المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

الحضارة فن إنتاج السلام

بواسطة | نوفمبر 1, 2019 | مقالات

السلام ماهية الحضارة والعدالة والإنسان. والمعتقدات فقط التي تُؤسِّس للسلام تُشكِّل المعارف الحقيقية والحقة. أما النزاعات والحروب فنقائض الإنسان والمعارف والحضارة. الإنسان مشروع تحقيق الإنسانية القائمة على مبادئ السلام والعدالة. فالحضارة ظاهرة مستقبلية لا تتحقق سوى بانتصار السلام وسيادته.

الحضارة تنوع ثقافي: الحضارة فن إنتاج ثقافات متنوعة. فكلما ازداد التنوع الثقافي ازدادت درجة الحضارة ورُقيّها. هذا لأنَّ التنوع الثقافي يتضمن قبول الاختلاف السلوكي والمعرفي والعقائدي وهو ما يدلّ على الارتقاء الحضاري. من هنا لا حضارة حقة بلا تنوع ثقافي واختلاف معرفي وعقائدي وسلوكي؛ لذلك نجد أنَّ المجتمعات التي تقبل المهاجرين المنتمين إلى ثقافات مختلفة تُعَدّ أرقى حضاريًّا من المجتمعات التي ترفض المهاجرين إليها. فبفضل اختلاف وتنوع المهاجرين تتطور آليات إنتاج المعارف والسلوكيات ما يُؤسِّس لاستنهاض الدول التي تشجِّع الهجرة إليها؛ لذا تعتمد العديد من الدول سياسة قبول المهاجرين لكي تستعيد حيويتها بقلوب وعقول جديدة.

المجتمعات التي ترفض التنوع الثقافي والاختلاف السلوكي مجتمعات مُغلَقة ومصيرها الانعزال التام فالاضمحلال، بينما المجتمعات التي تقبل التنوع وتُنتِج الاختلاف السلوكي والمعرفي مجتمعات منفتحة قابلة للتجدّد والاستمرار؛ لذا لا تستمر الحضارة سوى بقبول الاختلاف والتنوع ما يؤكِّد أنَّ الحضارة فن إنتاج ثقافات متنوعة وتطوير تلك الثقافات. أما الثقافة فهي فنون إنتاج المعلومات الصادقة والمفيدة ونشرها بين الناس فلا ثقافة بلا صناعة للمعلومات الصادقة وتوزيعها بين جميع الأفراد.

الآن بما أنَّ الحضارة فن إنتاج ثقافات عديدة ومتنوعة بينما الثقافة فن صياغة المعلومات الصادقة والمفيدة نظريًّا وعمليًّا وتوزيعها بين الجميع، إذن الحضارة فن بناء المعلومات الصادقة والمفيدة ونشرها؛ لذلك المجتمعات المتحضرة هي المُنتِجة للمعلومات المفيدة والصادقة والناجحة في نشرها بين أفرادها ما يتضمن أنَّ المجتمع المتحضر هو المُنتِج للمعارف والعلوم والمبني على مبادئ إنسانية تسمح بنشر المعلومات بين الجميع كمبادئ حرية التفكير والتصرّف ومبادئ العدالة كالمساواة التي تسمح بصياغة المعارف والعلوم بلا رقيب أو قيود. هكذا ينجح هذا التحليل للحضارة والثقافة في تفسير لماذا المجتمعات المتحضرة تنتج المعرفة والعِلم وتسودها الحقوق الإنسانية المتمثلة في الحريات والمساواة. فهذه المجتمعات متحضرة بإنتاجها للعلوم والمعارف وبسيادة الحقوق الإنسانية فيها؛ لأنَّ الحضارة فن إنتاج الثقافات المختلفة بينما الثقافة فنون صياغة المعلومات المفيدة والصادقة ونشرها بتساوٍٍ بين جميع المواطنين.

لكن ثمة معلومات صادقة ومفيدة عديدة لم تُكتشَف بعد. علمًا أنَّ الحضارة فن إنتاج المعلومات الصادقة والمفيدة ونشرها، إذن الحضارة آلية صناعة المعلومات غير المُكتشَفة أي الحضارة فن بناء المعلومات الجديدة المُتكونة في المستقبل. بذلك الحضارة ظاهرة مستقبلية معتمدة على قراراتنا الإنسانوية كقرارات إنتاج المعارف والعلوم والأخلاقيات المفيدة والصادقة ونشرها بتساوٍ بين الجميع. هكذا لا حضارة بلا علوم وفلسفات وأخلاقيات مستقبلية جديدة تحرّرنا من سلطة النماذج الفكرية الماضوية، وهو ما يدلّ على أنَّ الحرية صفة أساسية من صفات الحضارة وسيادتها. الحضارة الحقة حضارة سوبر مستقبلية بمعنى أنها الحضارة التي سوف تتكون في المستقبل على ضوء ما يصوغ الإنسان من أخلاقيات وسلوكيات ومعارف وعلوم في المستقبل وإلا كانت حضارة سجينة الماضي وصراعاته. والحضارة التي لن تولد في المستقبل لم تولد أصلًا لأنَّ جيناتها الثقافية مُبرمَجة على قتل ذاتها. يولد التاريخ الإنساني والحضاري في المستقبل وإلا لن يولد أبدًا تمامًا كما تؤكِّد الفلسفة السوبر مستقبلية. فالذي يخسر المستقبل يخسر الحاضر والماضي معًا.

الحضارة سيادة السلام

إن كانت الحضارة فن إنتاج ثقافات متعددة ومختلفة، علمًا أنه من المستحيل نشوء ثقافات متنوعة والحفاظ عليها بلا وجود سلام، إذن الحضارة فن صناعة السلام. فغاية الصراعات والحروب تدمير ثقافة الآخر وبذلك الصراعات والحروب نقيض الحضارة الكامنة في إنتاج وتطوير الثقافات. من هنا من دون سلام أهلي وسلام بين الأنظمة السياسية يستحيل أن تنشأ الحضارة وأن تستمر وتتطور. السلام ضرورة وجودية فمن دونه تقاتل وتقتل الثقافات بعضها بعضًا فيزول الاختلاف المعرفي والتنوع السلوكي ما يُحتِّم انهيار الحضارة وزوالها.

كما أنَّ السلام ضروري لوجود الحضارة وتطورها بتطور صياغة الثقافات المتنوعة، السلام أيضًا ضرورة معرفية؛ لأنه يؤسِّس لإنتاج المعارف والعلوم التي من دونها لا توجد حضارة أصلًا. فبما أنَّ الحضارة فنون صناعة الثقافات المتنوعة، علمًا أنَّ المثقفين والمبدعين والعلماء يُشكِّلون ثقافات متعددة ألا وهي ثقافات المثقفين والمبدعين والعلماء، إذن الحضارة فنون إنتاج هذه الثقافات أيضًا. وبذلك الحضارة تبني ثقافات المبدعين والعلماء فتصوغ كل إبداع ثقافي أو علمي وهو ما يتضمن أنَّ الحضارة أساس صياغة المعارف والعلوم التي تنتجها ثقافات العلماء والمبدعين. لكن لا حضارة بلا سلام؛ لذلك لا معارف ولا علوم ولا إبداع بلا سلام. هكذا السلام يُكون العلوم والمعارف إضافة إلى الإبداعات الأخرى لأنَّ السلام ماهية الإنسان والحضارة.

الإنسان ظاهرة سلام مستقبلية

الإنسان كائن سلام مستقبلي. تُؤكِّد الدراسات السيكولوجية والاجتماعية المعاصرة أنَّ الأطراف المتقاتلة في الصراعات والحروب تُصاب بأمراض نفسية وجسدية تؤدي إلى دمار أعداد هائلة من الأفراد الذين شاهدوا أو شاركوا في النزاعات المسلحة وهو ما يؤدي بدوره إلى تفكيك العوائل وانهيار البنيات الاجتماعية الأساسية. هكذا جينات الإنسان البيولوجية ترفض النزاع والحروب. ولذلك حين يشاهد أو يشارك الفرد في القتال والقتل يتعرض إلى أمراض نفسية وعقلية وجسدية أيضًا من جراء رفض جيناته البيولوجية مشاهد النزاع والمشاركة في قتل واقتتال. فالتفسير الوحيد لعودة المقاتلين والمتقاتلين بتلك الأمراض هو أنَّ جيناتنا البيولوجية رافضة للعنف والقتل والحروب وهو ما جعل تلك الأمراض تنتشر عالميًّا بين مشاهدي النزاعات والحروب والمشاركين فيها بمعنى أنها مشتركة بين جميع البشر والشعوب. كل هذا دليل صريح وقوي على أنَّ الإنسان مخلوق رافض للنزاع والحروب وساعٍ إلى السلام وهو بذلك كائن سلام مستقبلي. من هذا المنطلق، الحروب التي سادت في تاريخ البشرية هي نقائض الطبيعة الإنسانية الهادفة إلى تحقيق السلام.

الإنسان قرار عقلاني مستقبلي مُنتِج للسلام على ضوء القِيَم، كقِيَم العدالة والحرية والمساواة والمعرفة والمحبة. لكن القرار العقلاني هو قرار السلام لأنَّه من دون سلام لا توجد حضارة، فلا يوجد إنسان. من هنا الإنسان كائن سلام. الإنسان مشروع صياغة الإنسانية القائمة على الأخلاق العالمية المشتركة بين الجميع. بذلك الإنسان قرار إنسانوي معتمد على الاعتقاد بالقِيَم الإنسانية واحترامها. وبما أنَّ الإنسان مشروع بناء الإنسانية، وأي مشروع لا يتحقق سوى في المستقبل، إذن الإنسان ظاهرة مستقبلية وهو ما يُحرّره من الأكاذيب الماضوية فيدفع به نحو قبول الآخر والتطور. إن لم يكن الإنسان مشروعًا مستقبليًّا فحينئذٍ سيُسجَن في الماضي وهو ما يُحتِّم القضاء على إنسانية الإنسان الكامنة في الحرية والتطور. الإنسان كائن سوبر مستقبلي؛ لأنه لا يتشكّل سوى في المستقبل على أساس ما يُنتِجه من ثقافات ومعارف وعدالة وأخلاق مستقبلية. فبلا سوبر مستقبلية الإنسان يخسر الإنسان إنسانيته؛ لأنَّ سوبر مستقبليته معتمدة على أنه يتكون فقط في المستقبل وهو ما يحرِّره من سجون الماضي وصراعاته وحروبه الماضوية المخادعة.

لكن إن كانت الطبيعة الإنسانية مُبرمَجة جينيًّا للعيش في سلام، لماذا إذن يخوض الإنسان المعارك والحروب؟ يكمن السبب الأساس وراء ذلك في الاعتقاد باليقينيات. للإنسان ميل للاعتقاد باليقينيات التي لا تقبل الشك والمراجعة والاستبدال لأنَّ اليقينيات تُؤمِّن الطمأنينة النفسية لكونها معتقداتٍ غيرَ قابلةٍ للشك. لكن اليقينيات تدفع المُعتقِد بصدقها إلى التعصب لها لكونها غير قابلة للشك والمراجعة وهو ما يؤدي بصاحب اليقينيات إلى رفض معتقدات الآخرين فرفض ثقافاتهم. وهذا يُؤسِّس لنشوء الصراع والحروب بين الثقافات. ضمن هذا النموذج الفكري، الصراعات والحروب والإرهاب نتائج تمسك الأفراد والشعوب بيقينيات معينة رافضة بالضرورة لمعتقدات وثقافات الآخرين. على هذا الأساس، لا يكمن الخلاص من الحروب والصراعات والإرهاب سوى بالتخلي عن اليقينيات وعَدّ كل المعتقدات البشرية ممكنة الصدق أو من المحتمل أنها صادقة فتتساوى كل المعتقدات في مقبوليتها رغم اختلافها وتنوعها وهو ما يُحتِّم قبول الآخر فسيادة السلام. وعلى ضوء هذه الاعتبارات، مالك اليقينيات يقاتل ذاته الإنسانية من خلال يقينياته؛ لأنَّ الطبيعة الإنسانية تهدف إلى قبول الآخر وإحلال السلام، بينما اليقينيات رافضة للسلام بالضرورة. هكذا مَن يرفض الآخرين يرفض ذاته.

السلام ماهية العدالة

لا توجد حضارة من دون عدالة. لكن العدالة ذاتها تستلزم وجود السلام؛ لذلك لا حضارة بلا سلام. تتنوع نظريات العدالة وتتصارع. لكن لا تتحقق العدالة بأي من أنواعها أو بكافة أنواعها من دون وجود سلام؛ لذلك تكمن العدالة في السلام. وهذا أساس نظرية العدالة كسلام.

من نظريات العدالة نظرية الفيلسوف أفلاطون التي مضمونها أنَّ العدالة هي الانسجام كالانسجام بين الطبقات الاجتماعية. يرى أفلاطون أنَّ العدالة كامنة في أنْ يقوم كلُّ فرد بما هو مُؤهَّل للقيام به وهو ما يحتِّم أن توجد ثلاث طبقات اجتماعية التي لا بدّ أن تتصف بالانسجام فيما بينها لكي تتحقق العدالة الحقة؛ الطبقة الأولى: طبقة الحكّام الفلاسفة، والطبقة الثانية: طبقة المحاربين، والطبقة الثالثة: طبقة المُنتِجين كالمزارعين والعمّال. ولا توجد العدالة كانسجام، بالنسبة إلى المدينة الفاضلة لدى أفلاطون، سوى بأن يحكم الفلاسفة (بسبب امتلاكهم للمعرفة الحقّة) وأن تأتمر طبقة المحاربين بأوامر وقوانين الفلاسفة الحكّام، وأن تطيع طبقة المُنتِجين أوامر طبقة المحاربين، فأوامر الملك الفيلسوف أو الملكة الفيلسوفة.

فقط من خلال هذا الانسجام بين هذه الطبقات المبني على طاعة الأقل معرفة لصاحب الأكثر معرفة توجد العدالة. في مدينة أفلاطون الفاضلة كلُّ فرد يقوم بما هو مُهيَّأ للقيام به طبيعيًّا وتربويًّا وهو ما يؤدي إلى الانسجام الاجتماعي والعدالة معًا. فالمُهيَّأ للحكم (بسبب أنه فيلسوف عالِم) يحكم والمُهيَّأ للعسكر يتعسكر بسبب قدرته على ذلك، بينما المُهيَّأ للإنتاج الزراعي أو الصناعي… إلخ، فيُنتِج ما هو قادر ومُهيَّأ لإنتاجه وهو ما يحتِّم وجود الانسجام بين هذه الطبقات من جراء أنَّ كل فرد يقوم بما يجيد القيام به على ضوء ما هو مُهيَّأ له بطبيعته وعلومه.

تَطوَّرَ مفهوم العدالة عبر التاريخ واتَّخَذَ مضامين متنوعة كالعدالة المتمثلة في احترام الحريات بأنواعها كالحرية السلوكية والفكرية. مثل ذلك نظرية العدالة كحرية لدى الفيلسوف روبرت نوزيك الذي يصرّ على أنَّ العدالة كامنة في احترام حريات الأفراد وعدم التدخل في شؤونهم، وأنَّ الضامن الوحيد لحريات الفرد هو عدم فرض إعادة توزيع الثروة في المجتمع ومحدودية السلطة الحاكمة، وحق كل فرد في التصرّف كما يشاء فيما يملك، وإلا خرقنا حق كل فرد في أن يكون حُرًّا في فعل ما يريد بنفسه وبما يمتلك. يرى نوزيك أنَّ الحكومة الصغيرة فقط والمحدودة الصلاحيات والمهتمة فقط بحماية المواطنين من ممارسة القوة والقمع والاحتيال والسرقة مُبررة حقًّا لكونها لا تخرق حقوق المواطنين كحقهم الأساسي في التصرّف بحرية مطلقة بلا اعتداء على الآخرين. وبذلك، من منظوره الفلسفي، توزيع الثروات هو توزيع عادل فقط متى تمّ بالتبادل الاقتصادي الحُرّ وإن أدى إلى اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية. هكذا، بالنسبة إلى نوزيك، الرأسمالية الخالية من أي قيود هي الكفيلة بتحقيق العدالة الحقة القائمة على احترام الحريات أولًا وأخيرًا.

ثمة عدالة أخرى هي العدالة كإنصاف. يقول الفيلسوف جون رولز: إنَّ العدالة تتكون من مبدأيْنِ هما: أولًا- المساواة في الحريات الأساسية، وثانيًا- مبدأ أنَّ اللامساواة مقبولة فقط إذا أدت إلى تحقيق النفع الأكبر للأقل حظًّا في المجتمع إضافة إلى المساواة في الفُرَص. وهذا ما يسمّيه رولز بالعدالة كإنصاف. بالنسبة إليه، اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية غير مقبولة في حال أدت إلى عدم إفادة الأقل حظًّا اجتماعيًّا واقتصاديًّا. وبذلك العدالة كإنصاف تسعى إلى إقلال درجة اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية وهو ما يجعل هذه العدالة حقًّا عدالة كإنصاف. مثل ذلك أنه في هذا النموذج للعدالة يجب أن تُبنَى المؤسسات على أساس إفادة الأقل حظًّا وإلا أَمْسَتِ اللامساواةُ الاجتماعية والاقتصادية مرفوضةً. فحين تُبنَى المؤسسات لنفع الأقل حظًّا تتقلص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وهو ما يحتِّم نشوء العدالة المتصفة بالإنصاف. وهذا نوع من أنواع الاشتراكية الممكنة.

لكن لا تتحقق العدالة كانسجام من دون سلام. فالأوطان الخالية من السلام تعاني عدمَ الانسجام، فالحروب تدمِّر المجتمعات فتقضي على أي انسجام اجتماعي. كما أنَّ الشعوب الفاقدة للسلام فاقدة للحريات. في زمن الحروب يخسر الفرد حرياته وحقوقه من جراء أنَّ الحروب تقيِّد تصرّف الأفراد وتقتل آخرين. من هنا، من المستحيل تحقيق العدالة كحرية بلا وجود سلام أولًا. من المنطلق نفسه، من غير الممكن وجود العدالة كإنصاف مع وجود صراعات وحروب بما أنَّ الحرب تمنع احترام الحقوق الإنسانية بقتلها للمواطنين وتقييد حركتهم، فتمنع توزيع الحقوق بتساوٍ وتقضي على إمكانية إفادة الأقل حظًّا تمامًا، كما تلغي إفادة معظم أفراد المجتمع بسبب ما تنتج من دمار وقتل. بذلك لا توجد العدالة كإنصاف من دون وجود سلام.

هذا ما يصدق أيضًا على العدالة كمساواة (كالمساواة أمام القانون أو المساواة في الفُرَص أو المساواة الاقتصادية). في زمن الحرب تزول كل أنواع المساواة الممكنة بين الأفراد؛ لأنَّ الحرب عبارة عن قاتل ومقتول ومُدمِّر ومُدمَّر ومنتصر ومنهزم؛ لذا تتصف الحروب بالضرورة بخرق المساواة بين البشر وخرق الحقوق الإنسانية كافة من جراء ما تنتج من دمار وانهيار اجتماعي واقتصادي وأخلاقي. من هنا أيضًا لا عدالة كمساواة بلا سلام. كل هذا يرينا أنَّ السلام هو أساس إمكانية تأسيس العدالة كانسجام وكحرية وكإنصاف وكمساواة. وبذلك تكمن العدالة الحقة في السلام؛ لأنَّ السلام هو الطريق الوحيد لبناء العدالة بأنواعها كافة. على هذا الأساس، العدالة الحقة ألا وهي العدالة كسلام تؤسِّس للعدالة كانسجام وحرية وإنصاف ومساواة تمامًا كما أنَّ الانسجام والحرية والإنصاف والمساواة تؤسِّس السلام. إنسانٌ بلا سلام إنسانٌ بلا عدالة. وإنسانٌ بلا عدالة شبهُ إنسان.

المعرفة كآلية سلام

لا توجد حضارة بلا معرفة. لكن المعرفة آلية سلام. لذا لا حضارة بلا سلام. فقط المعتقدات التي تؤدي إلى تحقيق الحريات والمساواة والسلام تشكِّل معرفة حقة بينما المعتقدات التي تؤدي إلى سجننا وقمعنا وتحتِّم اللامساواة بين البشر وتؤسِّس للفِتَن والحروب؛ فليست معرفة حقة. هكذا المعرفة قرار إنسانوي يُتخَذ على ضوء القِيَم الإنسانوية كقِيَم السلام والحرية والمساواة وهو ما يتضمن أنَّ المعتقدات فقط التي تضمن الحريات والمساواة والسلام هي المعرفة الحقيقية. هدف أساس من أهداف المعرفة هو بناء الإنسان بمعتقدات صادقة قادرة على تطويره وتحقيق إنسانيته الكبرى. ولا يُبنَى الإنسان ولا يتطور ولا تتحقق إنسانيته العليا سوى بمعتقدات تضمن السلام والحريات والمساواة بين الجميع فمن دون سلام ومساواة وحريات بفضل معتقدات ومبادئ تضمنها يُقمَع الإنسان ويُسجَن فتزول إنسانيته وإمكانية أن يتطور؛ لذلك لا تتشكّل المعرفة سوى من معتقدات ضامنة للحرية والمساواة والسلام. من هنا المعتقدات فقط التي تضمن تحقيق الحريات والمساواة والسلام تشكِّل معرفة حقة.

المعرفة قرار عقلاني إنسانوي مستقبلي مُنتِج للحضارة وهو ما يجعل المعرفة معتمدة في تكونها ووجودها على قرارات عقلانية وإنسانوية في آنٍ وهو ما يتضمن بدوره تشكّل المعرفة في المستقبل فتحرّرنا بذلك المعرفة من سجون معتقداتنا الماضوية. من هنا المعرفة آلية تحرّر من معتقدات الحاضر والماضي؛ لكونها تتكون في المستقبل وهو ما يضمن تطور الإنسان بإنتاجه لمعتقدات جديدة مغايرة للنماذج الفكرية الماضوية؛ لأنَّ المعرفة ظاهرة مستقبلية فلا تتشكّل حقًّا سوى في المستقبل لكونها قرارات عقلانية إنسانوية مستقبلية. واعتماد المعرفة على القرارات العقلانية يربط المعرفة بالعقلانية المتمثلة بعقلانية مبادئ المنطق والتفكير الموضوعي وعقلانية الواقع نفسه وهو ما يؤكِّد مقبولية تحليل المعرفة على أنها قرارات عقلانية إنسانوية مستقبلية. فلا معرفة بلا اعتماد على عقلانية مبادئ المنطق والتفكير الموضوعي وبلا تعبير عن عقلانية الواقع. أما اعتماد المعرفة على القرارات الإنسانوية فيضمن أن تكون المعرفة مفيدة للناس جميعًا؛ لأنَّ القرارات الإنسانوية معتمدة على القِيَم الأخلاقية (كقِيَم احترام الحريات والمساواة) الهادفة إلى إفادة الجميع. وبالفعل المعرفة هي المفيدة للجميع كما يجب أن تكون كذلك. من هنا تحليل المعرفة على أنها قرارات إنسانوية إضافة إلى كونها قرارات عقلانية هو تحليل صادق لضمانه ارتباط المعرفة بالعقلانية والإفادة الإنسانوية معًا.

مثل على أنَّ المعرفة قرار إنسانوي عقلاني هو الآتي: الاعتقاد أنَّ كل البشر يشكّلون إنسانًا واحدًا لا يتجزأ يُشكِّل معرفة حقة. هذا لسببيْنِ أساسيْنِ هما: أولًا- الاعتقاد بوحدة البشرية الذي مضمونه أنَّ كل البشر هُم إنسان واحد يؤسِّس للسلام بين الجميع وبذلك هو اعتقاد إنسانوي بامتياز وهو ما يجعله قرارًا إنسانويًّا فمعرفة حقة. حين نعتقد بوحدة البشرية يزول حينئذٍ أي تعصب وأية عنصرية وهو ما يحتِّم نشوء السلام. كما أنَّ الاعتقاد بوحدة جميع أفراد البشرية يدفعنا نحو معاملة الجميع بتساوٍ (من جراء وحدة الجميع في إنسان واحد لا يتجزأ) فيحقق المساواة بين جميع البشر وهو ما يدلّ على إنسانوية هذا الاعتقاد فتكوينه للمعرفة الحقيقية. والاعتقاد بوحدة البشر يضمن أيضًا حريات الجميع، فلا حرية لفرد من دون حرية لجميع أفراد البشرية؛ لكونهم جميعًا يُشكِّلون إنسانًا واحدًا. هكذا هذا الاعتقاد اعتقاد إنسانوي لضمانه الحرية للجميع تمامًا كما يضمن المساواة بين الجميع ما يجعله معرفة حقة.

ثانيًا- الاعتقاد بوحدة البشر اعتقاد عقلاني أيضًا وهو ما يدلّ على أنه يشكّل معرفة حقيقية. وهو اعتقاد عقلاني؛ لأنَّ كل البشر يتكونون من الجينات البيولوجية نفسها وهو ما يحتِّم نتيجة أنهم بالفعل يشكّلون كينونة وجودية واحدة لا تتجزأ. هكذا الاعتقاد بوحدة جميع أفراد البشرية هو قرار إنسانوي وعقلاني معًا ما يشير بحق إلى أنه معرفة حقة وحقيقية في آنٍ.

أما الاعتقاد بوجود ثقافات أو حضارات مختلفة كليًّا بعضها عن بعض ومتصارعة، فيؤسِّس للصراع والفِتَن والحروب، وهذا ليس قرارًا إنسانويًّا ولذلك لا يشكّل معرفة حقة. كما أنَّ هذا الاعتقاد ليس قرارًا عقلانيًّا وهو ما يؤكِّد على أنه ليس معرفة حقيقية. فهو ليس قرارًا عقلانيًّا لأنه يصرّ على وجود ثقافات وحضارات مختلفة كليًّا ومتصارعة، فيتضمن أنَّ البشر مختلفون كليًّا وإلا ما اختلفت ثقافاتهم وحضاراتهم. لكن هذا يعارض وحدة البشر بوحدة تركيبتهم البيولوجية ومشاركتهم في امتلاك الجينات البيولوجية نفسها وهو ما يجعله اعتقادًا غير عقلاني. فالجينات البيولوجية تتحكّم في تصرّف الإنسان وفكره تمامًا كما تقول العلوم البيولوجية المعاصرة. وبذلك وحدة الجينات البيولوجية تتضمن وحدة البشر ووحدة ثقافاتهم وإن اختلفت في بعض تفاصيلها.

هكذا المعتقدات التي تؤدي إلى الفِتَن والحروب كالاعتقاد باختلاف الثقافات والحضارات لا تشكِّل معرفة حقيقية لخُلُوِّها من الإنسانوية والعقلانية معًا. لكن الاعتقاد أنَّ كل الثقافات تكون حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية المشتركة بين جميع البشر يشكِّل معرفة حقة؛ بسبب عقلانيته الكامنة في قبول العِلم القائل بمشاركة كل البشر للجينات البيولوجية ذاتها، فوحدة كل البشر، وبسبب إنسانوية هذا الاعتقاد الذي يحتِّم سيادة السلام واحترام الحريات والمساواة بين الجميع. المعتقدات التي لا تبني الحضارة وإنسانية الإنسان ليست معتقدات معرفية. فالمعرفة أداة بناء الإنسان وحضارته. معرفة بلا إنسانوية معرفة كاذبة. إنسانٌ بلا إنسانوية إنسانٌ بلا معرفة. وإنسانٌ بلا معرفة شبهُ إنسان. ولا يُبنَى الإنسان بلا سلام. فالإنسان تَجَلّي المعرفة والعدالة المُعبِّرة عن الأخلاق العالمية المشتركة بين جميع الأفراد. ولا معرفة ولا عدالة بلا سلام؛ لذا لا إنسان بلا سلام.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *