أثر المنهج الفيلولوجي الأوربي في النشر التراثي العربي

أثر المنهج الفيلولوجي الأوربي في النشر التراثي العربي

هذه مسألة كثيرًا ما أثيرت في المنتديات والمنابر الثقافية المتنوعة، ولا أظن أن الحديث عنها وفيها سينقطع، لما تمثّله من استحضار لعلاقة الذات بالآخر، ومحاولة تأريخ بداية تحقيق المخطوطات عند العرب. وستسعى السطور الآتية إلى محاولة النبش من جديد في المسألة بغية الوصول إلى عناصر لذلك التلاقي بين الشرق والغرب عبر أعلام التحقيق في القرنين التاسع عشر والعشرين.

في القرن التاسع عشر: انقسم الباحثون العرب إزاء هذه المسألة إلى قسمين:

– فمن قائل بوجود الأثر الفيلولوجي الأوربي في النشرات العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين نتيجة أخذ بعض العرب عن مستشرقين منهم دو ساسي [1838م] تتمثل في تتلمذِ عرب ومسلمين عليه من المصريين واللبنانيين والتونسيين، وأشهرهم كما هو معروف رفاعة رافع الطهطاوي»(١). فضلًا عن احتكاكهم بالثقافة الأوربية في موطنها. يضاف إلى الطهطاوي (1873م)، أحمد زكي باشا الذي شارك في مؤتمرات الاستشراق وزار أغلب أقطار أوربا.

– وقائل بانعدام ذلك الأثر في القرن 14هـ/ 19م، حيث يستدل المنجّد في دراسة(٢) له على خفوت هذا الأثر، من خلال استقراء نشرات بولاق وتتبع منهج مصححيها ورؤاهم في التصحيح والنشر.

يصعب الحسم في مسألة الأثر هل كان أو لا؟ وما طبيعته ومداه؟ وإن كان الراجح عندي ظهور ذلك الأثر بعد جيل مصحّحي مطبعة بولاق، أي ابتداء من جيل أحمد زكي باشا، ولي وقفة قريبة مع مسألة تأثره تلك.

أحمد زكي باشا

مهما يكن، فقد توسع اهتمام المستشرقين في نشر التراث العربي في القرن التاسع عشر، وكثرت نشرات النصوص التراثية العربية في مطابع أوربا، وفي القرن ذاته ظهرت نشرات العرب بفضل مطابع مثل مطبعة بولاق بالقاهرة ومطبعة الجوائب في إستانبول.. فنُشرت كتب عدة في بولاق مثل: ألف ليلة وليلة (1848م)، وكليلة ودمنة (1836م)، وصبح الأعشى (1905م)، ولسان العرب (1883م) والأغاني، ومقامات الحريري (1852م) وحواشي السيد على المطول (1826م).

وقد اعتنى بنشر هذه الكتب علماء مصححون أمثال: عبدالرحمن الصفتي الشرقاوي (1848م)، ومحمد قِطّة العدوي (1864م)، ونصر الهوريني (1874م)، وإبراهيم بن عبدالغفار الدسوقي (1883م)، ومحمد بن محمد البلبيسي. لكن نشراتهم التراثية على الرغم من الجهد الكبير المبذول في إخراجها، فإنها تفتقر إلى سمات التحقيق العلمي ومكملاته، مثل ذكر النسخ ووصفها، والمقابلة بينها، وإثبات الفروق، وتقديم الكتاب أو دراسته، وصنع الفهارس.

وفي مرحلة لاحقة ظهرت هيئات ومؤسسات في العالم العربي مثل: جمعية المعارف وشركة طبع الكتب العربية، ولجنة نشر المخصص، ولجنة إحياء الآداب العربية… و«كان التحقيق في هذه الآونة يدور حول مقابلة النسخ المتعددة للمخطوطة الواحدة، وتصحيح النص على هذا الأساس. وقد يشير المصحح في بعض الأحيان إلى اختلاف النسخ، دون أن يذكر لنا ما هي هذه النسخة، ولا من أين هي؟ ولا يعطي لنا مقدمة دارسة للكتاب ومخطوطاته وتوصيفه»(٣). نذكر من رجالات هذه المرحلة كلًّا من محمد محمود ابن التلاميد الشنقيطي (1904م)، ومحمد عبده (1905م)، وأحمد تيمور (1930م)، وأحمد زكي باشا (1934م)، ومحمد كرد علي (1953م)، ومحب الدين الخطيب (1969م)، ومحمد محيي الدين عبدالحميد (1972م).

وفي النصف الأول من القرن العشرين نشطت حركة التحقيق «على يد علماء مبرّزين من أمثال: أحمد محمد شاكر، وأخيه محمود، وعبدالسلام هارون، والسيد أحمد صقر، ومصطفى السقا، ومحمد أبو الفضل إبراهيم…»(٤)، وإبراهيم الأبياري، وعلي البجاوي، وأمين الخولي، وعائشة عبدالرحمن، ومحمد بن تاويت الطنجي.

ثم اطّردت حركة التحقيق والنشر، وانخرطت الجامعات والمؤسسات العلمية في ذلك، فأنشئت برامج جامعية في التحقيق ونوقشت البحوث ونِيلَت الشهادات والجوائز عن نصوص محققة، ولا بد من هذه الهرولة نحو تحقيق النصوص التراثية من مثالب ونقائص؛ أهمها استشراء النشر التجاري بفعل التطور المعلوماتي، ومسارعة طلبة الماجستير والدكتواره إلى التحقيق من دون دربة وخبرة، فضلًا عن ندرة المعاهد والمؤسسات المتخصصة في تخريج محققين مؤهلين.

أ) في القرن العشرين: لا بد من الوقوف هنا عند أحمد زكي باشا (1867-1934م) وصلته بأوربا ومناهج رجالاتها في تحقيق النص التراثي، هذا ينبئ بتحقق المثاقفة في حالة الرجل، وهو ما يجعل الباحث يقول بتأثره البادي بالمنهج الفيلولوجي أو منهج التحقيق العلمي كما عرفه المستشرقون عبر المعطيات الآتية:

– مُعطى حضاري: حيث زار أوربا وتجول فيها مدة ستة أشهر، واطلع على حضارتها وكتب عنها وبخاصة فرنسا مثل: الطهطاوي ومحمد عبده وعبدالله فكري. قال عنه أحد الباحثين: «فقد توالت رِحْلاته لأوربا، وتوالت مقابلاته للمستشرقين… وتوالى بحثه عن المخطوطات العربية في مكتبات الشرق والغرب»(٥).

مُعطى علمي: حيث شارك في مؤتمرات المستشرقين، واحتك بهم مِن كَثَبٍ «وتحدّث معهم، واستمع إليهم، وزار مكتبات أوربا بحثًا عن التراث العربي»(٦). ويثوي خلف ذلك إتقانه لغات كالفرنسية.

– مُعطى ذاتي: حيث يصرح بذلك في قوله: «على أننا، بحمد الله، قد بدأنا نأخذ عنهم، ثم أنشانا ننسج على منوالهم، فدخلنا طور التجربة وسيتبعه دور الانتقال، فنكون جديرين بالأجداد»(٧). ويقول في موضع آخر: «وأختم خطبتي بأن أتمنى للمستشرقين الفوز بالنجاح في جميع الأعمال، وإني قد أخذت على نفسي بأن أكون في بلادي من أول العاملين على تبيان حسناتهم، وإظهار فضائلهم وكمالاتهم»(٨).

مُعطى موضوعي: يكاد يجمع الباحثون على ذاك التأثر أمثال عبدالسلام هارون في قوله: «العلامة أحمد زكي باشا (1867- 1934م) الذي قدم لنا باكورة المنهج الحديث في تحقيق النصوص، كما كان أول نافخ في بوق إحياء التراث على النهج الحديث»(٩)، ورمضان عبدالتواب في قوله: «وقد تأثر بهؤلاء المستشرقين بعض رجال الرعيل الأول من المحققين العرب المحدثين، من أمثال العلامة المرحوم أحمد زكي باشا»(١٠)، والصادق الغرياني في قوله: «ويعد أحمد زكي رائد فن التحقيق الحديث، حيث بدأ التحقيق معه في المشرق يأخذ نهجًا جديدًا، على النمط الذي عرفه به المتقنون من المستشرقين»(١١)، وعبدالمجيد دياب في قوله: «وكان صاحب الفضل في مد الجسور بين محققي القسم الأدبي –فيما يتصل بنشر التراث- أحمد زكي باشا الذي اتصل بعلماء الاستشراق»(١٣).

– مُعطى منهجي: يتجلى في ترسُّمه منهج المستشرقين في التفتيش عن المخطوطات وجمعها، وتحقيقها، وفهرستها، فضلًا عن نشره الوعي التراثي بين تلامذته ومعاصريه من الباحثين والمكتبيين، ويقول: «إن المستشرقين لا يألون جهدًا في العمل على نشر الكتب التي صنفها جهابذة العرب، وبحثوا فيها عن شتى الموضوعات، وتنشر لهم طائفة كبيرة من أمهات الكتب العربية النفيسة، وقد يترجمونها إلى لغاتهم»(١٣). ولعل تشوّفه وحماسته إلى تحقيق النص التراثي برز قبل مشاركته في مؤتمر لندن من 5 إلى 12 سبتمبر 1892م، حين «رأى أن بعض هذه المخطوطات قد طبعت بمعرفة المستشرقين، فتطلع إلى أن يقوم بمثل هذا العمل في التحقيق والفهرسة… واستهل جهده حين قدم لمؤتمر المستشرقين في لندن سنة 1892م عشرة كتب قديمة نقحها وصححها»(١٤).

ظهرت فكرة الاشتغال بالتراث أو التحقيق عند الرجل قبل سفره إلى مؤتمر لندن، بدليل ما عرضه من أعماله فيه على شكل تآليف صغيرة ومعاجم ومقالات وشبه تحقيقات لنصوص تراثية مثل: «القصيدة الفارقة بين الضاد والظاء» لناظمها الشيخ الإمام علي بن عبدالله المرزوي التي قال عنها: «وقد كانت النسخة التي عثرت عليها سقيمة للغاية محرفة مشوهة، فاجتهدت في إصلاحها وتهذيبها، حتى أصبحت واضحة ظاهرة المزايا، ويمكن الانتفاع بمراجعتها. وسأضيف إليها جدولًا هجائيًّا عند طبعها لتتميم نفعها، وتسهيل البحث فيها»(١٥).

لكن اشتغاله بالتراث -حسبما ذكر عن اعتنائه بالقصيدة الفارقة– ما زال بعيدًا من المنهج الفيلولوجي المعروف، حيث اشتغل بنسخة واحدة سقيمة بالإصلاح والتهذيب كما ذكر، مع تذييلها بجدول هجائي (لعله يقصد الفهرس)، ولا يبعد تأثره هنا بأسلافه من مصححي مطبعة بولاق، ورواد الحركات الإصلاحية أمثال محمد عبده. كما لا يبعد اطلاعه على بعض نشرات المستشرقين في الإرسالية الفرنسية في القاهرة، يقول: «وإني أعترف لكم بأني لم أقف تمام الوقوف على أهمية جمعيتكم الزاهرة، إلا بعد أن ارتبطتُ بالإرسالية العلمية الفرنساوية بمصر القاهرة، فإنها فتحت أمامي الطريق، وكانت فيها مكاشفتي بهذه المزايا المفيدة العديدة»(١٦).

ومع ذلك، فهو يقر بمحدودية صيت الاستشراق في مصر بين مثقفيها وعلمائها في عصره في قوله: «نحن أبناء مصر قد عرفنا جمعية المستشرقين من عهد غير بعيد، وما زلنا إلى الآن غير واقفين على أحوالها كما ينبغي؛ وذلك لأن المؤلفات الخاصة بها، والكتب التي تطبعها بالألسنة المشرقية لم تنل في بلاد المشرق خطوة الاشتهار»(١٧).

ولا جرم أن رؤيته اتسعت، وتوطدت صلته بالتراث في مؤتمر لندن وبُعَيده، إذ مشاهداته ولقاءاته ونقاشاته –وهو ما زال طري العود- في مؤتمر علمي، شحذت همته للعمل على بعث التراث واقتباس منهج جديد في التعامل مع نصوصه، عبر البحث عنه ونقله من حال المخطوط إلى حال المطبوع بقواعد علمية ومنهجية معاصرة، «فقد عمقت هذه الرحلة جوانب شخصيته الفكرية، وأعطتها دوافع الانطلاق»(١٨). ولم يكن الرجل متأثرًا بالآخر بل مؤثرًا فيه أيضًا، حيث قدم خدمات علمية للمستشرقين أنفسهم إلى جوار أحمد تيمور باشا وابن التلاميد وابن أبي شنب(١٩) وغيرهم كثير.

حقق زكي باشا ونشر نصوصًا تراثية منها: «كتاب الأصنام» (1914م)، وكتاب «نسب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها» لابن الكلبي، وكتاب التاج في أخلاق الملوك (1914م) المنسوب إلى الجاحظ، والأدب الصغير (1911م) لابن المقفع، و«نَكْت الهِميان في نُكَت العُميان» (1911م) لخليل بن أيبك الصفدي، و«مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العمري. ويلمس الباحث في تحقيقاته نفَسًا مختلفًا عمّا ذكره في بداياته، ويعد أول من وضع كلمة «تحقيق»(٢٠) على غلاف كتبه بدلًا من كلمة «تصحيح»، ابتداءً من سنة 1911م، ولم يكن اللفظ معروفًا في لسان العرب بدلالاته التي تفيد النشر النقدي.

على الرغم من جهود زكي باشا في نشر التراث العربي، فإن أحمد شوقي بنبين يرى أن التأثر بالفيلولوجيا الأوربية لدى جيله بقي في نطاق التحقيق التقليدي ولم يتوسلوا بآليات جديدة مثل تاريخ النص، ويرى أنهم «لم يهتدوا إلى عملية تاريخ النص التي ابتدأت مع مدرسة لخمان والتي طورت عملية إخراج النصوص القديمة والتي أطلقوا عليها اسم نقد النص»(٢١)، ولعل السبب في ذلك، عدم اطلاع زكي باشا على أعمال الفيلولوجيين الألمان إلا بوساطة، واطلاعه المباشر على أعمال الفرنسيين خاصة، يقول: «نصحت إخواني وأولادي وأحبائي والمريدين بأن يقبلوا على تعلم هذه اللغة [الألمانية]، حتى يقفوا على ما حققه الألمان من علوم العرب وحضارة الإسلام»(٢٢).

استثمار المنهج الفيلولوجي

واستمر التأثير الأوربي في الجيل اللاحق من المحققين العرب، حيث تأثروا بقواعد التحقيق لدى جمعية المستشرقين الألمان في نشرياتها الإسلامية، وجمعية غيوم بوده في فرنسا، وقواعد مستشرقين آخرين أمثال: برغشتراسر في محاضراته التي ألقاها في جامعة القاهرة (1931- 1932م)، وبلاشير وسوفاجي في كتابهما «قواعد تحقيق المخطوطات العربية وترجمتها» الصادر بالفرنسية سنة 1945م.

من هؤلاء نذكر ثلاثة للتمثيل فقط وهم:

عزيز سوريـال عطية (1988م) (مصري): حقق كتاب «قوانين الدواوين» لابن مماتي، محاولًا حذو المنهج الفيلولوجي بحذافيره كما ورد عند الألمان، كما وصفه محمد مندور «بأنه سينشر كتابًا عربيًّا يأخذ فيه بأصول النشر العلمية –كما وضعها الألمان أنفسهم- أخذًا دقيقًا يجب أن يحتذى»(٢٣). ويقول هو نفسه: «فإن رائدنا الأول حاول إظهار هذا الكتاب كما دونه مؤلفه. فاحتفظنا بكل ما فيه من ألفاظ واصطلاحات وعبارات قد تبدو غريبة، وتركنا أخطاءه اللغوية والنحوية والإملائية –عدا ما لا يمكن التهاون فيه- وأسلوبه الأثري دون تغيير، وهذا ما قد يعده البعض تقصيرًا من الناشر، إلا أننا رأينا العمل على تلك القاعدة واجبًا لا مفر منه تقضي به الأمانة الأدبية»(٢٤). سعى المحقق إلى تبني ذلك المنهج في كتابه كما طبقه الفيلولوجيون الألمان حيث يحافظون على المتن كما هو بأخطائه وهناته.

صلاح الدين المنجّد (2010م) (سوري): استقى قواعده من تعاليم الجمعيتين المذكورتين مازجًا إياها باجتهادات السلف كما يقول: «إن هذه القواعد التي نقدمها غايتها توحيد طرق النشر والتعريف به. وقد استقيناها من نهج المستشرقين الألمان، ومن خطة غيوم بوده، ومن قواعد المحدثين القدامى في ضبط الروايات»(٢٥). وظهرت تلك الآثار في تحقيقاته الكثيرة.

محسن مهدي (2007م) (عراقي): حقق كتاب «ألف ليلة وليلة» باتباع قواعد المنهج الفيلولوجي، حيث يرى أن «متن الكتاب لم يضبط، وأن أصوله لم تحقق بما يرضي الباحث الخبير، ويشفي الناقد البصير! عاث النساخ في كل ما ينظرون فيه من النسخ المطبوعة وأخرجوها من أصول غير معروفة وأخرى ملفقة أو موضوعة»(٢٦)، واستمر في عمله عقدين، فبحث عن النسخ الكثيرة للنص ما بين مخطوطة ومطبوعة، فجمعها وصنفها باعتماد «تاريخ النص» حسب قدمها ونسبها، يقول: «ولكن فائدة هذه الأصول في تحقيق الكتاب تربو على هذا. وذلك لأنها تمكننا من التعرف إلى بعض ما ورد في النسخة الأم، وتعيننا في التعرف إلى بعض خصائصها، ثم إلى بعض خصائص النسخة الدستور وما كان فيها من لبس أو تشويش. وأيضًا فإنها تعيننا في معرفة سلسلة نسب نسخ الكتاب وتفرعها وسلسلة نسب نسخ كل فرع منها معرفة أدق وأثبت»(٢٧)، وتوصل في الأخير إلى نص يضم 282 ليلة فقط، ويقل بالطبع عن النص المعروف المتداول، وهو «أنموذج من نص (ألف ليلة وليلة) يختلف كل الاختلاف عن النسخ المخطوطة والمطبوعة»(٢٨).

هكذا نقف على استثمار بيّن للمنهج الفيلولوجي وبخاصة تاريخ النص ونقد النصوص في التحقيق العلمي للنصوص عند العرب، وهو منهج متفاوتة ثمراته حسب استيعاب المحقق لأدواته ورؤيته، واستيعابه أيضًا للتراث العربي بقضاياه وظواهره، وقد نجح كل من محسن مهدي في خدمة النص التراثي العربي، من حيث تاريخ النص بتتبع نسخه ونسبه، ومن حيث نقد النص وإعمال المقابلة وإثبات الفروق، وعدم الالتفات كثيرًا إلى التزيد في الهوامش وملئها بالغث والسمين، فكانت الغاية ضبط النص وإخراجه في صورة أقرب ما تكون إلى الصورة التي تركها عليه مؤلفه.


الهوامش:

(١) النشر التراثي، رضوان السيد، مجلة التسامح، س 7، ع 27، صيف 2009م، ص 380.

(٢) كان المنجد من القائلين بوجود الأثر في كتابه «الاستشراق الألماني»، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1973. قبل أن يتراجع عنه في دراسته «منهج نشر التراث في أوائل القرن الرابع عشر الهجري»، ضمن أعمال مؤتمر «تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر»، ص. 336.

(٣) تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره، عبدالمجيد دياب، ص 87.

(٤) فصول في التراث المخطوط، عصام الشنطي، ص 74.

(٥) تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره: 97.

(٦) تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره: 97.

(٧) من تقديم أحمد زكي باشا لكتاب «الصابئة قديمًا وحديثًا»: 3.

(٨) السفر إلى المؤتمر، أحمد زكي باشا، ص 484.

(٩) قطوف أدبية: 4.

(١٠) مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين، رمضان عبدالتواب، ص 58.

(١١) تحقيق نصوص التراث في القديم والحديث، الصادق عبدالرحمن الغرياني، ص. 62-63.

(١٢) تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره: 97.

(١٣) الأهرام 9 ديسمبر سنة 1910 نقلًا عن تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره: 97.

(١٤) تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره: 98. ذكرها في كتابه السفر إلى المؤتمر: 457.

(١٥) السفر إلى المؤتمر: 472-473.

(١٦) نفسه: 455

(١٧) نفسه: 454-455.

(١٨) أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة، أنور الجندي، ص 15.

(١٩) مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، محمود محمد الطناحي، ص. 223.

(٢٠) في أصول التحقيق العلمي، أحمد شوقي بنبين، ص 23.

(٢١) في أصول التحقيق العلمي: 24.

(٢٢) أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة: 185.

(٢٣) في الميزان الجديد، محمد مندور، ص 234.

(٢٤) قوانين الدواوين لابن مماتي (تقديم المحقق): 8.

(٢٥) قواعد تحقيق المخطوطات: 8.

(٢٦) كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى: 1/13.

(٢٧) نفسه: 2/25.

(٢٨) الكوديكولوجيا عنصرًا أساسًا في عملية التحقيق العلمي، أحمد شوقي بنبين، ضمن أعمال مؤتمر تحقيق المخطوطات الإسلامية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية: 348.

الفيلولوجيا.. من فقه اللغة إلى تحقيق التراث

الفيلولوجيا.. من فقه اللغة إلى تحقيق التراث

حفّت بالنص التراثي مناهج جمّة دارسة ومحلّلة ومؤوّلة النص المطبوع المتداول منه خاصة، فيما ألمّت مناهج أخرى بالنص المخطوط عبر رؤى نظرية وآليات مخبرية من ذلك الفيلولوجيا، والباليوغرافيا (علم الخطوط القديمة)، والكوديكولوجيا (علم المخطوط). وسنقتصر على التعريف بعلم الفيلولوجيا في الغرب نشأةً ومراحلَ وثمرات.

مفهوم الفيلولوجيا

يترجّح اصطلاح الفيلولوجيا في منشئه بين معنيين قديم (دراسة النصوص القديمة) وحديث (علم اللغة)، ويرى صبحي الصالح (فقه اللغة، ص20) أن «اسم فقه اللغة عندهم [أي الغربيين] «philologie» : وهي كلمة مركبة من لفظين إغريقيين أحدهما philos  بمعنى الصديق، والثاني Logos بمعنى الخطبة أو الكلام، فكأن واضع التسمية لاحظ أن فقه اللغة يقوم على حب الكلام، للتعمق في دراسته من حيث قواعده وأصوله وتاريخه. «ولا يختلف هذا التعريف عمّا ذهب إليه تمام حسان القائل: «وبهذا المعنى أصبح لفظ (فيلولوجيا) يعني «دراسة النصوص القديمة» من حيث القاعدة ومعاني المفردات وما يتصل بذلك من شروح ونقد وإشارات تاريخية وجغرافية… إلخ». (الأصول، ص235). بذلك يدل اصطلاح الفيلولوجيا في الغرب قديمًا على الاعتناء بالنصوص القديمة دراسة ونقدًا وتحقيقًا وضبطًا… ابتداءً بالنصوص اليونانية واللاتينية فالشرقية (العبرية والفارسية…) ثم العربية.

يرى صبحي الصالح أن كلا العلمين قريب بعضهما من بعض في قوله: «وربما لا يكون مفهوم علمائنا القدامى لـ «فقه اللغة» شديد الاختلاف عما أصبحنا نسميه: «فقه اللغة الاتباعي» إلّا في مواطن قليلة؛ فسنرى أن كثيرًا من مباحث القوم في اللغة كان يتناول العربية الفصحى؛ من حيث قواعدها، وتاريخ أدبها، ونقد نصوصها، فقابلت الفصحى عندهم الإغريقية واللاتينية عند الفرنجة». (دراسات في فقه اللغة: 20). مضمّن قول. أن الفيلولوجيا في اعتنائها بالتراث اليوناني واللاتيني شبيهة بفقه اللغة في اعتنائها أيضًا بالتراث العربي، لكن ألا يحق القول: لِمَ أدى تطور الفيلولوجيا بمعناها هذا إلى ظهور مناهج التحقيق العلمي أو نقد النصوص في الغرب ولم ينتج فقه اللغة تلك المناهج عند العرب؟ وكانت الإشارة غالبًا إلى علوم الحديث (توثيق الرواية والإسناد، والمعارضة، وطرق تحمّل العلم…) والجَرح والتعديل (الضبط والتدقيق…) والأدب (توثيق نسبة القصائد). ولربما أفضى السؤال السالف إلى سؤال أعقد هو: ما أصل مناهج تحقيق النصوص التراثية اليوم، العرب أم الغرب؟!

ويفصّل تمام حسان في المسألة مقسِّمًا الفيلولوجيا إلى «نوعين من أنواع النشاط أو التحقيق العلمي هما׃

(أ)- فك رموز الكتابات القديمة التي يعثر عليها الباحثون في حقل الآثار مرقومة على الحجارة أو جدران المباني في صورة نصوص بلغات مجهولة أو لغات معلومة ولكن الرموز مجهولة.

(ب)- وأطلق اللفظ كذلك على تحقيق الوثائق والمخطوطات القديمة بغية نشرها والانتفاع بها في النشاط العلمي، وفي الدراسات التاريخية والأثرية.. ومن ذلك أيضًا ما نعرفه في وقتنا الحاضر من تحقيق المخطوطات وطبعها، على نحو ما يقوم به طلاب الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية بالجامعات من نشر التراث برسائلهم العلمية» (الأصول: 236).

يبدو الاصطلاح عند حسّان رديف دراسة الكتابات القديمة من وجه، وتحقيق الوثائق والمخطوطات من وجه ثانٍ. وفي ذلك اهتبال بالتراث القديم ونقله من المخطوط إلى المطبوع. ومفهومه الأول لا يبتعد من نظيره الوارد عند سلفه صبحي الصالح، قبل أن يتطور إلى علم اللغة وعلم اللغة المقارن حسب الأطوار الآتية:

تحليل النصوص والوثائق القديمة

مقارنة الظواهر

وصف الأنظمة في اللغات الحية

هكذا دلّ الاصطلاح على مفهومين في الغرب، لكنه ليس كذلك عند العرب، حيث كان فقه اللغة قديمًا –حسب جبور عبدالنور- قريبًا «إلى نمط من تأليف المعاجم، فيُعنى بالمفردات الدالة على الكليات والأشياء التي تختلف أسماؤها، وأوصافها باختلاف أحوالها، وضروب الألوان والآثار والأطعمة والعلوم والأرض والنبت وسواها من المفردات اللغوية…» (المعجم الأدبي: 194) ولم يستمرّ الاصطلاح في مجال تحقيق النصوص التراثية، بل حلّ محلّه تحقيق النصوص أو النشر النقدي.

هكذا ارتبطت الفيلولوجيا بالنصوص التراثية، فيسّرت انتقالها من المخطوط إلى المطبوع، فضلًا عن اختصاصها فيما بعد بالمجال اللغوي واللغوي المقارَن. والفيلولوجيا بمعنى تحقيق النصوص هو مقصد البحث، وهو ما ذهب إليه أيضًا تمام حسان في قوله: «ومن الشائع على ألسنة المهتمين بالوثائق في العهد الحاضر أن يطلقوا على دراساتهم اسم (فيلولوجيا). وأحمد شوقي بنبين الذي يرى أن «الفيلولوجيا بالمفهوم الألماني هي الدراسة العلمية للنصوص الأدبية، وتُعنى بتوثيق النصوص وتحقيقها ونشرها والتعليق عليها، ولا نعني بها فقه اللغة الذي يدرس اللغة على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية أو النحوية والدلالية والأسلوبية والبلاغية والشعرية». (دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي، ص13).

بناء على ما سلف، يتبين المقصود بأن الاعتناء بالتراث القديم عامة، ودراسة النصوص والوثائق خاصة، وتحقيق النصوص التراثية على الأخص، هو مبتغى الفيلولوجيا في الغرب منذ العصر اليوناني إلى العصر الحديث مع حركة الاستشراق والاستعراب، الغرض منه توفير النصوص التراثية للباحثين والدارسين، عبر تصحيحها وضبطها وتوثيقها ونقدها ونشرها.. وهذا هو مقصد البحث؛ إذ يرى أيمن فؤاد سيد أن «الدراسة الفيلولوجية للمخطوط العربي وهي الدراسة التي تُعنى بنَصِّ الكتاب ومضمونه العلمي الذي كتبه المؤلف بنفسه، والتي اصطلح على تسميتها (تحقيق النصوص)». (الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات: 2/545).

هكذا ظهرت اصطلاحات في الغرب مثل:

Édition critique. Eclectisme. Édition de référence. Stémmatique…

تلتها اصطلاحات أخرى عربية مثل: تحقيق علمي، تحقيق نقدي، نشرة نقدية، تصحيح، ضبط، قراءة، عناية، اعتناء، نشر، إخراج، تخريج…

أصول الفيلولوجيا وامتداداتها: يذهب بعض الباحثين إلى ربط ظهور الفيلولوجيا (تحقيق النصوص) بالتأسيس للنهضة الأوربية رابطين إياها بالنهضة الإنسية، فيما يوغل بها آخرون إلى ما قبل الميلاد، وكانت وظيفتها إحياء النصوص القديمة بمعاودة النظر فيها، وهذه أهم مراحلها في الغرب:

حقبة ما قبل الميلاد: يرجع أحمد شوقي بنبين الفيلولوجيا إلى القرن السادس قبل الميلاد، حين عكف علماء اليونان على تصحيح نصَّيْ ملحمتيِ الإلياذة والأوديسة لهوميروس، وتنقيتهما من الزوائد والتصحيف والتحريف. ثم استمرت الفيلولوجيا في القرن الثاني قبل الميلاد، بعد افتتاح مدرستين مشهورتين هما:

مكتبة الإسكندرية في مصر: اعتنى فيها بقصيدتي هومير ثلاثة قيمين على مكتبة المتحف الإسكندري ما بين سنتي 270 و 150 ق.م، وهم:

زينودوت: الذي «نشر نسخة منقحة لهومر ومعجمًا هومريًّا؛ ويبدو زينودوت – في هذا العصر من فجر العلم الجديد- رجلًا موهوبًا ذا هدف نقدي، ولكنه تعوزه الطريقة النقدية الصالحة» (مصادر الشعر الجاهلي، ناصر الدين الأسد، ص313). أرستوفان: هو تلميذ سلفه زينودوت وقد اعتنى بالملحمتين، و«نشر أيضًا نسخة منقّحة من هومر. وكان يعنى بدلالات النصوص المخطوطة عناية تفوق عناية زينودوت.» أرستارخ: هو تلميذ سلفه أرستوفان، حيث «كان للمصادر المخطوطة قيمة كبيرة عنده حينما صنع نسخته من النص الهومري. وحينما كانت الموازنات والمقابلات تسلمه إلى شك في قراءتين كان يستهدي «باستعمال الشاعر الخاص». فهو يبدو في الغاية من الحذر والحيطة، بعيدًا من التسرع في تخطئة النصوص أو تصويبها. ولو قارناه بزينودوت لوجدناه يتحرج من القراءات التي تعتمد على الحدس والظن».

ما يعني أن الفيلولوجيا بمعناها التحقيقي اعتنت بأقدم النصوص الشعرية اليونانية، محاولة الوصول إلى الأصل كما قاله هوميروس، ويمكن اعتبار مجهودات السكندريين أنماطًا بدائية لما سيعرف فيما بعد بالنشر النقدي في عصر النهضة الأوربية وما تلاها.

مكتبة پرگامون أو پرگاموم، تقع في آسيا الصغرى (تركيا حاليًّا)، فكانت منافسة لمكتبة الإسكندرية. وقد «حاول علماء المدرستين معًا كتابة ملحمتي هوميروس من جديد لتصفيتهما مما شابهما من إضافات ونقص» (أصول التحقيق العلمي: 9) هكذا سعى أمين المكتبة كريتس إلى ذلك مستفيدًا من خبرته المكتبية حيث «جمع فهارس للأعمال النثرية والشعرية.. لكن الدراسات النقدية كانت محور اهتمامه، فقد تخصص في الدراسات حول الشاعر اليوناني الشهير هوميروس…» (مكتبتا الإسكندرية وبرجاموم: ص80).

حقبة ما بعد الميلاد

ابتداءً من القرن الميلادي الثامن شهدت أوربا على عهد شارلمان حركة علمية بارزة فيما عُرف بعصر النهضة في أوربا، تجلت في تشجيع التعليم وتأسيس الجامعات والترجمة من العربية إلى اللاتينية، فظهر في هذه الحقبة منهجان لإحياء التراث هما:

المنهج الوثائقي: ظهر منذ القرن الثالث عشر للميلاد، ويعتمد جمع الوثائق بطريقة عشوائية، واعتنى في البداية بالكتاب المقدس، فجمع العلماء نُسَخَه واعتمدوا نسخة واحدة متوسلين بمعياريِ الذوق وجمال النسخة في غياب معيار علمي. والمنهج العلمي: الذي كان ثمرة تطور الدراسات الفيلولوجية في أوربا الغربية، وتجلى أثره أكثر في العصر الحديث بفعل ظهور حركة الاستشراق خاصة في اهتمامها بالتراث العربي.

الحقبة الحديثة

باطّراد الجهود في دراسة النص التراثي الغربي، شهد القرن التاسع عشر طفرة في الفيلولوجيا، حيث «لم يتأسس لدى الغربيين تفكير نظري ولا منهج علمي لتصحيح الكتب ونشرها إلا في القرن التاسع عشر حين عرفت الفيلولوجيا تطورًا كبيرًا خصوصًا في ألمانيا» من خلال جهود فيلولوجيين منهم: كارل لاخمان. الذي رفد الفيلولوجيا سنة 1851م بمعارف ومناهج ذات بال مثل: علم المخطوط وتاريخ النصوص، «فقد لاحظ هذا العالم ومدرسته أن التراث المخطوط لم يصل إلينا في نسخه الأصلية، بل وصل إلينا عن طريق شواهد ووسائط خضعت لألوان من التحريف والتصحيف.. فأخذ على عاتقه استرجاع لا النسخ الأصلية بل الشواهد التي ضاعت مع الزمن والتي يمكن أن تهديه إلى شكل قريب من النص الأصلي».

هكذا بدأ البحث عن النسخة الأصل لاستهلال التحقيق على نسخ متعددة، ويكاد يتفق الباحثون على إضافات لاخمان في هذا الباب، «فهو الأول الذي حاول أن يعيد بناء النصوص الضائعة، وذلك حسب موهبته الممتازة، ومعارفه الباليوغرافية والنقدية» (مقالات في علم المخطوطات، مصطفى الطوبي، ص21) وصنيعه كان مبتغاه في الأصل خدمة التراث الأوربي اللاتيني واليوناني خاصة، قبل أن يكون مستفادًا للمستشرقين في تعاملهم مع المخطوطات العربية، حيث «ظلت الدراسات الشرقية تجد تبريرها في التطبيق العملي لمذهب التحقيق العلمي النقدي للنصوص القديمة، كما طور في إطار الدراسات الكلاسيكية وكما وضعه بالشكل المثال كارل لاخمان» (الاستشراق ونشر التراث العربي، ستفان ليدر، مجلة التسامح، ع7، 2009م، ص403).

كما نذكر منافسه «هيرمان صوب» الذي له الفضل أيضًا في إنشاء نظرية علم النسب في ميدان المخطوطات، «وهدف هذا العلم هو حصر كل نسخ المخطوط وإرجاعها إلى أصل واحد يمكن اعتماده في عملية نقد النص» (أصول التحقيق العلمي: ص12)

والفيلولوجي الإنجليزي كلارك والفيلولوجي هنري كانتان..

أثمرت جهود لاخمان ومعاصريه استواء منهج التحقيق العلمي ونضجه معتمدًا «الاستخدام النقدي لكل النسخ وذلك بمحاولة جمع أكبر عدد منها والمقابلة فيما بينها في محاولة للوصول إلى نص أقرب ما يكون إلى نص المؤلف. وقد يتم هذا بعد إخضاع هذه النسخ لعملية تاريخ النص الذي يعتبر أساسيًّا في هذه العملية العلمية».

في هذه الحقبة نشطت حركة الاستشراق في المراكز العلمية بأوربا مثل ألمانيا وهولندا وروسيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا.. والتفت الفيلولوجيون إلى المخطوطات الشرقية مثل: السريانية والفارسية والعبرية والعربية في أواسط القرن 19م خاصة، فعكفوا على فهرستها ودراستها وتحقيقها ونشرها بما فيها مخطوطات علوم الدين (تفسير وحديث وفقه وعقيدة…) وعلوم اللغة والأدب (نحو وبلاغة وعروض ومعجم وأدب…) وعلوم التاريخ والجغرافيا والعمران… والعلوم العقلية التجريبية (فلك وطب وحساب وطبيعة…) ومن أهم المستشرقين والمستعربين نذكر: دو ساسي، وفليشر، وبرغشتراسر، وغرونباوم، ونولدكه، وبروكلمان، وجِبْ، وشاخت، وغالان، ومرغليوث، ودوزي، وكراتشكوفسكي.. حيث يرى رضوان السيد أنهم «كانوا جميعًا تقريبًا من الفيلولوجيين المتعمقين بعدة لغات كلاسيكية وسامية إلى جانب العربية.. وقد تلقوا تدريبًا على التعامل مع النصوص العربية من جانب أساتذة التحقيق والنشرات العلمية للنصوص الكلاسيكية…» (النشر التراثي العربي، مجلة التسامح، ع 27، 2009م).

فكانت النتيجة تحقيق ونشر نصوص عربية كثيرة في مختلف الفنون بما فيها نصوص الأدب العربي شعره ونثره.

الحقبة المعاصرة

أي منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، حيث استمرت حركة النشر الفيلولوجي للنصوص العربية من قبل الأوربيين، وإن تراجعت في أواخر القرن العشرين، حيث عكف المحققون العرب على إخراج تراثهم ابتداء من النصف الأول من القرن العشرين، واطردت الجهود العربية بانحسار نظيرتها الأوربية، ورغم ذلك استمرت هذه النشرات في إسبانيا وهولندا في أيامنا هذه (أوائل القرن 21م) بعناية مؤسسات ومراكز وعلمية مثل: المجلس الأعلى للأبحاث العلمية في مدريد، وهيئة المخطوطات الإسلامية في كامبردج، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن، ودار بريل للنشر في لايدن بهولندا.

من ثمرات هذه الحركة العلمية، إنتاج عدد كبير من التحقيقات والنشرات النقدية للتراثين الغربي والعربي خاصة، في علوم الدين والأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك والحساب.