أحزان تطل من خرائب الأغنيات القديمة

أحزان تطل من خرائب الأغنيات القديمة

عبدالله بن بخيت

عبدالله بن بخيت

قبل سنوات قليلة كنت في زيارة لمدينة فانكوفر الكندية؛ مدينة جميلة وخلابة، وتحبها من أول نظرة. ذات مساء قبل انهيار الشمس بالكامل، جلست في مقهى يطل من بعيد على البحر. ضفاف المحيط الهادئ الكندية تبعد من الرياض نحو عشرين ألف كم. لا يمكن أن أتخيل أن تجتاحني ذكريات يفاعتي في الرياض قبل أربعين عامًا في مكان كهذا.

ولكنه عالمنا الجديد الذي أصبح صغيرًا. في لحظة خاطفة أحسست أني أسمع صوتًا سعوديًّا بلهجة سعودية هجرتها الأجيال الجديدة، فظننتها من إنتاج خيالي المكدود. تركتها تتنامى وتتوسع في وجداني إلى أن أصبحت حقيقة. التفتُّ فشاهدت عائلة سعودية يتوسطها رجل مسن لا يقل عمره عن ثمانين سنة. تأملت في وجهه بنظرات مسروقة، فتبيّن لي أن هذا الرجل كان له حضور في الأيام الخوالي! تركت البحر وأمواجه وجمال الفتيات اللاتي يمضين قدمًا أمامي، وتركت أشياء أخرى تحيط بي، وغادرت الحاضر لا ألوي على شيء. هرعت أبحث في الأيام القديمة؛ من يكون هذا الرجل. فتحت ملفات لم تفتح منذ زمن بعيد, علاها غبار النسيان. وأخيرًا شاهدته شابًّا في أمكنة لا يمكن أن يهجرها وجداني.

ربما في واحدة من الحفلات الغنائية الكثيرة التي كانت تقام في النوادي الرياضية السعودية والزواجات الباذخة. هذا الرجل له علاقة بالطرب؛ لكن أين أجده؛ في الرياض؟ في جدة؟ في الطائف؟ في كل مكان كنا نذهب إليه كان ثمة حفلات ومطربون وموسيقيون؛ طارق عبدالحكيم، طلال مداح، عبدالله محمد غازي، علي سعد إبراهيم، أبو سعود الحمادي، حيدر فكري، معظم هؤلاء شاهدتهم على الطبيعة؛ على مسارح بسيطة. هذا الرجل لا بد أنه واحد من أجوائهم. مستحيل أن يكون أحد المطربين الكبار, ربما من الخط الثاني؛ ضابط إيقاع، أو عازف كمان، أو من الشباب الذين يحبون الرقص الشعبي. صرت أتأمل فيه؛ ما الذي يمكن أن يكون عليه في شبابه؛ نحيل الجسد، طويل القامة، أسمر اللون يعاني قصر النظر، ومن المؤكد أن العصا المسندة إلى جانبه تعينه على السير. موصفات رجل مسن، لكن الأطراف الأخيرة للحياة تأخذك إلى الحقيقة التي تريدها، أو الحقيقة التي يأخذك إليها خيالك. كلاهما شيء رائع في صراع مخيلتي الراهن. صرت ألتفت إليه وأنتزع من ملامحه ما تبوح به من أطياف. هل شاهدته في حفلة غنائية في الرياض، في الطائف، أم في جدة؟ كثرة الحفلات الغنائية التي كانت تقام في ذلك الزمن وتنوعها تشتت الوعي. شاهدت الفنانين السعوديين الكبار يتغنون على خشبات المسارح السعودية. شاهدت طلال مداح مرتين في الطائف وجدة، وعبدالله محمد أكثر من مرة في الطائف، وطارق عبدالحكيم في نادي الهلال. أما سعد إبراهيم فقد شاهدته كثيرًا. المرة الأخيرة كانت في إحدى مناسبات نادي النصر. ربما كانت حفلة النصر تلك هي آخر الحفلات الغنائية التي حضرتها في حياتي قبل أن تغلق بوابات الجمال في المملكة، ويتم إخراس الفن. اخترت أن أفتش فيها عن حضور هذا الرجل. لم يكن بين يدي خيارات كثيرة. تلك كانت الأكثر سطوعًا في ذاكرتي. جمعت ملامح الرجل، وأزلت منها ما استطعت من عبث الشيخوخة، فبدا لي شابًّا من شباب الأزمنة القديمة، لكنه لم يختلف عن مئات الشباب الذين يغنون ويصفقون ويزعقون في كل مرة يخرشنا الفنان بالعود، أو بموال حجازي. ما زال شارع الخزان بالرياض تتجاوبه نغمات الآلات الموسيقية، وإيقاعات الطبول والمراويس. استعرضت الفرقة الموسيقية. وجوههم مألوفة. شاهدتهم مع كل أغنية وحفلة يقيمها التلفزيون السعودي. تسمى فرقة التلفزيون، تتنقل مع الحفلات الشعبية التي تقام في الزواجات أو النوادي الرياضية. لا يمكن أن يكون واحدًا منهم. لا يخطئهم أحد عاش في تلك الحقبة، ولكنه ربما كان من ضابطي الإيقاع الشعبيين. تلك كانت الآلة الموسيقية الأسهل والمتاحة التي ورثت طيران السامري. هذا أقرب ما تأخذك إليه الظنون عندما تريد أن تنسبه إلى أهل الفن.

فرصة ضئيلة تبقت في ذاكرتي. ربما كان من الشباب الذين يعملون في سوق الأسطوانات أمام مسجد الجامع بالرياض؛ بورصة الغناء السعودي أيام ازدهاره. كل من يريد أن يستمع إلى أحدث الأغاني السعودية الواردة من أستوديوهات بيروت وأثينا يذهب إلى تلك السوق، وبخاصة يوم الجمعة بعد أن ينتثر الناس من صلاة الجمعة بين حراج قاسم، وسوق الزل، وسوق الأسطوانات. ربما كان هذا الرجل يعمل في تلك السوق. العاملون في تلك السوق على قدر من الشهرة. رعاة الفن ومنتجوه.

لا يمكن أن أسأله. رجل مسن يحيط به عدد من أحفاده. تركت الأمر على ما هو عليه. قد أخرج من سؤالي بمرارة وألم ورثاء على ماضٍ جميل تم تقويضه بمنهجية هدّامة لن يشهد مثلها تاريخ الفن الإنساني. ربما تحول كما فعل كثير غيره. أصبح من الرجال والنساء الذين نزع الفن من قلوبهم. هاجس ليس غريبًا. يكفي أن رياح الصحوة الهوجاء نقلت الفنان الشعبي الكبير فهد بن سعيد من فنان عظيم إلى بوّاب على مدارس البنات.