ميشال أونفراي وخطاب الهذيان

ميشال أونفراي وخطاب الهذيان

مقولة مفخّخة

أجرت مجلة العالَمَيْن (Revue des deux mondes)، عدد أكتوبر 2021م، حوارًا مع الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي، تحت عنوان «مقاومة الهذيان». في هذا الحوار يشن أونفراي هجومًا عنيفًا على الفلاسفة الذين صنفوا تحت خانة المدرسة البنيوية، كفوكو ودولوز ودريدا وبارت وليفي ستراوس… وملخص ما يتّهمهم به قوله عن البنيوية: إنها ليست سوى هذيان عدمي يذكّر بالثرثرات اللفظية للفلسفة المدرسية في العصور الوسطى. وكان المفكر الأميركي نعوم تشومسكي قد سبقه إلى مثل هذا الرأي، بقوله عن فلسفة ما بعد الحداثة: إنها مجرد ثرثرة لمثقفين يجلسون على مقاهي باريس.

وحجّة أونفراي أن أصحاب المدرسة البنيوية أرادوا قلب القيم بتمجيد المرضى والمجانين، وإعادة الاعتبار لهم، فلم يكن بإمكانهم أن يكتبوا عنهم إلا باستخدام لغتهم. ولم يكن ينقص أونفراي سوى القول: لا يعرف المجنون أو المنحرف إلا من كان مجنونًا أو منحرفًا.

بهذا يطلق أونفراي مقولة مفخّخة ترتد ضده، من حيث لا يحتسب؛ لأنه إذا كان الواحد لا يحسن الحديث عن الانحراف والجنون، إلا باستعارة لغة أهلهما، كما يحكم أونفراي على فوكو وعلى نظرائه؛ أو إلا إذا كان هو نفسه منحرفًا أو مجنونًا، فالمنطق يقضي بأنه لا يحسن الحديث عن الهذيان إلا من كان يهذي.

قتل الآباء

اعتاد أونفراي على تفجير قنابل نقدية، تحت مسمى تحطيم الأصنام، هي من قبيل قتل الآباء من أعلام الفلسفة والعلم، نظير نقده لسارتر وفرويد. ولكن مقولة التحطيم لا تضيف شيئًا له قيمته ووزنه إلى رصيد المعرفة. ولا أعتقد أن أونفراي أتى، بنقده، بالجديد المبتكر وغير المسبوق، مقارنةً بالأعمال التي تركها فلاسفة ما بعد الحداثة، التي خلقت مجالها التداولي على ساحة الفكر العالمي، بقدر ما تجدد معها عالم الفكر واتسع، إن من حيث الحقل والطريقة أو من حيث النمط والعدّة. هذا ما تشهد به المصطلحات التي ابتكروها، مثل الحفر المعرفي، الوقائع الخطابية، التفكيك، الإرجاء، غير المُفكَّر فيه، المكنة الراغبة، موت الإنسان.

سياسة الحقيقة

أتوقف، في مثال أول، عند ميشال فوكو، لأقول: إن نقده للعقل لا يعدّ تراجعًا عن عقلانية عصر الأنوار، كما يحسب ديناصورات الحداثة وبطاركة العقلانية، وإنما كان محاولة لتسليط الضوء على مأزق المشروع الحداثي التنويري، باقتحام مناطق للوجود، مؤسسات وممارسات أو سلطات، كانت مهملة أو مستبعدة أو مرذولة من حقل الدرس: كالجنون، والمرض، والسجن، والجنس، فضلًا عن الطبقات الدنيا التي تعيش على هامش المجتمع أو في قعره.

وكان سبيله إلى ذلك اجتراح طريقة جديدة في التفكير، انكسر معها تقليد فلسفي راسخ يتعامل مع المعرفة كنتاج صافٍ وشفّاف للوعي والفكر. بذلك عاد فوكو إلى الأرشيف، أي إلى الخطابات التي ينتجها البشر ويتداولونها، من غير تهويم أيديولوجي أو تشبيح مثالي أو قطع يقيني ثبوتي.

ميشال فوكو

من هنا اشتغاله على النصوص بالحفر في طبقاتها وتفكيك أبنيتها أو بفضح بداهاتها وكشف طياتها، لتبيان ما تمارسه الذات المفكرة فيما تفكر فيه من وجوه الصمت والجهل والنسيان، أو ما يتستّر عليه العقل فيما يعقله من وجوه الحمق والشطط والجنون. وهكذا ففي كل ما نفكر فيه جانبٌ معتم يخرج عن سيطرة العقل وقبضة المنطق. هذا المنحى في التفكير تمّ التعبير عنه بصوغ مقولة غير المُفكَّر فيه. ومعها نتجاوز ثنائية العقل واللاعقل أو الصح والخطأ، نحو ثنائية أخرى بصيغها المختلفة: المطروح والمستبعد، المنطوق به والمسكوت عنه، الواضح والملتبس. وإذا شئت استخدام صيغتي بوسعي القول: ثنائية الممنوع والممتنع، أو المفهوم والمستعصي على الفهم. نحن إزاء منطقة خصبة لعمل الفكر، أفضى إخراجها إلى دائرة الضوء، إلى تغيير مفهومنا للعقل ونظرتنا إلى الذات وعلاقتنا بالحقيقة.

لم يعد نقد العقل مجرد معرفة بشروط الإمكان، لأن خطاب العقل المتعالي والمحض يتناسى دومًا شروط إمكانه في الجسد والرغبة أو في اللغة والتجربة. من هنا أصبح نقد العقل محاولة لخرق الشروط المسبقة وتجاوز الحدود المرسومة، وعلى نحو يتسع معه الإمكان الوجودي، بابتكار الجديد وغير المسبوق من مبادئ التنصيف ومعايير التقييم أو من أطر النظر وقواعد العمل.

ولم تعد الحقيقة مجرد قبض على الماهيات الثابتة بعقل محض، أو مجرد تصحيح وتراكم للمعارف، وإنما أصبحت ثمرة ممارسات وإجراءات وتدابير فكرية وخطابية أو معرفية وتقنية أو مجتمعية وسياسية. من هنا مقولة فوكو حول سياسة الحقيقة. ومعنى القول: إن الحقيقة ليست ما نقبض عليه، بل ما نقدر على خلقه واختراعه أو فعله وإنجازه، في هذا المجال أو ذاك. وإذا شئت إعادة صياغة المقولة، بلغتي ومفرداتي، بوسعي القول، فيما يخص علاقتنا بالحقيقة، بأنها ذات طابع لوجستي عملاني، أكثر مما هي ذات طابع منطقي نظري، من هنا أتعامل معها بمفردات القراءة والرهان أو اللعب والإستراتيجية أو الخلق والتحويل أو الصرف والتداول.

كذلك، لم تعد الذات مجرد جوهر فكري مساوٍ لنفسه وخالٍ من الأهواء والوساوس. من هنا مقولة فوكو حول موت الإنسان، ومفادها كسر الذات السيدة المتعالية التي تملك زمامها وتُحكم سيطرتها على الأشياء. وهو الأمر الذي يحملنا على ممارسة التواضع للإقرار بهشاشتنا وازدواجيتنا.

لعبة المعنى

أتوقف في مثال ثانٍ عند مصطلح التفكيك لجاك دريدا. ومع أن أول من استخدم المفردة هو الفيلسوف مارتن هيدغر، فإنها تحولت مع دريدا إلى مفهوم خارق أو إلى إستراتيجية فعالة، تقوم على قواعد عدة: الأولى هي إعطاء الأولوية للنص على المعنى. من هنا قوله: لا وجود إلا للنص. ذلك أن النص، كتشكيل خطابي، هو ما في المتناول، وما هو قابل للتداول. أما المعاني والأفكار والفلسفات، حتى العقول، فلا وجود لها من دون الخطابات التي هي مادتها وأرضها أو مبناها وأبجديتها. القاعدة الثانية ومفادها ألا تطابق بين النص والمعنى أو بين الخطاب والواقع أو بين اللغة والفكر. ثمة هوة لا تردم، بين المفهوم والمنطوق، أو بين المكتوب والموجود. نحن إزاء مستويات أربعة لكل منها حقيقته ونصابه، ولكل فاعليته وأثره. ولا يمكن لأحدها أن يتطابق مع الآخر أو يختزله ويحل محله.

الثالثة هي أن النص يتعدى أطروحته كما يتجاوز مؤلفه؛ إذ هو محجوباته ومنسياته بقدر ما هو صمته وفراغاته، وهو آلياته وإجراءاته بقدر ما هو سلطته وألاعيبه. ولذا فهو ليس مجرد مرآة تعكس الواقع أو أداة تنقل وتوصل، وإنما هو يشكل حقلًا للقراءة وإمكانًا للتفكير، بقدر ما يستعصي على الحصر والتصنيف بتعدده والتباسه، باشتباهه وتعارضاته.

الرابعة هي أن المعرفة ليست مجرد تطابق يتم في عقل محض أو متعالٍ، بين الرؤية والعبارة، أو بين الكلمة والشيء، وإنما هي قراءة للواقع والمجريات. والقراءة، بما هي اشتغال على اللغة بشيفراتها ومجازاتها واستعاراتها ولعبها، إنما هي عملية معقدة ومتشعبة، مواربة ولولبية، بها نخرج على الدلالة، بالزحزحة والإحالة والتدوير، من دال إلى دال أو من مدلول إلى مدلول، وهو ما يجعل الكلام على الشيء عبارة عن سلسلة من الإحالات لا تتوقف أو شبكة من التحويلات لا نهاية لها وتلك هي لعبة المعنى. ويبلغ اللعب ذروته عند دريدا، بتجاوز المستوى الدلالي، إلى المستوى الصرفي، بتغيير بنية الكلمة، نظير استخدامه كلمة (Differance) محل كلمة (Difference) للتعبير عن معنى الإرجاء، أو إحلاله محل كلمة غير ممكن (impossible) كلمة (im-possible)، بحيث يصبح المعنى فتح الإمكان لا امتناعه.

هذا ما كشفه تفكيك النصوص سواء لدى فوكو أو دريدا: لا نص يقبض على الواقع، كما لا قراءة تقبض على معنى النص، تمامًا كما لا شيء يُقال بصورة نهائية. إنها استحالة البت والقطع، وهو ما يجعل المعرفة بالشيء إعادة تعريف له. هذه الاستحالة عبّر عنها دريدا بصوغ مفهوم الإرجاء. نحن إزاء انقلاب، سواء على مستوى المنهج أو المفهوم، تغيرت معه قواعد اللعب وخريطة الفكر وجغرافية المعنى.

المفهوم وإشكاليته

أتوقف عند نموذج آخر يمثله جيل دولوز، الذي أعاد النظر في كثير من الثوابت الفلسفية، وأخصها بالذكر، أداة الفهم والتشخيص، أعني مصطلح المفهوم نفسه. فما كنا نحسبه المفهوم عندما نتداول اللفظة لم يعد كذلك، أي ليس هو من قبيل الكلي والواحد والمتعالي والأصل والمركز، وإنما هو شيء يتصف بالكثافة والحدة، بالمحايثة والمباطنة، بالذبذبة والزحزحة، بالالتفاف والدوران، بالارتحال والانتشار.

من هنا فالمفهوم لا يقوم بذاته أو يتماهى مع ذاته، وإنما هو علاقته الملتبسة بمكوناته اللامفهومة، بقدر ما هو علاقته بأرضه وشروطه وشخوصه، كما تتجسد في الصعيد الذي يستوطنه المفهوم، أو في الوسط الذي يتحرك فيه، أو في البيئة التي تتيح انتشاره وتجدده، أو في الشخص الذي يتيح اشتغاله. والشخص ليس هو الذي ينطق باسم الفيلسوف، بل الذي يجعل الكلام أمرًا ممكنًا، نظير سقراط لدى أفلاطون. بذلك يقلب دولوز النظرة ويغير قواعد اللعبة، بقدرة ما يغلب في قراءته لمصطلح المفهوم البُعد الجغرافي والجيولوجي التزامني، على البعد الأصولي والتاريخي، التعاقبي والسلالي.

هناك دومًا فيما يقال جانبٌ محجوب أو مستبعد أو غير مُفكَّر فيه ولا مُدرَك. وهكذا فما ينفيه الخطاب من وجه يقع فيه من وجه آخر. ولكن ذلك لا يحملنا على نفي ما أنجزه دولوز، بل يحثنا على المراجعة النقدية لإعادة التفكير والفهم. وهذا شأن المكنة الراغبة لدى دولوز. إنها ليست مجرد هذيان، بل هي مفهوم أعاد الأمور إلى نصابها، ليقول: إن الإنسان هو ذات راغبة بالدرجة الأولى، وقبل أن يكون ذاتًا مفكرة، وهذا ما يفسر كيف أن كبار المفكرين يصلون إلى عكس ما فكروا فيه أو إلى خلاف ما سعوا إليه.

جيل دلوز

ومبنى القول أن الأصل لدى الإنسان ليس العقل أو المساواة أو الحرية، ولا التضامن أو السلام. وإنما هو الهوى والتعصب أو الانفراد والاستئثار أو الطمع والتكالب أو العداء والحروب.

وإلا كيف نفسر كل هذه الانهيارات والتراجعات فيما يخص عناوين المشروع الحداثي التنويري؟! بكلام آخر، إن الكلام على الذات كآلة راغبة، بعد قرون من الكلام على الأنا المتعالي، إنما يعني أن الرغبات هي أقوى من العقائد والفلسفات أو من الدعوات والرسالات.

كيف نفسر كل هذه النزاعات والصدمات بعد كل هذه الأطوار الحضارية والمكاسب المدنية؟! إنه تنافر الأهواء والرغبات والمصالح، الذي يولد صدام الأصوليات واصطراع الإمبرياليات.

خلاصة القول: ما تركه أعلام الموجة الحداثية الجديدة، هي أعمال باقية؛ لأنها تختزن إمكانياتها وتنفتح على احتمالاتها. وهي بوصفها كذلك تحضنا على إعادة التفكير فيما كنا نفكر فيه أو به، لكي نجدد عالم الفكر بوجه من وجوهه، بحيث نقرأ في العمل الفلسفي، ما لم يُقرأ، فلا نتماهى معه حتى لا نستعيده على سبيل الاختزال أو التشويه، ولا ننفيه حتى لا نشهد على سذاجتنا وجهلنا. ما ينتظر هو أن نقرأ الآثار الفكرية قراءة حية، خلاقة، راهنة تجدد المعرفة بها وبالمعرفة العامة. من غير ذلك نعود إلى الوراء، لممارسة النقد العقيم، تحت عناوين الهذيان والجنون أو الثرثرة.

والأطرف هم أولئك المثقفون العرب، الذين يحدثوننا عن «التقليعة» الفكرية، فيما يخص «ما بعد الحداثة»، بعد أن قضوا الشطر الأكبر من حياتهم المهنية وهم يرفعون راية الماركسية، ولكن ليحصدوا الفشل والإخفاق والعقم؛ إذ هم عجزوا عن إضافة حرف واحد، سواء إلى الماركسية أو إلى الفلسفة وعلوم الإنسان.

أختم بالقول: إن الواقع هو أكثر التباسًا وتعقيدًا وتقلبًا مما نحسب، كما أن الذات هي مفارقاتها وهشاشتها وربما فضائحها، وما بوسعنا القيام به هو وضع خطاباتنا ومشروعاتنا وتجاربنا وصنائعنا، على محك النقد، لاجتراح أنماط أو أشكال أو صيغ جديدة، ومختلفة، من العقلنة أو المعقولية، تكون أكثر مرونة ووسعًا وأكثر تركيبًا وفاعلية.

أفخاخ الهجرة وصدمات الشعبوية… ثالوث العصبية والعنصرية والشعبوية

أفخاخ الهجرة وصدمات الشعبوية… ثالوث العصبية والعنصرية والشعبوية

I. الحراك الديموغرافي

أوربا تسجّل تراجعها عمّا شكّل ميزتها ووقف وراء تفوّقها وانتشارها في العالم، كما تجسّد ذلك في مشروعها الحداثي، بمختلف عناوينه حول التنوير والعقلانية والتقدّم أو حول الحرّية والنزعة الإنسانية. وقد تمّ هذا التراجع لمصلحة التيارات المحافظة والمتطرّفة، سواء بشكلها العنصري القديم، أو بشكلها الشعبوي الجديد.

وفي هذه المقالة محاولة لتناول المشكلة على وقع الحراك الديموغرافي، المتسارع والمتصاعد، الذي يشهده كوكب الأرض، والذي تجلّى في موجات متلاحقة من الهجرات، إمّا بحثًا عن فرص للعمل، أو انجذابًا إلى نمط الحياة، أو فرارًا من نير الاستبداد وجحيم الحروب؛ لذا فإن هذا الحراك يتّجه في الغالب من البلدان الفقيرة والمتخلّفة أو البائسة والمنكوبة، نحو البلدان الأوربية والولايات المتحدة أو نحو كندا وأستراليا، وسواها من الدول الديمقراطية، الغنية والمستقرّة. هذا المعطى أفقد بعض المجتمعات تجانسها واستقرارها، بقدر ما حولها عبر ظاهرة الهجرة والانتقال والإزاحة السكانية، إلى مجتمعات متعددة من حيث اللغة والثقافة والجنسية، متباينة بل متعارضة من حيث القيم والتقاليد وأساليب العيش، وهو الأمر الذي أخلّ بنظامها بما ولّده من التوترات والنزاعات بين الأصيل والوافد أو بين الساكن واللاجئ.

II.العلمنة والأسلمة

ولا شك أن فرنسا تقدم المثال الأبرز على ما ولدته ظاهرة الهجرة من أزمات اجتماعية وهوياتية تنفجر بين الحين والآخر، توترات صامتة أو سجالات حادّة. هذا مع أنه يُحمد لفرنسا انفتاحها فيما يخصّ قضية الهجرة؛ إذ هي تستقبل، منذ مطلع القرن الفائت، أفواج المهاجرين من مختلف أقطار العالم، فضلًا عن الآتين إليها من المغرب العربي الكبير، الذي كانت بلدانه مستعمرات فرنسية، وهم يشكّلون اليوم طائفة تعدّ بالملايين. وإذا كان يَسهُل على المهاجر الآتي من أوربا الشرقية أو من أميركا اللاتينية أو من شرق آسيا، أن يندمج في المجتمع الفرنسي، فإن المسلم هو الأقل قابلية للاندماج؛ لإصراره على التشبث بهويته الدينية وفرض نمط حياته وعاداته التي يصعب على الفرنسي، بعد أن تَعَلْمَنَ، تقبّلها أو هضمها، كما تشهد السجالات التي لم تتوقف، منذ عقود، حول حمل الحجاب، في المؤسسات الرسمية والأماكن العامة.

واليوم تتفاقم المشكلة مع صعود الحركات الإسلامية الجذرية، بمنظماتها الجهادية التي تشن هجماتها الإرهابية في قلب العواصم الغربية، وبخاصة في باريس وسواها من المدن الفرنسية. لقد أصبح الفرنسي يشعر بأن بلده يتعرّض لنوع من الغزو الثقافي يهدّد وحدته ونظامه وقيمه الحديثة، من جانب الثقافة الإسلامية التي تنتمي إلى ما قبل عصر الحداثة والعلمنة والثورة والأنْسَنَة. نحن إزاء عالمين الفارق بينهما كبير على المستوى الحضاري والثقافي. إنه الفرق بين نموذج المؤمن الذي يتشبّث بهويّته الدينية ويعسكر وراء خصوصيته الثقافية، وبين نموذج المواطن الذي يغلّب الهوية الفرنسية على هويّته الدينية، ويعيش في دولة القوانين والمؤسسات. وهكذا تحول المهاجر أو اللاجئ المسلم إلى مصدر خوف مرضي لدى الفرنسيين، والأوربيين عامة، أخذ يعبر عن نفسه على شكل خطاب عنصري يرفع أهله شعار «فرنسا للفرنسيين»، أو بمطالبة المسلم أن يعود من حيث أتى، إذا لم يكن قادرًا أو مستعدًّا للتكيّف مع مجتمعه الجديد واحترام قيمه. والمسلم يحمل قدرًا من المسؤولية عن ذلك؛ إذ تغيرت ظروف حياته وشروط وجوده، كما تغير العقد الاجتماعي الذي هو أساس اللُّحمة والرابطة. لم يعد الأمر وحيًا وتنزيلًا من ربّ العالمين، بل ما يبتكره الناس أو يتّفقون عليه من المبادئ والقيم أو القواعد والقوانين، لتنظيم اجتماعهم وتسيير أمورهم. ولكن المسلم لا يريد أن يتغير ليحسن تدبير شؤونه بإعادة ابتكار حياته، بل هو يهرب إلى الوراء بقدر ما تتحكّم فيه أطياف الذاكرة وأصنام العقيدة. هل أنا أبالغ في تشخيص وضع المسلمين في فرنسا؟ أنا لم أعد أُخدَع بدعوى من يرون أنفسهم ضحايا. ففي ذلك تبسيط للأمر وطمس للوقائع. فالمسلم الفرنسي هو الذي يحول هويته إلى مشكلة له ولسواه، بتعامله معها، على نحو أصولي عنصري، كمتراس عقائدي ضد الثقافة الحديثة. والحصيلة لمثل هذا الموقف، هي إنتاج عنصرية مضادة تدفع أصحابها إلى التعامل معه على نحو سلبي، عدائي.

III.الشعبوية

وإذا كانت العنصرية تعني اعتقاد جماعة بصفائها وتفوقها، أو أحقيتها وأفضليتها، من حيث علاقتها بأصولها وهويتها أو بثقافتها ومكانتها، مقابل التقليل من شأن الآخر أو ازدرائه والدعوة إلى إقصائه وعدم الاختلاط به، فإن العنصرية تظهر اليوم بشكلها الشعبوي الجديد. والشعبوية كما شاع مصطلحها في السنوات الأخيرة، قد ولدت من غزو النازحين والمهاجرين للبلدان الأوربية، بقدر ما هي حصيلة لعجز المشاريع الأيديولوجية والبرامج السياسية، سواء على جبهة اليسار أو في معسكر اليمين، عن التصدّي للتحدّيات التي تواجهها المجتمعات في مختلف القضايا والملفات. لا شكّ أن الحركات الشعبوية تتنوع وتختلف، بين مجتمع ومجتمع، أو بين تجربة وأخرى، ولكن هناك سمات مشتركة تجمع بينها. كما حلّل الظاهرة الذين تناولونها من أبرز علماء الاجتماع والإنسان. (جاك ميسترال، وبيار روزانفالون، وفرانسوا دوبيه).

والشعبويون هم محافظون ومتطرّفون، بقدر ما هم معادون لقيم الحداثة والعلمنة والانفتاح، كما تشهد نماذجهم، من ماتيو سلفاني إلى فكتور كوربان، ومن مارين لوبن إلى بوريس جونسون، ومن جائير بولسونارو إلى ماندرا مودي.

من هنا فهم يُولُونَ أهميةً قصوى للسيادة الوطنية ضد النزعة العالمية. ويركزون على المطالب الثقافية والهوياتية أكثر ممّا يركزون على المطالب الاجتماعية والمعيشية. ومن هنا أيضًا فهم يعلنون كرههم للنخب السياسية والإدارية والثقافية.

على أن أهم ما تشترك فيه الحركات الشعبوية هو إلغاؤها للمؤسسات الوسطى؛ من أحزاب سياسية وهيئات ثقافية أو نقابات مهنية، تخترق المجتمعات، عاموديًّا أو أفقيًّا. إنها لا تعترف إلا بثنائية واحدة: رئيس منتخب من الشعب، وحده هو الذي يمثله ويدافع عن مصالحه.

نحن هنا، وكما أقرأ الشعبوية، إزاء ميل لإلغاء تعدّد مصادر المشروعية في الدول الديمقراطية، يتوسّل الاقتراع العام، ويتم باسم الشعب الذي يختزله شخص واحد يتسم بالغطرسة بقدر ما يفكر بعقل أحادي فاشي. أيًّا يكن أمر الشعبوية، فإنها تغذّت من موجات الهجرة التي غَزَتِ البلدان الأوربية، وقد تعاظمت بعد انفجار الحروب الأهلية في غير بلد عربي. وتلك هي مفاعيل الأصولية الإسلامية في أوربا: توسّل الديمقراطية لإنتاج أصولية مضادة تجمع بين العنصرية والشعبوية أو بين التعصّب والفاشية.

من هنا تحولت ظاهرة الهجرة، في مختلف بلدان أوربا، إلى معضلة قابلة للانفجار، حول هذه المسألة أو تلك، مرة حول الحجاب والبُرقع، ومرة أخرى حول بناء المآذن، وثالثة حول استخدام اللغة العربية على واجهات المتاجر والمخازن. ناهيك عن المشكلة الأخطر، وهي نقد الدين الإسلامي ورموزه، من جانب مثقفين أو إعلاميين غربيين، لم يتركوا في المسيحية مقدسًا أو محرمًا لم يخضعوه للنقد الساخر.

IV.لبنان المستضعف

ولكن المشكلة لا تقتصر على فرنسا أو البلدان التي يقصدها أو يغزوها اللاجئون أو المهاجرون. فالهويّة تحوّلت إلى مشكلة في البلدان ذات التركيب الطائفي المتعدّد، كما هي الحال في البلدان العربية الغارقة في حروبها الأهلية. وهذه هي الحال، خاصة، في لبنان الممزق بسبب تناحر العصبيات الطائفية، والمستضعف بسبب التدخّلات الخارجية الخفيّة والسافرة، والمضروب بمشكلة الهجرة المستعصية على الحلّ. ومع أن لبنان هو بلد الهجرات بالاتجاهين؛ إذ هو صدّر كما استقبل المهاجرين، فلم يَعُدْ بوسع البلد الصغير تحمّل أعباء النزوح السوري الكبير. ويا لها من فضيحة أو لعنة أن يتخلّى اللبناني عن هويته الوطنية؛ لكي يتماهى، حتى الذوبان، مع هذه الهوية العربية أو تلك الهوية الإسلامية. بهذا المعنى فلبنان هو صاحب العنصرية الأضعف بين الدول العربية؛ لذا فإن الكلام عن عنصرية لبنانية تمارس تجاه اللاجئ أو النازح لا معنى له، بل يشهد على جهل صاحبه.

V.العصبية والعنصرية

لا يبدو أن مشكلات الهوية الناجمة عن ظاهرة الهجرة العالمية، تجد حلولًا لها، بل هي تزداد تعقيدًا وخطورة؛ لأنها لا تعالج بصورة جذريةٍ قوامُها المساءلةُ النقدية والمراجعة العقلانية للأدوات المعرفية المستخدمة في الفهم والتشخيص.

والسؤال هو: كيف نفسِّر أن تجتاح العنصريات، بأشكالها القديمة والمستجدة، المجتمعات الديمقراطية والأنظمة الليبرالية؟ وكيف نفسِّر أنه، بعد كل هذا الكلام عن التسامح والأخوّة والوَحْدة، في لبنان والعالم العربي، تجتاحنا العصبيات وتطحننا الحروب الأهلية. جوابي أن نستفيق من سباتنا الحداثي والنخبوي الذي جعلنا نقفز فوق الواقع بسذاجتنا التنويرية وتهويماتنا الأيديولوجية. لنحسن قراءة ما لا ينفكّ يحدث ويتغيّر، لنستخلص الدروس والعِبر، على وقع الإخفاقات والانهيارات.

أولًا- الأصل في المجتمع البشري ليس المجتمع المدني ولا النظام الديمقراطي، بل المجتمع الأهلي بعصبياته وعنصرياته، تمامًا كما أن الأصل هو التفاوت وليس المساواة، والاختلاف وليس الوَحْدة، والهوى وليس التعقّل… بحسب هذا الفهم للمجتمع، لا هويّة مجتمعية من دون عصبية، ولا هوية وطنية من دون عنصرية، تمامًا كما أنه لا هوية فردية من دون نرجسية. والمجتمع الذي يخلو من عصبية تشدّ أواصره وتوثق عراه مآله التفكّك والانحلال أو الذوبان، سواء أكان أمّة أم وطنًا، طائفة أم قبيلة، حزبًا أم نقابة، قديمًا أم حديثًا. والعصبية لا تفهم بوجهها السلبي، كتعصّب يمارس بالتشبّث الأعمى بالقناعات والآراء أو بالتمركز المرضي على الذات مقابل استبعاد الآخر أو كرهه ومعاداته، وإنما هي تفهم، إذا شئنا استعادة نظرية ابن خلدون، بوجهها الحديث، بوصفها ميلًا طبيعيًّا لدى البشر يجسد أصل اللُّحْمة والرابطة، وأساس الانتماء والاندماج، وركيزة التماسك والتكتّل، ومصدر القوة والمطالبة والحماية.

ثانيًا- والوجه الآخر للعصبية هو العنصرية. وإذا كانت العصبية هي ميل طبيعي، فإن العنصرية هي أيضًا ميل طبيعي، وهو ما يعني أن قِيَم الانفتاح على المختلف والاعتراف بأنه مساوٍ، من حيث الحقوق والكرامة والإنسانية، ليست ما فطر عليه الناس في نظرتهم بعضهم لبعض أو في تعاملهم بعضهم مع بعض. وَحْدَه الضعيفُ والعاجز، ومن يشكو من ظلم أو تمييز، هو الذي يطالب بالمساواة. وإذا كانت العنصرية تجسّد في حدّها الأدنى إرادة التمايز التي تحمل كل جماعة على الإعلاء من شأنها للتقليل من شأن غيرها، فإنها تجسد في حدّها الأقصى إقصاء الآخر واحتقاره أو السعي إلى استعباده وإلغائه. هذا هو واقع العلاقات بين الأمم والجماعات. ولا أعتقد أن هذه الميول النرجسية والعنصرية، ستختفي، ما دامت الثنائيات المستخدمة في التوصيف والتقييم شغالة وفاعلة، سواء كانت قديمة كثنائية الله والشيطان أو الإيمان والكفر أو الهدى والضلالة، أو حديثة كثنائيات الممتاز والعاطل، أو التقدم والتخلف، أو الحضارة والبربرية. ولا أنسى قبيلتي الثقافية، حيث النرجسية تبلغ ذروتها، كما تشهد محاولات نفي الآخر أو تهميشه أو إلغائه، بكلمات جارحة هي أقسى من الرصاصات القاتلة.

ومؤدّى هذه المقاربة للمجتمع أن العصبية والتفاوت والتمييز هي المعطى الوجودي الذي لا يجدي نفيه؛ لأن الممكن هو الاشتغال عليه وتحويله، وعلى النحو الذي يتيح للمرء أن يمارس اختلافه وخصوصيته الثقافية، كسلوك مدني وفضاء عمومي للتداول والتوسّط. من غير ذلك سنحارب العصبية أو العنصرية لنجدها أمامنا، كما حاربنا الطائفية لنزداد طائفيةً، أو طرحنا الوَحْدة الطوباوية لنزداد فرقةً، أو دعينا إلى الحرية الفردوسية لنزداد استبدادًا.

VI.الجحيم والملاك

أولًا- ليس الآخر جحيمًا نفزع منه أو نكرهه ونطرده. فمع هذا الحراك الكوكبي الذي تشهده الكرة الأرضية، أصبح الكلام عن وجود مجتمع متجانس أو هوية صافية، هو تهويم نرجسي محصلته تلغيم المجتمعات وجرّها إلى النزاعات والحروب الأهلية. من هنا مدى الخداع الذي يمارسه الشعبويون في كلامهم، على وجود شعب واحد متجانس. فمصطلح الشعب بات اليوم محلًّا لما التبس وتعارض من العناوين والشعارات. ومن مفارقات الشعبويين أنهم يؤلِّهون «الشعب» ويدافعون عن «السيادة» الوطنية، ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد أن تفكّك الشعب وتشتّت، بمعسكراته وطبقاته وأحزابه، بتحوّله إلى مجرّد حشود أو تجمعات أو فلول، سكانية، تتنازعها الأهواء وتغذيها مشاعر الكره والبغض.

وإذا كانت محاولات إلغاء الآخر أو الانفصال عنه هي مستحيلة أو مدمّرة، فما هو ممكن مع هذا التشابك في المصالح والمصاير، هو أن يصنع الفرد أو الجمع هويته بالتدرّب على قبول الآخر، والعمل معه لخلق مساحات وإمكانات للتعاون والتبادل.

ثانيًا- الآخر ليس جحيمًا، ولكنه ليس ملاكًا، سواء أكان أخًا أم صديقًا، حليفًا أم شريكًا، وأيًّا كان مستوى الشراكة. من هنا فإن قبول الآخر أو دعمه، لا يعني أن يتصرف الواحد بصورة طوباوية ساذجة تشهد على الجهل والغفلة. والمثال الأسوأ يقدّمه ذلك اللبناني، الذي يعلن ولاءه للغير الذي لا يعترف به، بل يتّخذه مجرّد أداة أو وسيلة على حساب كرامته وبلده. هذا مع أن التجارب المريرة والحروب الطاحنة، بين الأشقّاء أو بين الحلفاء والشركاء، وبخاصة في العالم العربي، هي غنية بالدروس والعبر. والدرس الأبرز ألَّا يثقَ المرء، أيًّا كان انتماؤه الثقافي أو خطه السياسي، ثقة مطلقة، بأي صاحب هوية أو قضية أو دعوة، بحيث يحتفظ باستقلاليته الفكرية وعينه النقدية، تجاه المجريات؛ كي لا يتحوّل إلى رقم في قطيع، وكي لا يُفاجأ ويُقاد إلى ما لا تُحمد عقباه بعد فوات الأوان.

الحقائق البديلة.. الخلق والتلاعب

الحقائق البديلة.. الخلق والتلاعب

من المحاور التي احتلّت القسط الأكبر من اهتمامي، هو مسألة الحقيقة، وقد كرَّست لها غير مؤلف، بدءًا من أوّل كتاب «التأويل والحقيقة» حتى الأخير: «ما بعد الحقيقة». ولا عجب. فالحقيقة هي ضالّة الفلاسفة واللاهوتيين، كما هي موضع اهتمام الناس أجمعين؛ إذ لا عاقل ولا عادل لا يهتم بمعرفة الحقيقة أو بالدفاع عن الحقوق. ولكن ليس كلّ ما يدّعيه المرء يصل إليه أو يعرفه حق المعرفة. ثمة فجوة بين المطالب والمكاسب، بين منطوق الخطاب ومنطقه، بين ما نعلنه ونخفيه، بين ما نريده وما نقدر عليه. وعلّة ذلك أن هناك، في كل ما نفكّر فيه ونعرفه ونراه، جانبًا مُعتِمًا يخرج عن نطاق التفكير ويفخّخ أقوالنا كما يُفاجئنا من حيث لا نحتسب.

من هنا فالقبض على الحقيقة أو الاعتراف بها صعب المنال، بل مهمة مستحيلة. هذا إذا كان المرء صادقًا في القول. ولكن الكثيرين يضمرون غير ما يعلنون، ممّن يجدون الكذب أسهل أو أحسن عاقبة من قول الحقيقة. وها نحن، وبعد هذه المسيرة غير الظافرة، في البحث عن الحقيقة أو الشهادة لها، نجدنا اليوم في نقطة الصفر، بقدر ما تفاجئنا تصرفاتنا التي لا تخلو من حمق أو عبث أو جنون، والتي تكشف ما نمارسه من الكذب والغش أو ما يعتورنا من الجهل والنسيان، بالرغم من كل هذا التقدّم في حقول العلم وأنساق البرمجة أو في صيغ العقلنة وأنظمة المعرفة.

هذا ما حصل مؤخرًا، بعد إطلاق مقولة «الوقائع البديلة»، وقد قُصِد بها أن هناك وقائع غير تلك التي تثبت بالتجربة والحجّة من جانب العلماء والفلاسفة. ممّا أعاد إلى الظهور مصطلح «ما بعد الحقيقة»، الذي يضع موضع الشكّ قدرتنا على التفريق بين الصحيح والخطأ أو بين الصدق والكذب. هذا الحدث، الذي كان بمثابة صاعقة تركت دويّها على ساحة الفكر العالمي، قد صدم عشّاق الحقيقة الذين يتعاملون معها بوصفها أيقونتهم المقدّسة، بقدر ما زعزع بالذات مفهومها القائم على مبدأ التطابق بين التصورات والوقائع، أو بين المقولات والموجودات، أو بين الكلمات والأشياء.

ومعلوم أن هذا التعريف للحقيقة قد هيمن على العقول منذ أرسطو صاحب المنطق حتى المعاصرين. أقول منذ أرسطو، وأستثني أفلاطون؛ إذ كان له هو الآخر «حقائقه البديلة»، القائمة في عالم المُثل، وهو عالم متوهَّم لا يشكِّل عالمَنا، عالم الوقائع الفعلية، مقارنةً به، سوى نُسَخ باهتة أو خادعة أو مشوّهة. وبالطبع كان لي كواحد تشغله مسألة الحقيقة، أن أنخرط في المناقشة العالمية، وهي لم تهدأ أو تُخمد منذ إطلاق مصطلح الوقائع البديلة.

ومن الفاضح أن هذه المسألة لم تستلفت نظر الكتّاب وأهل الفلسفة في العالم العربي، كما تشهد قلّة بل ندرة الكتابات حولها. وعلّة ذلك أن المعنيّين بالشأن الفكري والفلسفي قد رسخوا في العقود الأخيرة تقليدًا غير فلسفي، تغلب فيه الاعتبارات الأيديولوجية والأنثروبولوجية المتعلقة بالدفاع عن الحرية والهوية على الصناعة المفهومية والمشاغل المعرفية. هذا ما تشهد به عناوين الكتب الصادرة بالعربية، التي يحدثنا أصحابها عن العقل العربي أو الغربي أو عن النهضة العربية والعلوم الإسلامية، فضلًا عن الذين يحدثوننا عن الإسلام والإمبريالية أو عن المركزية الغربية، وسوى ذلك من المحاولات التي انبنت على تجنيس العقول والعلوم، وعلى تحويل الفلسفات إلى مشاريع نضالية.

المهم أن انخراطي في النقاش العالمي، كانت حصيلته كتابي «ما بعد الحقيقة» (فبراير 2018م). هذا مع أن ما كتبته، منذ البداية، هو نقد للحقيقة يندرج في سياق نقدي للمشروع الحداثي، بمختلف عناوينه حول العقلانية والتقدم أو حول الحرية والإنسانية.

ومن مفاعيل هذا النقد تفكيك منظومة فكرية لغّمت خطاب الحقيقة، سواء على جبهة الحداثة أو في معسكر الدين، بقدر ما تعامل أصحابها مع المسألة بمفردات الماهية والثبات والمطابقة أو التيقّن والقبض والتحكم. والوجه الآخر لعمل التفكيك، الذي يسلّط الضوء على المأزق، على وقع الإخفاقات والتراجعات، هو عمل التركيب لفتح مفهوم الحقيقة على ممكناته، باقتحام المناطق المستبعَدة وغير المفكَّر فيها، وذلك بالتعامل مع المسألة من خلال مفردات القراءة والإستراتيجية أو الخلق والتحويل أو الصناعة والبناء أو اللعب والرهان. هذا الانفتاح ينقلنا من المنظور المرآوي للفكر بوصفه صورة عن الواقع، ومن المنظور الماهوي للكائن بوصفه ذا ماهية ثابتة، إلى أفق فكري جديد، حيث الواقع هو بنية تفاضلية من العلاقة المتغيّرة، وحيث الفكرة هي مجرّد مقاربة للواقع، أي قراءة تنشئ علاقات جديدة مع الحقيقة.

نحن إزاء منطق آخر، علائقي تبادلي، سمّيته المنطق التحويلي. وبحسب هذا المنطق لا شيء يمكن القبض على حقيقته الموضوعية؛ إذ لم يعد الشيء ماهيته الصرفة التي يُطلب دركها واكتناهها، بل «جملة علاقاته وتبادلاته التي هي جُماع إمكانياته المفتوحة على المجهول والمفاجئ واللامتوقع. إنه نسبته إلى الأشياء الأخرى. وكل نسبة جديدة تفتح إمكانًا للتفكير بقدر ما تبني علاقة جديدة مع الواقع. وهو الأمر الذي يجعل المفهوم من الشيء عبارة عن سلاسل متواصلة من الإحالات الدالّة، كما يجعل المعنى عبارة عن تحولاته الممكنة ونسخه المتعددة.

ما ورد من عبارات مكتوبة بالخط العريض، قد أخذت بحرفيتها من كتابي «الماهية والعلاقة/ نحو منطق تحويلي» (1998م).

وللمقارنة، ها هو الفيلسوف الألماني ماركوس غبريـال، الذي يعدّ مؤسّسًا للمدرسة الواقعية الجديدة يقول بأن الواقع مركب من علاقات. (ورد هذا التعريف في حوار أجرته معه المجلة الفرنسية) Philosophie/Magazine (عدد ماير 2019م).

ويضرب غبريـال على ذلك مثالًا. فهو يفترض أن هناك شخصين يرى كل منهما جبل فيزوف الإيطالي في الوقت نفسه، واحد مقيم في مدينة نابولي والآخر في مدينة سورنت. أما الواقعية التقليدية فيملك البركان حقيقته الموضوعية المستقلة عن المنظورات الذاتية للأشخاص الذين يرونه. أما الواقعية الجديدة، فلا وجود لفيزوف موضوعي؛ لأن ما يوجد هو واقع نسبي، يتعلق أولًا باسم الجبل ومفهوم البركان، وهما نتاج إنساني، كما يتوقف على حجم جسمنا ومقاسه. ولو نُظر إلى البركان، مثلًا، على المستوى الكوني، لاختفى وما عاد يحسب له حساب. من هنا يذهب غبريـال إلى أن الواقع ليس هو حقيقته الموضوعية، بل ما نقيمه معه من علاقات، وقديمًا قال الفيلسوف الإغريقي جورجياس بأن الإنسان هو مقياس كل شيء. وما يقوم به غبريـال هو تقديم أدلّة جديدة على هذه الحقيقة. لا أريد أن أختزل نظرية هذا الفيلسوف التي هي أكثر تعقيدًا والتباسًا. فأنا أتفق معه فقط في تعريف الواقع من حيث بُعدُه العلائقيُّ. ولكني لست من دعاة الواقعية الجديدة؛ لأنني لا أقول أصلًا بالواقعية، بل باستحالة القبض على حقيقة الواقع.

ما بوسعنا فعله والقيام به، هو قراءة ما يقع ويفاجئ على سبيل المقاربة والمعالجة، أو الفهم والتدبير، بخلق وقائع في هذا المجال أو ذاك، فكرة أو لغة، مؤسسة أو قاعدة، إجراء أو جهاز، أداة أو وسيلة، انقلاب أو ثورة… هذا ما يقوم به الفلاسفة عبر أعمالهم ونصوصهم: خلق وقائع فكرية خارقة تغير علاقتنا بالواقع بقدر ما تُضاف إلى سجل الحقيقة، وتشكّل إضافة قيّمة إلى رصيد المعرفة، بقدر ما تسهم في تشكيل العقول وتغيير الأفكار.

بهذا المعنى لكل فيلسوف «حقائقه البديلة»، تبعًا لاختلاف رؤيته ومنهجه أو صِيَغه وأسلوبه. كل فيلسوف يصنع حقيقته ويلعب لعبته، ببناء عالم فكري تتغير معه علاقتنا بالذات والفكر، كما بالواقع والحقيقة. حتى الكذب هو واقعة تترك أثرها. ولذا فهي، ككل واقعة تُقرأ ولا تُنفى. والشاهد على ذلك بالذات تقدّمه مقولة الوقائع البديلة. فقراءتي لهذه المقولة هي التي دفعتني إلى القول: لكل فيلسوف حقائقه البديلة. بمعنى أن ما ينشئه الفيلسوف من خطابات حول الواقع، لا يُدرك به الحقيقة، بالخط العريض والعنوان الكبير، وإنما يصنع حقيقته بقدر ما يعبر عن فرادته ويترك بصمته بابتكاراته المفهومية والمنهجية. بهذا المعنى كل فيلسوف يخلق عالمًا بديلًا تتغير معه رؤيتنا للأشياء وعلاقتنا بمفردات وجودنا.

وهكذا كل تعامل مع الواقع هو قراءة له. وكل قراءة تشكل واقعة جديدة تترك أثرها ومفاعيلها في المجريات. كل قراءة هي رهان لفتح الإمكان، وكل قراءة خلّاقة تنشئ علاقات مختلفة مع الحقيقة. وكل خلق جديد يغير بنية الواقع وخريطة المشهد، كما يغيّر جغرافية المعرفة وعلاقات القوة. بذلك تتغيّر قواعد اللعب والرهان على الساحة الفكرية. فتحلّ إستراتيجية القراءة محلّ أيقونة الحقيقة، ولغة الخلق محلّ مبدأ المطابقة، كما يحلّ منطق العلاقات المتغيّرة محلّ فلسفة الماهية الثابتة. لا يعني ذلك نفي الواقع بصلابته وقساوته، بتقلُّباته ومفاجآته. من يفعل ذلك يرتد عليه الواقع لكي يتجاوزه ويهمّشه أو ينتقم منه؛ لذا فإن أكثر الناس نفيًا للواقع هم دعاة الواقعية، الذين يتعامون عن الواقع لتصبح أوهامهم أو مقولاتهم المستهلكة.

والوجه الآخر لهذا التغيّر، هو تجاوز ثنائية الصدق والكذب أو القبض والتلاعب؛ لأن المسألة أن نتقن اللعبة، لعبة الخلق والفتح أو التحول والتجاوز، بخلق وقائع جديدة، خارقة، يعاد معها تركيب المشهد وبناء العالم. وتلك هي المعادلة: أن نخلق لا أن نختلق، فلا نقع في آفة الغشّ والتزوير، ولا في آفة الواقعية الساذجة والخادعة.

الثورات العربية: الدروس والتحديات

الثورات العربية: الدروس والتحديات

بعد المآلات البائسة للثورات العربية حَسِبَ الكثيرون أن الأمر قد قُضِيَ، وأن ما سمي «الربيع العربي»، قد أصبح وراءنا، لأنه لم يكن سوى حركات مشبوهة استهدفت إسقاط الأنظمة القومية التي تقاوم وتمانع أشكال القهر والهيمنة. ولكن ها هي الأحداث في السودان، ثم في الجزائر، تفاجئ العرب والعالم بما لم يكن متوقعًا: موجات جديدة من الانتفاضات تقول بأن الثورات العربية هي أمامنا. فقد انفجر في كلا البلدين، مع اختلاف الأسلوب والظرف، حراك شعبي هائل، عفوي، سلمي، مدني، بدأ بطرح المطالب المتعلقة بالحريات وتحسين الأوضاع المعيشية، وانتهى بالمطالبة بإسقاط النظام القائم وتغييره بصورة جذرية.

واللافت في الثورتين، وعلى خلاف ما جرى في الموجة الأولى من الثورات العربية، مشاركة تجمع الهيئات المهنية من محامين ومهندسين وأطباء وقضاة وأساتذة جامعيين. وهو الأمر الذي أكسب الحراك الشعبي تماسكه ووزنه. ثمة أمر آخر لافت هو أنه في كلتا الثورتين لم تطرح شعارات إسلامية. فكان الحراك ذا طابع وطني، وذا توجه ديمقراطي ليبرالي. هذه الفاعلية الإيجابية، السلمية، المدنية، الناعمة، هو ما حملني، منذ انفجار الحدث، على أن أقرأ هذا التحول، بوصفه تراجعًا للمدِّ الأصولي، الذي هيمن على المشهد منذ ثمانينيات القرن الماضي، لمصلحة الكتلة الحداثية، بمكوناتها المدنية والعلمانية والليبرالية.

الميدان والبرلمان

لا شك أن الثورة، في الجزائر كما في السودان، تواجه تحديات كبيرة، أُشير إلى ثلاثة منها: التحدي الأول: هو أن الثورة، كلحظة استثنائية، قد خلقت وضعًا تتضارب فيه الصلاحيات وتتصارع المشروعيات، بين شرعية الميدان وشرعية البرلمان، بين شرعية الحراك الشعبي وشرعية المؤسسات الدستورية القائمة. وفي اللحظات الاستثنائية تكون الأولوية للشعب، أي للديمقراطية المباشرة في الميدان. والسؤال: كيف سيُترجَم الحراك الشعبي، قبل أن ينفد أو يخرب، إلى شرعية جديدة تتكفّل بوضع دستور جديد على أساسه تتمّ أعمال الإصلاح والتغيير؟

التحدي الثاني: هو عسكرة الحراك المدني، بتحويله إلى ميليشيات مسلحة تخرب الثورات، كما جرى في اليمن وسوريا وليبيا، بفعل تدخل الحكومات أو الحركات الإسلامية ومنظماتها الإهاربية، سواء من جانب الجهاديين من أهل الخلافة أو المجاهدين من أهل الولاية، وكلاهما وجهان لعملة واحدة. فماذا يفعل أهل الحراك للخروج من هذا المأزق، إن في الجزائر أو في السودان، كي لا تتحول الثورة نحو التطرف والعنف، بعد أن قرر الجيش الإمساك بالسلطة؟ بالطبع تحضر هنا تونس بوصفها استثناءً بين الثورات العربية، حيث الجيش وقف على الحياد، وحيث الكتلة الحداثية والهيئات المدنية استجمعت قواها وفرضت تراجع حزب النهضة الإسلامي الذي حاول القبض على السلطة واحتكار الثورة وربما تخريبها.

التحدي الثالث: يمثله الجيش كلاعب فاعل له دوره وأثره، وبخاصة في الدول العربية، التي هي في معظمها دول عسكرية أمنية. لا شك أن الجيش في كلا البلدين اعترف بمشروعية الحراك وأيد مطالبه، أقله تحت ضغط الشارع. والحصيلة في الجزائر تراجع الرئيس بوتفليقة عن ترشحه لولاية خامسة وإجباره على الاستقالة. أما في السودان فإن الجيش، وبعد تردد، قد استجاب لمطالب قوى الحرية والتغيير، فأطاح بالرئيس عمر البشير ووعد بنقل السلطة للهيئات المدنية. وما زال الأمر في كلا البلدين محل أخذ وردّ؛ إذ من الصعب على الجيوش أن تسلم السلطة للهيئات المدنية. من هنا فإن المرحلة الانتقالية ستشكل مختبرًا لكل اللاعبين على المسرح، وسيبقى مصير الحراك متوقفًا على ما يمكن أن تتمخض عنه الصراعات والمناقشات التي تضع قوى التغيير على المحك، من حيث قدرتها على نقل المجتمع من عصر إلى عصر، ومن طور إلى طور. لم يعد يكفي طرح الشعارات الجاهزة. فالتحول الديمقراطي ليس مجرد نموذج يطبق، إنما هو خبرة وجودية تسفر عن تجديد مفهوم الديمقراطية وتطوير مجالات عملها وآليات ممارستها. من هنا لا بد من إعادة ابتكار الشعارات، على ضوء التحولات، كما على وقع الإخفاقات والأزمات، سواء تعلق الأمر بالديمقراطية أو بالحرية أو بحقوق الإنسان. في أي حال، لا عودة إلى الوراء. وإذا كانت الانتفاضات، التي اندلعت عام 2011م، قد أسقطت غير حاكم مستبدّ أو فاشل، فإنه بات من المستحيل استمرار الوضع القائم، الذي تتصارع فيه الأنظمة الدكتاتورية والحركات الأصولية ويتواطأ بعضها مع بعض، إلا على سبيل الاستبداد والإرهاب أو الفساد والخراب، وهو الأمر الذي يخلق المجال لولادة انتفاضات جديدة.

مقتل الثورات

إن الحدث الجاري مفتوح على ممكناته، أيًّا كانت الإجابات والاحتمالات. وما بإمكاننا قوله الآن هو الكلام على الدروس التي يمكن استخلاصها من التجارب الناجحة والفاشلة، فيما يخص الثورات عامةً، والثورات العربية السالفة والجارية، بصفة خاصة. الدرس الأول هو أن الثورة ليست عرسًا ولا فردوسًا كما يخالها الثوار. ونحن ننسى أن هيغل الذي كان مؤيدًا للثورة الفرنسية الكبرى (1789م) قد عرّف الثورة بأنها الإرهاب. والثورة تتحول إلى عمل إرهابي يمارس أهله العنف الأعمى والفاحش، عندما تُعامَل القضايا والشعارات، فيما يخصّ الفصل بين الحقيقة والخطأ أو الحرية والاستبداد أو الخير والشر، بوصفها حقائق مطلقة أو أيقونات مقدّسة أو حلول قصوى ونهائية. وهو الأمر الذي يفخّخ المطالب ويجعل الثورة تُفاجئ المنخرطين فيها، بكونها تنتهك شعاراتها وتأكل أبناءها.

والخروج من هذا المأزق، بدايته ومفتاحه المراجعة النقدية للمفاهيم المتعلقة بالحقوق والحريات، إذ هي تحتاج دومًا، لكونها تستهلك أو تنتهك، إلى إعادة النظر والبناء، على سبيل التعويم والترميم أو التعزيز والتفعيل أو التطوير والتجديد. وهذه مهمة المثقفين والعاملين في ميادين المعرفة، الذين تفاجئهم الأحداث دومًا، لتكشف عن سذاجتهم الثورية وتهويماتهم النضالية ومزاعمهم الطوباوية. ولذا لم يعد بوسع أحد أن يدّعي عشقًا للحرية أو تماهيًا مع العدالة أو احتكارًا للحقيقة. فما ينتظر من المثقف هو العمل على قراءة المجريات وتشخيص الواقع، بابتكار ما يحتاج إليه ذلك من اللغات المفهومية والصيغ العقلانية التي يمكن أن تترجم إلى إستراتيجيات فعّالة وبناءة. فنحن ننجح في تغيير الواقع بقدر ما نحسن قراءته.

دولة القوانين

الدرس الثاني مفاده أن ما يخرب الثورات هو تصرف قادتها وصُنّاعها بعقلية الثأر والانتقام، كما تجسد ذلك في المحاكمات الاعتباطية، وعلى ما كان من أمر الثورات المشهورة، من الثورة الفرنسية إلى الثورة الروسية، وصولًا إلى ثورات التحرر الوطني والسياسي. نحن نمجد هذه الثورات ورموزها مع أنها كانت ثورات المقاصل والإعدامات ومعسكرات الاعتقال وأقبية التعذيب أو التصفية بالحرق والأسيد. ولذا يؤمل من الانتفاضات التي تسعى إلى التغيير بالوسائل السلمية والقوة الناعمة، التأسيس لشرعية جديدة، من حيث قيمها ومعاييرها وقوانينها، ننتقل معها من الدولة الأمنية المخابراتية إلى دولة القوانين والمؤسسات، بحيث يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات من غير تمييز على أساس خصوصيتهم الثقافية أو المجتمعية، حيث لا أحد يعلو فوق سلطة القانون، كما لا أحد يُتّهم من دون سند قانوني. والعمل بهذه القواعد يضع حدًّا لمافيات الفساد والنهب للمال العام، كما يضع حدًّا للسلطات والأجهزة الأمنية التي تلفق التهم ضد المعارضة لمصادرة حرية التعبير والتنظيم التي تكفلها القوانين وشرعة حقوق الإنسان. فلا معنى للثورات ولبرامج الإصلاح والتغيير، إذا لم ننجح في بناء دولة المواطنة والقانون والحقوق والعدالة، وعلى نحو يُنهي عهد الزعماء الذين يتعاملون من بلدانهم ومقدراتها بوصفها ملكهم الذي يتصرفون فيه كما يشاؤون.

الأمر الذي يقتضي كسر المنطق الأحادي السلطوي أو الشمولي، للعمل بمنطق تداولي يتجسد في الانفتاح على المختلف والمعارض في الرأي والموقف أو الخط والبرنامج، وبفكر مركب يستطيع أصحابه قراءة الواقع المعقد في مختلف أبعاده وجوانبه. فالحلول للمشكلات هي تركيب وتأليف أكثر مما هي حسم اتجاه ضد آخر.

نموذج جديد

وما دام لا أحد يملك الحقيقة، فما نقتنع به أو نطرحه هو مجرد رهان، لا أكثر. والرهان أن تطوي الثورات المشتعلة صفحة النموذج الثوري العربي التحرري، الذي اتّسم بالصلف والتكبّر، والذي كان يعتقد أصحابه بأنهم يمتلكون الحقيقة ويصنعون التاريخ، فإذا بهم يدمرون الحاضر ويلغمون المستقبل. ومما يبعث على التفاؤل أن نشهد في الجزائر نموذجًا جديدًا للثائر المتواضع، الذي يبتسم ويرقص ويغني، والذي يهتم بتنظيف الشارع بعد المسيرة، بقدر ما يتفنّن ويبتكر شعارات طريفة أو رسومًا جميلة أو أساليب جديدة في الحوار والتواصل مع الناس. وكان لافتًا في السودان أن تقف المغنية والثائرة آلاء صالح وسط الحشود، لتقول: جننونا، حرقونا، حقرونا، قتلونا باسم الدين! مثل هذا النموذج هو الذي يصنع المستقبل. لقد أُتخمنا تكفيرًا وتخوينًا وإدانةً، لكي نحصد كل هذه البربرية.

كيف نتغير؟

الدرس الأخير مفاده أن الثورات الساعية إلى تغيير الأنظمة السياسية والأمنية، لا تنجح ما لم تسع إلى تغيير البنى الثقافية والمجتمعية المتجذرة والراسخة، والمنتجة لكل هذا العنف والتوحش. فسقوط رئيس أو انهيار نظام يشكل فرصة لتغيير العقليات والمفاهيم، لتجديد أنماط التفكير ووسائل التدبير أو صيغ العيش وقواعد التداول. لا يعني ذلك أن نحكم على الثورات بالفشل، بالقول: إنها أسقطت الرؤساء ولم تغير البنى العميقة للمجتمعات العربية. مثل هذا القول يشهد ضد أصحابه لأن مبناه أنهم فشلوا، بعد عقود من طرح مشاريعهم للتغير، من إجراء تحويل ثقافي وفكري في مجتمعاتهم. فلا نلومنّ إذا الحشود التي خرجت إلى الساحات بعد فشل المثقفين، سواء في تصوراتهم للواقع أو في خططهم لتغييره. والرهان هو إعادة النظر في مفهوم التغيير بالذات، في ضوء ما يجري من التحولات الهائلة التي تشهدها المجتمعات البشرية مع الدخول في عصر العولمة والمعلومة والشبكة.

نحن ندخل اليوم في المجتمع التداولي، ومعه تتغير بنية المجتمع وخريطته، بمعنيين: الأول أن كل فرد بات له، مع مواقع التواصل الاجتماعي، علاقة بالحقيقة والمعرفة أو بالقدرة والفاعلية. والثاني هو أن المجتمع لم يعد مجتمع نخبة وجمهور، وإنما هو قطاعاته المنتجة وقواه الفاعلة، بقدر ما هو شبكة تأثيراته المتبادلة وصيرورة تحولاته المتواصلة. في ضوء هذه المقاربة تتغير إستراتيجية التغيير نفسها، فلم يعد يكفي أن نملك برنامجًا أو نموذجًا، أي لم يعد يكفي محتوى الخطط والبرامج. فسواء كنا من دعاة الثورة أو الإصلاح، وسواء كنا من أصحاب المذهب الاشتراكي أو الرأسمالي، القومي أو الإسلامي أو الوسطي، فقد بات من المهم أن نعرف كيف نغير ونتغير. أشير إلى ثلاثة مجالات مستبعدة يطولها التغيير:

الأول: هو أن التغيير لا يتحقق ما لم يصبح كل مواطن فاعلًا ومشاركًا في أعمال البناء. والذي لا تتاح له اليوم الفرصة للعمل الإيجابي والبنّاء، وللمشاركة السياسية الفاعلة، إنما يعمل بصورة سلبية. هذا ما تشهد به حركة «السترات الصفر» التي كان أحد أسباب ولادتها هو تهميش شريحة واسعة من الفرنسيين والحؤول بينهم وبين المشاركة في صنع ذواتهم ومجتمعهم ومصيرهم.

الثاني: أن التغيير لا يتم وفقًا لخطة معدة مسبقًا من جانب فرد أو نخبة، كما كانت تجري الأمور في العصر الصناعي وفي ظل هيمنة أيديولوجيات التقدم. مثل هذه النظرية لم تعد تصلح اليوم. فمن يعتقد أنه يتقدم وفقًا لهدف مرسوم سلفًا، قد يحصد التأخر. ذلك أن التغيير لم يعد يقتصر على الوسائل والأدوات في هذا الزمن السيال والمتسارع، بل يطول أيضًا الأهداف والغايات التي يجري تكييفها أو تعديلها باستمرار، تمامًا كما أن الاستثمار لا يشمل فقط المجالات المعروفة، بل يتحقق بخلق مجالات جديدة.

الثالث: كسر ثنائية النخبة والجمهور وما شابهها. فلا أحد يعرف مصالح الناس أكثر منهم، ولا أحد يدافع عن الحقوق أفضل من أصحابها. هذه أوهام سقطت مع إخفاق المشاريع النخبوية ووصولها إلى نهاياتها البائسة: عبادة الشخصية، تأليه الزعماء، تأبيد السلطات بتحويل الجمهوريات إلى ملكيات. من هنا لم يعد التغيير أيًّا كان محتواه، يتوقف على رئيس متمركز حول سلطته، أو على نخبة غارقة في أوهامها أو تتستر على فضائحها.

ربما تكون الجماهير والحشود مفيدة في اللحظات الاستثنائية، عند إسقاط الطغاة أو قلب الأنظمة. ولكن تغيير نظام اجتماعي ليس عملًا جماهريًّا، ولم يعُد عملًا نخبويًّا، على ما كان الاعتقاد السائد لدى القدماء والمحدثين، سواء في العصر اللاهوتي والعبودي، أو في العصر الحديث والصناعي.

إن التغيير هو مسار متواصل، متعدد ومركب، بقدر ما هو شأن مشترك يساهم فيه الجميع، كل من موقعه وبأدوات اختصاصه، بعقلية المسؤولية المتبادلة وقواعد المداولة والشراكة. إنه تجربة فذة خارقة، بقدر ما هو صيرورة يتحول معها المجتمع بكليته إلى ورشة من التفكير الحي والعمل المثمر. بالطول والعرض، وعلى مختلف الصعد والمستويات وفي مختلف الحقول والقطاعات. والمجتمع الذي ينمو على هذا النحو لا يحتاج أساسًا إلى ثورة عنيفة تأكل أبناءها أو ترتد على شعاراتها. بل هو يتغير وينمو ويتقدم بصورة سلمية، مدنية، بطيئة ومتدرجة. ومن حظّ الناس أن يتغير بلدهم على هذه الشاكلة، من دون أن يدفعوا أثمانًا باهظة، دماءً ودمارًا. ولعل بريطانيا هي البلد الوحيد في العالم، الذي لم يعرف ثورات دموية منذ قرون؛ لأن الشؤون تدار بالمشاورة والمداولة والشراكة والاقتراع العام.

حول المعاداة للسامية: لا لإرهاب الضحايا عندما تتحول الضحية إلى جلاد

حول المعاداة للسامية: لا لإرهاب الضحايا عندما تتحول الضحية إلى جلاد

أشير بدايةً إلى أنني أستخدم التسمية الطائفية، من أجل نقدها والدعوة للتخلي عنها، لمصلحة الإطار الوطني والمجتمع المدني والبعد العالمي الجامع، وبخاصة أن التجارب بينت أن شعارات التعددية الطائفية والحقوق الثقافية، التي رفعت من جانب الأقليات وأصحاب الهويات الفرعية، قد ترجمت غالبًا إلى نزاعات عنصرية أو إلى تصرفات فاشية. يُلاحظ أن الأعمال المعادية للسامية، التي تستهدف اليهود في فرنسا، قد كثرت في الآونة الأخيرة، ولا سيما بعد ظهور حركة «السترات الصفر». ومن أبرز ما حدث في هذا الخصوص، أن بعض عناصر هذه الحركة قد هاجموا الفيلسوف ألان فنكلكرو، قرب منزله في باريس، وأمطروه بوابل من الشتائم: صهيوني قذر، أنت لا تستحق سوى الموت، فرنسا هي لنا ارجع إلى إسرائيل. هذا مع أن فنكلكرو هو فرنسي يهودي من أصل بولوني.

وأنا أذهب في قراءتي للظاهرة، وبعكس ما يرى الكثيرون، أن مصدر الخطر على اليهود ليس معاداة السامية، أو لم يعُد كذلك، بل اليهود أنفسهم بمثقفيهم وجمعياتهم الدينية وتجمعاتهم الطائفية. والأساس في ذلك أنهم يتصرفون بوصفهم طائفة ذات امتياز في فرنسا يحق لها ما لا يحق لأي فرنسي.

بالطبع لقد استغل اليهود قضية «المحرقة» وما تعرضوا له من الاضطهاد والإبادة في العهد النازي وفي ظل حكومة فيشي الفرنسية التي كانت موالية له. ولذا حرصوا دائمًا على أن تبقى قضيتهم في صدارة الاهتمام، واستعملوها كأداة للضغط والابتزاز، ضد كل من يجرؤ على مناقشتها أو المساس بها، سواء اختص الأمر بنفي المحرقة أو بمعاداة السامية أو بالهجوم على الصهيونية.

من هنا أداروا قضيتهم بعقلية محاكم التفتيش، حتى تحولت إلى سيف مسلّط على الرؤوس باسم الضحايا، وهو ما جعل الفرنسي يشعر بأنه يعيش في بلده تحت رحمة الأوساط اليهودية التي تراقبه وتضعه تحت الفحص، فتبرئه وتعطيه شهادة حسن سلوك ما دام يدعم ما يرونه قضيتهم، وإلا عمدوا إلى اتهامه وإدانته أو تشويه سمعته. وقد بلغ ببعضهم الهوَس الهوياتي إلى توسيع دائرة الاتهام والإدانة لتشمل من يتعرض بالنقد لعالِم أو مفكر من أصل يهودي. وهذا ما حصل مع الفيلسوف ميشال أونفراي؛ إذ انتقد في كتابه «أُفول الأصنام» فرويد، مؤسس التحليل النفسي، لا لأنه يهودي، بل لأن نظرياته تنطوي، برأيه، على قدرٍ من الأغلاط والخرافات، وهو ما جرّ عليه تهمة معاداة السامية، مع أن فرويد كان ناقدًا للديانات.

ولكن هذه الإستراتيجية القائمة على الاستنفار الدائم للذاكرة، باستحضار قضية المحرقة في كل مناسبة، قد أعطت مفعولها العكسي. ولا عجب. لقد خُدع اليهود بما نعموا به في فرنسا طوال عقود من التعاطف والدلال، كما خُدعوا بالتسابق الذي أبداه الفرنسيون للتماهي معهم ونصرة قضيتهم.

ولكن لكل ظاهرة وجهها الآخر. فالشيء عندما يبلغ أقصاه قد ينقلب إلى ضده. وها هي مأساة اليهود ترتد عليهم. بعد أن طفح الكيل، من فرط القمع والكبت، أو التخويف والترهيب، فصار الفرنسي يجرؤ على التعبير عما كان يخشى من قوله والجهر به. من هنا لم تعد تُجدي الاحتجاجات والمظاهرات التي شهدتها فرنسا مؤخرًا، استنكارًا لأعمال العداء والعنف التي تعرضت لها شخصيات ورموز يهودية. وإذا كانت الأوساط اليهودية تعتقد، من باب أن ربّ ضارّةٍ نافعة، أن ذلك قد يعيد قضيتهم إلى صدارة الاهتمام، فإنهم لا يخدعون إلا أنفسهم. هذه قضية قد استُهلكت، ولم تعد تعطي إلا ما تعطيه: إنتاج عنصرية مضادة، في فرنسا، كانت تعتمل وتتفاعل في النفوس، لكي تنفجر وتعبر عن نفسها، بعد كل هذا التهديد والتخوين والتدجين الذي خضع له المجتمع الفرنسي (راجع كتابي: الإرهاب وصنّاعه، فرنسا بين الأخطبوط والبُعبع، الدار العربية للعلوم 2015م).

مأزق اليهود

مثل هذا المأزق الذي يصنعه اليهود لأنفسهم مدعاة للمراجعة، لتغيير طريقة التعاطي مع الهوية.

أولًا: والبداية هي التوقف عن التمترس في وضعية الضحية، وعن التعامل مع الآخر أو العالم بمنطق الإدانة أو بعقلية الثأر والانتقام. وهذا السلوك لا يقتصر على اليهود. هذا ما تشهد به تجارب الأقليات الطائفية أو المذهبية أو العرقية، في غير مكان، وكما نحصد آثارها الكارثية اليوم في البلدان العربية والإسلامية ذات التركيب المجتمعي المتعدد. فالذين يرون أنفسهم ضحايا الاضطهاد والظلم، أو الذين يدّعون ذلك، يتصرفون بوصفهم أصحاب ميزة أو حق أو فضل على سواهم، وهو الأمر الذي يسوِّغ لهم إقصاء الآخر أو احتقاره أو إدانته. وهذا ما أسميه «إرهاب الضحايا»، والحصيلة هي تحوّل الضحية إلى جلاد.

ومن الطبيعي أن ينقلب الضحية هذا المنقلب، فيتحول إلى قاهر أو ظالم أو مستبد أو إرهابي، إذا لم يقم بمراجعة نقدية، عقلانية، لآرائه ومواقفه وطرق تعامله مع الآخر، وعلى النحو الذي يتيح له إعادة بناء نفسه من جديد.

ليتعلم الضحية ممن كان يعده جلاده. فالألمان قاموا بمراجعة نقدية، بعد هزيمة النظام النازي وما جرّه من الكوارث على بلدهم، لكي يعيدوا بناء هويتهم الوطنية، وفقًا لقيم المصالحة والحوار أو الاحترام والاعتراف. نحن ندخل في واقع تتشابك فيه المصالح والمصاير على الساحة العالمية. ومن لا يحسن التواصل مع غيره، وبخاصة إذا كانوا شركاءه، فمآل عمله التعصب والتطرف والعنف.

ثمة مثال يحضر هنا غني بالدروس، يجسده مانديلا. فهو عندما تحرر بلده وتسلّم سُدة الرئاسة، كان أول ما فكّر فيه هو طي صفحة التمييز العنصري، وفتح صفحة جديدة، بحيث لا تُعامل الأكثرية السوداء أبناء الأقلّية البيضاء، كما عوملت به من قبلهم، بل بوصفهم شُركاء في المصير. والمغزى أنه لا ينجح بناء مجتمع أو صنع مستقبل تحت وطأة الذاكرة بجراحاتها وكوابيسها، بل بإتقان لغة الفكر المركب والبعد المتعدد. أو التداول المنتج أو التفاعل المثمر.

هذا ما يفترض باليهودي أن ينجزه، أعني نقد الذات وإعادة بناء الهوية. وذلك يقتضي إلغاء موضوع «المحرقة» من المناهج المدرسية. ليس من مصلحة اليهود تحول المحرقة إلى طقس ديني يفرض على المجتمع الفرنسي. لتُدرج هذه المسألة في كتب التاريخ، بحيث تدرّس مع سواها من المحارق والمجازر. فتاريخ البشرية ليس مشرّفًا في هذا الخصوص؛ إذ هو تاريخ الإبادات. ولا يبرأ اليهود من ذلك. والمغزى هو أن نراجع مفهومنا لإنسانيتنا؛ لنعيد تربية أنفسنا على أسس ومعايير جديدة. وهذا ما ينتظر من الأقليات وأصحاب الهويات الفرعية في المجتمعات العربية: التوقف عن رفع شعار الثأر، والكف عن العمل بمنطق الإدانة والترهيب. فلا تُبنَى علاقات سوية بين الجماعات، بذاكرة مستنفرة على الدوام، وهوية نرجسية موتورة.

ثانيًا: توقف اليهود عن التصرف بوصفهم جالية تقيم في فرنسا، فيما عواطفهم مشدودة إلى إسرائيل. ومن الفضائح في هذا الخصوص ما أعرب عنه عالم الاجتماع إيمانويل تود (Todd)، غداة المظاهرة العالمية الحاشدة التي شهدتها باريس في شهر يناير 2015م، بعد المجزرة التي تعرضت لها صحيفة شارلي إيبدو الساخرة على يد الجهاديين الإرهابيين. لقد هالَ تود أن تتراجع قضية اليهود الفرعية، وأن تحتل الهوية الفرنسية الصدارة لمواجهة المخاطر التي تهدد أمن فرنسا وقيمها الليبرالية. فوصف التظاهرة بأنها علمانية خادعة مُبطّنة بنزعة كاثوليكية، ورأى أن الخطر المُحدق باليهود مصدره معاداة السامية، وليس الهجوم على حرية التعبير. وهذا ما شعر به كثيرون من اليهود الفرنسيين الذين فزعوا من صعود الهوية الوطنية الفرنسية، فأخذوا يفكرون بمغادرة فرنسا إلى إسرائيل.

هذا فخٌّ ينصبه اليهود لأنفسهم؛ إذ لم يعد يجدي قول بعضهم بأنه لا يشعر بالأمان في فرنسا، ولا في أي مكانٍ من العالم. هذا التشخيص لمشكلتهم هو مصدر القلق والخوف وعدم الأمان. وتبديد هذه الهواجس يبدأ عندما يقتنعون بأن قوة الهوية الفرنسية ليست ضدهم بل لمصلحتهم. وأن أمنهم هو جزء من أمن المجتمع الفرنسي. لقد انكشفت اللعبة، ولم يعد بإمكان اليهود أن يعيشوا في فرنسا، وهم يخشون منها أو لا يعدُّون أنفسهم كمكوِّن من مكوناتها.

ثالثًا: استبعاد الصفة الدينية من التعريف بالهوية. فالتسميات الطائفية مفخخة بالعنصرية. وهو الأمر الذي يقتضي منع حمل الرموز الدينية في الفضاء العمومي، سواء اختص الأمر باليهود أم بالمسلمين أم بسواهم. ثمة تقليد سيِّئ يمارَس في فرنسا يُسأل عنه الفرنسيون وبخاصة المثقفون والإعلاميون. فهم عندما يتحدثون عن أديب أو عالِم أو فيلسوف فرنسي، من أصل كاثوليكي أو بروتستانتي، لا يشيرون إلى أصله. أما إذا تعلق الأمر بمثقف من أصل يهودي أو إسلامي، فإن الأصل يُذكر كعنصر في تعريف هويته أو مهنته. وفي حالة اليهودي هم يشيرون إلى الأصل، ربما على سبيل التعاطف مع قضيته، وربما من قبيل المحاباة والنفاق، أو على سبيل الحذر وعدم الثقة.

بالطبع إن المسؤولية الكبرى، في ذلك، تقع على اليهود، بحيث يتوقفون عن إشهار هويتهم والتذكير المتواصل بقضية المحرقة النازية؛ لكي يقدموا أنفسهم من خلال هويتهم الفرنسية الجامعة، وكما يفعل سائر الفرنسيين، فلا يعيش الواحد منهم في فرنسا بوصفه عضوًا في طائفة استثنائية، أو في جماعة سرية ترى أن علاقة التضامن بين أفرادها أولى من العلاقة مع الشركاء في الوطن.

بهذا المعنى فالعداء ضد اليهود في فرنسا هو أوسع من أن ينحصر في العامل الإسلامي الراديكالي، كما يؤكد داني تروم Trom (جريدة Le Monde 1 مارس 2019م). غير أن العداء لا يعود، وكما يحسب تروم، إلى كون اليهود يملكون في فرنسا ما لا يملكه غيرهم: المال والإعلام والنخبة الفكرية. وإنما مردّه لأنهم يتصرفون كلُوبي؛ لكي يتحكموا في كثيرٍ من مفاصل الحياة الثقافية والإعلامية. أما النخبة الفكرية، فإنها لا تقتصر طبعًا على اليهود. هناك أعلام كبار في حقول الفلسفة والفكر على اختلاف أصولهم الطائفية. وهذه ميزة فرنسا. ولكن المثقفين اليهود يروِّج بعضهم لبعض ويضخمون مساهماتهم وأدوارهم على حساب غيرهم، إلى حد يقودهم فيه الهوسُ الهوياتي والاصطفاء إلى تهويد الفلسفة.

المسلم الفرنسي

وهذا ما يُنتظَر أيضًا، وبخاصة من المسلم: أن يتوقف عن التذكير بأصله وفصله، وعن إشهار هويته الدينية على حساب هويته الفرنسية. وإذا كان مصدر الخطر على اليهود لم يعد يتمثل في معاداة السامية، بل في كيفية تعاطيهم مع أصولهم الثقافية، فإن الخطر على المسلم لا يتأتّى من رفض الإسلام، ولا من كره المسلمين أو الخوف منهم، بل من كون المسلم الفرنسي، الهارب من فقر بلده وجور حكومته، يغلِّب هويته الدينية على هويته الفرنسية، ويحاول استغلال فضاء الحرية في فرنسا لكي يفرض معتقده وعاداته وطقوسه الدينية على مجتمع تعلمن وخرج بأكثريته من الفلك الديني، وهو ما يشكل نوعًا من الأسلمة للمجتمع الفرنسي، بعد أن ضعُفت أو استُضعفت الطائفة الكاثوليكية التي هي كُبرى الطوائف.

هذه أيضًا هي مشكلة المسلمين في الدول ذات الأكثرية المسيحية، سواء في أوربا أو في غيرها. إنهم يتصرفون كما لو كانوا في بلدانهم الأصلية ذات الأكثرية الإسلامية، فيمارسون خصوصيتهم وطقوسهم، بما يُشكّل نوعًا من الغزو الثقافي في مجتمعات كانت قد دخلت في فضاء الحداثة والعلمنة، وهو الأمر الذي يغذّي أو يوقظ العنصرية الدفينة التي تنتظر، عاجلًا أو آجلًا، ساعة الانفجار عنفًا أعمى.

بل هذه هي مشكلة المسلمين مع أنفسهم وداخل بلدانهم. فالنرجسية والانغلاق والتمركز المذهبي، المرضي، على الذات ضد المختلف، ينفجر هو الآخر عنفًا أعمى، حتى ضد المُصلّين في المساجد، كما حدث في عواصم عربية. ولا عجب فمآل التعصب ضد الآخر أن يرتد على الذات. نحن إزاء النمط الإرهابي نفسه في الداخل والخارج، وهو نمط تتواطأ نماذجه ونسخه بعضها مع بعض، بقدر ما يصنع بعضها بعضًا لبثِّ العداء بين الناس وتخريب العالم.

أعود إلى فرنسا لأقول، بأن الهوس الهوياتي يُبقي المسلم نشازًا، كما يُبقي اليهودي استثناءً، فيخلق كلاهما المشكلة لنفسه، ويسهم في تلغيم المجتمع الفرنسي، بتحويله إلى مجموعة طوائف متنازعة، متنابذة، تحكم العلاقات بينها المخاوف المتبادلة.

وتلك هي اليوم معضلة فرنسا التي أورثت لبنان نظامًا ديمقراطيًّا حديثًا لم يحسن أهله تطويره، بل أساؤوا استعماله. إنها تسير على طريق اللَّبْنَنَة، بقدر ما تراجعت عن قِيَمها العلمانية والمدنية والديمقراطية، أمام اللوبي اليهودي والمد الأصولي.

ولذا لا ينفع اليهودَ بشيء فيلسوفٌ كبرنار هنري ليفي الذي يؤلف كتابًا عن «روح اليهودية» ليؤكد أن فرنسا هي «ناكرةٌ كونَها صنيعةَ اليهودِ». هنا أيضًا ثمة نرجسية طائفية تقود صاحبها بنوع من «التشبيح» إلى تهويد فرنسا، التي هي صنيعة كل أبنائها، الأصلي والوافد، المقيم والمهاجر، وكل فاعل أنتج وأبدع وأنجز في مجال عمله أو في بناء المجتمع الفرنسي، من غير تمييز بين فرنسي وآخر.

كذلك لا ينفع المسلم بشيء، أن يؤلف الداعية السويسري طارق رمضان كتابًا بالفرنسية حول «عبقرية الإسلام». فذلك يُعزز النرجسية لدى المسلم الفرنسي والأوربي، ويحول دون اندراجه في مجتمعاته الحديثة. ما يحتاج إليه المسلمون هو ابتكار صيغة لوقف الحروب الأهلية بينهم، وإعادة «السكينة» إلى الدين، وفقًا لمقولة الدكتور رضوان السيد.

تصدع أسطورة معاداة السامية

لنحسن قراءة المجريات والتحولات: إن مناهضة النزعة المعادية للسامية هي قضية ولى زمنها، بعد أن استُخدمت طويلًا كأداة للابتزاز والترهيب. ولن تعيدها الاحتجاجات والتظاهرات إلى رأس الاهتمامات؛ لأنها لم تعد تعني كل الفرنسيين، كما يصرح رئيس وزراء فرنسا إدوار فيليب (مجلة l’express، عدد 3529، من 20 إلى 26 فبراير 2019م). وهذا التصريح، الذي ما كان يجرؤ على الإدلاء به سياسي فرنسي قبل الآن، إنما يشهد على التغيرات التي تشهدها فرنسا، والتي فاجأت اليهود لأنها لم تكن في حسبانهم.

ومن المصادفات أنه فيما تتصدع أسطورة المعاداة للسامية، تتداعى في الوقت نفسه دولة الخلافة التي أسّسها تنظيم داعش في العراق وسوريا، والتي طاول إرهابها فرنسا والعالم، بمن في ذلك المسلمون الذين يرفضون الخضوع لبرنامج المنظمات الأصولية الجهادية، ولا يريدون أن يحيوا حياتهم طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.

إنها لفرصة سانحة أمام الدولة الفرنسية، لتغير إستراتيجيتها المجتمعية، بحيث لا تشتغل بإرضاء زعماء الطوائف والجمع بينهم، على الطريقة اللبنانية، فذلك سوف يزيد المشكلة تعقيدًا؛ لأن المعالجة البناءة تقوم على تفكيك الثنائية التي جعلت فرنسا ممزقة بين التهويد والأسلمة، بين قضية اليهود ومطالب المسلمين، فضلًا عن مطالب الجاليات الأخرى، وهي محاولات تعيد المجتمع الفرنسي إلى الوراء، إلى عصر الحروب الأهلية، أو إلى زمن المِلل والنِّحل. بهذا المعنى فاليهود والمسلمون على عدائهم بعضهم لبعض، إنما يجتمعون على فرنسا ويتواطؤون ضدها، بقدر ما يشتغل كل فريقٍ منهما كلغمٍ في المجتمع الفرنسي.

أنهي بالقول لا أعمّم. هناك فرنسيون من أصول يهودية أو إسلامية، لا يتصرفون بعقلية الضحية، ولا يشتغلون بإشهار هوياتهم الأصولية، أو بتحويل معتقداتهم إلى متاريس رمزية. وإنما هم يستلهمون تراثهم وخصوصياتهم الثقافية، لبناء هوية، منفتحة ومركبة، غنية وعابرة، بقدر ما يتصرفون، كمواطنين على قدم المساواة مع سواهم، أعني مع شركائهم في اللغة والوطن والمصير.