقها، وإن لم تعنِ للدكتور شيئًا ذا بال بحكم تحرره من مداراتها الضيقة، وإيمانه بنفسه وأسرته الصغيرة المكونة من أبٍ مكافحٍ زاول التجارة في الرياض وعنيزة وعُرف بورعه، وعمَّين (سليمان، وحمد) زاولا التجارة نفسَها، وانتسابه من جهة والدته إلى جده الشيخ عبدالرحمن السليمان الدامغ الذي كان معلمًا للقرآن الكريم، وإمامًا للمصلين في مسجد «الخُريزة» الذي يعد من أقدم مساجد مدينته، ويعود تأسيسه إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (في حدود عام 1230هـ أو قبل هذا التاريخ بقليل)، وقد خلفه في التدريس والإمامة ابنه (خال الدكتور عبدالله) الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الدامغ، كما كان لتقارب عمره مع أخيه الأكبر الشيخ العلم محمد الصالح العثيمين (1347- 1421هـ/ 1929- 2001م) دورٌ في توجهه العلمي؛ فكان الأخُ الأكبر يصطحب الأصغر لحلقات الشيخ عبدالرحمن السعدي (1307- 1376هـ/ 1889-1956م)، ويكفي أن يعيش الصبي هذه الأجواءَ العلمية والعملية ليجد نفسه محاطًا بقيمة العلم من جانب، وضرورة الكدح من جانب موازٍ؛ فعمل في التجارة المبتدئة مثلما واصل دراسته برفقة قرناء مقبلين على العلم ومهتمين بشؤون الأدب ومتابعين للأوضاع السياسية المحلية والعربية والدولية؛ فالتأمت تربة القبيلة والأسرة والمدينة والأصدقاء في تكوين تربوي متوازن وضح تأثيره في فكر الدكتور العثيمين ومواقفه الوطنية والعروبية والإسلامية، وإذا أضفنا إليها نشأته في مدينة كانت سيمياؤها علمية وثقافية فلا غرابة من نابه مثله أن يتقن اللغة العربية، ويلمّ بالعلوم الشرعية، ويتخصص في التاريخ، ويبرز شاعرًا وكاتبًا ومتحدثًا مفوهًا منذ صغره، فيشارك في نادي عنيزة الثقافي الذي أسس عام (1372هـ/ 1952م)، ويترجَم له في كتاب (شعراء نجد المعاصرون) للشيخ عبدالله بن إدريس عام (1380هـ/ 1960 م)، ويبتعث للدراسات العليا في بريطانيا منتصف الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية).

ثانيًا- التحدي والاستجابة

نعلم نسبةَ نظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889- 1975م) حيث فسر عبرها صعود الحضارات وسقوطها كما تمثلها في الأفراد ذوي السلوك الانبساطي الذين يستطيعون تجاوز الصعاب باستيعابها وعدم الوقوف عندها أو الاستسلام لها بخلاف غيرهم من الانطوائيين الذين يأذنون للظروف القاسية أن تبدل مسيرتهم.

ولعل الدكتور العثيمين أنموذج بارز على الشخصية الانبساطية التي لم تعش الترف فتحدّت الشظف، كما تحدى إبعاده عن التعليم في مرحلتين فاصلتين خلال دراستيه الثانوية والجامعية فلم يستسلم ولم ينكفئ، مثلما تحدى بواعث الوظيفة الميسرة حين تهيأ له أن يكون معلمًا في المرحلة الابتدائية بالمدرسة الفيصلية عام (1378هــ/ 1958م)؛ إذ لم يمكث غير أشهر فيها بالرغم من توفيرها دخلًا معقولًا يمكن أن يكفيه ويفيض، وحين ابتعث اختار مركبًا عسيرًا لا في بحثه فقط بل في النتائج التي توصل إليها، وكان يعرف صعوبة إقناع العامة بها، ونشر الحقائق التي توصل إليها.

عاش عبدالله العثيمين التحديات طفلًا وفتى وشابًّا، ولا ينكر دور كثيرين في حياته من خارج أسرته، ولا ينسى في أحاديثه وكتاباته الإشارة إلى ما قدمه له الدكتور عبدالعزيز الخويطر – رحمه الله- (1344- 1435هـ/ 1925-2014م) من عناية ورعاية حتى قاسمه مكتبه عندما عمل سكرتيرًا له ولمجلس الجامعة الوليدة (جامعة الملك سعود) التي فُصل منها بسبب انتقاده مناهجها التعليمية في اللغة العربية وعودته إليها مغيّرًا تخصصه ومتجهًا نحو دراسة التأريخ.

ثالثًا- الانتماء والمبدئية

كان عمر الدكتور العثيمين ثلاث عشرة سنة حين اغتُصبت فلسطين عام 1948م، وفي عمر مقارب بدأت حركات التحرر العربي من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي؛ ففي عمر السابعة استقلت لبنان عام 1943م، وفي العاشرة سوريا والأردن عام 1946م، وفي الحادية عشرة شرعت ليبيا في الاستقلال عام 1947م، كما تزامن العدوان الثلاثي عام 1956م مع استقلال السودان وتونس والمغرب وعمره لم يتجاوز العشرين؛ فاستيقظت مشاعره العروبية وأيقظت شاعريته، وكان للثورة الجزائرية التي توجت باستقلالها عام 1962م دورها في حفز نصوصه وإيقاظ مكامن ذاته المتوهجة بحب الأمة والخوف عليها، ولعله الشاعر والكاتب الأوفى عنايةً بقضايا العرب المصيرية المتصلة بالاحتلال الصهيوني، فظل مخلصًا للقضية الفلسطينية حتى خاتمة أعماله التي بعث بها إلى صحيفة الجزيرة؛ حيث استقرت كتاباته الأخيرة كل يوم اثنين قبل أن يتوقف في عمر الثمانين حين غلبه المرض.

ظل العثيمين ملتزمًا بمبادئه العروبية وانتمائه الإسلامي كاتبًا وشاعرًا ومتحدثًا لم يحد عنها، وقد تخلى الأكثرون عن قضية فلسطين خاصة، وقضايا التحرر من الاستعمار الجديد عامة؛ فلم يخن ضميره ولم يبدل هُويته، ولا يخفى هذا المحدد في موقفه من اللغة العربية وخوفه عليها وحرصه على التمسك بها أمام اللغات الأجنبية والاحتفاء بالعامية مع أنه شاعر مجيد بالفصحى والعامية، وله مواقف مأثورة في رفض الزحف الأجنبي والعامي على لغة القرآن الكريم، وكثيرًا ما أخذ مواقف مضادةً ممن يراهم يقدمون الإنجليزية أو يحتفون باللهجات العامية على حساب الفصحى وإن رآهما (اللغة الأجنبية واللهجة العامية) مهمتين في البحوث والدراسات والإبداع.

ويتجلى انتماؤه متمثلًا في عشق وطنه الكبير وحب مدينته الصغيرة التي قال فيها أعذب النصوص والمقالات، وأشهرُها قصيدته الذائعة (عودة الغائب) التي سمّى بها أحد دواوينه العشرة ولقيت أصداءً واسعة حين نشرها، وعارضها جمع من الشعراء من أبرزهم: عبدالعزيز المسلم، وإبراهيم الدامغ، وعبدالله السناني، وعبدالرحمن السماعيل، وكانت مناسبتها عودته من المغترب الأسكتلندي عام (1392هـ/ 1972م) ومطلعها:

طربتُ ماذا على المشتاق إن طربا

لما دنت لحظاتٌ نحوهن صبا!

وفيها:

مَن كان مثليَ بالفيحا تعلقُه

فلا غرابة إن عانى ولا عجبا

**

وإن تأملت أزياءً تتيه بها

وجدتَ من بينها البرحيَّ والعنبا

العثيمين-١وتلاحظ معارضتُه في هذا النص قصيدة نزار قباني الشهيرة (من مفكرة عاشق دمشقي) التي كتبها عام 1971م ومطلعها:

فرشتُ فوق ثراك الطاهر الهُدبا

فيا دمشقُ لماذا نبدأ العتبا؟

وفيها:

هذي البساتين كانت بين أمتعتي

لما ارتحلتُ عن الفيحاء مغتربا

**

فلا قميص من القمصان ألبسه

إلا وجدت على خيطانه عنبا

فالتشابه جلي في الوزن والقافية والموضوع وبعض المفردات (الفيحاء – العنب – اللباس والأزياء- الاغتراب)، وفيما جمع نزار بين المحورين الوطني والعروبي اقتصر العثيمين على المحور الوطني، ولعل أحد المختصين يلتفت لدراسة النصين الجميلين دراسة مقارنة، ومن وحي بحرهما وقافيتهما جاء نص صاحبكم الرثائي بعد رحيل العثيمين وأسماه: (غيبة العائد):

العثيمين-٤رحلتَ ماذا على الموجوع إن عتَبا

ناداك لم تستجبْ والوعدُ منك كبا

لم يمضِ وقتٌ وقد آذنتَ مبتهجًا

بعودةٍ هل مضت تلك السنون هَبا

أم أصبح العمرُ طيفًا لا يصاحبُه

من يعشقُ الحُلم إلا خاله كذبا

غادرتَ دون وداعٍ أي قافيةٍ

جفتك.. هل ضاق مكتوبٌ بمن كتبا

كلّ الأماكن تستدعيك سيدَها

حتى النخيلُ التي قد آذنت رطبا

وغزةٌ لم تزل تشتاقُ عاشقَها

هناك صارت هنا.. ما أشرف النسبا

يرثيك مجلسُنا.. ترنو مجالسُهم

إلى أبي صالحٍ.. مذ غاب مغتربا

ادعوا له في رحاب الله طيب جنى

وانسوا عثار بياني ؛ ضاق ما رحبا

والإشارة إلى «غزة» في النص ترمز إلى اهتمامه بقضية فلسطين وتصادف معها أن كان بيته في حي المحمدية الغربي بالرياض يقع على شارع غزة.

ويتبدى انتماؤه كذلك في إخلاصه لتخصصه تأليفًا وبحثًا وترجمةً حيث تجاوزت مؤلفاته ثلاثين كتابًا حول التأريخ السعودي بأدواره الثلاثة، ومنها كتبه وتحقيقاته وترجماته:

تاريخ المملكة العربية السعودية – بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية – الشيخ محمد بن عبدالوهاب: حياته وفكره – العلاقات بين الدولة السعودية الأولى والكويت – قراءة في كتابات عن تاريخ الوطن – قراءات في دراسات عن إمارة آل الرشيد – معارك الملك عبدالعزيز المشهورة لتوحيد المملكة – نبذة تاريخية عن نجد – كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب – بعثة إلى نجد – توحيد المملكة العربية السعودية – من حديث بوركهارت عن الخيل والإبل العربية – مواد لتاريخ الوهابيين، تأملات في التاريخ والفكر؛ إضافة إلى ما جمعه من مقالات عن الوطن والتصهين والقضية الفلسطينية والهم العربي، ومنها:خواطر حول القضية – كتابات حول التصهين – مقالات عن الهم العربي – مقالات عن قضايا عربية – أنت في مقالات عن فلسطين والعراق وقضايا مصيرية – عن الوطن وإليه – من وحي رحلات إلى خارج الوطن – عام من الذل والانخداع – بيع الأوطان بالمزاد العلني – أنت يا فيحاء ملهمتي – خواطر حول الوطن والمواطنة، عدا دواوينه الشعرية العشرة:بوح الشباب – دمشق وقصائد أخرى – صدى البهجة – عودة الغائب – لا تسلني – عرس الشهباء وقصائد أخرى – في زفاف العروس- لا تلوموه إذا غضبا – مشاعر في زمن الوهج – نمونة قصيد، وهو ديوانه العامي الوحيد.

يشار إلى أن العثيمين عمل أستاذًا في جامعة الملك سعود ورأس قسم التاريخ فيها، وكان عضوًا في بعض مجالسها ومستشارًا في وزارتي المعارف (التربية والتعليم) والتعليم العالي (التعليم) وفي مجلس أمناء مؤسسة حمد الجاسر وهيئات تحرير مجلة العرب ومجلة الدارة ورسالة الخليج، وعضوًا مراسلًا في مجمعي اللغة العربية بدمشق والقاهرة، وعضوًا في مجلس الشورى السعودي عشرة أعوام، وأمينًا عامًّا لجائزة الملك فيصل العالمية ثلاثة عقود، كما نال عددًا من الجوائز التقديرية.

مكونات النص: مواقف وحكايات

يعرف صاحبكم الدكتور عبدالله العثيمين مثلما يعرف شقيقه الأكبر شيخنا الراحل: محمد، رحمهما الله، وشقيقه الأصغر الشيخ عبدالرحمن وأولادهم، رعاهم الله، مثلما لا ينسى ملامح والدهم العم صالح -غفر الله له توفي عام (1398هـ/ 1978م) كما تربطه علاقات جيدة بمعظم آل العثيمين، ومنهم المحقق المعروف الدكتور عبدالرحمن السليمان العثيمين -رحمه الله- (1365-1436هـ/ 1946– 2014م) وأشقاؤه الأساتذة محمد وعبدالله وعبدالعزيز رعاهم الله، ولا ينسى الشاعر الراحل الأستاذ صالح الأحمد العثيمين -رحمه الله- (1359- 1433هـ/ 1940- 2012م) وإخوته الأساتذة عبدالرحمن ومحمد، رحمهما الله، وعبدالله والدكتور يوسف، حفظهما الله، مما يجعله محيطًا ببعض التفاصيل الصغيرة عن هذه الأسرة الكريمة التي أنجبت علماء ومبدعين يستحقون الذكر والشكر.

تخول المعرفة المباشرة للكاتب إمكانياتٍ لقراءة الشخص والنص أكبر مما تتيحه للباحث النائي، وبخاصة حين لا يطغى الجانب الذاتي على الموضوع المبحوث، وهو ما أتاح لقلمه إطلالات متعددة حول الفقيد نشرت في حياته، كما شارك في ندوة غير مسجلة بنادي الرياض الأدبي وكتب مقالًا واحدًا بعد وفاته التي حدثت وصاحبكم على بعد تسع ساعات طيران فكان ألمُ الفقد كبيرًا مثلما عبّر في مقاله الموسوم: «مسافات القلب وغياب القرب»؛ فالعلاقة بينهما – خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة لا تفهم ضمائر الفصل، ولا الجمل المعترضة، ولا مكان فيها لما «يسُد مسدَّ» الأصل؛ أفيكون قريبًا منه – طيلة فترة مرضه – ثم ينأى عنه ساعة الوداع؟

العثيمين-٣القرب لا يحقق الحياد كما لا يحققه الابتعاد، فجاء حزنه على رحيل الرمز مكثفًا، ويستعيد موقعه على شرفة غرفة «فندق فيرمونت في جاكرتا» والشمس تؤذن بالغياب وهو يصور لقطتها غير العابرة ويكتب على صفحات وسائطه الرقمية: «ما أقسى الغياب».

يذكر لقاءهما الأول عام 1972م حين كان أقرب إلى الصبا ووالدُه – سلمه الله – يوصيه أن ينتظر ضيفًا، ولم يكن المنتظَر في «أصيل» يوم احتفائي إلا أبا صالح حديثَ العودة من بعثته، ولا يملك صورةً جليةً عنه أكثر من أنه كان معتدل الطول ذا لحية سوداءَ مبتسمًا ودودًا؛ فتفرغ الفتى لدوره «الخِدمي» في صب الشاي والقهوة، وتقديم الماء والفاكهة، وهو ما حال دون الإنصات لحديثٍ يحسبه ثريًّا، فلم تستوعب ذاكرته منه شيئًا.

لا يضيف كثيرًا إلى ما سبق أن سطره حول العثيمين فيستعيد بعض ما كتبه عنه، ويذكر في هذا المقام أن والده قد حكى له عن ميزةٍ في أبي صالح، وهي مهارة الإصغاء الصامت، فلا يدخل النقاش في أوله حتى إذا تكلم جاء حديثه مستوعبًا ما قيل ومبرزًا أجمل ما في الجلسة من آراء، فبدا حكيمًا رزينًا غير متعجل في أحكامه ومحاكماته، وكان الوالد يمتنّ له حين يجيء ذكره؛ فهو –مع آخرين– ذو الفضل في إقناعه بترك العمل بجدة وإكمال تعليمه الثانوي والجامعي.

العثيمين-٢كفلت هذه الصور تجذير صورة جميلة في ذهن الناشئ تبدّى منها العقل والهدوء والعصامية وحب الآخرين، وهو ما حفزه إلى الاقتراب من دائرته؛ فضمت الفقيد وصاحبكم لقاءات عامة وخاصة أكدت تواضعه وبساطته التي رآها في عيون الكثيرين المعجبين بهذا الـ«أبي صالح» الذي تحقق له –كما سبق أن كتب- أن يصعّر خده ويختال في مشيته ويضع حاجبًا وسكرتيرين، فإذا به متربعٌ فوق كرسيه ونصف ساقه ظاهرة وغترته مرمية بجانبه، ولا ينسى ليلة شتوية مطيرة كان لصاحبكم فيها لقاء مفتوح بمكتبة الملك عبدالعزيز العامة شرقي الرياض حول تجربته في القراءة، وفوجئ بمجيء الدكتور العثيمين من منزله غربي العاصمة، ولا يزال يرى حضوره تاجًا يعتمره؛ إذ لم يكتف بذلك، بل علق تعليقًا طويلًا لطيفًا، وما كان التلميذ سيضيف إلى الأستاذ لكنه طبعه الإيثاري لا يتنازل عنه بالرغم من المشقة وعدم الجدوى، وبالمثل فقد كان يلقي نصوص بعض أصفيائه في المناسبات العامة إذا تعذر حضورهم، وهو مسلك لا يقوم به إلا الكبار.

لا يتكلف لفظًا ولا يتعمد إغراقًا

بساطة العثيمين امتدت إلى لهجته المحكية فكان لا يتكلف لفظًا، ولا يتعمد إغراقًا، ولا يحاول استعراضًا، بالرغم من إتقانه الفصحى وغيرته عليها وحرصه على عدم تجاوز نحوها وصرفها مثلما درَسه في النحو الواضح وشرح ابن عقيل، بل امتدت دقته إلى كتابة الشعر العامي؛ إذ كان ينعى على من يستبدل الحروف بالحركات، فيجيء بالواو بدل الضمة، وبالياء عوضًا عن الكسرة؛ لمخالفتهم القواعد الإملائية، وخشية تأثر النشء بهم، ويستدعي حين كان في محاضرة بدار الأوبرا المصرية وأستاذٌ متخصصٌ باللغة العربية يلحن في قراءته فحسبل أبو صالح وحوقل وكاد يغادر اللقاء، وغضب مرةً في ندوة مشهودة حين وجد شبابًا ينتدون باللغة الإنجليزية تحت لافتة عربية معروفة.

وبالرغم من أن تخصصه في تاريخ الجزيرة العربية الحديث، وإذ يدور الحديث حول أحداثه في المجالس العامة، فلم يكن يتصدر الحاضرين حين يحكون فيه، بل ربما أعرض عمن يحاجُّه في تخصصه دون أن يتعالم أو يتعالى، بل إنه – وهو الشاعر المجلي – لا يتردد في عرض نصوصه على تلاميذه طالبًا رأيهم ومعتدًّا بملاحظاتهم، فجمع الشموخ والتواضع.

كتب شعرًا ونثرًا في معظم الأغراض إلا الرثاء؛ فلم يكتب سوى قصيدة واحدة بعد وفاة الشيخ عبدالرحمن السعدي، ومقالة عقب وفاة شقيقه الشيخ محمد، وعرف بوفائه لأصدقائه وحبه للناس حتى في أصعب مراحل مرضه حيث لم ينقطع عنهم، فكان يزورهم ويرتاد مناسباتهم ومعه جهاز الأكسجين، وحين اشتد به المرض واصل الإطلال عليهم مع بقائه في سيارته، وبعدما أعيته الحركة فتح باب بيته بشكل يومي «بين العشاءين»، واشتد به المرض فاختصر الجلسة في يومين، ثم اقتصرت على الأدنين منه حيث لم يكن يستطيع الكلام فحملت نظرات عينيه الذابلتين الموحيتين مشاعر الحب والامتنان.

كان زاهدًا في الثناء بالرغم من كثرة ما كتب عنه أو أُلف حوله، وفي مجلسه الكبير لا وجود إلا لقطعة من ثوب الكعبة كرمه بها الشيخ عبدالمقصود خوجة ودرع تقديرية قدمتها إليه مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وقبل أن يُعييه التواصل حمل إليه صاحبكم الجزء السادس من سلسلة (من أعلام الثقافة السعودية) الذي نشرته «الجزيرة» ضمن إصداراتها الثقافية، وفيه فصل عنه يوثق الملف الذي أصدرته مجلة الجزيرة الثقافية تحت عنوان: (عبدالله العثيمين الشاعر – المؤرخ – الأمين) وسبق أن كتب عنه الدكتور أحمد مطلوب مؤلفًا ضخمًا، فكان محرجًا؛ إذ لن ينشره بنفسه أو عن طريقه ولن يردَّه إلى كاتبه، ولو شاء لوجد دور نشر عديدة ستتولى أمره، كما كانت تعاملات الفقيد مع دور النشر متسمةً بتواضعه وانعدام اشتراطاته المادية، ولا تزال لديه نصوص شعرية ومقالات وقصائد ورسائل إخوانية، فلعلها تُجمع قريبًا، ويضاف إليها –في كتاب مستقل– ما قيل عنه قبل وبعد رحيله مما لم ير النور بعد.

وبعد.. سيبقى الدكتور عبدالله العثيمين وسمًا عروبيًّا ومؤرخًا موضوعيًّا ومواطنًا صادقًا وإنسانًا بسيطًا سعى لنفسه وقدّم نفيسه، ورحل مطمئنًا إلى أنه بذل ما استحق به دموعَ الراثين ودعوات المحبين، مثلما يستحق قراءة شخصه ونصه بمنهجية تدع أمام الأجيال حكاية رمزٍ علمي وإبداعي ووطني عاش ثم غاب كما يعيش ويغيب الكبار.

السيرة شخص ونص.