حسن المشاري من رجالات الإصلاح الإداري

حسن المشاري من رجالات الإصلاح الإداري

يوسف بن محمد العتيق

يوسف بن محمد العتيق

درجة الحرارة مرتفعة والطريق خالية من السيارات تمامًا في كل الاتجاهات الأربعة في العاصمة الرياض، ويقف حسن بن مشاري الحسين في المسار الذي تضيء له الإشارة اليدوية الحمراء، فيأذن له رجل المرور بالعبور؛ لأن الطريق خالية من السيارات، ورجل المرور هو سيد المكان! يرفض حسن بن مشاري إذْن رجل المرور، ويقول: لا بد أن تضيء الإشارة خضراء لي حتى أستطيع تجاوز الإشارة!!

هذا هو حسن بن مشاري الحسين الذي فارقنا إلى رحمة الله مؤخرًا، رجل يعيش الانضباط في كل جوانب حياته، وفي كل موقع يعمل فيه. حسن المشاري هو أحد أعضاء مجلس الوزراء الشهير في عهد الملك فيصل رحمه الله، وله بصمات واضحة في أكثر من مجال في خدمة الدولة السعودية.

ولد الراحل في محافظة الأحساء بلد الزراعة والنخيل الأول سنة 1349هـ، وفيها نشأ، ودرس في المدرسة الأميرية بالأحساء، وهي قلعة علمية كبيرة لها تاريخها، ومن رواقها تخرج كثير من الشخصيات الوطنية، ثم أعقب ذلك الدراسة في مكة المكرمة حيث الدراسة المميزة في مدرسة تحضير البعثات. ابتُعث إلى بريطانيا لكن توقفت البعثة؛ بسبب حرب السويس، وانتقل للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، وهناك حصل على الماجستير في إدارة الأعمال.

عمل المشاري أستاذًا للاقتصاد بجامعة الملك سعود، ثم عين وكيلًا لوزارة المالية والاقتصاد الوطني، وفي هذه المرحلة من التاريخ الإداري لبلاده كان من المساهمين في تأسيس معهد الإدارة، معلمة الإدارة الأولى في السعودية.

لذا يعد حسن بن مشاري من أبرز العاملين في الإصلاح الإداري في المملكة العربية السعودية من خلال عمله وكيلًا لوزارة المالية، وعضويته في لجنة الإصلاح الإداري.

حسن-بن-مشاريتوسم فيه الملك فيصل ملامح النجابة، فأوكل إليه وزارة الزراعة سنة 1384هـ وهو لا يزال شابًّا في سن الخامسة والثلاثين، فبقي فيها إحدى عشرة سنة كان البلد فيها يمر بمرحلة تطور إداري مهم في الوزارات والدوائر الحكومية كافة. وهو ما توسمهُ المؤرخ منير العجلاني في كتابه (تاريخ مملكة في سيرة زعيم): «يقوم على الوزارة شاب ذكي نشيط».

عمل وزير الزراعة حسن المشاري في حقول مهمة في وزارته: الزراعة، والمياه، والتربية الحيوانية إلا أن اسمه ارتبط بالمشروع المائي المهم في شرق الوطن والأحساء تحديدًا، وهو مشروع الري والصرف الذي افتتحه الملك فيصل بنفسه في عام 1391هـ بحضور إعلامي كبير محليًّا وعربيًّا، وكان الهدف من هذا المشروع توفير المياه الجوفية في الأحساء التي تذهب سدى.

تحدث عنه زميله في العديد من مراحل الحياة وفي مجلس الوزراء السعودي الراحل الدكتور عبدالعزيز الخويطر في مذكراته «وسم على أديم الزمن» ووصفه بالكرم وكثرة إقامة مناسبات الاحتفاء والتكريم لضيوف البلد أو الأصدقاء، وقال عنه:«حسن رجل باسم، ذو أناة في الحديث وطريقة محببة في هذا، وهو حسن الاستماع، وحسن عند النقاش، سريع الرجوع عن رأيه إذا تبين له قوة رأي محدثه وصوابه، وهي ميزة لا تتوافر إلا عند القليلين…».

ولا ينسى الخويطر نفسه أنه حين دخل بلاط مجلس الوزراء السعودي للمرة الأولى احتاج إلى صاحب خبرة ومعرفة بالبروتوكول الوزاري، فكان حسن المشاري هو من يقدم الخويطر لهذا المجلس. وبعد أن ترك الوزارة لم يترك العمل في خدمة الوطن، وكان له بصمات واضحة في الاقتصاد الوطني، فقام مع آخرين بتأسيس البنك السعودي الفرنسي، والشركة السعودية للفنادق والمناطق السياحية، وترأس مجلس إدارة هاتين المؤسستين العملاقتين بموجب مرسوم ملكي.

توفي المشاري يوم الثلاثاء (7 / 10 / 1437هـ) في مدينة الرياض وبها صلي عليه ودفن بعد أن قضى حياة حافلة قاربت التسعين عامًا، متوّجة بالعمل والعطاء التأصيلي والتأسيسي في وطنه، لا سيما في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود –رحمه الله- إذ بلغ عطاؤه في تلك المرحلة قمته، مع أنه كان في تلك المرحلة في سنوات الشباب.

أثر الفلسفة اليونانية في الفكر العربي في العصر الوسيط

أثر الفلسفة اليونانية في الفكر العربي في العصر الوسيط

كان للعرب قبيل الإسلام لغة ناضجة، لكن كانت معارفهم وفنونهم وصفية في الأغلب، وتخلو من التأمل والتفلسف. فلم تُتِح البيئة الطبيعية لغالبية مجتمعات الجزيرة العربية مجالًا لثبات الاستقرار المدني «المتواصل عبر أجيال» ولا ثبات الوحدة السياسية، ومن ثم لم تتراكم المعارف الفكرية بما يسمح لتكوّن شكل من أشكال التفكير الفلسفي.

وحتى في الحواضر القليلة الثابتة عبر أجيال، فإنها لم تتعرف الفلسفة؛ لأنها كانت جزرًا صغيرة مستقرة في بحر مجتمعات الترحال، وكانت ثقافتها السائدة من ثقافة تلك المجتمعات المحيطة. وعدا الحكمة الموجودة في الأمثال والعبارات والخطب والشعر والقصص، فإن العقل السائد آنئذ كان يتحكم به التصور الخرافي للكون والحياة، إضافة لوجود السحر والكهانة والعرافة والتنجيم. وعلى الرغم من ذلك فالجزيرة العربية شهدت تلاقيًا بين أديان وحضارات مختلفة؛ فقد كانت مواسم الحج وأسواق العرب كسوق عكاظ تجمعًا بين العرب وغيرهم من الشعوب التي تقطن المنطقة المحيطة بشبه الجزيرة العربية أو قريبة منها كالسريان والفرس والهنود واليونان.

وإذا أخذنا البعد الفلسفي في الدين، سنجد أن قليلًا من العرب كانوا إما يهودًا أو نصارى، والغالبية العظمى كانوا وثنيين دهريين. هذه الديانة الوثنية تتزامن مع ازدهار مذهب الدهرية الفارسي في عهد يزدجر الثاني «ت457م»، وهذا قد يشير إلى مدى تأثر العرب بفلسفة المذهب الفارسي؛ فالدهرية الفارسية تجعل الزمان هو المبدأ الأسمى، وترى أنه لا نهاية له، وتعده عين القدر أو الفلك الأعظم. وهذا المبدأ نال إعجاب أهل النظر الفلسفي، وتبوأ مكانًا بارزًا في الأدب الفارسي وفي الآراء الشعبية «دي بور».

العصر الإسلامي الأول.. البوادر الأولى

مع الإسلام تشكلت الوحدة السياسية للعرب، حتى تمددت خارج حدودها مشكلة الدولة الإسلامية، التي كانت لغتها الدينية والسياسية هي اللغة العربية، لكن مع زيادة تمدد الدولة الإسلامية واختلاط المسلمين بحضارات وأديان مختلفة ظهرت الحاجة لتعريب الدواوين التي بدأت منذ مطلع الخلافة الأموية، وكانت تكتب أصلًا بالفارسية واليونانية «ماجد فخري».

في تلك الأثناء، كانت الدراسات الفلسفية والمنطقية مستمرة في مراكز الدراسات اليونانية من دون انقطاع حتى بعد الفتح الإسلامي لسوريا والعراق. وظهر عدد من الشراح الذين ينتمون إلى فرقتي اليعقوبية والنسطورية المنشقة، أمثال سويرس سيبوخت «ت 47 هـ» وأثناسيوس البلدي «ت 77هـ» ويعقوب الرهاوي «ت 90هـ». أعقب ذلك وتزامن معه بوادر تعريب المصنفات الطبية والكيميائية والفلكية. في عهد مروان بن الحكم «ت 66هـ» ترجم أهرن اليعقوبي ملخصًا طبيًّا مشهورًا في الأوساط السريانية للطبيب اليهودي ماسرجويه. كما ينسب إلى الأمير الأموي خالد بن يزيد «ت 85هـ») الاشتغال بالكيمياء والتشجيع على ترجمتها من اليونانية إلى العربية. كانت الترجمة آنذاك مشوشة من ناحية التعريب أو من ناحية نحل الأعمال لغير أصحابها. فمن ذلك أن العرب وقتئذ يحسبون أن تاريخ اليونان لم يبدأ إلا مع الإسكندر الأكبر، وقد عرفوا شيئًا من أطوار الفلسفة وكتب أرسطو لكنها معرفة مشوبة بأساطير كثيرة «دي بور».

العصر العباسي الأول.. ممهدات الفلسفة

مع زيادة اختلاط المسلمين بحضارات وأديان وأعراق مختلفة، وبأشكال مدنية جديدة وعادات وأفكار وفلسفات وأنماط معيشية متنوعة وجديدة عليهم، لا يكفي معها مجرد الرجوع لنص القرآن الكريم والسنة الشريفة، كان لا بد من الرأي المستند على القياس والتأويل والاجتهاد. وكان لا بد من وضع مناهج ومقاييس لهذه الاستنادات وقواعد للرجوع للقرآن والسنة. ومن هنا ظهر الفقه والفقهاء وفرقهم مثل أهل الرأي وإمامهم أبو حنيفة النعمان، وأهل الحديث كالشافعي. ولأن القرآن الكريم دعا الناس للتأمل والتبصر والتعقل، فإن ذلك أثر في نشوء الفرق الإسلامية والجدل العقلي وعلم الكلام. كان هدف علم الكلام الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية مقابل الأدلة النقلية.

على رغم أن القياس وهو من أشكال المنطق ظهر قبل التأثر بالمنطق الفلسفي اليوناني، لكن مع التوسع فيه واتخاذه أصلًا من أصول الأحكام ومصدرًا للتشريع، كان لا بد من دراسة المنطق اليوناني والتأثر به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. والفقه بحد ذاته -وليس القياس فقط- هو علم نظري فكري بشري وإن كان يستند على نص سماوي؛ لذا لا بد له من التفلسف، وبخاصة في المنطق الاستنباطي وليس فقط الاستقرائي.

كانت تلك ممهدات لدخول الفلسفة اليونانية للفكر الإسلامي والعقل العربي. فالآراء الفقهية اضطرت للدخول في فلسفة اللغة لتفسير وتأويل وشرح النص المقدس، ثم دخلت في تفرعات فلسفية أخرى. ظهرت بوادر الترجمات الفلسفية في مطلع الخلافة العباسية مثل ما ينسب إلى عبدالله بن المقفع بتعريبه لكتب المقولات والعبارة والبرهان لأرسطو. كان ذلك في عهد أبي جعفر المنصور «ت 159هـ» الذي تصفه المصادر القديمة ببراعته في الفقه وكلفه بالفلسفة، ورعايته لترجمة كتب الطب والهندسة والفلك «تاريخ مختصر الدول لابن العربي». ومن الكتب التي ترجمت في عهده رسائل لأرسطو، وكتاب «المجسطي» في الفلك، «وأصول الهندسة» لإقليدس «مروج الذهب للمسعودي». وقد أضاف هارون الرشيد مزيدًا من الدعم للتعريب، واعتنى بالثقافة والعلم وترجمة الأعمال اليونانية، وعلى وجه الخصوص في الطب والفلك والتنجيم.

من الترجمة إلى الشرح والتأسيس

ظلت الترجمات مشتتة حتى عهد المأمون حين بلغ الاهتمام بالفلسفة ذروته بإنشاء «بيت الحكمة» في بغداد سنة 217هـ. ترجمت الأعمال الفلسفية اليونانية إلى السريانية والعربية، فترجمت أهم أعمال أفلاطون وأرسطو، إضافةً إلى ترجمة الأعمال الأخرى؛ مثل: كتاب البرهان، وكتاب الأخلاق لغالينوس. في تلك الحقبة نقل الجزء الأكبر من التراث اليوناني في الفلسفة والطب والعلوم إما عن اليونانية مباشرة أو عن السريانية. لم تنحصر الترجمة في التراث اليوناني، بل امتدت إلى غيره كالتراث الفارسي والهندي، وتركزت في مجالي الطب والمعتقدات الدينية، لكن التعريب كان في توجهه الأكبر نحو الإرث اليوناني.

تطورت الحالة الفلسفية آنذاك من تراجم الفلسفة اليونانية، إلى الشرح، مع بعض الابتكارات الفلسفية، حيث مهد لها الكندي «ت 260هـ» الذي يتفق أغلب الدارسين أن بداية التأليف الفلسفي العربي بالمعنى الأصيل للفلسفة ظهر معه. وتعد الفلسفة الرياضية للكندي أهم ما في نتاجه الفلسفي، وفيها تمتزج الأفلاطونية الجديدة بالفيثاغورية الجديدة «دي بور». مثله الأعلى سقراط، مع محاولة التوفيق بينه وبين أرسطو الذي يجله كثيرًا على طريقة الأفلاطونية الجديدة. أما الرازي «298هـ» فيعد حامل لواء الأفلاطونية في تاريخ الفلسفة العربية «ماجد فخري». أكبر أعلام الفلسفة في الحضارة الإسلامية وأعلاهم شأوًا هو الفارابي «ت 339هـ» أول واضع لأسس الأفلاطونية المحدثة في صيغتها العربية، وأول مفكر عربي عمل على وضع نظام فلسفي متكامل. إضافة إلى شرحه فلسفة أفلاطون، فقد درس الفارابي مؤلفات أرسطو ورتبها وفسرها وشرحها، فلُقِّب المعلم الثاني. وعلى رغم ذلك فإن الأفلاطونية المحدثة اقترنت أكثر بابن سينا «ت 428هـ» في كل من المشرق والمغرب العربي، أما كتابه في الطب «القانون» فله تأثير هائل عالميًّا جعل منه الأشهر على النطاق العالمي.

انتقال الشعلة إلى الأندلس

في الجانب الغربي من العالم العربي ظهرت في المغرب العربي والأندلس أعمال فلسفية كان من أوائل أعلامها ابن باجة «533هـ» وله مصنفات في الفلسفة والطب، واعتنى بشرح عدد من مؤلفات أرسطو. وكان العلم الثاني ابن طفيل «ت 580هـ» الذي لم يصلنا من مؤلفاته غير «حي بن يقظان». أما العلم الأكبر، وربما في الفلسفة العربية كلها، فهو ابن رشد «595هـ» الذي شرح أغلب كتب أرسطو بطريقة تضاهي جميع من سبقه، إضافة إلى شرحه جمهورية أفلاطون؛ لذا لقب بالشارح. وكان لابن رشد كثير من المؤلفات الفلسفية، وبخاصة في التوفيق بين الفلسفة والشريعة.

تأثير الفلسفة اليونانية في الفلسفة العربية

أهم عامل مؤثر في الفلسفة العربية هو الدين الإسلامي: القرآن الكريم، والحديث الشريف، والفقه، وعلم الكلام، والتأويل، وأهل الحديث «أهل الظاهر» وأهل الرأي والاجتهاد «المدلول الباطن». بعد هذا العامل تأتي الفلسفة اليونانية. المصدر الرئيس للفلسفة اليونانية كان عبر ترجمة التراث اليوناني: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات، والأخلاق، والرياضيات، و الفلك، والطب. كان للفلسفة اليونانية تأثير هائل في الفلسفة العربية لا سيما في الطبيعيات والرياضيات.. وإذا كان فيثاغورس أستاذًا للعرب في الرياضيات كما يقول دي بور، فإن أرسطو أستاذهم في المنطق.

وكان للفلسفة اليونانية أيضًا تأثير في غير العلوم الطبيعية والرياضيات «الفقه، والكلام، والنحو،والتاريخ، والأدب». فمثلًا الخطابة لأرسطو والمنطق اليوناني عمومًا أثرا في النحو العربي والبلاغة بشكل واضح، فالجاحظ، مثلًا، أدخل أشكال القياس المنطقية في أساليب البلاغة. وقد كان التأثر العربي إيجابيًّا متفاعلًا؛ إذ أضاف العرب إليها إضافات ضخمة أصيلة ومبتكرة، ومن ثم أسسوا منها علومهم الخاصة، مثل فلسفة أساس اللغة بين الفطري والوضعي، والقياس والاستنباط في علم اللغة، وفلسفة البلاغة بين المبنى والمعنى، وتقسيم أنواع الجمل «خمسة أو ثمانية أو تسعة» أو أقسام الكلام «اسم، وفعل، وحرف». ومن ذلك ما أطلق على نحاة البصرة «أهل المنطق»؛ لأنهم يجعلون للقياس شأنًا كبيرًا في الأحكام المتعلقة بأمور اللغة تمييزًا لهم من نحاة الكوفة الذين ترخصوا في أمور كثيرة تشذ عن القياس. وقد يكون مرد ذلك أن تأثير المذاهب الفلسفية ظهر في البصرة قبل غيرها. ومن فروع اللغة ظهر علم العروض للفراهيدي، وعده بعضهم علمًا طبيعيًّا ومن أقسام الفلسفة؛ لأن الوزن الإيقاعي أمر طبيعي فطري مشترك بين البشر؛ فهو حالة جوهرية، وليس حالة اجتماعية خاصة بشعب معين «دي بور».

أثرت الترجمات في حقل التصنيف العلمي وبزوغ روح علمية جديدة في الأوساط الفكرية العربية، فقد أدخلت الترجمات الأرسطية منهج «المقالة» أو أسلوبها الذي يتبع خطًّا موضوعيًّا لا يحيد عنه، ويقتصر على موضوع معين للمقال، والإحاطة به، والاسترشاد بالأعمال السابقة وتمحيصها والتعليق عليها. وكانت الحال قبل ذلك أن الموضوعات التي تدور عليها العلوم الجزئية. وكان يغلب عليها الاستطراد او الاسترسال الأدبي. حيث ينتقل المؤلف من خبر إلى آخر كما لدى الجاحظ في أوضح صورة.

وإذا أردنا أن نعطي طابعًا عامًّا للفلسفة العربية؛ ففي الأغلب سنجد أنها تأثرت كثيرًا بالأفلاطونية المحدثة. الاحتكاك بالشعوب الأخرى؛ كالسريان، والفرس، واليونان، والهنود، مزج الفكر الشرقي الروحاني «ديني وصوفي» مع الفكر اليوناني الفلسفي. ومن هنا نالت الأفلاطونية المحدثة التي مزجت بين الروح الشرقية والروح اليونانية، نالت حظوة كبرى وقبولًا واسعًا لدى الفلاسفة العرب في فكر القرون الوسطى؛ إذ حاول أغلبهم التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقيدة الإسلامية أو الشريعة الإسلامية.

الموقف العربي من الفلسفة اليونانية

يمكن أن نجمل موقف المفكرين العرب من فلاسفة وفقهاء ومؤرخين وأدباء تجاه الفلسفة اليونانية إلى ثلاثة مواقف. الأول موقف جمهور الفلاسفة العرب المؤيد والمرحب بالفلسفة اليونانية، وبعضهم يعدها ضرورة عقلانية للتعامل مع النص الديني، إضافة إلى التعامل مع الحياة الدنيوية. الثاني نقيضه تمامًا، ويرى أن لا حاجة لهذه الفلسفة بالجملة، بل هي مفسدة للدين والعقل، ومن أشهر القائلين بذلك ابن تيمية وابن قيم الجوزية. الموقف الثالث، يرى التمييز بين أجزاء هذه الفلسفة؛ فالمنطقيات والطبيعيات «فيزياء، وطب، وكيمياء، وزراعة» نافعة، بل يجب تعلمها عند بضعهم؛ مثل: الغزالي وابن حزم الأندلسي، أو لا مانع منها مثل ابن خلدون؛ أما الإلهيات «الماورائيات» والأخلاقيات فهي لا شك في فسادها وبطلانها ووجوب منعها. ولعل هذا الموقف يمثل أغلبية السياق في الفكر العربي من مفكرين وفقهاء وأدباء وغيرهم.

في مواجهة التضليل الإعلامي

في مواجهة التضليل الإعلامي

بدر-الإبراهيم

بدر الإبراهيم

لعل كثيرًا منا سمع هذا النوع من العبارات في الماضي القريب: نحن في زمن الانكشاف المعلوماتي، لا شيء يمكن إخفاؤه في عصر الصورة، تمرير الكذب بات صعبًا مع ثورة الاتصالات وتكاثر وسائل الإعلام، لا يمكن حجب المعلومة في عصرنا. راجت هذه العبارات وغيرها، مع الدهشة التي رافقت التقدم التقني، وزيادة عدد الفضائيات، وتوسع شبكة الإنترنت، وسهولة الاتصال بالعالم، ومنطلق هذه العبارات كلها، يتلخص في إيمان من يرددها بنهاية عصر الأكاذيب والضحك على الذقون، وتقليدية الإعلام الرسمي، بفعل الاتصالات المتطورة، وعدسات الكاميرات المصوبة للمشهد، من الفضائيات والمواطنين على السواء، حيث يصعب خداع الناس برواية إعلامية في هذه الحالة.

من يتابع الإعلام في السنوات الأخيرة، بشقيه التقليدي والجديد «شبكات التواصل الاجتماعي»، يجد أن العبارات المذكورة كانت حالمة، وبعيدة تمامًا عن الواقع؛ فالتطور التقني زاد من إمكانية التضليل والخداع، ولم يقلصها، ولم تعد الشكوى في الأغلب من حجب المعلومات أو إخفائها، بل من سيلها العارم وتضاربها؛ إذ يعاني المتلقي التدفق الكثيف والمتواصل للمعلومات، ويصبح ضروريًّا أن يقوم بفرزها، إذا كان يريد بالفعل الوصول إلى الحقائق، وهو ما يستدعي بذل مجهود كبير في التحقق والتدقيق، وتقديم الشك والتساؤل حول كل معلومة.

لم يكن تطور أدوات الاتصال والتوثيق سوى فرصة للتلاعب، فكاميرات الفيديو التي أصبحت في كل الهواتف النقالة، والصورة الناتجة عنها، التي بشَّرت بما سُمِّيَ «صحافة المواطن»، حيث الإنسان العادي يمكنه أن يصنع الخبر ويحرك الرأي العام بمقطعٍ مصور، تبين أنها تساعد في التضليل، عبر الاقتطاع وعدم نقل المشهد كاملًا أحيانًا، أو عبر المونتاج الذي يوجه مقطع الفيديو نحو إدانة هذا أو تبرئة ذاك بالفبركة واصطناع أمرٍ غير موجود على أرض الواقع. عززت أدوات الاتصال المتطورة في العموم فرص التضليل أيضًا، فشبكات التواصل الاجتماعي مثلًا هي وسطٌ ينضح بأنواع الإشاعات والأكاذيب سريعة الانتشار، وهي إشاعات تشمل مجالاتٍ مختلفة، لكنها تؤكد ذات الفكرة، من أن ثورة الاتصالات يمكن أن تُوَظَّف في التضليل والخداع.

الإعلام المنحاز

ليس هناك وسيلة إعلام محايدة؛ إذ إن لكل وسيلة إعلام توجهًا ورأيًا، ينبثق من توجه مالكيها ومن يديرونها، وهذا يشمل الإعلام العربي والغربي على السواء. ربما بسبب سوء الإعلام العربي، بالذات في أزمنة ماضية، وغياب المصداقية فيما يبثه، تنتشر أسطورة على نطاق واسع، مضمونها أن الإعلام الغربي متفوق على صعيد المصداقية والموضوعية، أو أنه مستقل تمامًا، لكن أبسط فحص لهذه الأسطورة، يخلص إلى عدم دقتها؛ إذ إن الإعلام الغربي في أغلبه، يتحرك في إطار مصالح المتنفذين من أصحاب رؤوس الأموال، الذين يملكون توجهًا ونفوذًا سياسيين، أو يرتبطون بصناع السياسات، وهذا الإعلام لا ينفصل عن المؤسسة الحاكمة في البلدان الغربية بخطوطه العامة؛ إذ يعبر هذا الإعلام عن قيم المؤسسة الحاكمة ورؤيتها العامة، وإن كان أكثر حرية في نقدها، كما أن الصحفيين الغربيين، مثل غيرهم، عرضة للتأثيرات المالية والسياسية، التي تجعلهم يكتبون مقالات، أو يصيغون تقارير مع هذا أو ضد ذاك، ويقومون بحملاتٍ إعلامية ضخمة تخدم أجنداتٍ محددة.

لا يوجد إعلام محايد، والانحياز مفهوم، لكن الموضوعية مطلوبة، ونعني هنا محاولة مقاربة الحقائق بغض النظر عن الانحيازات. الموضوعية الكاملة لا يمكن تحقيقها، لكن السعي لأعلى درجة من الموضوعية ركيزة مهمة لأي وسيلة إعلام، غير أن الإعلام العربي، خلال السنوات الأخيرة، ودّع الحد الأدنى من الموضوعية. ومع اشتعال الأزمات في المنطقة العربية، صارت أغلبية وسائل الإعلام أدوات للتعبئة والتحشيد، لصالح خيارات سياسية محددة، ولم تعد تهتم بنقل الخبر بشكل اعتيادي؛ بل بالتعليق على الخبر في أثناء تقديمه، والتلاعب بالخبر نفسه، لخدمة التوجه الذي تتبناه.

انتقلنا من تراجع الموضوعية إلى انعدامها تقريبًا، في وسائل الإعلام التقليدية، وسطوة الدعائية على نقل الخبر، أما الإعلام الجديد، الذي رُوِّجَ له بوصفه الحالة المتجاوزة لحسابات ومصالح الإعلام التقليدي، فقد أصبح مكانًا ملائمًا لنشر الشائعات وفبركة الأخبار والصور، وصار خزانًا إستراتيجيًّا لوسائل الإعلام التقليدية، على مستوى الأخبار والمقاطع المصورة المفبركة، وهو بالطبع لا ينفصل عن التأثيرات المالية والإعلامية خارجه، وقد وضعت وسائل الإعلام التقليدية أقدامها فيه؛ لتبث أخبارها لرواده، ونجومها يتصدرون قائمة الأكثر متابعة في شبكات الإعلام الجديد المختلفة.

الانحياز وسط الأزمات الكبرى يدفع إلى استخدام الكذب والتضليل، والاستعانة بالخطاب الشعبوي، واستنفار عواطف الناس؛ لجذبهم نحو الخيار السياسي الذي تتبناه الوسيلة الإعلامية.

بروجكتور

أساليب التضليل

دغدغة العواطف الإنسانية أمر أساسيّ لخدمة توجه وسائل الإعلام، ويمكن ملاحظة صياغة الأخبار في إطار هذه الدغدغة، مع رفدها بصور أو مقاطع، معدلة أو مفبركة، ليكتمل استنفار المشاعر. لم يعد الانحياز يعبر عن نفسه بتغيير ترتيب الأخبار، ولفت الجمهور لخبر بعينه وإهمال آخر، وتاليًا صياغة أولويات الناس واهتماماتهم بناءً على الخبر المتصدر؛ بل أصبح التعبير عن الانحياز متمثلًا بالذهاب بعيدًا في التلاعب بالخبر.

في هذا الإطار، تُصنَع خدعة أساسية، تتمثل في وجود «مطبخ» لصناعة الأخبار، يصنع فيه الخبر ليتواءم مضمونًا وصياغةً مع أجندة محددة، ويخرج الخبر ليتوزع على مجموعة من وسائل الإعلام المختلفة، من صحف وقنوات فضائية ومواقع إلكترونية، وتقوم بترويجه أيضًا مجموعات من الموظفين في هذه القنوات والصحف، في مواقع التواصل الاجتماعي، فينتشر بسرعة فائقة، ويصبح المتلقي أمام تدفق هائل للخبر نفسه، من مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام، من دون أن ينتبه لأن كل وسائل الإعلام هذه تستقي الخبر من جهة واحدة طبخت الخبر وأعدَّته، أي أنها ليست مصادر متعددة للخبر، بل مصدر واحد بقنوات متعددة، تسهم كلها في إغراق الناس بالأخبار والمعلومات، التي تخدم توجهًا محددًا لهذه الجهة.

الضخ المتواصل والإغراق بالأخبار، حول مسألة معينة، يضمن تكرار الدعاية على الجمهور، وتحشيده وتعبئته، بالضغط على أعصابه وعواطفه بشكل متتابع ومستمر، وحتى لو شكك المتلقي في خبرٍ أو اثنين، فإنه لن يتمكن من مقاومة السيل الجارف من الأخبار والمعلومات كل يوم. أكثر من ذلك، لا يدقق المتلقي في مصدر الخبر نفسه، والمقصود هنا المصدر الأولي للخبر، وليس ناقل الخبر من القنوات والمواقع؛ إذ إنه لو دقق لوجد أخبارًا كثيرة من مناطق الصراع والحروب، تُحيل إلى «ناشطين» أو «مراقبين» أو «شهود عيان»، بوصفهم المصدر الأولي للخبر، وهم اليوم المصدر الأساس لأخبار عدد من وسائل الإعلام، التي تلجأ لهم دائمًا وليس بشكل استثنائي، وهؤلاء الناشطون مجهولون، إضافة إلى أنهم في الأغلب جزء من الصراع القائم، وليسوا محايدين، وأحيانًا تخترعهم بعض وسائل الإعلام؛ لأنها تريد بث خبر ما، فتنسبه إليهم.

الصور أيضًا تخضع للفبركة، وقد تنقلها وسائل الإعلام من دون تثبت، أو يشارك بعضها في فبركتها، والمسألة سهلة، فباستخدام أدوات تقنية من برامج وتطبيقات، يمكن صناعة صورة تختلف تمامًا عن الواقع، كما يمكن لوسائل الإعلام أخذ صورة تتعلق بحدث معين جرى في بلدٍ ما، وتقديمها كصورة لما يجري في بلدٍ آخر وزمنٍ آخر، وهذا التضليل البصري يهدف غالبًا لكسب عواطف الناس، ويحوي كمية من الوحشية وربما الدموية التي تُذهب عقل المتابع لشدة قسوتها على النفس. بعض وسائل الإعلام تستثمر هذه الصور لزراعة الكراهية والأحقاد، وإشعال الفتن في المجتمعات، عبر تفسير الصورة ضمن صراع بين المكونات الاجتماعية في المنطقة، على أسس قبلية أو مذهبية، ورفد الصور التي تُبَث بتحليلاتٍ لموتورين طائفيين، يُقدَّمون كخبراء ومحللين إستراتيجيين، بما يسهم في شد العصب الطائفي.

تتنوع أساليب التضليل، لكن الخلاصة واحدة: لا بد من التشكك في سيل الأخبار الجارف، والتدقيق للوصول إلى الحقائق، قبل الانفعال واتحاذ مواقف بفعل عمليات التضليل المتنوعة.

مواجهة التضليل

من الضروري أن يفرّق المتلقي بين الخبر والرأي؛ فوسائل الإعلام قد تنشر رأيًا أو انطباعًا لأحد العاملين فيها، وقد يمزج هذا الشخص بين صياغة خبرية، ورأيه الشخصي، ما يستدعي الانتباه والحذر. مع قراءة الخبر المنشور في أي وسيلة إعلامية، لا بد من وضع أمور كثيرة في الحسبان؛ أهمها: خلفية هذه الوسيلة الإعلامية، والخيارات التي تتبناها، ومن يقف وراءها، وما مصلحتها من نشر أخبار تُدِين أو تُنَاصِر هذا الطرف أو ذاك. هذا النهج في التدقيق يشمل حتى وسائل الإعلام الغربية، التي تحدثنا عن عدم حياديتها وانحيازاتها.

بعد التدقيق في الوسيلة الإعلامية، لا بد من التدقيق في الخبر المنشور نفسه، ومعرفة مصدره الأول، أي معرفة المصدر الذي اعتمدت عليه الوسيلة الإعلامية في نقل الخبر؛ إذ إن مصادر مثل «شهود عيان» أو «ناشطين» تُضَعِّف كثيرًا من مصداقية الخبر، ومثل هذه الأخبار يمكن فبركتها ببساطة؛ إذ يمكننا أن نخترع خبرًا ما، ثم ننسبه لناشطين أو شهود عيان، ولا شيء يؤكد الأمر. التأكد من وجود مصادر متعددة، متناقضة المصالح، يعطي للخبر مصداقية أكبر، والتدقيق أيضًا لا بد أن يشمل الصور والمقاطع المصوّرة، فليست كل صورة تأكيدًا لخبر ما، ولا حتى كل مقطع مصوَّر، ففبركة مثل هذه المقاطع والصور بات سهلًا كما نعلم، وهذا يستدعي الحذر من التعاطي معها، وعلى الأقل عدم نشرها بكثافة في وسائط التواصل الاجتماعي، من دون التأكد من صحتها.

إذا كان التدقيق في أخبار وسائل الإعلام التقليدية والمشهورة ضرورة في هذه المرحلة، فإن التدقيق في أخبار شبكات التواصل الاجتماعي، التي تنتشر بشكل سريع بيننا، هو أولى وأوجب، وبخاصة أن الكذب فيها كثير. أخطر ما يحصل هو استخدام أخبارٍ وصورٍ مفبركة؛ لتهييج الناس في اتجاهات سلبية، وإذا كان المرء لا يستطيع التدقيق في كل خبر، فعليه ألا يصدّق كل خبر؛ كي لا يقع ضحية التضليل، ويُمَرِّرَه عبر أجهزته للآخرين.

اختراع حرب للتغطية على فضيحة الرئيس

Wag-the-Dogفي فلم «Wag the dog»، من بطولة روبرت دي نيرو وداستن هوفمان، يستعين مستشارو الرئيس الأميركي، بأحد منتجي هوليوود، للتغطية على فضيحة أخلاقية للرئيس، قبل الانتخابات الرئاسية بأسبوعين. يقوم المنتج السينمائي، مع مدير العلاقات العامة في حملة الرئيس، بإنتاج حرب افتراضية أميركية في ألبانيا، لا تحصل إلا على شاشات التلفزة الأميركية؛ لشد العصب الوطني، وإبعاد الأنظار عن الفضيحة. للحرب هذه روايتها المصورة، التي تستند إلى خطر يشكله متمردون ألبان، ومشهد سينمائي يصور فتاة ألبانية هاربة من قصف المتمردين، كما أن هذه الحرب تنتج قصصها الخاصة، مثل قصة جندي أميركي مفقود في ألبانيا، تستثير عواطف الناس، وتصبح حديث الرأي العام. الفلم يعرض كيفية فبركة حربٍ لم تحدث عن طريق الإعلام، وتوجيه اهتمام الناس، والتلاعب بعاطفتهم الوطنية وحسهم الإنساني، من خلال الصورة وسطوتها.

الفلم عُرِض عام ١٩٩٧م، وبعد ما يقارب عشرين عامًا، نجد أن أدوات الإعلام والاتصال أصبحت قادرة بسهولة على صناعة وقائع غير موجودة، واستثارة عواطف الناس واستنفارهم، والتحكم بتوجهات الرأي العام، ومع التطور التقني المذهل، لم تعد الحاجة كبيرة للاستعانة بخبيرٍ سينمائي، فكل شخص يمكنه فبركة أو تغيير مقطعٍ مصور، وهو يجلس أمام حاسوبه في بيته.

أحزان تطل من خرائب الأغنيات القديمة

أحزان تطل من خرائب الأغنيات القديمة

عبدالله بن بخيت

عبدالله بن بخيت

قبل سنوات قليلة كنت في زيارة لمدينة فانكوفر الكندية؛ مدينة جميلة وخلابة، وتحبها من أول نظرة. ذات مساء قبل انهيار الشمس بالكامل، جلست في مقهى يطل من بعيد على البحر. ضفاف المحيط الهادئ الكندية تبعد من الرياض نحو عشرين ألف كم. لا يمكن أن أتخيل أن تجتاحني ذكريات يفاعتي في الرياض قبل أربعين عامًا في مكان كهذا.

ولكنه عالمنا الجديد الذي أصبح صغيرًا. في لحظة خاطفة أحسست أني أسمع صوتًا سعوديًّا بلهجة سعودية هجرتها الأجيال الجديدة، فظننتها من إنتاج خيالي المكدود. تركتها تتنامى وتتوسع في وجداني إلى أن أصبحت حقيقة. التفتُّ فشاهدت عائلة سعودية يتوسطها رجل مسن لا يقل عمره عن ثمانين سنة. تأملت في وجهه بنظرات مسروقة، فتبيّن لي أن هذا الرجل كان له حضور في الأيام الخوالي! تركت البحر وأمواجه وجمال الفتيات اللاتي يمضين قدمًا أمامي، وتركت أشياء أخرى تحيط بي، وغادرت الحاضر لا ألوي على شيء. هرعت أبحث في الأيام القديمة؛ من يكون هذا الرجل. فتحت ملفات لم تفتح منذ زمن بعيد, علاها غبار النسيان. وأخيرًا شاهدته شابًّا في أمكنة لا يمكن أن يهجرها وجداني.

ربما في واحدة من الحفلات الغنائية الكثيرة التي كانت تقام في النوادي الرياضية السعودية والزواجات الباذخة. هذا الرجل له علاقة بالطرب؛ لكن أين أجده؛ في الرياض؟ في جدة؟ في الطائف؟ في كل مكان كنا نذهب إليه كان ثمة حفلات ومطربون وموسيقيون؛ طارق عبدالحكيم، طلال مداح، عبدالله محمد غازي، علي سعد إبراهيم، أبو سعود الحمادي، حيدر فكري، معظم هؤلاء شاهدتهم على الطبيعة؛ على مسارح بسيطة. هذا الرجل لا بد أنه واحد من أجوائهم. مستحيل أن يكون أحد المطربين الكبار, ربما من الخط الثاني؛ ضابط إيقاع، أو عازف كمان، أو من الشباب الذين يحبون الرقص الشعبي. صرت أتأمل فيه؛ ما الذي يمكن أن يكون عليه في شبابه؛ نحيل الجسد، طويل القامة، أسمر اللون يعاني قصر النظر، ومن المؤكد أن العصا المسندة إلى جانبه تعينه على السير. موصفات رجل مسن، لكن الأطراف الأخيرة للحياة تأخذك إلى الحقيقة التي تريدها، أو الحقيقة التي يأخذك إليها خيالك. كلاهما شيء رائع في صراع مخيلتي الراهن. صرت ألتفت إليه وأنتزع من ملامحه ما تبوح به من أطياف. هل شاهدته في حفلة غنائية في الرياض، في الطائف، أم في جدة؟ كثرة الحفلات الغنائية التي كانت تقام في ذلك الزمن وتنوعها تشتت الوعي. شاهدت الفنانين السعوديين الكبار يتغنون على خشبات المسارح السعودية. شاهدت طلال مداح مرتين في الطائف وجدة، وعبدالله محمد أكثر من مرة في الطائف، وطارق عبدالحكيم في نادي الهلال. أما سعد إبراهيم فقد شاهدته كثيرًا. المرة الأخيرة كانت في إحدى مناسبات نادي النصر. ربما كانت حفلة النصر تلك هي آخر الحفلات الغنائية التي حضرتها في حياتي قبل أن تغلق بوابات الجمال في المملكة، ويتم إخراس الفن. اخترت أن أفتش فيها عن حضور هذا الرجل. لم يكن بين يدي خيارات كثيرة. تلك كانت الأكثر سطوعًا في ذاكرتي. جمعت ملامح الرجل، وأزلت منها ما استطعت من عبث الشيخوخة، فبدا لي شابًّا من شباب الأزمنة القديمة، لكنه لم يختلف عن مئات الشباب الذين يغنون ويصفقون ويزعقون في كل مرة يخرشنا الفنان بالعود، أو بموال حجازي. ما زال شارع الخزان بالرياض تتجاوبه نغمات الآلات الموسيقية، وإيقاعات الطبول والمراويس. استعرضت الفرقة الموسيقية. وجوههم مألوفة. شاهدتهم مع كل أغنية وحفلة يقيمها التلفزيون السعودي. تسمى فرقة التلفزيون، تتنقل مع الحفلات الشعبية التي تقام في الزواجات أو النوادي الرياضية. لا يمكن أن يكون واحدًا منهم. لا يخطئهم أحد عاش في تلك الحقبة، ولكنه ربما كان من ضابطي الإيقاع الشعبيين. تلك كانت الآلة الموسيقية الأسهل والمتاحة التي ورثت طيران السامري. هذا أقرب ما تأخذك إليه الظنون عندما تريد أن تنسبه إلى أهل الفن.

فرصة ضئيلة تبقت في ذاكرتي. ربما كان من الشباب الذين يعملون في سوق الأسطوانات أمام مسجد الجامع بالرياض؛ بورصة الغناء السعودي أيام ازدهاره. كل من يريد أن يستمع إلى أحدث الأغاني السعودية الواردة من أستوديوهات بيروت وأثينا يذهب إلى تلك السوق، وبخاصة يوم الجمعة بعد أن ينتثر الناس من صلاة الجمعة بين حراج قاسم، وسوق الزل، وسوق الأسطوانات. ربما كان هذا الرجل يعمل في تلك السوق. العاملون في تلك السوق على قدر من الشهرة. رعاة الفن ومنتجوه.

لا يمكن أن أسأله. رجل مسن يحيط به عدد من أحفاده. تركت الأمر على ما هو عليه. قد أخرج من سؤالي بمرارة وألم ورثاء على ماضٍ جميل تم تقويضه بمنهجية هدّامة لن يشهد مثلها تاريخ الفن الإنساني. ربما تحول كما فعل كثير غيره. أصبح من الرجال والنساء الذين نزع الفن من قلوبهم. هاجس ليس غريبًا. يكفي أن رياح الصحوة الهوجاء نقلت الفنان الشعبي الكبير فهد بن سعيد من فنان عظيم إلى بوّاب على مدارس البنات.

عبدالله العثيمين: محددات الشخص ومكونات النص

عبدالله العثيمين: محددات الشخص ومكونات النص

إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

«يعني الكاتب بالشخص ذات المبحوث من حيث تكوينُها وبيئتُها ورحلتُها الحياتية المجردة، أما النص فهو ناتج هذه الشخصية سلوكًا وتفاعلًا ومواقف».

محددات الشخص: البيئة والتكوين

عاش اثنين وثمانين عامًا ملأى بعصامية نادرة نقلته من دائرة مغلقة إلى مدار مفتوح، فلم يرضَ بانغلاق مثلما لم ينقدْ إلى اندلاق، وظلَّ الإنسانُ في داخله متحكمًا في ظاهره؛ فبدت سيرته الممتدة موصولةً بجذوره، مستجيبةً للتحديات، مؤمنةً بمبادئه، وهو ما يجعل قراءة عبدالله العثيمين مرتبطةً بمحددات شخصيته البسيطة المركبة مستندةً إلى ثلاثة أسسٍ أسهمت في تخليق معالمها وهي:

* التربة والتربية. * التحدي والاستجابة. * الانتماء والمبدئية.

ولعلنا نحاول الإلمام بهذه المحددات التي تكشف جوانب فاصلةً في مسيرة الأستاذ الدكتور عبدالله الصالح العثيمين (1355- 1437هـ/ 1936- 2016م)

جائزة-الملك-فيصل-العالمية

أولًا- التربة والتربية

ينتمي عبدالله بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبدالرحمن العثيمين إلى فرع الوهبة من بني تميم مجتمعًا في الانتماء القَبلي مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهو الشخصية التاريخية التي اختارها العثيمين لتكون مدار بحثه في الدراسات العليا، ومجالًا لبعض تآليفه في مرحلة ما بعد الدكتوراه، مؤكدًا أنه يفكر خارج الصندوق بما قدمه من أبحاث عنه مما ينفي وجود تأثيرٍ مباشرٍ لهذه الجذور في تكوينه الثقافي، مثلما يشير إلى بعدٍ مهمٍّ في دائرة نَسبِه ضمن مجتمعٍ لا ينفكُّ عن توثيقها، وإن لم تعنِ للدكتور شيئًا ذا بال بحكم تحرره من مداراتها الضيقة، وإيمانه بنفسه وأسرته الصغيرة المكونة من أبٍ مكافحٍ زاول التجارة في الرياض وعنيزة وعُرف بورعه، وعمَّين (سليمان، وحمد) زاولا التجارة نفسَها، وانتسابه من جهة والدته إلى جده الشيخ عبدالرحمن السليمان الدامغ الذي كان معلمًا للقرآن الكريم، وإمامًا للمصلين في مسجد «الخُريزة» الذي يعد من أقدم مساجد مدينته، ويعود تأسيسه إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (في حدود عام 1230هـ أو قبل هذا التاريخ بقليل)، وقد خلفه في التدريس والإمامة ابنه (خال الدكتور عبدالله) الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الدامغ، كما كان لتقارب عمره مع أخيه الأكبر الشيخ العلم محمد الصالح العثيمين (1347- 1421هـ/ 1929- 2001م) دورٌ في توجهه العلمي؛ فكان الأخُ الأكبر يصطحب الأصغر لحلقات الشيخ عبدالرحمن السعدي (1307- 1376هـ/ 1889-1956م)، ويكفي أن يعيش الصبي هذه الأجواءَ العلمية والعملية ليجد نفسه محاطًا بقيمة العلم من جانب، وضرورة الكدح من جانب موازٍ؛ فعمل في التجارة المبتدئة مثلما واصل دراسته برفقة قرناء مقبلين على العلم ومهتمين بشؤون الأدب ومتابعين للأوضاع السياسية المحلية والعربية والدولية؛ فالتأمت تربة القبيلة والأسرة والمدينة والأصدقاء في تكوين تربوي متوازن وضح تأثيره في فكر الدكتور العثيمين ومواقفه الوطنية والعروبية والإسلامية، وإذا أضفنا إليها نشأته في مدينة كانت سيمياؤها علمية وثقافية فلا غرابة من نابه مثله أن يتقن اللغة العربية، ويلمّ بالعلوم الشرعية، ويتخصص في التاريخ، ويبرز شاعرًا وكاتبًا ومتحدثًا مفوهًا منذ صغره، فيشارك في نادي عنيزة الثقافي الذي أسس عام (1372هـ/ 1952م)، ويترجَم له في كتاب (شعراء نجد المعاصرون) للشيخ عبدالله بن إدريس عام (1380هـ/ 1960 م)، ويبتعث للدراسات العليا في بريطانيا منتصف الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية).

ثانيًا- التحدي والاستجابة

نعلم نسبةَ نظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889- 1975م) حيث فسر عبرها صعود الحضارات وسقوطها كما تمثلها في الأفراد ذوي السلوك الانبساطي الذين يستطيعون تجاوز الصعاب باستيعابها وعدم الوقوف عندها أو الاستسلام لها بخلاف غيرهم من الانطوائيين الذين يأذنون للظروف القاسية أن تبدل مسيرتهم.

ولعل الدكتور العثيمين أنموذج بارز على الشخصية الانبساطية التي لم تعش الترف فتحدّت الشظف، كما تحدى إبعاده عن التعليم في مرحلتين فاصلتين خلال دراستيه الثانوية والجامعية فلم يستسلم ولم ينكفئ، مثلما تحدى بواعث الوظيفة الميسرة حين تهيأ له أن يكون معلمًا في المرحلة الابتدائية بالمدرسة الفيصلية عام (1378هــ/ 1958م)؛ إذ لم يمكث غير أشهر فيها بالرغم من توفيرها دخلًا معقولًا يمكن أن يكفيه ويفيض، وحين ابتعث اختار مركبًا عسيرًا لا في بحثه فقط بل في النتائج التي توصل إليها، وكان يعرف صعوبة إقناع العامة بها، ونشر الحقائق التي توصل إليها.

عاش عبدالله العثيمين التحديات طفلًا وفتى وشابًّا، ولا ينكر دور كثيرين في حياته من خارج أسرته، ولا ينسى في أحاديثه وكتاباته الإشارة إلى ما قدمه له الدكتور عبدالعزيز الخويطر – رحمه الله- (1344- 1435هـ/ 1925-2014م) من عناية ورعاية حتى قاسمه مكتبه عندما عمل سكرتيرًا له ولمجلس الجامعة الوليدة (جامعة الملك سعود) التي فُصل منها بسبب انتقاده مناهجها التعليمية في اللغة العربية وعودته إليها مغيّرًا تخصصه ومتجهًا نحو دراسة التأريخ.

ثالثًا- الانتماء والمبدئية

كان عمر الدكتور العثيمين ثلاث عشرة سنة حين اغتُصبت فلسطين عام 1948م، وفي عمر مقارب بدأت حركات التحرر العربي من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي؛ ففي عمر السابعة استقلت لبنان عام 1943م، وفي العاشرة سوريا والأردن عام 1946م، وفي الحادية عشرة شرعت ليبيا في الاستقلال عام 1947م، كما تزامن العدوان الثلاثي عام 1956م مع استقلال السودان وتونس والمغرب وعمره لم يتجاوز العشرين؛ فاستيقظت مشاعره العروبية وأيقظت شاعريته، وكان للثورة الجزائرية التي توجت باستقلالها عام 1962م دورها في حفز نصوصه وإيقاظ مكامن ذاته المتوهجة بحب الأمة والخوف عليها، ولعله الشاعر والكاتب الأوفى عنايةً بقضايا العرب المصيرية المتصلة بالاحتلال الصهيوني، فظل مخلصًا للقضية الفلسطينية حتى خاتمة أعماله التي بعث بها إلى صحيفة الجزيرة؛ حيث استقرت كتاباته الأخيرة كل يوم اثنين قبل أن يتوقف في عمر الثمانين حين غلبه المرض.

ظل العثيمين ملتزمًا بمبادئه العروبية وانتمائه الإسلامي كاتبًا وشاعرًا ومتحدثًا لم يحد عنها، وقد تخلى الأكثرون عن قضية فلسطين خاصة، وقضايا التحرر من الاستعمار الجديد عامة؛ فلم يخن ضميره ولم يبدل هُويته، ولا يخفى هذا المحدد في موقفه من اللغة العربية وخوفه عليها وحرصه على التمسك بها أمام اللغات الأجنبية والاحتفاء بالعامية مع أنه شاعر مجيد بالفصحى والعامية، وله مواقف مأثورة في رفض الزحف الأجنبي والعامي على لغة القرآن الكريم، وكثيرًا ما أخذ مواقف مضادةً ممن يراهم يقدمون الإنجليزية أو يحتفون باللهجات العامية على حساب الفصحى وإن رآهما (اللغة الأجنبية واللهجة العامية) مهمتين في البحوث والدراسات والإبداع.

ويتجلى انتماؤه متمثلًا في عشق وطنه الكبير وحب مدينته الصغيرة التي قال فيها أعذب النصوص والمقالات، وأشهرُها قصيدته الذائعة (عودة الغائب) التي سمّى بها أحد دواوينه العشرة ولقيت أصداءً واسعة حين نشرها، وعارضها جمع من الشعراء من أبرزهم: عبدالعزيز المسلم، وإبراهيم الدامغ، وعبدالله السناني، وعبدالرحمن السماعيل، وكانت مناسبتها عودته من المغترب الأسكتلندي عام (1392هـ/ 1972م) ومطلعها:

طربتُ ماذا على المشتاق إن طربا

لما دنت لحظاتٌ نحوهن صبا!

وفيها:

مَن كان مثليَ بالفيحا تعلقُه

فلا غرابة إن عانى ولا عجبا

**

وإن تأملت أزياءً تتيه بها

وجدتَ من بينها البرحيَّ والعنبا

العثيمين-١وتلاحظ معارضتُه في هذا النص قصيدة نزار قباني الشهيرة (من مفكرة عاشق دمشقي) التي كتبها عام 1971م ومطلعها:

فرشتُ فوق ثراك الطاهر الهُدبا

فيا دمشقُ لماذا نبدأ العتبا؟

وفيها:

هذي البساتين كانت بين أمتعتي

لما ارتحلتُ عن الفيحاء مغتربا

**

فلا قميص من القمصان ألبسه

إلا وجدت على خيطانه عنبا

فالتشابه جلي في الوزن والقافية والموضوع وبعض المفردات (الفيحاء – العنب – اللباس والأزياء- الاغتراب)، وفيما جمع نزار بين المحورين الوطني والعروبي اقتصر العثيمين على المحور الوطني، ولعل أحد المختصين يلتفت لدراسة النصين الجميلين دراسة مقارنة، ومن وحي بحرهما وقافيتهما جاء نص صاحبكم الرثائي بعد رحيل العثيمين وأسماه: (غيبة العائد):

العثيمين-٤رحلتَ ماذا على الموجوع إن عتَبا

ناداك لم تستجبْ والوعدُ منك كبا

لم يمضِ وقتٌ وقد آذنتَ مبتهجًا

بعودةٍ هل مضت تلك السنون هَبا

أم أصبح العمرُ طيفًا لا يصاحبُه

من يعشقُ الحُلم إلا خاله كذبا

غادرتَ دون وداعٍ أي قافيةٍ

جفتك.. هل ضاق مكتوبٌ بمن كتبا

كلّ الأماكن تستدعيك سيدَها

حتى النخيلُ التي قد آذنت رطبا

وغزةٌ لم تزل تشتاقُ عاشقَها

هناك صارت هنا.. ما أشرف النسبا

يرثيك مجلسُنا.. ترنو مجالسُهم

إلى أبي صالحٍ.. مذ غاب مغتربا

ادعوا له في رحاب الله طيب جنى

وانسوا عثار بياني ؛ ضاق ما رحبا

والإشارة إلى «غزة» في النص ترمز إلى اهتمامه بقضية فلسطين وتصادف معها أن كان بيته في حي المحمدية الغربي بالرياض يقع على شارع غزة.

ويتبدى انتماؤه كذلك في إخلاصه لتخصصه تأليفًا وبحثًا وترجمةً حيث تجاوزت مؤلفاته ثلاثين كتابًا حول التأريخ السعودي بأدواره الثلاثة، ومنها كتبه وتحقيقاته وترجماته:

تاريخ المملكة العربية السعودية – بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية – الشيخ محمد بن عبدالوهاب: حياته وفكره – العلاقات بين الدولة السعودية الأولى والكويت – قراءة في كتابات عن تاريخ الوطن – قراءات في دراسات عن إمارة آل الرشيد – معارك الملك عبدالعزيز المشهورة لتوحيد المملكة – نبذة تاريخية عن نجد – كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب – بعثة إلى نجد – توحيد المملكة العربية السعودية – من حديث بوركهارت عن الخيل والإبل العربية – مواد لتاريخ الوهابيين، تأملات في التاريخ والفكر؛ إضافة إلى ما جمعه من مقالات عن الوطن والتصهين والقضية الفلسطينية والهم العربي، ومنها:خواطر حول القضية – كتابات حول التصهين – مقالات عن الهم العربي – مقالات عن قضايا عربية – أنت في مقالات عن فلسطين والعراق وقضايا مصيرية – عن الوطن وإليه – من وحي رحلات إلى خارج الوطن – عام من الذل والانخداع – بيع الأوطان بالمزاد العلني – أنت يا فيحاء ملهمتي – خواطر حول الوطن والمواطنة، عدا دواوينه الشعرية العشرة:بوح الشباب – دمشق وقصائد أخرى – صدى البهجة – عودة الغائب – لا تسلني – عرس الشهباء وقصائد أخرى – في زفاف العروس- لا تلوموه إذا غضبا – مشاعر في زمن الوهج – نمونة قصيد، وهو ديوانه العامي الوحيد.

يشار إلى أن العثيمين عمل أستاذًا في جامعة الملك سعود ورأس قسم التاريخ فيها، وكان عضوًا في بعض مجالسها ومستشارًا في وزارتي المعارف (التربية والتعليم) والتعليم العالي (التعليم) وفي مجلس أمناء مؤسسة حمد الجاسر وهيئات تحرير مجلة العرب ومجلة الدارة ورسالة الخليج، وعضوًا مراسلًا في مجمعي اللغة العربية بدمشق والقاهرة، وعضوًا في مجلس الشورى السعودي عشرة أعوام، وأمينًا عامًّا لجائزة الملك فيصل العالمية ثلاثة عقود، كما نال عددًا من الجوائز التقديرية.

مكونات النص: مواقف وحكايات

يعرف صاحبكم الدكتور عبدالله العثيمين مثلما يعرف شقيقه الأكبر شيخنا الراحل: محمد، رحمهما الله، وشقيقه الأصغر الشيخ عبدالرحمن وأولادهم، رعاهم الله، مثلما لا ينسى ملامح والدهم العم صالح -غفر الله له توفي عام (1398هـ/ 1978م) كما تربطه علاقات جيدة بمعظم آل العثيمين، ومنهم المحقق المعروف الدكتور عبدالرحمن السليمان العثيمين -رحمه الله- (1365-1436هـ/ 1946– 2014م) وأشقاؤه الأساتذة محمد وعبدالله وعبدالعزيز رعاهم الله، ولا ينسى الشاعر الراحل الأستاذ صالح الأحمد العثيمين -رحمه الله- (1359- 1433هـ/ 1940- 2012م) وإخوته الأساتذة عبدالرحمن ومحمد، رحمهما الله، وعبدالله والدكتور يوسف، حفظهما الله، مما يجعله محيطًا ببعض التفاصيل الصغيرة عن هذه الأسرة الكريمة التي أنجبت علماء ومبدعين يستحقون الذكر والشكر.

تخول المعرفة المباشرة للكاتب إمكانياتٍ لقراءة الشخص والنص أكبر مما تتيحه للباحث النائي، وبخاصة حين لا يطغى الجانب الذاتي على الموضوع المبحوث، وهو ما أتاح لقلمه إطلالات متعددة حول الفقيد نشرت في حياته، كما شارك في ندوة غير مسجلة بنادي الرياض الأدبي وكتب مقالًا واحدًا بعد وفاته التي حدثت وصاحبكم على بعد تسع ساعات طيران فكان ألمُ الفقد كبيرًا مثلما عبّر في مقاله الموسوم: «مسافات القلب وغياب القرب»؛ فالعلاقة بينهما – خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة لا تفهم ضمائر الفصل، ولا الجمل المعترضة، ولا مكان فيها لما «يسُد مسدَّ» الأصل؛ أفيكون قريبًا منه – طيلة فترة مرضه – ثم ينأى عنه ساعة الوداع؟

العثيمين-٣القرب لا يحقق الحياد كما لا يحققه الابتعاد، فجاء حزنه على رحيل الرمز مكثفًا، ويستعيد موقعه على شرفة غرفة «فندق فيرمونت في جاكرتا» والشمس تؤذن بالغياب وهو يصور لقطتها غير العابرة ويكتب على صفحات وسائطه الرقمية: «ما أقسى الغياب».

يذكر لقاءهما الأول عام 1972م حين كان أقرب إلى الصبا ووالدُه – سلمه الله – يوصيه أن ينتظر ضيفًا، ولم يكن المنتظَر في «أصيل» يوم احتفائي إلا أبا صالح حديثَ العودة من بعثته، ولا يملك صورةً جليةً عنه أكثر من أنه كان معتدل الطول ذا لحية سوداءَ مبتسمًا ودودًا؛ فتفرغ الفتى لدوره «الخِدمي» في صب الشاي والقهوة، وتقديم الماء والفاكهة، وهو ما حال دون الإنصات لحديثٍ يحسبه ثريًّا، فلم تستوعب ذاكرته منه شيئًا.

لا يضيف كثيرًا إلى ما سبق أن سطره حول العثيمين فيستعيد بعض ما كتبه عنه، ويذكر في هذا المقام أن والده قد حكى له عن ميزةٍ في أبي صالح، وهي مهارة الإصغاء الصامت، فلا يدخل النقاش في أوله حتى إذا تكلم جاء حديثه مستوعبًا ما قيل ومبرزًا أجمل ما في الجلسة من آراء، فبدا حكيمًا رزينًا غير متعجل في أحكامه ومحاكماته، وكان الوالد يمتنّ له حين يجيء ذكره؛ فهو –مع آخرين– ذو الفضل في إقناعه بترك العمل بجدة وإكمال تعليمه الثانوي والجامعي.

العثيمين-٢كفلت هذه الصور تجذير صورة جميلة في ذهن الناشئ تبدّى منها العقل والهدوء والعصامية وحب الآخرين، وهو ما حفزه إلى الاقتراب من دائرته؛ فضمت الفقيد وصاحبكم لقاءات عامة وخاصة أكدت تواضعه وبساطته التي رآها في عيون الكثيرين المعجبين بهذا الـ«أبي صالح» الذي تحقق له –كما سبق أن كتب- أن يصعّر خده ويختال في مشيته ويضع حاجبًا وسكرتيرين، فإذا به متربعٌ فوق كرسيه ونصف ساقه ظاهرة وغترته مرمية بجانبه، ولا ينسى ليلة شتوية مطيرة كان لصاحبكم فيها لقاء مفتوح بمكتبة الملك عبدالعزيز العامة شرقي الرياض حول تجربته في القراءة، وفوجئ بمجيء الدكتور العثيمين من منزله غربي العاصمة، ولا يزال يرى حضوره تاجًا يعتمره؛ إذ لم يكتف بذلك، بل علق تعليقًا طويلًا لطيفًا، وما كان التلميذ سيضيف إلى الأستاذ لكنه طبعه الإيثاري لا يتنازل عنه بالرغم من المشقة وعدم الجدوى، وبالمثل فقد كان يلقي نصوص بعض أصفيائه في المناسبات العامة إذا تعذر حضورهم، وهو مسلك لا يقوم به إلا الكبار.

لا يتكلف لفظًا ولا يتعمد إغراقًا

بساطة العثيمين امتدت إلى لهجته المحكية فكان لا يتكلف لفظًا، ولا يتعمد إغراقًا، ولا يحاول استعراضًا، بالرغم من إتقانه الفصحى وغيرته عليها وحرصه على عدم تجاوز نحوها وصرفها مثلما درَسه في النحو الواضح وشرح ابن عقيل، بل امتدت دقته إلى كتابة الشعر العامي؛ إذ كان ينعى على من يستبدل الحروف بالحركات، فيجيء بالواو بدل الضمة، وبالياء عوضًا عن الكسرة؛ لمخالفتهم القواعد الإملائية، وخشية تأثر النشء بهم، ويستدعي حين كان في محاضرة بدار الأوبرا المصرية وأستاذٌ متخصصٌ باللغة العربية يلحن في قراءته فحسبل أبو صالح وحوقل وكاد يغادر اللقاء، وغضب مرةً في ندوة مشهودة حين وجد شبابًا ينتدون باللغة الإنجليزية تحت لافتة عربية معروفة.

وبالرغم من أن تخصصه في تاريخ الجزيرة العربية الحديث، وإذ يدور الحديث حول أحداثه في المجالس العامة، فلم يكن يتصدر الحاضرين حين يحكون فيه، بل ربما أعرض عمن يحاجُّه في تخصصه دون أن يتعالم أو يتعالى، بل إنه – وهو الشاعر المجلي – لا يتردد في عرض نصوصه على تلاميذه طالبًا رأيهم ومعتدًّا بملاحظاتهم، فجمع الشموخ والتواضع.

كتب شعرًا ونثرًا في معظم الأغراض إلا الرثاء؛ فلم يكتب سوى قصيدة واحدة بعد وفاة الشيخ عبدالرحمن السعدي، ومقالة عقب وفاة شقيقه الشيخ محمد، وعرف بوفائه لأصدقائه وحبه للناس حتى في أصعب مراحل مرضه حيث لم ينقطع عنهم، فكان يزورهم ويرتاد مناسباتهم ومعه جهاز الأكسجين، وحين اشتد به المرض واصل الإطلال عليهم مع بقائه في سيارته، وبعدما أعيته الحركة فتح باب بيته بشكل يومي «بين العشاءين»، واشتد به المرض فاختصر الجلسة في يومين، ثم اقتصرت على الأدنين منه حيث لم يكن يستطيع الكلام فحملت نظرات عينيه الذابلتين الموحيتين مشاعر الحب والامتنان.

كان زاهدًا في الثناء بالرغم من كثرة ما كتب عنه أو أُلف حوله، وفي مجلسه الكبير لا وجود إلا لقطعة من ثوب الكعبة كرمه بها الشيخ عبدالمقصود خوجة ودرع تقديرية قدمتها إليه مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وقبل أن يُعييه التواصل حمل إليه صاحبكم الجزء السادس من سلسلة (من أعلام الثقافة السعودية) الذي نشرته «الجزيرة» ضمن إصداراتها الثقافية، وفيه فصل عنه يوثق الملف الذي أصدرته مجلة الجزيرة الثقافية تحت عنوان: (عبدالله العثيمين الشاعر – المؤرخ – الأمين) وسبق أن كتب عنه الدكتور أحمد مطلوب مؤلفًا ضخمًا، فكان محرجًا؛ إذ لن ينشره بنفسه أو عن طريقه ولن يردَّه إلى كاتبه، ولو شاء لوجد دور نشر عديدة ستتولى أمره، كما كانت تعاملات الفقيد مع دور النشر متسمةً بتواضعه وانعدام اشتراطاته المادية، ولا تزال لديه نصوص شعرية ومقالات وقصائد ورسائل إخوانية، فلعلها تُجمع قريبًا، ويضاف إليها –في كتاب مستقل– ما قيل عنه قبل وبعد رحيله مما لم ير النور بعد.

وبعد.. سيبقى الدكتور عبدالله العثيمين وسمًا عروبيًّا ومؤرخًا موضوعيًّا ومواطنًا صادقًا وإنسانًا بسيطًا سعى لنفسه وقدّم نفيسه، ورحل مطمئنًا إلى أنه بذل ما استحق به دموعَ الراثين ودعوات المحبين، مثلما يستحق قراءة شخصه ونصه بمنهجية تدع أمام الأجيال حكاية رمزٍ علمي وإبداعي ووطني عاش ثم غاب كما يعيش ويغيب الكبار.

السيرة شخص ونص.