الفوتوغرافي فادي قدسي: يمكن للضوء إعادة صياغة رؤية الشكل باختلاف زوايا سقوطه

الفوتوغرافي فادي قدسي: يمكن للضوء إعادة صياغة رؤية الشكل باختلاف زوايا سقوطه

يصف الفوتوغرافي فادي قدسي علاقته بالكاميرا قائلًا: إنها صديقته المقربة التي اعتادت على الشعور بنبضات قلبه، والإنصات لرؤيته، فهما يخوضان معًا دروب الزمن وحالات الضوء، وهي شريكته التي يكتب اسمها على العمل بجانبه، حيث اسمه على الصورة، واسمها على الإعدادات. يقول: «أجمل أوقات السعادة عندي هي رحلة الفوتوغرافيا، وأجمل لحظاتها حين أضيء الأستوديو، وحين أقف أمام المبتدئين لتدريبهم على أساسيات التصوير، وبعض اللقطات تجعلني أنتشي وأقول لنفسي هذه اللقطة أسعدتني، وبالتأكيد أنتشى أكثر عندما يتوج عملي بجائزة أو يفوز بمشاركة في أحد المعارض المهمة».

لا يعرف فادي ما الذي دفعه للتخصص في مجال التصوير المعماري، لكنه يرى أن المبنى هو الذي يستفزه ليستخرج منه تفاصيل لا تخطر على البال، فالتصوير المعماري في تصوره هو «حالة خاصة بالمصور، حيث يمكنه أن يعيد صياغة العالم حسب رؤيته هو، فيقدم تصوره لهذا العالم من خلال علاقة النور والظل، أو إبراز تفاصيل غير ملحوظة، وكل ذلك يتوقف على المصور وما يتمتع به من ثقافة بصرية، سواء على المستوى العام أو الخاص؛ لذا لا بد أن يثقف المصور نفسه في شتى المجالات، ويمزج كل ذلك في عمله بحرفية، فالصورة هي اللحظة التي تُقتَنَص من الزمن لتخليد الوجود، وهي لا تلبث أن تصبح تاريخًا؛ لأن كل لقطة لها تاريخها الخاص، وكل زمن يختلف عن غيره، وبالتالي فلا توجد صورة شبيهة بأخرى، لأنك لا تنزل البحر مرتين».

حين يفكر في اختيار لقطة ما فإنه يقوم باستكشاف موضوع اللقطة، سواء كان معمارًا أو بورتريهًا أو عملًا تجريديًّا، باحثًا أولًا عن رُوحه، متخيلًا ما سيكون عليه المشهد في أثناء تصويره، سائلًا نفسه عن النتيجة، ومن ثم يضع لها الإعدادات المناسبة على الكاميرا. شارحًا أن التصوير الفوتوغرافي به كثير من التخصصات التي تختلف باختلاف العصر وإبداعاته، لكنّ هناك خطوطًا عريضة تتفرع منها مثل: البورتريه والمعماري والتصوير التجريدي والطبيعة الصامتة وغيرها، وعلى الرغم من أنه متخصص في العمارة التجريدية فإنه يمارس التصوير في الفروع الأخرى.

حصل فادي على جوائز عدة من بينها جائزة المركز الأول في معرض الفن الإسلامي عن صورة «القبة الضريحية للسلطان قلاوون»، وكرمته المسابقة الدولية APA عن صورة «دير الأنبا سمعان بالمقطم»، وحصل على المركز الأول بمسابقة ساقية الصاوي عام 2020م عن صورة «رقصة بحارة».

ما قبل الصورة وبعدها

سألته: لو أنك في محاضرة الآن، فما أبرز العناوين والمحطات التي ستتوقف أمامها؟ يبتسم فادي وكأنه فوجئ بالسؤال، ويشرد بذهنه قليلًا قبل أن يعود قائلًا: «بالتأكيد سأبدأ بالحديث عن تاريخ التصوير وتطوره، وأستعرض صورًا لمختلف أنواع التصوير، وأشرح كيف تطورت هذه الأنواع، فتلك محطة مهمة لا بد أن يعرفها أي مصور، وسأسعى لربط الماضي بالحاضر؛ لأن ذلك هو الأساس الذي سيشكل عليه المصور رؤيته الحالية والمستقبلية للصورة، التي سيعمل على تطويرها دائمًا فيما بعد».

يؤكد فادي في عمله أن التكوين الثقافي للمصور هو الذي يشكل رؤيته المسبقة للقطة، وبالتالي يأتي الناتج النهائي، فثقافة المصور هي كل ما يُعبّر عنه من خلال الصورة، فهي التي تجعله يفكر في الزاوية والرؤية والتفاصيل، وفيما سيستبعده من اللقطة وما سيركز عليه، وما الذي سيمزجه بغيره، وما العدسة التي سيستخدمها لأجله، ومن وجهة نظره أن المتلقي ليس ملزمًا بأن يكون على الوعي الثقافي نفسه للمصور، وفي أوقات كثيرة تكون الثقافة المغايرة مفيدة في إعادة التخيل وتشكيل الرؤية، وهو ما يعد مؤشرًا إيجابيًّا على أن العمل الفني قد وجد تفاعلًا حقيقيًّا مع المتلقي وثقافته وأفكاره المختلفة، فبعض يذهب لمشاهدة العمل الفني وينتج تفسيرات مختلفة للصور، من دون أن يعرف شيئًا عن التكنيك الخاص باتخاذ الصورة، ومن ثم فثقافة المتلقي تفيد المصور عند الاستماع إلى رأيه، وربما تفتح له أبوابًا جديدة لإبداع لقطات لم تكن في حسبانه، يقول: «إن الكاتب يكتب وينتهي دوره حسبما يقول الناقد الأدبي رولان بارت، ثم يبدأ دور المتلقي في إعادة التفسير وإنتاج الرؤى المختلفة، وذلك باختلاف المتلقي وتعدد خلفياته الثقافية».

احترف فادي التصوير في عام 2010م، ثم ما لبث أن أقام ورشًا لتعليم المصورين الجدد عام 2013م، حين سألته عن ذلك؛ قال: إن مسيرته مع التصوير بدأت مع بداية الألفية، وإنه درس وتابع خلال عشر سنوات كل ما يجري في عالم التصوير، وذلك قبل أن يقرر الاحتراف، حتى إنه عمل في أستوديو لتصوير ألبومات الأفراح، فتعلم فيه فن البورتريه، حيث رأى من خلاله تفاصيل آلاف الوجوه التي مرت عليه، وقدم لمساته المختلفة التي أسعدت كثيرين، فقد كان بعضهم يكره الكاميرا، وبعضهم كان يكره التصوير من الأساس، لكنه وضع لمساته التي أدهشتهم، حتى إنه صوّر طفلًا وهو يضحك، فأعجبت الصورة والده، فطلب تكبيرها ووضعها في برواز، هذه الصورة طبعها ووضعها في برواز أكثر من عشر مرات، فما من أحد في العائلة رآها إلا وطلب نسخة منها لوضعها في بيته.

يقول فادي: «ما لفت انتباهي للفوتوغرافيا عام 2002م كان صورتين لرالف جيبسون، كانتا بالأبيض والأسود، وكانت هذه هي البداية، وربما يعود ميلي للأبيض والأسود إلى رسمي بالقلم الرصاص في صغري، فقد قمت بتقليد بعض صور البورتريه بالرصاص، لكن في العموم طبيعة الموضوع هي التي تفرض علَيّ أن تكون بالأبيض والأسود أم بالألوان»، وعن مفهومه للفن التجريدي، يقول: «بالنسبة لي هو رؤية مغايرة وغير مألوفة للعين، وربما تكون مستخلصة من شيء أو موضوع قائم بالفعل، وربما أقوم بتخليقه أو صنعه بنفسي لتجسيد الفكرة».

معمار الضوء

عمل فادي قدسي على مشروعات عدة منذ أن وقع في غرام التصوير الفوتوغرافي، كان أهمها من وجهة نظره معرضه الخاص الأول في أكتوبر 2020م Archi light، وقامت فكرته على علاقة الضوء بالمعمار وتفاصيله، وكيف يمكن للضوء أن يعيد صياغة رؤية الشكل باختلاف زوايا سقوطه، ومؤخرًا عمل على مشروع قصير أسماه «أنماط مكسورة»، وهو عن رمال الصحراء والخطوط التي تصنعها الرياح على وجهها، وكيف تُكسَر الأنماط بمرور الأقدام عليها، وهناك مشروع آخر يُنشَر على وسم بعنوان: #they_are_coming، وهو عبارة عن رؤية جديدة لتماثيل ومنحوتات المتحف المصري بميدان التحرير.

لماذا لم يعرف النشر العربي أي وجود لـ«الوكيل الأدبي»؟

لماذا لم يعرف النشر العربي أي وجود لـ«الوكيل الأدبي»؟

ما إن يُصدر الكاتب عملًا في الغرب حتى يجد من يتصل به كي يكون وكيله الأدبي، وما إن يوقع له حق الوكالة الأدبية حتى يصبح اسمه مطروحًا في مختلف وكلات الإعلام والناشرين والمترجمين والجوائز. فالوكيل الأدبي يقوم بكل ما يخص الكاتب فيما يتعلق بكتابته، بدءًا من الترويج ووضع خطط التسويق والتوزيع ومتابعة الأخبار والدفع بالعمل إلى الجوائز والترجمات والتواصل مع صناعة السينما والتلفزيون، كل ذلك في مقابل نسبة من توزيع العمل.

إلا أن هذه المهنة التي باتت ضرورة حضارية بحكم تشابك العلاقات وتعقدها، وعدم قدرة الكاتب على متابعة كل التفاصيل المتعلقة بكتاباته، هذه المهنة لم تحظ بالانتشار في عالمنا العربي، حتى باتت كالفريضة الغائبة. فما السبب؟ ومن يتولى حق الوكالة في ظل غياب الوكيل الأدبي؟ وكيف تترجم الأعمال أو تحول إلى أعمال درامية؟ كيف يتعامل الكتاب وكيف يحافظون على حقوقهم في غياب الوكيل عنهم؟

«الفيصل» تناقش هذه القضية الأدبية مع عدد من الكتاب.

إبراهيم عبدالمجيد: مهنة مهمة

ليس لي وكيل أدبي؛ لأنني تركت الموضوع للجامعة الأميركية، لكنها لم تبذل مجهودًا كافيًا، ومن ثم لم يتحقق شيء، وكل دار نشر أخذت حق الوكالة عن كل عمل نشرته لي، لكنها أيضًا لم تبذل مجهودًا، وفي النهاية أنا أيضًا لم أفكر في أن يكون لي وكيل أدبي، ربما لأنني من جيل قديم.

الوكيل الأدبي هو الذي يتعاقد على النشر والإعلام والترجمة، وهو مهنة مهمة جدًّا في الغرب، وأي كاتب جديد يصدر له كتاب فإنه يجد من يتصل به ليكون وكيله الأدبي، وهو يأخذ نسبة من عوائد الكتاب، ويتولى مسؤوليات الترجمة والإعلام والنشر وكل ما يخص الكاتب سواء في عمل معين أو في مجمل الأعمال كلها، لكن هذا الدور تتعاقد عليه بشكل ما دور النشر، لكنها في المجمل لا تفعل مجهودًا يذكر في هذا الشأن، والكاتب هو الذي يقوم بالفعل بكل ما يخص عمله، بدءًا من الترويج له وصولًا إلى التواصل مع المترجمين والناشرين الأوربيين. أنا أعمالي ترجمت إلى الفرنسية والألمانية عن طريقي، وليس عن طريق الجامعة الأميركية التي لم تبذل جهدًا في الأمر، ولا أعتقد الآن أنها ستبذل أي جهد.

في الغرب الوكيل الأدبي مهنة مهمة وضرورية ومفيدة للكتاب، وهي موجودة بقوة، ومقبولة في المجتمعات الثقافية هناك، وربما من أكثر ما يساعد على وجودها أن عائد المبيعات من الكتاب كبير، فهذه مجتمعات تقبل على القراءة بقوة، ومن ثم تتحقق نسب مبيعات وعوائد كبيرة من التوزيع، بما يسمح للوكيل الأدبي أن يحصل على عائد جيد من خلال نسبته، لكن في بلادنا التوزيع ضعيف والإقبال على القراءة ضعيف، وهو ما لا يشجع الكثيرين على أن يعملوا في مهنة الوكيل الأدبي؛ لأن من يعمل بها لا يأخذ راتبًا شهريًّا ولكن نسبة من المبيعات.

بالطبع هذه المهنة توجد في أشكال عدة ومختلفة، فالكاتب نفسه يقوم بالترويج والتعاقد والاتفاق مع المترجمين والناشرين الأجانب بنفسه، والشباب يجيدون كيفية الكتابة عن أنفسهم أو التواصل مع الإعلام، وبعضٌ يتعامل مع صحافيين يُروِّجون له ولأعماله ومقالاته ومواقفه، وهو ما يعني أن هذه المهنة تسرّبت في أشكال مختلفة بداية من الكاتب ودور النشر والأصدقاء والصحافي المتابع، لكنها لم تنتشر بشكلها المعروف والمعمول به في الغرب، وفي حال انتشارها قد يحدث صدام في البداية مع دور النشر التي تحصل على الحقوق كافة لصالحها، ولا تمنح الكاتب أكثر من 20% من عائدات الكتاب، لكنها ربما ستقتنع فيما بعد بأهمية الوكيل الأدبي حين تجده يحقق أرقامًا في الترويج للكتاب وتوزيعه، وحين يأتي بمترجمين ومنتجي تلفزيون وسينما وغيرها.

نور الدين محقق: رجل المهمات الواقعية

يكتب الكاتب كتاباته في عُزلة عن العالم الخارجي، حتى وهو يعيش بين فضاءاته؛ ذلك أن الكتابة بطبعها هي وليدة العزلة. الكتابة تتطلب وقتًا خاصًّا بها ولها، وهذا الوقت يقتطعه الكاتب من وقته الموزع بين عمله وأسرته وهواياته الأخرى، إذا لم يكن هذا الكاتب متفرغًا تمامًا للكتابة ويعدّها حرفته الأساسية. وهذا الأمر يعيشه غالبية الكتاب العرب، غير المتفرغين للكتابة؛ إذ لهم مهن أخرى يشتغلون بها، حتى ولو كانت قريبة من ميدان الكتابة، مثل مهنة الصحافة. وحين ينتهي الكاتب من كتابته سواء كانت ديوان شعر أو مجموعة قصصية أو رواية أو كتابًا نقديًّا، فهو يبحث له عن دار نشر تنشره.

وهذا الأمر يتطلب منه إجراء اتفاقات مع هذه الدار أو تلك، والتوافق معها حول بنود العقد، وهو ما قد يدفع بالكاتب إلى ضرورة المعرفة بالسوق الأدبي، ونسبة المبيعات، وكيفية التوزيع والمشاركة في حفلات التوقيع وحضور معارض الكتب وسواها. مما يجعله في النهاية يلج عالمًا آخر غير عالم الكتابة الذي يسعى للحضور فيه كما يجب، والذي يتطلب منه بذل مجهود أكبر فيه وتخصيص وقت أطول له.

هنا يبرز دور الوكيل الأدبي المعروف في الأوساط الثقافية الأوربية، هذا الوكيل الأدبي الذي ينوب عن الكاتب في هذه الأمور ويستطيع إنجازها بشكل أفضل من الكاتب، ووفق القوانين المعمول بها في هذا المجال. طبعًا وجود الوكيل الأدبي، قد أصبح ضروريًّا في ظل الانتشار الذي يعرفه الكِتاب الأدبي، سواء على مستوى النشر الورقي أو على مستوى النشر الإلكتروني أو هما معًا. وهو ما يتطلب من الطرفين الكاتب ووكيله الأدبي أن يخلقا تعاونًا بناءً بينهما، بحيث يستفيد كل منهما مما قد يحققه الكِتاب المتفق على نشره، من نجاحات في ساحة التلقي. وهذا يتطلب لا سيما من الوكيل الأدبي بذل مجهودات عدة تبدأ من التفاوض مع دور النشر، ثم بعد ذلك مع الجهات الرسمية والجمعيات الثقافية المهتمة بالكتاب، قصد تحقيق حضور فعال للكتاب الذي نشره مُوكله.

من هنا نخلص إلى أن الوكيل الأدبي قد أصبح وجوده ضروريًّا للكاتب العربي، إذا هو أراد أن يخرج من إطار الهواية إلى إطار الاحتراف، ويحقق نجاحًا ملحوظًا في ميدان الكتابة خاصة، وفي ميدان الثقافة عامة.

مهيب البرغوثي: ترف فكري

الفكرة في حد ذاتها قائمة على نوع من الترف الكتابي نوعًا ما، كأن تجلس في بيتك وهناك من يتولى أمر ما تكتب، فضلًا عن أن هناك كتابًا أنانيين غير مستعدين أن يدفعوا للوكيل إن وجد، وإن كثيرًا منهم كتبهم ليست رائجة، أما من يفوز بجائزة أو غير ذلك فدار النشر هي التي تتولى الترويج له. وعن نفسي لست ذلك الشاعر الذي يبحث عن وكيل؛ لأن كتبي ليست من النوع الرائج، وقد يسعدني أن أهديها بنفسي لمن يرغب
في قراءتها.

فكرة أن يكون هناك وكيل لك يتولى أمر ما تكتب ويُروِّج له، غير معروفة في الوسط العربي؛ لأن الوكيل يحتاج إلى كاتب يطبع كتابه في عدد كبير جدًّا من النسخ؛ كي يُوَزَّع بشكل واسع في الوطن العربي. ويعتمد معظم الكتاب على معارض الكتاب التي تقام في الدول العربية لتوزيع كتبهم.

ثم دور النشر لن تسمح للكاتب مهما كان أن يكون له وكيل؛ لأنها هي الوكيل والحقوق لها. تشتري دور النشر الكاتب أيضًا وليس كتبه فقط. الوكيل الأدبي مهم جدًّا؛ لأنه يريح الكاتب من التفكير في كيفية توزيع كتبه ونشرها، ويعطي الكاتب وقتًا إضافيًّا للتفكير في أمور أخرى قد تكون مفيدة مثل إنجاز كتاب أو بحث أو حتى الاستغراق في قراءة عمل مهم. وربما سبب انتشارها في أوربا أكثر من عالمنا العربي، يعود لأمور لها علاقة بالبعد الجغرافي بين المدن هناك، فضلًا عن برودة العلاقات بين الكتاب، أما في العالم العربي فكل الكُتاب تقريبًا أصدقاء ويعرفون بعضهم بشكل شخصي.

محمد عبدالنبي: صناعة احترافية

ليس لدي وكيل أدبي؛ لأنه لا يوجد وكيل أدبي، فأقرب الأمور التي حدثت معي إلى فكرة الوكيل الأدبي أن جهة ما اشترت حقوق نشر رواية «في غرفة العنكبوت» وبيعها إلى اللغات الأخرى في العقد نفسه، لكن لم يحدث أن رُوِّجَ للرواية ولا بُحِثَ عن مترجمين، وفي النهاية هي عملية أقرب إلى الخداع، ولا أريد توصيفها بأكثر من ذلك. والوكالة الأدبية تعني وجود وكيل يقوم بتسويق العمل والاتفاق مع الناشرين على نشره وتوزيعه مقابل نسبة من المبيعات، وهذا يعني أننا لا بد أن نكون أمام صناعة كبيرة، فلا بد أن يكون هناك نشر حقيقي، وتوزيع حقيقي، ووكيل حقيقي، وتسويق حقيقي، أي أن نكون أمام صناعة حقيقية وليس أمور تسير بالبركة.

فدُور النشر تتعامل مع الكاتب على أنه مجرد زبون، تأخذ منه كل الحقوق ولا تعطيه شيئًا، كما أنه لا بد من وجود كاتب حقيقي، كاتب بحاجة إلى من يسوقه ويوزع أعماله، لا أن نجد أناسًا لا نستطيع أن نكمل عشر صفحات من أعمالهم ويتعاملون على أن الكون كله يجب أن يتوقف لأجلهم، أقول هذا حتى لا يعتقد بعض أن المنظومة لا تخص الكاتب، وأن المسؤولية تقع كلها على كتف الناشرين والموزعين والوسط الثقافي والمؤسسات الثقافية.

هذه المهنة ما زالت جديدة على عالمنا العربي مثل مهن أخرى كالمحرر الأدبي الذي باتت كل دور النشر تتحدث عن وجود محرر بها، في حين أنهم يعتمدون على شباب لا خبرة لديهم، ولا يمكنهم أن يقولوا لكاتب عجوز أو أكبر سنًّا أن عليه تغيير الفصل الأول كي تكون الرواية أكثر تشويقًا مثلًا.

قاسم المحبشي: ضرورة حضارية

مهنة الوكيل الأدبي مهمة وتستحق الترويج لها بكل الوسائل الممكنة ولا سيما في عالمنا الراهن، عالم الثورة العلمية والاتصالات والمعلومات. في الغرب صارت مهنة الوكيل الأدبي من التقاليد الراسخة في الدوائر الثقافية والأكاديمية والإعلامية وتقوم بوظائف حيوية تستدعي وجودها وديمومتها، بينما ما زالت تلك المهنة مجهولة لدى كثير من النخب العربية. كتبت الكاتبة البريطانية جوان آيكن، في كتاب لها صادر منذ أكثر من ثلاثين عامًا، عن دور وكيلتها الأدبية في أحد كتبها وتنصح الكاتب: «بضرورة أن يكون لديك وكيل أدبي»، وتلخص مهامه في «تحسين شروط الناشرين، ومراجعة الاتفاقات، وتقديم الاقتراحات لمنافذ بيع جديدة؛ إذ قالت: إن وكيلتها الأدبية «جين لي روا» قد كتبت دليلًا صغيرًا ممتازًا للتأليف للمجلات والمسلسلات، تحت عنوان: «بع لهم قصة» حثت فيه الكُتاب الذين كانت تتولى أعمالهم، وكان بعضهم مرموقًا، على أن يعوّدوا أنفسهم على كتابة ست صفحات يوميًّا على الأقل، كان شعارها «لا بد أن تبقى الكتابة متدفقة وإلّا ستنضب، مثل البقرة تحتاج إلى الحلب»، وقد قالت لها وكيلتها: «إن وقت فراغك سيتسع دائمًا طالما أنا بجانبك».

وقد لفت نظري أن وكيلًا أدبيًّا أميركيًّا هو الذي اكتشف الروائي المصري علاء الأسواني وجاء عنوة إلى القاهرة لعقد اتفاقية الوكالة معه. والخلاصة أن الحاجة باتت ماسّة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لمهنة الوكيل الأدبي الذي يقوم بدور الوسيط بين الكتاب والمجتمع بمختلف مؤسساته، ويضطلع بأدوار كثيرة منها: دور الطباعة والتنسيق والتصحيح والإخراج والترويج والتعاقد والتوقيع والتصدير والبيع، وغير ذلك من الوظائف التي تخفف من على كاهل الكاتب الكثير من الهموم المضنية.

منصف الوهايبي: أنا المبدع والوكيل

الحقّ لم أفكّر قطّ في أن يكون لي وكيلٌ أدبيٌّ، ولكنّي أعرف أنّ هناك من الكتّاب من ينتدب مثل هؤلاء الوكلاء، في الغرب. أمّا عند كتّاب العربيّة فلا علم لي. وهي وظيفة مكتبية تتمثّل في رعاية البريد والاتّصالات الهاتفية وصياغة محاضر الاجتماعات التي يحضرها الكاتب أو يقوم بها ويشرف عليها. تاريخيًّا كان هذا من أعمال السكرتارية، أو ما كان يسمّى عند العرب قديمًا بـ«ديوان الإنشاء» أو «الترسّل».

لكنّه حديثًا شخص أو أكثر، يؤدّي عمله لفائدة الكاتب، أي كلّ ما يتعلّق بالنشر وإبرام العقود وما إليها، بموجب اتّفاقيّة بين الطرفين أو ما يسمّى قانون الوكالة. بل سمعت أنّ هناك من الوكلاء من يتعهّد عمل الكاتب أي أثره الأدبي، ويكون دوره دور المصحّح. ويتكوّن التصحيح من إعادة قراءة النصوص، وتصويب ما قد يشوبها من أخطاء، وذلك قبل نشرها. مع ما يقتضيه ذلك من التدقيق الإملائي والنحوي وعلامات الترقيم والطباعة.

وهذا يذكّرني بموضوع كنت عالجته في بحث لي يخصّ القصيدة العربيّة القديمة وعلاقة الشاعر براويته. وقد خلصت إلى أنّها نصّ متراكب يصنعه الشاعر و«الراوية» كلاهما. وقد يتلابس الصنيعان في أبيات غير قليلة، حتى ليستعصي تمييز الفروق الدقيقة والظلال الخفيّة فيهما أو إظهار تواشجهما واشتباكهما. فالراوية لا ينقل القصيدة أو يستظهرها وينشدها فحسب، وإنّما له أن يتعهّدها ويقوّمها ويهذّبها أيضًا.

لكن إذا كان من الشعراء من سوّغ للراوية أن يقوم من شعره مقام المصلح، وأشرعه على هذا الطّريق النّافذ إلى حمل القصيدة أو أبيات منها حملًا ثانيًا، فإنّ منهم من كان يتحوّط لنصّه بالكتابة، حتّى لا يختلّ ضبطه وحفظه ولا يعروه شيء من مخالفة الأصل.

ففيما يقول تميم بن مقبل: «إني لأرسل البيوت عوجًا فتأتي الرُّوَاة بها قد أقامتها»، يقول ذو الرّمّة: «أكتب شعري فالكتاب أعجب إلي من الحفظ؛ لأنّ الأعرابيّ ينسى الكلمة قد تعبت في طلبها ليلة. فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلامًا بكلام». وأقدّر أنّي من هذا الصنف الثاني، فأنا وحدي أقوم بدور الكاتب أو الشاعر، ولا أستشعر أيّة حاجة إلى وكيل، على احترامي للوكلاء، وتقديري لأعمالهم. حتى لو فكّرت في ذلك، فلست أملك ما يفيهم حقّهم المادّي.

التطرف وعدم قبول الآخر يعوقان خطط التنمية

التطرف وعدم قبول الآخر يعوقان خطط التنمية

حين تُذكَر التنمية المستديمة يتبادر إلى الذهن على الفور مجالات الاقتصاد والصناعة والتجارة والتعدين وإنشاء المدن، ولا ترد مفردة الثقافة في أي من هذه الخطط إلا نادرًا، رغم أن الآلة التي سيعمل عليها العامل هي جزء من الثقافة، والعامل الذي سيقوم عليها يحتاج إلى ثقافة، والخطط التي ستقوم عليها عمليات التنمية هي نوع من الثقافة.

فالثقافة في تعريف علماء الاجتماع هي كل مفردة تستخدم في المجتمع، وهي كل ما يعبر عن وعي وفكر الجماعة البشرية، ومن ثم فأوسع الملفات وأكبرها في أي تنمية هو الثقافة، لكننا نادرًا ما نتذكر ذلك، ونادرًا ما نفكر في وضع خطط مستديمة لتنمية وعي البشر، وهو ما وضع مجتمعاتنا العربية في إشكاليات كبرى، كأن تبني مدنًا على أحدث الطرز وتترك البشر فيها مؤمنين بفكر استقوه من بطون التراث.

لأننا حين وضعنا خططنا المستديمة لتنمية الاقتصاد والزراعة والصناعة والتجارة تركنا الباب مفتوحًا، من ناحية، لعقول البشر كي تستعير خطط الماضي ثقافيًّا لتواجه بها مجهول المستقبل، هكذا وجدنا من يكفر المجتمع ويدعو لهجرته، كما رأينا «داعش» وهو يحرق ويمثّل بجثث ضحاياه بناءً على فتوى في بطون كتب التراث، وهو ما يجعلنا نتساءل عما يجب علينا حيال الثقافة حين نضع خططنا للتنمية المستديمة، كيف نواجه ذلك الفكر، وكيف يمكننا غرس قبول الآخر واحترام حقوقه، ولم عجزنا عن استكمال الأساس الذي وضعه طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة»؟

مشروع التنمية وفكرة البعد الثقافي

محمد عفيفي

أي مشروع تنمية لا بد أن يقوم على فكرة البعد الثقافي في شكل ما. وحين نطلق كلمة ثقافة فالمقصود بها المفهوم الأوسع للثقافة الذي تبناه طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي أصدره بعد معاهدة 1936م التي أعطت من وجهة نظره مصر استقلالها الكامل، ومن ثم فقد انتهت المعركة السياسية وبدأت المعركة الثقافية. وكان طه حسين يقصد بمستقبل الثقافة، التعليم والفن والإعلام. وذكر أن هذه معركة العصر الحقيقية. وحين أتى جمال عبدالناصر بثروت عكاشة وزيرًا للثقافة قال له في خطاب التكليف: «اكتشفنا أنه من السهل بناء الكباري والطرق والمصانع، لكن الأصعب هو إعادة بناء الإنسان المصري، وهذه مهمتك». ومن ثم فإن أي مشروع للتنمية لا يمكن أن ينجز من دون تغيير ثقافة المجتمع، وهذا ما حدث في ماليزيا مع مهاتير محمد. الكثيرون لا يفهمون أن نهضة ماليزيا قامت على تغيير الثقافة السائدة وزرع روح التسامح وقبول الآخر في مجتمع متعدد الأعراق، فالثقافة هي أساس التنمية المستديمة بشكل كبير.

وفضلًا عن أنها تعطي غذاءً للروح من خلال الفنون، فهي أيضًا قضية أمن قومي، وإلا ستكون عرضة لسيادة ثقافات وهويات أخرى، فالدراما التركية حين اقتحمت العالم العربي جعلت الكثيرين يعتقدون في أهمية زمن الخلافة التركية، وبدأت الهوية التركية تنتشر في المجتمع بغزارة وكأن العالم العربي عاد إلى الحضانة التركية، والسبب في ذلك أن صناعة السينما لدينا ضعفت، وهو ما سمح بغزو الهوية التركية إلى العالم العربي كله.

وبالعودة إلى النموذج الماليزي نجد أن مهاتير محمد اكتشف أن هناك تعددًا في العرقيات المكونة لماليزيا، ومن ثم صراعات ونزاعات مسلحة بين الأغلبية المالوية والأقلية الصينية التي بيدها الاقتصاد، فأخذ في تغيير المفاهيم الثقافية وزرع فكرة قبول الآخر من خلال تغيير مناهج التعليم؛ كي ينتج أجيالًا جديدة يقوم وعيها على قبول الآخر، وفي الوقت نفسه عمل من خلال الإعلام والمنتج الثقافي في السينما والدراما والتلفزيون على توصيل الشعب الماليزي إلى قبول الآخر والتسامح مع ثقافته وفكرته عن الحياة، وهذا أنقذ ماليزيا من فتن طائفية كبيرة، والنموذج الماليزي مهم في هذا الاتجاه؛ لأن أي اقتصاد قوي سينهار إن لم يكن هناك قبول بالآخر وثقافته، ومن ثم فالتعليم والثقافة هم الأساس.

ويمكن القول: إن الحل الأمني في مواجهة الإرهاب والأفكار التكفيرية مهم، لكنه وحده لا يكفي، فلا بد من التعليم والثقافة؛ لأنهما سيجففان البيئة المفرخة للإرهاب والتكفير. وقد لاحظت وأنا أدرس التجربة الماليزية أن معظم رؤساء الوزراء الذين أتوا بعد الاستقلال كانوا من بين وزراء التعليم وليس الاقتصاد أو المهندسين، وذلك كي يجري الاهتمام ببناء الإنسان قبل بناء القصور والمنشآت.

كيف تعود ثقافة المدن التي دمرت؟

لقمان محمود

يتضح دور الثقافة في المنعطفات الصعبة والتحديات القاسية التي يواجهها أي مجتمع، فالتشجيع على احترام التنوّع الثقافي في إطار احترام حقوق الإنسان، من شأنه أن يُساعد على التفاهم الثقافي بين فئات الشعب كافة، فالخبراء والباحثون يدركون اليوم أكثر من أي وقت مضى القوة الهائلة للثقافة بوصفها حاضنًا طبيعيًّا للرموز والقيم والشعور بالانتماء والهوية. إن جميع الاتفاقيات والعهود الثقافية والتربوية التي أبرمتها اليونسكو تؤكد أهميةَ الاعتراف بالثقافات الأخرى وفهمها وترسيخ قيم التسامح فيما بينها.

مسألة الديمقراطية في سوريا، التي تتمثل في ضعف اهتمام الدولة بالجانب الثقافي للمواطنين بشكل عام، وللأقليات بشكل خاص، تعرقل أهداف التنمية الثقافية التي تعني الحرية، وتوسيع الاختيارات، وتحسين المهارات، وإشراك المواطنين، وجعلهم في قلب عملية التنمية.

حماية الثقافة وتطويرها هما في الوقت نفسه، غاية في حدّ ذاتهما، ووسيلة للمساهمة المباشرة في تحقيق جزء كبير من أهداف التنمية المستديمة (مدن آمنة ودائمة، شغل لائق ونموّ اقتصادي، تقليص في الفوارق، حماية للمحيط، مساواة بين الجنسين، مجتمعات سلمية…) لكن ماذا لو قارنا هذا الكلام مع هذه الأرقام والإحصائيات التي تقول: مع نهاية عام 2019م وثّقت الأمم المتحدة أرقامًا وإحصائيات كارثيةً للمهاجرين واللاجئين حول العالم (79,5 مليون مهجّر قسريًّا حول العالم، منهم : 26 مليون لاجئ، 45,7 مليون نازح داخليًّا، 4,2 ملايين طالب لجوء؛ مجموع السوريين وحدهم 13,2 مليون نازح داخل البلاد أو خارجها، باتوا يشكلون سدس العدد الإجمالي).

للثقافة بالتأكيد دور حاسم في بلوغ الدول هدفها في إطار التنمية المستديمة، هدفها الرامي إلى العمل على أن تكون المدن والمؤسسات البشرية غير مدمّرة ومفتوحة للجميع، والدعوة إلى تعزيز الجهود لحماية التراث الثقافي. لكن ثلاث مدن رئيسية للأكراد السوريين سقطت في قبضة الأتراك وهي: عفرين، سري كانييه (رأس العين)، وكري سبي (تل أبيض).. هذه المدن دمرت جزئيًّا وأسر سكانها بالكامل. وبسقوط هذه المدن المهمة والحيوية التابعة للأكراد في سوريا، سقطت أيضًا الثقافة التي تُعَدّ رابع دعامة للتنمية المستديمة بعد الدعامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

أوربا المبدعة ومناخ الحريات

شاكر عبدالحميد

الصناعات الثقافية أكثر من 16 فرعًا من الأنشطة والمجالات الإبداعية، بداية من السينما والمسرح والعمارة والحرف الشعبية وفنون الطفل والمواهب والشباب وغيرها، كل هذه الأنشطة تتم من خلال العمل على ما يعرف بالصناعات الثقافية. وكانت لدينا فرصة مهمة، لا أعرف إن كان أحد انتبه إليها أم لا، وهي أن الاتحاد الأوربي حين أتت جائحة كورونا وتوقفت الأنشطة الثقافية، قرر منح دعم للصناعات الثقافية، تحت عنوان: «أوربا المبدعة»؛ إذ قدم دعمه للمسرح والناشرين والمكتبات وللمشروعات التي ترسخ التعاون الدولي داخل أوربا وخارجها، ومن ثم فدعم الصناعات الثقافية هي الصيغة الأكبر والأوضح في وضع الثقافة على خارطة التنمية الثقافية. لا بد أيضًا من الاهتمام بالتعليم ووضع برامج ثقافية تعتمد على الوعي في رؤيتها، ولا بد من إصلاح المؤسسات الدينية، سواء لدى الأقباط أو المسلمين.

مصر دولة مركزية تأتي قراراتها من أعلى إلى أسفل، ومن ثم لا بد أن يتخذ مسؤولوها قراراتهم بتوجيه الدعم الكافي والكامل لوزارة الثقافة، وأن تكون هناك رؤية واضحة للاهتمام بالموهوبين، واهتمام أكثر وضوحًا بضبط العملية التعليمية والمحتوى الذي يقدمه التعليم، ولا بد من خلق مناخ كامل للحريات؛ لأنه من دون حرية كافية لن تكون هناك عملية إبداعية، ففي ظل الخوف وثقافة الخوف يتراجع الإبداع والفكر والفن، ربما يتقدم المنتج التقني أو المادي، لكن المنتج الفكري يتأخر إن لم ينعدم، والذين عملوا في المجتمع الأميركي رغم مساوئه المعروفة إلا أنهم جميعًا يقولون: لدينا ميزتان، الأولى هي الاهتمام بالتنوع والتعدد، والثانية هي الاعتراف بالخطأ، ومن ثم فإننا لا بد أن نضع الأسس المستديمة لمراجعة أخطائنا.

مجتمع يؤمن بإنسانية الإنسان

كامل فرحان صالح

لا أريد أن أكون متشائمًا، لكوني أسعى جاهدًا إلى بثّ الأمل في المستقبل في طلابي. لكن في الحقيقة، يقف المرء عاجزًا أمام إشكالية الموضوع المطروح، فهل ثمة علاج سحري – عجائبي للقضاء على التطرف والفكر التكفيري عبر التنمية المستديمة؟ ربما يكون ذلك ممكنًا في ظل تضافر عوامل كثيرة، تتشابك فيما بينها لولادة مجتمع يؤمن بدايةً بإنسانية الإنسان، وبحقّه في التعبير، والاختلاف، والاعتقاد، والعيش تحت مظلة العدالة والمساواة، وفي التزام التوازن بين الحقوق والواجبات. ولعل من هذه العوامل: العدالة في القضاء، والتعليم، والرعاية الاجتماعية، وتنقية تراثنا من الخرافات و«الكره والحقد والعنف»، وترديد أقوال الأقدمين من دون تمحيص ونقد.

ولعل أهم الخطوات، وهي ما قد أشار إليها الأديب المصري طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، تغيير النظرة إلى المعلم؛ لأن الرجل (المعلم) الذليل لا يستطيع أن ينتج إلا ذلًّا وهوانًا ومتطرفين، ومن نشأ على الخنوع والاستعباد لا يمكن أن ينتج حرية واستقلالًا؛ لذا،المأمول التركيز على إعداد «المعلم الصالح» إعدادًا جيدًا قبل الحديث عن المناهج والبرامج التعليمية؛ فهذا المعلم هو المسؤول عن تربية الأولاد والبنات بعد الآباء والأمهات، وعلى عاتقه تقع مسؤولية إنشاء أجيال تتمتع بالوعي، والأخلاق، والخير، ومن خلاله نستطيع تلمُّس مستقبل مجتمعاتنا، وقدراتها على مواجهة التحديات.

لكن، وعلى الرغم من جرس الإنذار الذي أطلقه طه حسين في بدايات القرن العشرين، ودعوة رجال النهضة للشعوب العربية إلى «اختيار المستقبل» بدلًا من مواصلة البكاء على أطلال الماضي، وقعنا في الكارثة وبِتْنا مجتمعات استهلاكية، وصورتنا أمام العالم لا تعكس سوى التخلف والعنف الدموي والتطرف، و«التفنن» في صيغ تكفير بعضنا بعضًا.

لم يفشل طه حسين، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وجرجي زيدان، وغيرهم العشرات من رجال النهضة، إنما كان تحدي مواجهة تفشي الأمية قاسيًّا في مجتمعتنا؛ فالأمية لا تعني عدم معرفة القراءة والكتابة فحسب، بل الأمية بمعناها العميق، هو عدم الوعي بإنسانية الإنسان فينا، وهذا ما قد أمعنا في إهماله عن «غباء مدروس».

ثلاثية الفقر والجهل والاحتلال

المتوكل طه

هناك تحديات كبيرة، منها كيف تنأى بالجيل القادم عن التشدد والتكفير، ولكن هناك أمر أهم، وهو كيف تواجه مفاعيل تفريغ الوعي العربي من قبل القوى الكبرى تحت مسميات العولمة وغيرها، فهذه المفاعيل تفرغ الوعي العربي لصالح الأفكار المتشددة والذهاب نحو التشدد بسبب الجهل والفقر والقمع؛ لذا لا يمكن مواجهة الفكر الإرهابي بعيدًا من مواجهة هذا الثالوث. وبالتالي كيف يمكن أن أواجه تفريغ الوعي وأنا لم أنتصر على هذا الثالوث، ومن ثم فلا ينبغي أن نقطع جزءًا من سياقه، لنتحدث عن مواجهة التكفير فقط، من دون مواجهة البيئة والعوامل الحاضنة لهذا الفكر.

كانت رسالتي للدكتوراه عن الآخر، وذهبت فيها إلى أنني لا يمكنني أن أقبل الآخر إن لم يقبلني الآخر؛ إذ كيف أقبل الأميركي وهو ينهب ثروات الأمة ويحتلّ أرضي، ومن ثم فهناك الكثير من الأمور التي يجب أخذها في الحسبان ونحن نضع خطة للتنمية المستديمة، فالأمور ليست منفصلة عن بعضها، ولكنها منظومة متكاملة.

بالتأكيد كان لا بد أن تتوقف تجربة طه حسين في مستقبل الثقافة؛ لأن النظام العربي الرسمي نظام مكرس لخدمة الآخر، وليس لخدمة شعبه، وبالتالي لن يأخذ هذا النظام بما قاله طه حسين، فهم يريدون تجهيل الشعب لاستلاب حقوقه؛ لأن النظام القائم حينما كتب طه حسين كتابه كان نظام احتلال، وما زال النظام مكرسًا لخدمة النقيض، ويكرس للجهل والفقر في الشارع العربي؛ لذا ما زال التعليم تحت مجهر المموّل الأجنبي الذي يفرض علينا تنقية مناهجنا، يفرض علينا أن نرفع أي كلمة اسمها مقاومة أو حق تاريخي. للأسف وضعنا سيئ، وسنكتشف أن لدينا إستراتيجيات لتفريغ وعينا القومي والعربي، سنكتشف كوارث عن الإعلام والمؤسسات الرسمية والتمويل الأوربي.

بلوغ الأهداف الكبرى

عز الدين جلاوجي

أعتقد أن العالم العربي مع بداية العصر الحديث قد شهد انتفاضة ثقافية كبرى حمل لواءها كثير من التنوريين، حتى قبل طه حسين في مصر وفي غير مصر، ورغم أن هؤلاء التنويريين قد انقسموا إلى قسمين، منهم من عمل على التغيير من الخارج، باجتثاث البيت من أساسه وتعويضه بغيره مما هو مستورد جملة وتفصيلًا، وهناك من دعا إلى التغيير من الداخل بمحاولة تأثيث هذا الداخل بقيم جديدة كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وإلزامية التعليم وحرية المرأة وغيرها مع الحذر الشديد على الهوية من الذوبان في الآخر، على اعتبار أن الآخر لم ينفصل كليًّا عن جذوره اليونانية والرومانية القديمة، ولا عن انتمائه المسيحي ولا حتى عن قيم الغرب القائمة على النظرة الاستعلائية.

طه حسين ذاته في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» كان يعيش هذا التمزق بين أن يكون صوتًا لمصر فقط أم أن يكون صوتًا للعرب جميعًا، أن يكون صوتًا لمصر في انتمائها العربي الإسلامي أم في انتمائها الماقبل ذلك؟ أن يكون صوتًا لمصر التي يحكمها الملوك، أم لمصر التي تتهيأ ليحكمها أبناؤها فيما بعد، ورغم الخطوات الجبارة التي خاضها المجتمع المصري والعربي عمومًا بتحقيق كثير من التطلعات التي آمن بها التنويريون على اختلاف توجهاتهم، فإن بلوغ الأهداف الكبرى ما زال بعيدًا لأسباب كثيرة جدًّا، منها أن هناك مؤسسات استعمارية تعمل على حقن المجتمع من الداخل بقيم بالية، ومحاولة توجيه مجتمعاتنا بوسائل مختلفة نحو الهاوية كما توجه القطعان بالذات.

مثقفون في العزلة القسرية.. قراءات ومشاهدات وتأملات في مآل البشر

مثقفون في العزلة القسرية.. قراءات ومشاهدات وتأملات في مآل البشر

أعاد كورونا صياغة العالم، وفرض حظرًا على الجميع في البيوت، كما لو أنه قرر أن يذيق العالم تجربة السجون، والحبس الانفرادي في الزنازين، فكيف يرى الكتاب العزلة القسرية التي عثروا على أنفسهم مقادين إليها؟ كيف يقضون يومياتهم في ظل تهديدات كورونا، أي طعم للكتابة وللقراءة، وعلى مقربة منهم وباء يكاد يعصف بالعالم في لحظة؟ المدن العربية التي سلمت من حروب الربيع العربي، في لحظة تحولت مدن أشباح؛ بسبب التدابير التي اتُّخِذَتْ لتجنب وباء كورونا، فهل هي عدالة من نوع آخر، أم أن ذلك يكشف هشاشة المؤسسات الرسمية في العالم العربي؟ إلى أي حد شكل كورونا تحدِّيًا لمجتمعات العولمة وللعولمة نفسها، بتفشيه على هذا النحو، وجعل حكومات الدول الكبرى في العالم عاجزة، عن فعل أي شيء؟ هل المناخات القائمة الآن، من عزل، ومن احتياطات وتدابير، قد تصلح في يوم ما لتغذي المخيلة وتشحذها لكتابة تقارب ما يحدث؟

يومٌ في بستان العزلة

أحمد المديني

انتهى هذا اليوم والوقت يلعب بين يديّ ورأسي ينتقل من رشفة القهوة إلى صفحة كتاب عيناي عليه تجريان فيه بكسل وتوان، ويحملهما الملل إلى سماء عالية زرقتُها تتدفق على شرفة مكتبي أراها لاهيةً عني وعن حالها كأنها غير موجودة وإنها لكذلك، غائبة؛ إذ لا ينظر إليها أحد، فالشيءُ، الطبيعةُ، الكائنُ نفسُه لا يكتمل وجوده ويكتسب معناه إلا وهو واقع في دائرة نظر وإحساس؛ لذلك الطبيعة ليست حزينةً ولا جَذْلَى، لا غَضْبَى وما هي منشرحة إلا بما نسقطه علينا نحن، هكذا فكر بودلير في زمن سابق، يتحدث عن الشجر، لا عجب وهَب النباتَ خَصْلةً (أزهار الشر) فلم يعد محايدًا؛ أوَيوجد حقًّا شيءٌ محايدٌ في هذا العالم؟!

لست في عزلة أبدًا؛ لأن هذا هو عيشي الطبيعي، لكنّ الإعلامَ المهلوس، والصمتَ المطبق، والفراغَ الموحش في الشارع، وتذكيرَ زوجتي لي الملحاح بغسل يديّ مرات كلما فتحت الباب، ومُنَغِّصَات أخرى، تفسد عليَّ عزلتي الحقيقية، طالما عَدَدْتُها كنزًا من دون الأثرياء ومنجمَ ثراءٍ لا ينفد؛ ها هو بإرادة وباء تافهٍ يُقعد البشرية جمعاء في غرفة الصمت والوحشة ويُملي عليها شروط البقاء من الفناء، ألتفتُ إلى مكتبي فأحس به بغتة لا يشبه ما كان عليه وينبغي، وصدره الفسيح بي يضيق، والأشباح المدفونة في كتبي يا لها دفعةً واحدةً تستفيق.

إنني بالضرورة هذا الكائن بقوة آخرين في الجماعة، والآخرون من يصنعون شروط وضعي ويتحكمون في نوع إحساسي، سواء أجرمت أو كنت بريئًا من أي ذنب، فائضُ الحرية الذي أعيشه في هذا البلد الغربي جعلني أسرف في تقدير قوة إرادتي وفسحة حركتي، بين الليل والنهار أستطيع أن أصبح على هواي وقتًا ثالثًا في مدار الزمن وخارج فَلَكه، أتمدد أتقلص أطُول أقصُر أكبُر أَضْؤُل أشِبُّ أشيخُ أرقصُ أغنِّي أنتحبُ أصدحُ أصيحُ أصرخُ، تنطفئ جميع أضواء الغرف في العمارات المقابلة، وحدها عيونٌ تبقى تتلصّص عليَّ تقتل وحدتي كـ(متلصص) رواية روب غرييه ينفّذ جريمته ويمضي لا يدري وهو يتلصص.

يسرقون عزلة الذهب، «أعز ما يطلب» عندي من كتاب ابن تومرت، انظروا لا شك ممسوس، يعنونني، ننام نصحو نتناسل نركض في الأنفاق نلهو بالصفقات نمجن بالصفاقات ونعود نؤوي إلى أسِرّتنا مُترعين بالشبق، بينما هو، هو، حيث تركناه، لا يَظهر وجهُه، فالعتمة غلالتُه، وحدها الأبجورة ضوؤُها مسلَّط على حاسوب أمامه ترقص فوق لوحته أصابع مثل ساقَيْ بهلوان، ربما هو يُغنِّي، يروي ربما نكتة، أو لعله يحبك لعبة من حِيل يقال يلعبها في روايته، لِمَ لا صورةً شعريةً يقبسها من أولمب الأزل، أوَلا يحب، يغضب، يمرض، يجوع ويعطش مثل سائر الناس حتى وهو ليس مثل سائر الناس؟! في الوقت الثالث بين الليل والنهار ومن نوافذ وشرفات العمارت المقابلة الأعناق مشرئبةٌ والناظوراتُ مسددةٌ نحو نافذتي وأنا خلفها جالس هنا في مكتبي كما أنا منذ الأزل، قد استنفدت تاريخ البشرية، ولا أمل، أراهم يحدقون غير مصدقين أني.. أتغذى، أعيش فقط…بفاكهة العزلة!

روائي وكاتب مغربي

إيجابيات كورونا

محمود زعرور

تتسم يومياتي، قبل موجة فيروس كورونا، بشيء من الثبات، وببعض الانتظام في تفاصيل وأجزاء الانشغالات المختلفة، وهي عادات كنت قد ألفتها منذ أمد بعيد، ومكنتني من متابعة سلوكاتي بشيء كبير من الاستمرارية، غير أن ظهور الوباء وانتشاره الحالي، وما تبعه من ظروف متصلة بالإجراءات المتعلقة بالحذر، واتخاذ أسباب الوقاية، والتشدد في مراعاة القواعد الصحية، وغير ذلك، أكثر من أي وقت مضى، قد أكد أكثر فأكثر على أوضاع الثبات، وعلى بعض التقييد في الحركة العامة.

لكن هذا الوضع، نفسه، الذي يمتاز بندرة الالتزامات والعزلة، والوقت المديد، قد مكنني كذلك، من الإقبال على انشغالات محددة، كنت في السابق أتردد في التعامل معها، مثل إعادة قراءة أعمال بعينها، كبعض الأعمال الأدبية الكلاسيكية، في الرواية والقصة القصيرة، وكذلك في النقد الأدبي أيضًا، وهي فرصة، كما أظن، لقراءة جديدة، لبعض أهم الموضوعات والأساليب والرؤى المختلفة.

وعلى صعيد الكتابة، أتابع العمل في كتاب في النقد الأدبي كنت قد بدأت به منذ مدة ويتعلق بالرواية والثورة السورية، وهو دراسة نقدية في أعمال روائية محددة، قامت بالرد على تحدٍّ عاصف، وواكبت لحظة فاصلة، وفارقة، في التاريخ السوري.

تتسم الحياة المعاصرة، في هذه الأيام، بملاحقة هموم ومكابدات عديدة، وتتوزع في أكثر من صعيد، ولقد انضاف القلق من تبعات ونتائج فيروس كورونا، والخشية من انتشاره وتفشيه في عالمنا، إلى هموم مختلفة أخرى، استطاعت أن تحاصر الإنسان المعاصر، وتقيد من دوره، بشكل عام.

قد يكون لكورونا جانب إيجابي على حياتنا الاجتماعية والثقافية، إذا استطعنا أن نجعل من بعض القيم والتقاليد المتصلة بالتمسك بالعلم والطب من أجل مكافحة الأمراض والأوبئة سبيلًا رئيسًا ضد الجهل والخرافة، كذلك، وفي النظر إلى بعض ما ظهر من قصور ونقص في استعدادات وإمكانيات دول كثيرة في مواجهة الوباء، ينبغي، مجددًا، ودائمًا، التأكيد على أولوية نظم التعليم المتقدم والمتطور، والرعاية الصحية المقدمة كحق من حقوق الإنسان.

ومما يكون له الدور الأكبر، أيضًا، تعزيز التضامن الدولي، وتقوية التكافل الاجتماعي، للتأكيد، مرة أخرى، على المسؤولية المشتركة في طرق المواجهة الفعالة، لكوننا أمام مصير واحد، وعلى الثقافة إعادة التأكيد، مجددًا ودائمًا، على معنى المعاني: الإنسان أولًا، أي الحياة أولًا.

من أجل هذا تتوالد بقية الالتزامات الفردية والجماعية، وهي التزامات تستثمر في مجالات تعزيز دور الإنسان، واستمراره، ومدّه بالحقوق والسبل التي تمكنه من العيش الكريم، ومناهضة كل المعوّقات لها من أي جهة أتت، لقد نجح العلم، في السابق، في الفوز بتحديات عديدة، وأنا متأكد من نجاحه الآن، أيضًا، في هذه المعركة الشاملة.

ناقد وروائي سوري مقيم في هولندا

إيقاع البيت

زاهر الغافري

أعيش حياتي يوميًّا على إيقاع لا يختلف كثيرًا عن حياتي الماضية، ولقد وفَّرت لي البيئة التي أعيش فيها إمكانية التحرك ولو على نحو أقل من السابق، فأنا أعيش في السويد في مدينة مالمو والناس هنا يتحركون بحذر ويحسبون الخطوة تلو الخطوة ولا يختلطون معًا في مجموعات كبيرة، أقضي أوقاتي في البيت في القراءة والكتابة وسماع الموسيقا الكلاسيكية، وأشاهد الأفلام ذات التوجه الطليعي، حتى الأفلام التي شاهدتها سابقًا في دول مختلفة.

أظن أن هذا هو الوقت المناسب لكي يعود الإنسان إلى ذاته ويتأمل ماضيه وحياته السابقة، فالإنسان فوق هذه البسيطة وصل من الغطرسة والقوة بحيث نسي أن الطبيعة التي يقوم بتدميرها ستنتقم وتعاقبه ذات يوم، وفي ظني أنه على الإنسان أن يتواضع قليلًا وينصت إلى الطبيعة ويستمتع بالانسجام أو الهارموني في هذا الكوكب الذي نعيش فيه.

كان الربيع العربي تعبيرًا عن رفض الشعوب للطبقات الحاكمة، وكان حركة احتجاج ضد الهيمنة والقوة، وكان هذا الأمر طبيعيًّا وفق حركة التاريخ الذي لا يعرف ثباتًا، لكن ما نعيشه الآن هو زمن مختلف، هو زمن مدن الأشباح، ففيروس كورونا المستجد لا يضرب بلدًا واحدًا أو اثنين بل يمتد في كل الكرة الأرضية بكاملها في أوربا وفي الأميركتين وفي آسيا وإفريقيا وأستراليا وكندا إلى آخره، بهذا المعنى إنها مطحنة الجثث، أنا شخصيًّا أفضل البيت لأنه المكان الحميم للكائن، وتحديدًا أفضل العلية مثلًا أو الشرفة المغلقة بالزجاج كما كتب مرة غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان. صحيح أن هناك حالة من الخوف والهلع عند الناس ولكن في المقابل هناك حالة من المبالغة، وربما كانت وسائل الإعلام تقوم بهذا الدور طبعًا.

هناك نظريات كثيرة حول فيروس كورونا المستجد كوفيد ١٩ بما في ذلك أنه فيروس مصنع في مختبرات أميركية أو أوربية أو صينية، لا أحد يعرف يقينًا حول الأمر لكنه واقع حال. علاقتي بالآخر لم تتغير كثيرًا، زوجتي معي، أما ابنتاي فهما في بلدان أوربية أخرى، أطمئن عليهما وأتابعهما هاتفيًّا بشكل يومي تقريبًا.

شاعر عماني مقيم في السويد

تأمّل هذا المخلوق غير المرئي لإنتاج ما هو مرئي بعيدًا من العاطفة

علي لفتة سعيد

كلّ شيء محاصر باليأس حتى من قبل أن يولد كورونا، سواء كانت ولادته سماوية أم ولادة مختبرات عالمية تسعى لتحطيم بعضها بعضًا، قبل هذا كان الأمر عبارة عن صراع وجود لإثبات أن الحياة جميلة فنسعى للقراءة والكتابة ومن ثم الإنتاج.. من أجل أن نثْبِت لذواتنا المبعثرة أن الحرف هو الوحيد الذي يمكنه لصق ما هو مبعثر، وننفخ فيها الروح كي تكون حيّةً حيث يشاء الحرف البقاء في أماكن يريدها، سواء تلك التي يتلقّفها القرّاء أو التي تبقى حبيسة الرفوف، المهم أنها عملية مواجهةٍ ما بين الحرف كنوعٍ ثقافيٍّ، والواقع كنوعٍ سلطويٍّ قامعٍ أو متكبّرٍ أو حتى متجبّر، في محاولة لصناعة الأمل.

ولهذا فإن المناخات التي تعصف بالكاتب هي مناخات غير طبيعيةٍ من أجل أن ينتج أو يقوم بتخليق نصوصٍ طبيعية، وهو ما يعني أن المؤلّف لا يتعامل مع المناخات التي حوله على أنها قامعة، بل هي حافزة، ومنها هذا المرض اللعين أو الفيروس القاتل الذي يشغلنا الآن بالكثير من القلق وأيضًا الكثير من التفكير الاستهلاكي عن جدوى الحياة ذاتها، بل العمر الذي يسحق سواء تحت عجلات الواقع الاجتماعي أو السياسي أو الديني أو حتى الاقتصادي، في المحيط الذي نعيش فيه أو في الواقع العام الكوني الأرضي، الذي اكتشفنا كم نحن غافلون عن كوننا نتشارك في الأرض ليس في العيش بل في الهموم، حتى لو اختلفت البيئات.

إن المثقف المنتج للنص الأدبي هو مخلوقٌ كي يجد فعلًا، فينتج ردّة فعلٍ لما حوله، إذا عددنا الكتابة بحدّ ذاتها هي ردّ فعلٍ لما ينتجه الواقع، باتجاه المخيّلة؛ لكي يسطّر الحلم أو الأمل أو حتى حين ينتقل الواقع المأساوي إلى الإبداع، فإنه يريد رسم العوالم والخرائط التي تؤدّي إلى التفكير بعمقٍ بالأسباب التي يريدها للمتلقّي أن تكون فاعلةً، لتنتج عنده فعلًا آخر هو فعل الحياة.. ولهذا فإن التدابير التي يحيط بها الكاتب المثقّف هي تدابير متناسلة
لما سيأتي.

الكتابة الشعرية الآن تنفع لإنتاج ردّ الفعل الآني، ولكن الرواية والقصة قد تكون بحاجة إلى تأمّل هذا المخلوق غير المرئي لإنتاج ما هو مرئي بعيدًا من العاطفة.. ولهذا فإن المعادلة صعبة بأن تعيش داخل تفكيرٍ محبطٍ عن جدوى الحياة العاجزة عن إيقاف فيروس غير مرئي، يبطش بالعالم ويجعل البشرية في حجرٍ إجباريٍّ، وبين أن تترك حرية للشخص الآخر الماكث في الداخل المشغول بالإبداع والباحث عن فعل لينتج رد فعل، كي يجمّل الحياة، ويجعلها مقبولةً وكأن الكتابة هي قدرٌ آخر للإيمان بجدوى الحرف ذاته.. ولهذا نجد الأديب أو الفنان يعمل على تخليق الخزين المعرفي وتزويده بمهاداتٍ عديدةٍ حتى لو كانت إعادة ترتيب المكتبة أو القراءة التي لم يكن يجد لها وقتًا.. وها هو الوقت الزائد يأتي طائعًا ليقول له: تزوّد بالمعرفة لتؤمن بالقدر.

صحفي وروائي عراقي

سينتهي كورونا لتتبوأ شركات الأدوية العالم

سليمان شفيق

تجربة العزلة التي حفرت وجداني كانت في الحبس الانفرادي في سجن القلعة عام 1977م. السجن الانفرادي جعل اليوم عندي يبدأ وينتهي من خلال النظر إلى الجدار والنافذة وإعمال الخيال، وفعلًا هناك جزء كبير من روايتي الوحيدة «ثلاثة وجوة» كتبتها في مخيلتي بالزنزانة الانفرادية، هكذا أستيقظ اليوم وأنظر إلى شباك غرفة نومي وأبتسم مرددًا ما قاله محمود درويش: «لا زلت أحيا شكرًا للمصادفة السعيدة»، ثم أذهب إلى الكلور وأنظف الحمام وأنا أفكر: من اخترع الكلور؟… أترك الحمام وأفرك يديّ بالكحول، وأنظر إلى طاولة الطعام في خوف وأتخيل أن معي نظارة ميكروسكوبية كاشفة للفيروسات، أجدها تخرج لسانها استعدادًا للهجوم، أنظف بعناية الطاولة، وأركض إلى الحوض أغسل يديّ بعناية ولمدة عشرين ثانية، أعود إلى الطعام، رائحة الفنيك والكلور تختلط بالفول، أترك الفول وأستنشق رائحة القهوة. أحاول القراءة، السطور معقمة والكلمات تصارع الوباء.

يا إلهي حاربت مرتين حيث كان العدو واضحًا، ولكن هذه الحرب مع ذلك العدو الخفي تحتاج إلى مزيد من الخوف والحزن والكتابة، نعم أكتب لكي أعيش، أكتب وأتذكر في سفر الرؤيا ليوحنا اللاهوتي كتب القديس كلمة أكتب سبع مرات، وفي مطلع إنجيل يوحنا كانت «في البدء كانت الكلمة، والكلمة صارت بشرًا» وهكذا أحاول أن أكتب، ولكن لا بد من رؤيا حتى تصير الكلمات بشرًا، لا يعرفون الخوف.. أتخيل مليارات الفيروسات تهاجم المليارات من العالم، الإنسان يواجه المجهول والعلم يبحث عن قنابل دوائية لقتل هذا
العدو الخفي.

في الليل عرفت أن هناك مظاهرات في الإسكندرية تطلب من الله سبحانه وتعالى إبادة هذا العدو؟! تذكرت أجدادي حينما خرجوا لمقابلة الحملة الفرنسية بالنبابيت ولكن حينما أطلق عليهم نابليون «القنبل» أي القنابل، صرخ الناس مع مشايخنا: «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف». وفي الليل أتوقف أمام سؤال: هل سقطت العولمة أمام فيروس صغير الحجم جعل الحكومات تغلق الحدود، ورحلات الطيران تتوقف، والشركات المتعددة الجنسيات تخسر المليارات وتغلق فروعها في كل مكان؟ هل يتجه العالم الآن إلى الاشتراكية ومبادئها المعنية بالفقراء؟

سؤال محيِّر جعلني أعود إلى أكبر وباء حدث للبشرية وهو الطاعون: وباء الطاعون الذي اجتاح أنحاء أوربا بين عامي 1347م و1352م، وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة الأوربية. انتشرت أوبئة مشابهة في الوقت نفسه في آسيا والشرق الأدنى، وهو ما يوحي بأن هذا الوباء الأوربي كان جزءًا من وباء عالمي أوسع نطاقًا. لكن رغم ذلك بعد انتهاء الوباء تعاظم موقف الكنيسة ورجال الدين في أوربا والعالم، ثم وباء الكوليرا في عام 1820م، كان وباء الكوليرا الذي اجتاح العديد من دول العالم ومنها إندونيسيا وتايلاند وأيضًا تسبب في وفاة 100 ألف شخص آخرين، ونحو 30 ألفًا يوميًّا في مصر، وبعد وباء الكوليرا عرف العالم بداية ظهور الحركات الدينية والفاشية في الغرب. أما الآن فسوف ينتهي كورونا لتتبوأ شركات الأدوية العالم، ويتم تبديل العولمة من قيادة الدول إلى قيادة الشركات، فنجد مثلًا الأمم المتحدة أو مجلس الأمن يتكون من شركات عدة، وتتحول الدول إلى مدير تنفيذي للشركات ومنسق بينها وبين السوق. وتظل الاشتراكية حلمًا متجددًا في أحلام المناضلين العشاق للعدل والحرية.

باحث وصحفي مصري

رسائل الطبيعة

الحبيب السايح

صدقًا، إنه يقع انقلاب جذري في حياتي لعاملين اثنين؛ الأول: الحراك الذي تعرفه الجزائر منذ 22 فبراير 2019م، والذي نقلني إلى بُعد جديد؛ إذ دخلت في تأمل جديد لما أعيشه كإنسان وككاتب، وقد أعجزني فعلًا عن أن أجد له اللغة التي تصف زخمه وتحويله وتأثيره، بالرغم من أني كنت ولا أزال أحد الفاعلين فيه. إني في حال استيعاب للاستعارات التي أفرزها؛ مما يتطلب مسافة زمنية للكتابة عنه كفعل سياسي واجتماعي وثقافي. وقد كان قلقي على خطورة الانفلات أكثر من أي شيء آخر.

العامل الثاني: هو وباء كورونا الذي، قبل أسابيع قليلة جدًّا، لم أكن أعدُّه سوى مجرد طارئ مرضي عارض يصيب مجموعة بشرية في مساحة ضيقة من هذه الأرض بعيدة مني بآلاف الكيلومترات. ثم فجأة ها هو يقترب، كما عاصفة. وفي صباح تالٍ، أفقت على قتلاه ومصابيه عند النافذة والباب! هنا أحسست، لأول مرة، أني فقدت اللغة ونسيت أني كنت كاتبًا ولم تعد كتب مكتبتي بين عيني فجأة سوى مجرد أشياء جامدة. وبخطفة أخذني رعبي إلى الفضاء الأزرق. هنا وجدت العالم لم يعد كما كان قبل أسابيع قليلة. هنا وقفت على هشاشة الإنسان، على ضعفه ورعبه وعجزه وموته. وهنا، وهنا فحسب، عاينت استهتارنا برسائل الطبيعة إلينا.

اليوم، أحس مثل انكسار حدث في علاقتي مع القراءة، التي كانت جزءًا من حياتي اليومية. فذهني مشدود كله إلى هذا العدو الخفي. إني أحاول أن أجبر الأمر بنحو ثلاثين دقيقة قبل النوم. ومن الطريف، لنفسي، أن أعيد قراءة «بينوكيو ـ قصة دمية متحركة». يبدو أننا لسنا سوى دمى لن نكتسب صفة البشر الحقيقيين إلا إذا تعلمنا الحوار مع طبيعة كوكبنا حتى لا تغضب غضبتها المدمرة والنهائية.

يمكن لنا، نحن الأمة العربية، قبل غيرنا، أن نستخلص الدرس من مخلفات هذه الجائحة الفادحة، بأن نخصص نسبة معتبرة من عائداتنا -كيفما تكن طبيعتها ويكن حجمها- إلى الاستثمار في إنساننا وفي البحث العلمي وفي الصحة العمومية والتعليم والاستشراف.

أما الدولة المتقدمة، وبعيدًا من نظرية المؤامرة والحرب البيولوجية وما شابه، فإنها ستكون مدعوة إلى إعادة النظر في سياسة التكفل بالإنسان، وبخاصة الشرائح الهشة. وأن تراجع مواقفها تجاه حماية الطبيعة. وأن تخلص النية حقيقة في التقليل من الإنفاق على التسليح. وأن تسهم في إخماد بؤر التوتر والحروب؛ لأن كورونا أظهر للبشرية كلها أنها تعيش في كوكب واحد وفي زمن واحد وهي معرضة، بلا تمييز، للمخاطر ذاتها.

روائي جزائري

ليست عندي مشكلة مع الموت

أنور الهواري

في الساعات الأولى من ميلاد ٢٠٢٠م كان الشرق الأوسط يقف على حافَة الحرب بين أميركا وإيران، وكانت المنطقة تسلم نفسها -دون تمنع- لما عرف باسم صفقة القرن أو خطة ترمب للسلام في الشرق الأوسط ، ساعتها كتبت لأقول: ٢٠٢٠م عام صعب. لم يكن يدور في خيالي من قريب أو من بعيد، أن يكون ٢٠٢٠م قد دخل علينا يطوي تحت جناحيه بذور فنائنا جميعًا، وأخذت وقتًا طويلًا أقرأ وأسمع وأشاهد دون أن أصدق.

وجدتني في تمزق على عدة جبهات، أو بالأدق ثلاث جبهات: جبهة قديمة هي الديمقراطية التي كنت وما زلت أتخيلها زورق الإنقاذ الوحيد الذي يمكنه خلاص بلادنا وشعوبنا من التخلف المزمن والاستبداد المستقر والفساد المطمئن. ثم دخلت على الخط قضية وجودية أخطر مليون مرة من قضية الديمقراطية وهي مياه النيل بعد أن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود. ثم لم أكد أبتلع الصدمة حتى جاءت أخطر قضية وجودية دقَّتْ طبولها على رؤوس البشر منذ طوفان نوح عليه السلام في الأيام الأولى للإنسانية كما يسردها سفر التكوين في العهد القديم.

ليست عندي مشكلة مع الموت، فقد سبق وتقدمت له بكامل إرادتي، ووقعت للأطباء على وثيقة تُبَرِّئهم من موتي، وتُحَمِّلُني مسؤولية ما يؤول إليه أمري، قبل ساعات من جراحة كبرى، دامت عشرين ساعة من دون انقطاع، استأصلوا كبدًا تلف وتليَّف وكان على حافَة السرطان، وزرعوا مكانه نصف كبد تطوَّعت به شقيقتي، وأبقوا لها النصف الآخر تعيش به.

مددت رُوحي قبل جسدي على محمل طبي في استسلام كامل للقضاء والقدر لا يشغلني شيء مما كان في حياتي ولا شيء مما أتوقع أن يكون موتًا كان أم حياة جديدة.

فقط تألمت ألمًا شديدًا، حين وقعت عيناي على شقيقتي، وهم يحملونها ليبقروا بطنها، وليجزوا كبدها، ولينزعوا نصفه، ثم يعيدون زراعته عندي. كانت تبتسم فوق سرير العمليات كطفل ذهب به أهله إلى مَلَاهٍ يحبها أو إلى ملاعب يشتهيها، كانت طفلة بريئة بكل معاني البراءة والطفولة، آلمني ذلك أشد الألم، وما زال يؤلمني أشد الألم، إحساس عميق بالذنب أني فعلت فيها ما فعلت وأخذت منها ما أخذت.

كنت في تلك الأيام عضوًا في نادٍ للصحفيين والأدباء والسياسيين من أبناء جيلي ومن أجيال تسبق وأجيال تلحق، كنّا جميعًا قد أدركنا فيروس الكبد الوبائي، ولم يكن له علاج، وكنا نضطرب في أسواق الطب من دون مغيث، كنّا نشحب، وتضعف قوانا، وتخبو جذوة الحياة في أوصالنا، كنّا نصبح على همود، ونمسي على خمود، ونطوي الصدور على حزن دفين وأسف مقيم.

أتذكر كل ذلك الآن، ويؤلمني أشد الألم، وسوف أبقى ما حييت رهين الألم، فقد ماتوا جميعًا، ماتوا ولم يبقَ منهم أحد، مات الروائي محمد ناجي وكان يقاسمني دواءه، مات المستشار الثقافي والصحفي في الأهرام المسائي محمد عبدالواحد وقد دخل غرفتي في المستشفى ثم لم يخرج منها وكانت طفلته الصغيرة تنتظره مع والدتها على الباب، مات الصحفي والسياسي عزازي علي عزازي وكان سعيدًا بنجاح عمليتي وشجعه ذلك على المغامرة، كثيرون جدًّا ماتوا، وتركوا في نفسي لوعة وجودية عميقة لا مهرب منها إلا بأن أطلق ساقي على طريق مفتوح، وأظل أمشي ثم أمشي ثم أمشي حتى تنفد طاقتي على الحركة والتفكير، فأوقف سيارة تاكسي وأرمي فيها ما بقي من روحي وجسدي عائدًا إلى البيت وقد تخدرت اللوعة وسكنت إلى حين.

ليست عندي مشكلة مع الموت، عندي مشكلة مع موتِ مَنْ أُحب. بطبعي تقليدي وريفي ومحافظ وأحب انتظام الحياة وفق قواعد أعرفها سلفًا، تروعني المفاجآت والثورات والانقلابات والزلازل والفيضانات والمجاعات، ومن باب أولى تروعني فكرة الطوفان، روعتني منذ كنت  أتلقى سُوَر القرآن المجيد على الألواح في كتاب سيدنا الشيخ محمد حسبو -الله يرحمه- وقد ارتفعت الأمواج لتفصل بين الأب وابنه، بين نوح وولده، في مشهد مهلك للأعصاب.

تذكرت الطوفان القديم وأنا أتابع طوفان الوباء يكتسح العالم ويشلّ حركته ويعزل القارات والبلدان والشعوب والأفراد. قرأت العهد القديم أول مرة في العام الدراسي ١٩٨٠- ١٩٨١م وكنت في الصف الثاني الثانوي، قرأته بما يكفي لأن يكون مألوفًا عندي، لكن ليس بما يكفي لأكثر من ذلك، حتى دارت الأيام وقرأت الإلياذة، وتعودت على مجتمع الآلهة، بينما العهد القديم -ومن بعده الإنجيل والقرآن- أسس لمفهوم الإله الواحد، والكون الواحد، والإنسانية الواحدة، والمصير الواحد، فكرة في حد ذاتها مريحة وملمومة وبسيطة.

وجدتني، في لحظتنا هذه التي نعيشها كإنسانية تحت سيف الوباء، أتوقف عند النص الأخير من الطوفان: «أقيم عهدي معكم، فلن ينقرض ثانية بمياه الطوفان أي جسد حيّ، ولن يكون طوفان آخر لخراب الأرض»! وقد أعجبني، أن ترجمة النسخة التي أقرأ منها، تضع عنوانًا مثيرًا جدًّا لصحفي مثلي مشغول بالكتابة في السياسة، فعنوان الفقرة التي أعقبت فقرة الطوفان من سفر التكوين هو «نظام جديد للعالم»! وأظن أن هذا ما نحن، والإنسانية كلها، بصدده الآن. عالم جديد أو الفناء. ليس بطوفان من الله ولكن بحماقات من الإنسان.

كاتب وصحفي مصري

وداعًا للرأسمالية

صلاح بوزيان

تجدني خلال هذه الأيّام ونحن نتابع انتشار فيروس كورونا، أرابطُ في البيت فلا أغادره إلّا عند الصّباح مسرعًا لأجلب بعض اللّوازم: الخبز والحليب والخضراوات. أمرّ بالشّوارع المقفرة فيطالعني باب الجلّادين مقهى طقطق حيث كنتُ أمضي سويعات مع مثقّفي القيروان نخوض في أمور الأدب، الأشجار والفوانيس وسور المدينة حزينة. المقهى مقفلٌ وكآبة تنتشر في الشّوارع والأزقّة، حيرة على الوجوه، الطّوابير تملأ المدينة، أقف في الطّابور أشتري الخبز وقليلًا من الخضراوات من المغازة العامة، وأعود إلى البيت. أجلس في المطبخ رفقة زوجتي وأمّي وأبنائي، نتحدّث ونتابع التّلفاز للحظات، ثمّ أخلعُ ملابسي وأرتدي الدجوقنق، أرتقي الدّرج إلى مكتبي في الطّابق العلوي أنفق كامل وقتي في المطالعة ومن حين إلى آخر أتنقّل بين المحطّات التلفزيونية التونسية والعالمية لأتابع الوضع في جميع أنحاء العالم.

أنزل لتناول الغداء، وأعود وأنزل في الليل لأتعشّى مع العائلة وعندما تهدأ الحركة، أترك المطالعة والكتابة، أدخل غرفتي لأنغمس في مشاهدة التّلفاز، وملاحقة الأخبار، أتفرّج في الملفّات التلفزية التي تتناول كورونا وأسبابها وتوقّعات عالم ما بعد كورونا. تمضي الأيّام بهذه الوتيرة. وأعتقد أنّ هندسة خريطة العالم الجيوسياسية والمالية ستتغيّر وفق النتائج التي ستحصل بعد كورونا، وستضطرّ كثير من البلدان إلى التوجّه نحو التشاركية الاشتراكية، بمعنى سيطفو على السّطح نظام سياسي مالي جنوب جنوبي تتقدّمه الصّين وروسيا والهند، وستتغيّر ملامح أوربا ويتفكّك الاتّحاد الأوربي. وستصعد قوى جديدة تهيأت لها الأسباب قبل الكورونا لتكون فاعلة أكثر في العالم، وقد يحتدم الصّراع بين قدماء الهيمنة والمهيمنين الجدد، ولكن بلا عودة إلى الرّأسمالية القبيحة. الثّقة في الله وحده أن يعمّ السّلام العالم.

روائي وصحفي تونسي

أزمة كورونا تُحدِث صدمة هائلة

ليلى عبدالله البلوشي

بالنسبة لكائن بيتوتي مثلي لم أشعر مطلقًا بعزلة كورونا. صارت العزلة والجلوس في البيت خيارًا شخصيًّا منذ أعوام، منذ سحبتني الكتب إلى عوالمها الغامضة، ومنذ جاءت الكتابة إليّ. كان المنزل هو منعزلي المثالي، بعيدًا من صخب العالم، أحببت ألفة البيت حتى إنني قدمت استقالتي من الوظيفة كي أجلس في البيت أقرأ وأكتب، ويحدث أنني في كثير من الأحيان لا أفعل شيئًا، لكن الشعور بالحرية المطلقة يكفيني. أن أكون سيدة نفسي، وزمني.

حتى مسألة العمل عن بعد هو نمط اعتدت عليه منذ وقت طويل، فقد اخترت أن أعمل في منزلي، أن أبعث مقالاتي لمجلات وصحف متنوعة، وأتواصل مع العالم المترامي عبر شاشة صغيرة.

* * *

أزمة كورونا أحدثت صدمة هائلة على الأصعدة كافة، ربما الذي خفف من جرعة الأزمة مع الوقت هو في كونه صار وباءً عالميًّا، أي أنه يشمل جميع سكان الأرض. منذ أعوام وجزء من هذا الكوكب يعاني، حروبًا ومجاعات وأزمات سياسيةً واقتصاديةً إلى لا آخره.. وجاءت كورونا لتخبرنا أن جميع من في هذا العالم معرض للخطر والموت في أي لحظة، ولن تفلح أسلحة العالم كلها للقضاء عليه أو الحد من تفشيه!

* * *

هذه العزلة جاءت مفاجئة وبلا مخطط مسبق، بل إنها نسفت كل خطط العالم، وصار الإنسان حبيسًا في عزلة ليست من اختياره؛ لذا سيسعى جاهدًا للتخلص من هذه العزلة، بتقويضها عبر القيام بأعمال لم يقم بها سابقًا، فوفق ما قرأت ولاحظت أن معظم الرجال صاروا يمارسون ما يسمى في ثقافتنا المجتمعية (أعمالًا منزلية) التي صارت منذ وقت طويل لا حكرًا على النساء فحسب بل على عاملات المنازل، حتى النساء العاملات، صرن يتعرفن إلى مطبخهن وإلى عادات صغارهن أيضًا. لكن مفهوم العزلة في حد ذاته ليس سواء بين الرجال والنساء في مجتمعاتنا العربية، فالمرأة تظل تحت ضغوط اجتماعية في مجتمع هو ذكوري حتى النخاع، بينما الرجل يملك مساحة عزلته ويتحكم فيها على النحو الذي يريده.

وقد عرضت الناقدة الكندية نانسي هيوستن في كتابها «أساتذة اليأس» هذه المسألة؛ إذ أعلنت قائلة:«لا وجود لمُعادِل نِسوي للكاتب هنري دافيد ثورو، الذي عاش لسنوات في عزلة فردية مكتفيًا بذاته. ولا وجود «لروبينسونات كروزو» في جزيرة مقفرة. فاستيهام العزلة التامة نادرًا ما يكون استيهامًا نسائيًّا».

كاتبة عمانية

المجتمع المسرحي الحقيقي.. عندما يحاول جعل الحياة ممكنة

المجتمع المسرحي الحقيقي.. عندما يحاول جعل الحياة ممكنة

كان المسرح العربي واحدًا من أهم الركائز التي قامت عليها النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فظهرت من خلاله عشرات الفرق ومئات الكُتَّاب والممثلين والمخرجين وخشبات العرض، وانتقل من العواصم إلى المدن الصغيرة وما شابهها، وعبَّر عن شراسة الجماهير في نضالها ضد المستعمر وأحلامها في الوصول إلى غد أفضل، وكان سفيرًا بين مختلف البلدان العربية وجسرًا للتبادل الثقافي بين العرب والغرب… كان ذلك قبل أن تظهر السينما بسحرها وبريقها اللامع، فجذبت صناع المسرح إليها، مثلما جذبت الممولين والفنيين والجماهير نفسها، ليدخل المسرح في نفق مظلم طويل، إلا أنه لم يمت، ولم يستطع أي من نقاد الفن القول بذلك، فما الذي حدث له، وكيف تمكن من الاستمرار في ظل المنافسة الشرسة له من السينما والتليفزيون واليوتيوب ووسائل التوصل الاجتماعي، وكيف عبر عن الأحداث الساخنة الجارية في العالم العربي.

زهراء المنصور: رهان على استمرارية «أبو الفنون»

إن الرهان على استمرارية وجود المسرح كفاعل حقيقي في المجتمع هو التحدي الأكبر الذي يواجه المسرحيين في الوطن؛ ذلك أن الآلية التي يشتغل بها أبو الفنون قائمة على وجود أهداف آنية معنية بتقديم الدعم للدخول في مسابقات المهرجانات والحصول على جوائز تليق بالمنجز، وهذا طموح لا يعيب أي مسرحي إلا إذا كانت أهدافه هذه هي الوحيدة!

وفاعلية المسرح قد تأتي من كونه أصبح في مربع التهميش للأنماط الثقافة المجتمعية المعتادة؛ ذلك أن سرعة نقل البيانات والقدرة على الإبهار والتسلية وبث الرسائل المرادة قد يتجلى في عمل آخر ينتقل بسهولة وفي «برودكاست» يصل للمتلقي أينما كان، بينما ما زال على محبي المسرح أن يتجهوا إليه عنوة، ولعل ما سيروه لن يكون جاذبًا كما الأنماط الأخرى، وهو ما يعني أن المسرح قد يخسر فردًا آخر من جمهوره في العرض القادم، وبخاصة في الأعمال التي لا تواكب الهم الإنساني وتسايره
أو تعبر عنه.

ونعود لنتساءل بـ«سيزيفية»: لم لا يقبل الجمهور على المسرح والفعاليات الثقافية عمومًا؟ التجديد الجاذب مطلوب جدًّا حتى في أكثر الأعمال مأساة -حتى لا يفهم الأمر أن الكوميديا أو البهرجة هي التي تستقطب الجمهور- تعميق الأفكار والوعي بأن المسرح يقدم لكل المستويات الثقافية حتى لا يكون حكرًا على فئة تنسب نفسها للنخبوية بناء على تحمل مشاهدة عرض سيئ.

لا يختلف الأمر كثيرًا في المسرح البحريني عن خريطة توجه المسارح في الوطن العربي؛ لأن المسرح عبارة عن عروض متفرقة ذات في ليلة واحدة أو ضمن مناسبة ما تكون لليلة واحدة أيضًا في الغالب، فتفقد بذلك مفهوم التراكم الذي يخلف العروض النوعية المطلوبة للقول بأن لدينا مسرحًا متينًا يمكننا الحديث عنه بتفرُّد، ولذلك تحدِّي الاستمرارية في رأيي والقدرة على تقديم فن هادف وجيد في ظل معوقات كثيرة هو أكبر ما يواجه المسرح والمسرحيين في الوطن العربي.

كاتبة وناقدة بحرينية.

بشير المناعي: مسرح للجمهور أم جمهور للمسرح

إذا سلمنا بأن المسرح مسارح والجمهور جماهير، فلا يمكن أن نتحدث عن تحديات يواجهها المسرحيين العرب أو إعادة الجمهور للمسرح، فلكل مدرسة أو شكل مسرحي جمهوره، وما نعتقد أنه غياب للمتفرجين هو في الحقيقة تفرق الجماهير إلى مجموعات أو نخب يهتم كل جزء منها بنمط مسرحي معين، فالمسرح الشمولي لكلمة مسرح قد ولى وتجاوزته الجماهير المثقفة والواعية والمؤمنة بالفعل المسرحي كحقل للبحث والتجديد في الكلمة والحركة والأداء والإخراج والإضاءة والموسيقا والملابس.

أما المسرح الشعبي الجماهيري في أشكاله الكلاسيكية الموجه إلى عامة الناس فقدْ فَقَدَ بريقه، ويمكن للمتفرج العادي متابعته عبر شاشات التليفزيون، وما تبثه مختلف القنوات من خلال مسرح تجاري يعتمد الإضحاك شكلًا ومضمونًا، أما النخبة المثقفة فما زالت ترتاد المسارح، بحثًا عن غذاء ثقافي، تجده عند مختلف الفرق والمجموعات التي تعتمد البحث والتجديد كمنهاج في إعداد أعمالها المسرحية، حتى إن تناولت نصًّا عالميًّا كلاسيكيًّا لمعرفتهم بالمتطلبات الفنية لجماهير اليوم… ففي تونس هناك سؤال مفصلي نتداوله ما بين المسرحيين، وهو «مسرح للجمهور أم جمهور للمسرح؟» بمعني هل المطلوب من الفنان المسرحي أن يجاري طلبات الجمهور ويعدّ له أعمالًا ينزل بها إلى ذوق الجماهير العريضة أم أنه مطالب بأعمال مسرحية ترتقي بالذائقة الفنية للمتفرج؟

ويبدو أننا اخترنا الإجابة عن النصف الثاني من السؤال ولأكثر من خمسة عقود من الزمن، فعملنا على التكوين الفني الإكاديمي للمبدع المسرحي، وتعريفه بمختلف الأشكال والأنماط المسرحية، حتى يتخصص في إحداها ويتعمق فيها ويبدع، ومن جهة أخرى يعمل الأساتذة، المتخرجون من المعاهد العليا للفنون المسرحية من خلال تدريسهم لمادة الفنون المسرحية بالمدارس والمعاهد، على إعداد متفرج واعٍ بالفرجة المسرحية، متمكن من أدوات الفرجة والتحليل والنقد المسرحي، وبهذه الطريقة تجاوزنا مسألة عزوف الجماهير.

واخيرًا عُمِّمَتْ مراكز الفنون الدرامية على كل ولايات الجمهورية، يتكفل بالتكوين على المستويات كافة فنانون مبدعون وجماهير عريضة من خلال تربصات وورشات في مختلف الاختصاصات المسرحية، وندوات فكرية مختصة تجيب عن مختلف الإشكاليات الفنية، وتنظيم مهرجانات مختصة في مختلف الأنماط المسرحية، بعيدًا من الأشكال التجارية التي لها سوقها الموازية للحركة المسرحية، وتتفاعل مع جماهيرها وتتفاعل معها الجماهير الراغبة فيها… ولكل درجته ومكانته في الساحة الفنية.

مؤلف وناقد مسرحي تونسي.

سامية حبيب: التراث والمسرح

ما زال معين التراث الإنساني كبيرًا ومتسعًا للكثير من القصص والمواقف والشخصيات التي يمكن للمسرح أن يستفيد منها ويقدمها للجمهور، فن المسرح هو الفن الحي الذي يحدث في وقت مشاهدته نفسه والمكان نفسه؛ لذا يعرف بأنه الفن الحي والحقيقي. في حين أن التراث هو فن ثابت قائم عبر رحلة البشرية تتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيل، فهو أحد أركان الثقافة الراسخة التي تتفاعل بالتراكم عبر الزمان، وربما يضاف أو ينقص منها بفعل الزمن.

إذن العلاقة بين المتحرك أي فن المسرح والساكن أي التراث ضرورية ومتصلة، ولا يألو المسرحيون في كل الثقافات جهدًا في تناول التراث بكل صوره كمادة درامية. ولدينا في التراث ما يشمل التاريخ والسِّيَر الشخصية والسير الشعبية والشعر صاحب المخزون العظيم في لغتنا والحكايات والنوادر والأغاني وغيرها الكثير الذي يصلح للمسرح. والحقيقة أن كُتَّاب الدراما بكل صورها يستمدون الكثير منه، والكاتب صاحب الرؤية والفكر يخرج لنا دُرَرًا تظل وتبقى. وأول نموذج للاستفادة من التراث كان رائدنا توفيق الحكيم حين كتب مسرحية «أهل الكهف»، وأحدث نموذج لهذه العلاقة هو ما تستعد قنوات التليفزيون لعرضه قريبًا، وهو مسلسل عن سيرة القائد المملوكي طومان باي ومقاومة شعب مصر الغزو العثماني لمصر. وما زال هناك أفق كبير للعلاقة بين التراث والمسرح في ثقافتنا.

ناقدة وأكاديمية مصرية بأكاديمية الفنون.

راشد مصطفى بخيت: سؤال الرؤية

التراث مَعِين لا ينضب للقصص والحكايات، السؤال الأهم هو الرؤية الجديدة لمعالجة التراث. إلى أي مدى استطاعت التجربة المسرحية العربية في مشرقها ومغربها الاستفادة من طاقة التراث التحررية وأسئلته المرتبطة بواقع اليوم؟

وهنا يجب أن نتذكر أن أول عمل مسرحي قدَّمه الرائد مارون النقاش في عام ١٨٤٩م هو حكاية «أبو الحسن المغفل» المستوحاة من الحكاية التراثية العظيمة ألف ليلة وليلة. وبين ذاك التاريخ ومرورًا بتجارب توفيق الحكيم وعزيز أباظة وعلي باكثير، إلى سعد الله ونوس ورياض عصمت ومحفوظ عبدالرحمن؛ تختلف الرؤى اختلافًا جذريًّا في بعض الأحيان، لكن تظل كل هذه التجارب مستفيدة مما نطلق عليه حقل التراث. هنالك تجارب إخراجية أيضًا تميزها إضافات واستفادة من هذا الحقل بطرق مختلفة؛ لذا نستعيد سؤال الرؤية مرة أخرى ضمن هذه التجارب التي يمكن أن نذكر منها تجارب صلاح القصب، والفاضل الجعايبي، وعوني كرومي، وجواد الأسدي، وتوفيق الجبالي، وروجيه عساف وغيرهم.

المسرح السوداني أمامه الكثير ليبدأ استعادة عافيته واستعادة علاقته بالجمهور المتنوع والمختلف. هنالك مشكلات كبيرة في البنية التحتية التي لا يمكن مقارنتها بأية بنية تحتية في السياق العربي، فليس هناك في السودان الآن مسرح تنطبق عليه شروط ومواصفات المعمار المسرحي بأشكاله المختلفة. وعلى الصعيد الإنتاجي المسرح السوداني كثيف الإنتاج لكنه غير مهتم بالمحتوى الفني كثيرًا؛ لرداءة ظروف الإنتاج، وتقاصر طموح المشتغلين به.

لكن مع ذلك يمكنك أن تجد سنويًّا أكثر من مهرجان، وأكثر من إنتاج خاص تعوقهما الكثير من الإجراءات التنفيذية؛ لذا فالمنتوج ضعيف في محصلة الأمر، سواء من الناحية الإخراجية أو الفكرية. لكن هنالك تجارب جديدة لافتة وقد اجتازت سؤال الجمهور، ومع ذلك تعوقها مشكلات أخرى. خلال العشرين سنة الأخيرة هناك أعمال كثيرة متميزة يجب التفكير في إعادة إنتاجها بشروط أفضل، والاهتمام بتوثيقها بالشكل الفني اللائق. كما يجب تكثيف حضور المسرح السوداني في السياقين العربي والإفريقي، والاستفادة من وجود عدد كبير من المهرجانات الدورية الراتبة التي يمكن أن تساعد في عمليات التدريب.

كاتب وناقد مسرحي سوداني.

هارون الكيلاني: مسرح عربي منفلت

أجل هناك مسرح عربي، لكنه منفلت ولا يكاد يرى النور حتى يغطس في العتمة مرة أخرى، مسرحنا كاليتيم في يَمٍّ كبير لا زوارق للنقاد الحقيقيين، ولا بواخر تحمل الظروف المواتية لقطعة عربية متذبذبة جدًّا لا تستقر لجيل كي يرسم جميع ملامح لوحته، أو على الأقل ليضفي جمالية على ما ورثه من الجيل السابق. تركنا ولد عبدالرحمن كاكي وغادر، وأيضًا علولة مرغمًا برصاصة غدر استقرت في رأسه المفكرة، والطيب الصديقي يحارب بمجد ويموت، ويأخذ السرطان الرفيق سعد الله ونوس، وبقي قاسم محمد يصدح حتى آخر الرمق، وعز الدين المداني وعبدالكريم برشيد يشهدان هيكل الأمة المرتبك، ويحاول المجتمع المسرحي الحقيقي جعل الحياة ممكنة.

من المحيط إلى الخليج ألوان وتوابل وأرواح وسحر وشدو ونبض وإيقاع ورقص وبخور وإعراج وتطهير وسفر إلى المنتهى.. إنها الفرجة التي هي مسرحنا الحقيقي والمتنوع ونحن لا نستشعر ذلك ونذوب في مثلث برمودا الأرسطي. نحن الشرق والرمل والنخل والمدى والبحر والريف وزرابي مبثوثة للاحتفالية والحكايا والظل وللشعر الراقص والرقص المؤدى والشاعري. المسرحيون الحقيقيون يناضلون للتجديد والتجدد ويحمون عبق التاريخ الجامع. وقد عرفت الجزائر ربيعها في تواريخ سابقة أهمها في أكتوبر 88 بعده انزلقت الجزائر في نفق أسود ضيع آلاف الأرواح. تجند المسرحيون الجزائريون لمواجهة الفناء خاصة من الهواة الذين ظلوا في النضال الداخلي على غرار من واصلوا نضالهم من الخارج ضد العتمة، وأكيد الوضع الذي شكله الربيع العربي أيضًا قد وضع الكثير من الفنانين على المحك بين نسخ الواقع أو محاربته، وبشكل أو بآخر تحرك عصب المسرح العربي للحديث عن هموم أهله وقضاياهم حفاظًا على مستقبل أبناء الأمة.

مخرج مسرحي جزائري.

عبدالرازق الربيعي: لا خوف على المسرح

لا خوف من هيمنة السينما والسوشيال ميديا على المسرح، فالخطاب المسرحي يتوجه للنخب، ويظل يمارس شغبه الجمالي، واستفزازاته الفكرية، لجمهوره الذي لم ينقطع عنه، مثلما لم ينقطع جمهور العروض الموسيقية عن التردد على قاعات العرض الموسيقي، ودور الأوبرا، والمسارح الكبرى، رغم توافر المعزوفات مطبوعة في أقراص مدمجة، بأسعار بسيطة، وكذلك توافر لهذا الجمهور عناء الذهاب إلى تلك القاعات، والحجز المسبق، ودفع تذاكر باهظة الثمن أحيانًا!! لكن هناك تحديات أخرى يواجهها المشتغلون في المسرح العربي؛ أبرزها رفع الحكومات العربية، باستثناء قلة على رأسها الشارقة، يدها عن دعم المسرح، والمسرحيين، وهذا سبَّبَ مشكلة كبيرة للمشتغلين بهذا الحقل الحيوي، التثقيفي، وتوقفت مهرجانات عدة، حتى العروض التي تقدم على خشبة المسرح صارت متقشفة، وانصرف الكثير من العاملين بالمسرح إلى أعمال أخرى بعد أن أدركتهم «حرفة المسرح» فتعرضوا للعوز والفاقة؛ لذا ينبغي لوزارات الثقافة العربية الالتفات للمسرح نظرًا لأهميته القصوى كواجهة حضارية وأداة تثقيف جماهيرية فاعلة، قبل أن يكتسح ثقافتنا العربية طوفان الجهل والتسطيح.

لم يقف المسرح العماني بعيدًا من المتغيرات التي تطرأ على الواقع العربي، فقد تفاعل معها بروح إيجابية، ومع اندلاع الثورات العربية كان حاضرًا، وأذكر أن المخرج د. مرشد راقي كان قد تلقى دعوة لمهرجان المسرح الأردني عام ٢٠١١م، فشارك بمسرحيتي «ذات صباح معتم» وهو عرض سبق تقديمه في مهرجان المسرح العماني الثالث عام ٢٠٠٨م، لكنه حاول لَيَّ عُنقِ النص؛ ليستوعب قراءة الواقع العربي بعد اندلاع تلك الثورات، فقدَّم تفسيرًا، لم يكن موجودًا في النص ساعة كتابته، فالمسرح لا يمكن أن ينفصل عن حركة التاريخ؛ لأنه في حالة صيرورة دائمة، ولهذا بقي حيًّا رغم المتغيرات التي تعصف بالعالم اليوم.

كاتب مسرحي عراقي.