قصيدة «الجواميس» لمحمد الماجد.. جدارية حول معنى الشعر في زمن ما بعد الحداثة

قصيدة «الجواميس» لمحمد الماجد.. جدارية حول معنى الشعر في زمن ما بعد الحداثة

كان من سعد طالعي أن أقدّم في ديسمبر الفائت أمسيةً يقرأ فيها الشاعر محمد الماجد -للمرة الأولى- قصيدته الموسومة «الجواميس». وقد كانت قراءته لهذه “الجدارية الشعرية” انثيال لحظاتٍ مبهجةٍ ومحطاتٍ مضيئةٍ، شهدنا فيها ولادةً ماجدةً ومظفرة، لمطارحةٍ شعريةٍ بدت لي أقرب ما تكون إلى مرافعةٍ مسهبةٍ فيما يخص معنى الشعر وأشكاله وإشكالياته، ومناظرةٍ تكتنف في نفس واحدٍ وطويل، تلك الجدالات التي إن أصبحت طيَّ النسيان لدى كثيرين، إلا أنها في حسبان أوساطٍ تقليديةٍ عديدةٍ تظل قضايا ودعاوى «مصيرية»، تتماهى وواجب الدفاع عن اللغة والتراث والسردية الماضوية بكل حمولاتها، وبالطبع دفاعًا عن عمود الشعر وبحوره.

وإذا كان موقف الشاعر هكذا، فلنا أن نسأل: من الأجدر بالحديث عن الشعر والتنظير حوله؟ وقد يقول قائل: ليس الشاعر، بما يحمل من أهواءٍ وخلائقَ هوائيةٍ بطبيعة الحال. إذ قد حدث أن تواضعنا في لحظةٍ غفلٍ ربما… واتفقنا على توسّم الخير في ذلك النفر من الغاوين، ذلك الحشد الُمختَلف عليه والمُتنازَع حول جدارته؛ نقصد جمهور المتلقين من المستمعين، والقراء، والنقاد! ولكن ماذا عن القصائد ذاتها؟ ماذا لو أن الشاعر، وهو يبعث الحياة فيها، مودعًا إياها أصغريه، قلبه ولسانه… يكون قد سلمها أيضًا إدراكاته وأفهامه؟ وماذا لو تحيّن للقصيدة أن تكون الشيء إذ هو حال لسان مبدعه: القصيدة في مقام المتحدث والناطق الرسمي؟ يفتتح الماجد قصيدته بخطابٍ وفعل أمرٍ بأن:

«ترجّلْ/ عليكَ من الشِّعر ما تستحقُّ ترجّلْ/ فهذي القصيدةُ منذ البسوس/ ولا خيلَ فيها/

وهذي طرائدُها في الجبال/ولا ذئبَ إلا أخوك المهلهلْ».

ومنذ المقطع الأول يقدم لنا الشاعر شتى العلامات والمفاتيح الظاهرة والمتضمنة لتفكيك معاني ومباني هذا النص المسهب طولًا وعمقًا، حتى لكأننا أمام جداريةٍ أو لوحةٍ شعرية. فهنا نراه يحدد وجهة قوله: في صيغة المُخاطب، وغرضه الشعري الأثير: ويتمثل هنا في معنى الشعر ذاته، ومسار رحلته: عبر امتداداتِ أزمنة وأماكن شعرية شاسعة ومترامية في الواقع والخيال والأسطورة المتوارثة، كما يمنحنا لمحةً عن مزاجه النفسي، في رحلته المتوحدة والموحشة بحثًا عن معنى الشعر وماهية الشاعر.

فهو وإنْ أخذ يتنقل بآليات القول الشعري بين الوصف والاسترسال في الاستعادات، وإنْ أخذ إجازةً في التنقل بين أشكال الشعر؛ بين الموزون والمرسل، وبين الفصيح والمحكي … فإنه يعاود الالتفاف بالقول إلى صيغةِ مُخاطبٍ مجهول، هو في الغالب تجريد الشاعر لـ “أنا” أخرى! يمتشقها من “عين ذاته”… وها نحن وكأن قرينه (محمدًا الآخر) قد ترجل من على فرسه… وحالهما: كلُّ واحدٍ على جانبٍ من المرآة… إنما في موقف المساجلة والمناظرة والمماراة. موقفٌ يتجسد استطرادًا ومداورةً في إنشاء حالة شعرية ليست هي قصيدة في القالب المتعارف، والذي يفترض الوحدة الموضوعية الطيّعة، وانسياق الأسلوب والبنية النصية؛ بل هي في واقع الأمر محاجّاة، تتصاعد وتخفت، مع المتلقي، حول هذا المعنى وتمثلاته في حال الشاعر، وحال القصيدة، وحال المتلقي. وهذا الحوار هو الخيط الناظم للخطاب الشعري.

نص تتجاور فيها الأشكال

ولكن بأي رؤية فنية وفلسفة جمالية، وأي مسلك نفسي وموقف شعوري يكون الإتيان بنص إبداعي، بل قل: ضمن متنٍ إبداعي – كما عهدنا من الشاعر الماجد من قبل، وكما سنقرأ في جديده مرورًا بديوانه الأحدث “أسفار بن عواض” – تتجاور فيه الأشكال والأغراض الشعرية للقصيدة في تراثيتيها: الأصيلة نصًّا والمُتخيلة شرحًا وتفسيرًا ونقلًا، وفي حداثاتها المتعددة… كل ذلك ينصهر في بوتقةٍ من لغة مكتنفة بالإحالات التاريخية والأسطورية وبالإشارات المتعلقة بتقاليد الكتابة الشعرية، وبانفعالاتها المتقلبة على “جمر الغضى” كما يصفها.

وربما لم نأنس كثيرًا ولم نألف أن نرى، من قبل، في تجربة شعرية واحدة أو متنٍ شعري واحد هذا الكم الهائل من التجريب الفني جنبًا إلى جنب، بكل ما يبرزه التجريب من تحدٍّ للقريحة الشعرية، ومخاطر جمة أمام آلية الاستقبال والتلقي. لكننا ندرك أيضًا أن الماجد في نتاجه السابق والحالي يأتي بذخيرة ثقافية وتحصيل معرفي، فلا يتردد في التعمق والنهل والتماهي سواءً بسواء مع المألوف والحوشي من المفردات والصياغات. فهو نَفَسٌ شعريٌّ في غاية التفرد، ولغةٌ بارعةٌ ما برحت تحفر، بمغامرة الواثق ورؤية المقتدر، في الأسطورة التي نسميها ذاكرتنا الشعرية؛ شواكلها وتجلياتها وسرديات أماكنها وتضاريس جغرافيتها الممتدة: «منذ المهلهل والبسوس… قبيلًا قبيلًا… إلى أن: طار اليمامُ حتى رخام المقابر» …

وعليه، فحال الشاعر هو مثاقفة الأشكال الشعرية وسردياتها، المأثورة منها والمبتدع، الفصيح منها والمحكي… وعبر معايشة الأماكن في تاريخانيتها وجغرافيتها بما يتبدى له وتتفق عليه روحه وقريحته في لحظته العاطفية والخطابية في آن…إذ تستنير بموقف “ما بعد-حداثي”… ولنحرر المعنى في هذا الوصف: نقول موقف تجاوز ثنائية الأضداد وما يستتبعها من أحادية الرؤية والتي قامت عليها دوغمائيات الفلسفة والفكر والنتاج الثقافي والسياسي الإقصائي لقرنٍ مضى- نقصد بذلك حداثة القرن العشرين كما تبدو  لنا الآن واليوم وفي ضوء فهمنا المتجدد والناقد لها. إذن، فنحن أمام موقف جمالي وفني تضميني وليس إقصائي ينبني على التجاور لا التباعد، والتواؤم لا التضاد.

وحال المتلقي هنا: أن القصيدة أو الحالة الشعرية تكشف له عن نفسها في لحظة التلقي والتذوق كما لو كانت عملًا تشكيليًّا: كولاجي العناصر ومفاهيمي الهدف. حيث تنطوي مهارات قراءة وتذوق “الفن التشكيلي المفاهيمي” على قبول أن الفكرة (أو الأفكار) المتضمنة في العمل تحظى بالأسبقية على الاهتمامات الجمالية والفنية التقليدية. فالفكرة أو المفهوم أهم جانب من جوانب العمل وتصبح الفكرة (أو الغرض الشعري في حالتنا) كما لو هي آلة ميكانيكية، تلقائية الحركة، وسرمدية في تخليقها وتوليدها للشعر ذاته.

شعرية متشظية

وحال القصيدة هو انتقالها من بناء شعري نقلي، اتباعيّ، يفتقر إلى المفاجأة في مبانيه والتوهجِ في معانيه… إلى حالة شعرية متشظية في مشاعرها، أريحية في بوحها، عميقة الإحالات، متفردة وجامعة في بيانها وأسلوبيتها، تستعيد أساطير ومأثورات الشعر العربي منذ عصر امرئ القيس وقيس بن الملوح والسُّليك بن السُّـلَـكة… حتى عصر أحمد شوقي والجواهري وأدونيس، ومحمود درويش، وقاسم حداد، ومظفر النواب بفصيحِهِ وشعبيِّه… وصولًا إلى ذلك الصوت “الحداثي” الذي اخترق، كالسهم، دروع كل من ذكرنا من الشعراء رجوعًا إلى لثغته الأولى.

نقصد الصوتَ الذي يحق لنا أن نتباهى به، والذي شاعت شهرته كـ «سيد البيد»، أو – كما يحلو لشاعرنا الماجد وصفه: أبانا طي الغيب؛ «الثبيتي، محمد ابن عوّاض»… وقد ذكر الماجد ذات حوار أن «القول بالنقاء المطلق للنص من العوالق النصية لآخرين كذبة». ونثني بالقول: «بل ضلالة».

والقصيدة-الجدارية في سعيها هذا، تحلق أكثر فأكثر من موقف الاستهلال بـ لازمةٍ على غرار مالك بن الرَّيب في «ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً …» كمدخلٍ أو متكأً للانتقال (على ما يبدو) إلى أغراضٍ أخرى من غزل محبوبٍ يتماثل لعين القلب، أو حنينٍ إلى أماكن وأزمنة ضاربة في الروح… إلى غير ذلك من أغراض الشعر… إلى أن ندرك أن ذلك الاستهلال بـما «غادر الشعراء من “مُترَّدم”» أي: بكل قولٍ أُحكم نسجه… أن “المُتردَّمَ” هو الغرضُ الشعري الرئيس، والعميم، والشامل، ولربما الوحيد؛ يكون سؤالًا عن مغزى الشعر وطبيعته وكنهه في حقائق الشاعر وفي طويته وضميره الإبداعي، نشهده في طور الكمون والتبلور ومن ثم نلمحه كلّما صلُبت مادته تطاير شظايا، ليعاود التذكير بنفسه عبر كل مفردة، أو إشارة، أو إحالة، أو صياغة تعبيرية أو مجازية لنرى، في نهاية الشوط أن الحديث عن الشعر بعامة والقصيدة موضع القراءة بخاصة، هو غرض القصيدة في عين ذاتها؛ نحن هنا في ملكوت ما وراء الشعر موازاةً مع ماورائيات الفن، ما ورائيات الصنعة، ما ورائيات الإبداع… يقول شاعرنا: «التاريخ والأسطورة وحتى الحكاية الشعبية طيور شفق أتت من الغيب لتسعفنا في تخليص القصيدة من ألمها وشوائب العادي واليومي…» ونردف قائلين؛ مصدقين لما بين أيدينا: القصيدةُ وملائكتُها (ونستميح شياطينها عذرًا) من الغيب تأتي وإليه تؤوب.

تلك هي إذن مرافعةٌ، لا ريب فيها، تبدأ وتباشر في تفكيك كل الأجوبة المنتجبة، والمرضي عنها وعليها… فتخلُص، أي هذه المرافعة التي تأتي في هيئة مبتكرة للقصيدة، بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من ذي قبل، بل فلنقلْ: «الأرجوزة المضادة التي تعلمك أن تنسى  ما وُرّثتَ من وصايا… وتعلمك أن لا تنساها في آن» … تخلُصُ إلى أن تفتت تلك الأجوبة كلَّها، من جديد: تفككها لتعيدَها إلى حيث يراها الشاعر الماجد في جوهرها اسئلةً لا تنتهي، لا يحب لها – في قرارة من نفسه – أن تنتهي: خوالجٌ وسواسيةٌ، وقلَقٌ «من تحته الريح»… إنما يوجهها الشاعرُ جنوبًا أو شمالًا، صَبا أو دَبورًا… مسترشدًا ببوصلةٍ ذاتية المرجع والولاء… بوصلةٌ صميمة، ومستقلة: هي في نهاية الشوط موئلُ حريتِه الإبداعية، وُمكتنفُها، وضمانةٌ وحيدة لكلِّ ما هو مائزٌ وفارقٌ في ما بينه وبين أترابِه ومعاصريه.

مقتطفات‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الجواميس‮»‬

ترجّلْ

عليكَ‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬ما‭ ‬تستحقُ‭ ‬ترجّلْ

فهذي‭ ‬القصيدةُ‭ ‬منذ‭ ‬البسوس

ولا‭ ‬خيلَ‭ ‬فيها

وهذي‭ ‬طرائدُها‭ ‬في‭ ‬الجبال

ولا‭ ‬ذئبَ‭ ‬إلا‭ ‬أخوك‭ ‬المهلهلْ

‭ ‬

ترجّلْ

وقُل‭ ‬للقصيدة

يا‭ ‬أختُ‭ ‬ماذا‭ ‬على‭ ‬الجَمْر

إن‭ ‬مسّه‭ ‬طارقُ‭ ‬الريح‭ ‬ليلًا

وماذا‭ ‬عليَّ‭ ‬وقد‭ ‬هاجني‭ ‬مطرٌ‭:‬

دونكَ‭ ‬البابَ،‭ ‬بابَ‭ ‬القصيدةِ،‭ ‬فادخل‭ ‬مُطِرتَ

وعرّج‭ ‬على‭ ‬نار‭ ‬ليلى

تعللْ

‭ ‬

ألا‭ ‬قيسَ‭ ‬في‭ ‬الدارِ؟

لا‭ ‬شِعْرَ‭ ‬تحت‭ ‬الخباء؟

ويا‭ ‬ليلُ‭.. ‬يا‭ ‬ليلُ

إني‭ ‬حملتكِ‭ ‬والشِّعرَ‭ ‬حمْلَ‭ ‬الهوادج

وارتبت‭ ‬في‭ ‬النوق

حتى‭ ‬لوين‭ ‬ذراع‭ ‬العشيِّ

وأردفنَ‭ ‬جمرًا

وكنتِ‭ ‬على‭ ‬الجَمْر

أمضى‭ ‬من‭ ‬النار‭ ‬نصْلًا

وأعجَلْ

‭ ‬

فهلّا‭ ‬شهرتِ‭ ‬لنا‭ ‬مطلعًا‭ ‬

من‭ ‬الشِّعْر‭ ‬نغمد‭ ‬فيه‭ ‬الكلامْ

وهلّا‭ ‬نصبتِ‭ ‬لنا‭ ‬شَرَكًا‭ ‬من‭ ‬يمامْ

‭ ‬

وطار‭ ‬اليمامْ

غناءً‭ ‬يهيّج‭ ‬حتى‭ ‬رخام‭ ‬المقابر

طار‭ ‬اليمام

‭ ‬

تحدث‭ ‬أبوك‭ ‬السحاب

‭-‬وماذا‭ ‬أقول؟

‭-‬قصيدةُ‭ ‬عشقٍ

دِلالٌ‭ ‬من‭ ‬الشِّعر

إمّا‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬عروق‭ ‬الربابة

فاض‭ (‬الحجازُ‭) ‬على‭ ‬ضفتيها

فأبكى‭ ‬وأثكَلْ

‭ ‬

مطالعُ‭ ‬تضربُ‭ ‬أوتادها‭ ‬في‭ ‬العراء

ومسرى‭ ‬ضباءْ

غيومٌ‭ ‬تعاودني‭ ‬كلّما

كسرتُ‭ ‬جراري‭ ‬على‭ ‬بئر‭ ‬ماء

بروقٌ‭ ‬تئنّ

وعشقٌ‭ ‬مزمّلْ

‭ ‬

كأن‭ ‬شتاءَ‭ ‬القصيدة‭ ‬باكَرنا‭ ‬بالبديع

وأنّ‭ ‬جناسًا‭ ‬أتانا‭ ‬محمّلْ

‭ ‬

عتبان‭ ‬اجانا‭ ‬الشتا‭ ‬وباقي‭ ‬بعطشنا‭ ‬رطِلْ

حسّبنا‭ ‬حسبة‭ ‬مطر‭ ‬حالوب‭ ‬ويسطِل‭ ‬سَطِل

والحسبة‭ ‬طلعت‭ ‬دغش‭ ‬والغيمة‭ ‬عميه‭ ‬وتطل

دلووول‭ ‬يا‭ ‬عزوتي‭ ‬دلووول‭ ‬شام‭ ‬وعرق

سهران‭ ‬لاني‭ ‬عنب‭ ‬وصبر‭ ‬ولاني‭ ‬عرق

هاخوتي‭ ‬طاح‭ ‬الحزن‭ ‬مشموم‭ ‬وترسه‭ ‬عرق

مدقوق‭ ‬دقة‭ ‬كحل‭ ‬والشدة‭ ‬منه‭ ‬بّطِل

‭ ‬

وفي‭ ‬البنِّ‭ ‬خضنا

وفي‭ ‬التّمر‭ ‬حتى‭ ‬جرى‭ ‬بيننا‭ ‬الوقتُ‭ ‬دارت‭ ‬رحانا

كلامًا‭ ‬مقفّى

وأوزانَ‭ ‬مِلنَ‭ ‬عليَّ‭ ‬كما‭ ‬المرضعات‭ ‬

بشقّين‭:‬

لي‭ ‬واحد‭ ‬ولمحولها‭ ‬واحدُ

لا‭ ‬يهمُّ

فلا‭ ‬شيءَ‭ ‬أشفى‭ ‬لقلب‭ ‬المحبِّ

ولا‭ ‬شيءَ‭ ‬أقتلْ

‭ ‬

فما‭ ‬بيننا‭..‬

ما‭ ‬الذي‭ ‬بيننا؟

برزخٌ‭ ‬من‭ ‬رمالْ

نهارٌ‭ ‬حِمارٌ

وليلٌ‭ ‬نشدّ‭ ‬إليه‭ ‬الرحالْ

يقلبنا‭ ‬قمرٌ‭ ‬غائرٌ‭ ‬في‭ ‬الجنوب

ويحرسنا‭ ‬قمرٌ‭ ‬ساهرٌ‭ ‬في‭ ‬الشّمالْ

فإما‭ ‬صحونا‭ ‬فحمّى‭ ‬نبيذٍ

وإما‭ ‬غفونا‭ ‬فأجساد‭ ‬آلْ

رقيمٌ‭ ‬من‭ ‬الأبجدية‭ ‬نحنُ

وكلبٌ‭ ‬لدى‭ ‬الباب‭ ‬يركلُ‭ ‬أحلامنا‭ ‬كالوسائدِ

كلبٌ‭ ‬مدللْ

‭ ‬

إذا‭ ‬ما‭ ‬خرجنا‭ ‬لصيد‭ ‬وضعنا‭ ‬عليه

فساقَ‭ ‬الفصيلَ‭ ‬إلى‭ ‬سَفْح‭ ‬غَيْم

فمنحدَرٍ‭ ‬من‭ ‬خيولٍ

ن

ز

و

لًا

إلى‭ ‬بطن‭ ‬وادٍ

ومال‭ ‬بنا‭ ‬ثم‭ ‬صاح‭: ‬العرارَ

وشقَّ‭ ‬قميصَ‭ ‬العرارِ

وأوغلْ

‭ ‬

تمهّل‭ ‬أخي‭ ‬يبن‭ ‬ستّين‭ ‬كلبٍ

تمهّلْ

‭ ‬

فهذي‭ ‬القصيدة‭ ‬منذ‭ ‬البسوس

ولا‭ ‬خيلَ‭ ‬فيها

وهذي‭ ‬طرائدها‭ ‬في‭ ‬الجبال

وعمّكَ‭ ‬شوّالُ‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يرعى‭ ‬سنامَ‭ ‬الهزيعِ

بخفّي‭ ‬خزامى

ومسكٍ‭ ‬ضريرٍ

ونارٍ‭ ‬تفتُّ‭ ‬ذراعَ‭ ‬البُخُورِ‭:‬

‭ ‬

هلمّا‭ ‬إليْ

أنا‭ ‬أختُ‭ ‬طيْ

‭ ‬

تمهّل‭ ‬أخي‭ ‬يبن‭ ‬ستّين‭ ‬كلبٍ

لنفتح‭ ‬بابَ‭ ‬الدخان‭ ‬قليلًا‭ ‬قليلًا

لعلَّ‭ ‬الدخان‭ ‬يرانا‭ ‬لعلْ

‭ ‬

وإني‭ ‬اعتمرت‭ ‬سحابًا

ودحرجت‭ ‬برقًا‭ ‬على‭ ‬مفرق‭ ‬الليل

علّي‭ ‬أرى

فرأيتُ‭:‬

رأيتُ‭ ‬مسيلَ‭ ‬الدخان

وريشَ‭ ‬اليمام

ونايًا‭ ‬تغنّي

وصوتَ‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬عريانَ‭ ‬أعزلْ

‭ ‬

وطار‭ ‬اليمامْ

غناءً‭ ‬يهيج‭ ‬حتى‭ ‬رخام‭ ‬المقابر

طار‭ ‬اليمام

‭ ‬

اتّئد‭ ‬يا‭ ‬امرأ‭ ‬القيسِ

حَسْبُك‭ ‬هذا‭ ‬الغناء‭ ‬المعمّرُ

حسب‭ ‬الأغانيْ

وحسبكَ‭ ‬هذي‭ ‬النساء‭ ‬اللواتي‭ ‬احتطبتَ

خلعن‭ ‬بجمرة‭ ‬أكبادهنَّ‭ ‬سماء‭ ‬اليمامة

سقفًا‭ ‬فسقفًا

وهنَّ‭ ‬حريقٌ‭ ‬بدومة‭ ‬جندلْ

‭ ‬

فماذا‭ ‬فعلنَ

لتحملهنَّ‭ ‬على‭ ‬هودج‭ ‬الليل‭ ‬هذا

وماذا‭ ‬ستفعلْ؟

‭ ‬بشِعْرٍ‭ ‬يمسّد‭ ‬أوجاعَهنَّ

ويطوي‭ ‬المخادع‭ ‬طيَّ‭ ‬الملولِ

بـــــــ‭ (‬حرٍّ‭) ‬و‭(‬مُرسَلْ‭)‬

‭ ‬

وماذا‭ ‬ستفعلْ؟

‭ ‬

وهنَّ‭ ‬نخيلُ‭ ‬القصيدة‭ ‬

أعلى‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬كعبًا‭ ‬وأطولْ

‭ ‬

ولا‭ ‬بابَ‭ ‬لليل

لا‭ ‬بابَ‭ ‬يدخلُ‭ ‬منه‭ ‬النهارُ‭ ‬سوى‭ ‬حائط‭ ‬من‭ ‬بغال‭ ‬وثيرانَ

فاكتب‭ ‬لِكلِّ‭ ‬غزالاتِ‭ ‬قلبكَ‭ ‬أنْ‭ ‬يطّرحن‭ ‬النهار

وقل‭ ‬للمساء‭ ‬تفسّح‭ ‬قليلًا

لكيما‭ ‬يمدّدن‭ ‬أطرافهنَّ

وراقب‭ ‬مساءك

راقب

تأملْ

‭ ‬

فلا‭ ‬شمسَ‭ ‬تفضحُ‭ ‬غاباتِ‭ ‬أسرارهنَّ

ولا‭ ‬ظلَّ‭ ‬يفلي‭ ‬رؤوسَ‭ ‬مناماتهنَّ‭ ‬صباحًا‭ ‬ليسألْ

‭ ‬

تمازحهنَّ‭ ‬بِشَهدٍ‭ ‬يسيلُ‭ ‬فصيحًا‭ ‬على‭ ‬شفتَيك

وتعضِلهنَّ

بمرٍّ‭ ‬وحنظلْ

‭ ‬

وتنهبُ‭ ‬حتى‭ ‬يفزَّ‭ ‬السُّليكُ

وتبذِلُ‭ ‬حتى‭ ‬يفزَّ‭ ‬السَّموألْ

‭ ‬

ومتّكأٌ‭ ‬أنتَ

متّكأٌ‭ ‬لا‭ ‬جِدالَ

سوى‭ ‬جدل‭ ‬أخضر

راح‭ ‬يطعنُ‭ ‬ظهركَ‭ ‬فيما‭ ‬يحاولن‭ ‬طرْد‭ ‬الكآبة‭ ‬عنكَ

ويهرشنَ‭ ‬موتَك‭.. ‬ذاك‭ ‬اللذيذْ

بخيلٍ‭ ‬معتقة‭ ‬كالنبيذْ

فتعوي‭ ‬عواء‭ ‬الغضا‭ ‬كلّما

استشاط‭ ‬الغضا‭ ‬واعتراهُ‭ ‬الحنيذْ

وتنسَلُّ

تهوي

تجندِلُ‭ ‬ظلّكَ

تطعنه‭ ‬طعنتَين‭ ‬فيبكي

وتعوي

فيبكي

وتصهلْ

‭ ‬وما‭ ‬زلنَ‭ ‬حتى‭ ‬رفعنَ‭ ‬سماء‭ ‬الكآبة‭ ‬عنك‭ ‬قليلًا

وعلّقنَ‭ ‬فيها‭ ‬حبالًا‭ ‬من‭ ‬الطير

غيمًا‭ ‬يحبّ‭ ‬الفكاهة

حلوى

جسورًا‭ ‬من‭ ‬الياسمين

قصائدَ‭ ‬حُبلى

ونهرًا‭ ‬من‭ ‬السَّرد

حتى‭ ‬إذا‭ ‬عُدنَ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلكَ

عُدنَ‭ ‬إليكَ‭ ‬بتاج‭ ‬العروس‭ ‬وغزْل‭ ‬البناتْ

يقلّبن‭ ‬ليلكَ

دفًّا

وقاتْ

وقوفًا‭ ‬عليكَ

بلحنٍ‭ ‬عتيقٍ

وصوتٍ‭ ‬يشدّ‭ ‬عروقَ‭ ‬البياتْ

فممَّ؟

وكيفَ؟

وحتامَ‭ ‬تلحن‭ ‬في‭ ‬نطق‭ ‬أسمائهنَّ؟

وهنَّ‭ ‬الخبيئاتُ‭ ‬تحت‭ ‬لسانكَ

ينتفن‭ ‬ريشَ‭ ‬الحروفِ

ويسلخنَ‭ ‬جلدَ‭ ‬القصيدة

حتى‭ ‬تنزَّ‭ ‬ديوكًا

فتهتاجُ‭ ‬كلُّ‭ ‬الحظائرِ‭:‬

هيّا‭ ‬بنا‭ ‬يا‭ ‬ديوكُ

بنا‭ ‬يا‭ ‬إوزُّ

بنا‭ ‬يا‭ ‬جِراءُ

بنا‭ ‬يا‭ ‬سمندَلْ

‭ ‬

قبيلًا‭ ‬قبيلًا

دروعًا‭ ‬من‭ ‬الأبجدية‭ ‬نهوي

ندافع‭ ‬عن‭ ‬سور‭ ‬هذي‭ ‬القصيدة

عن‭ ‬أرضها‭ ‬أو‭ ‬نموتُ

كحَبِّ‭ ‬حصادٍ‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬منجلْ

‭ ‬

نقصُّ‭ ‬أبانا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يومًا

يقصّ‭ ‬لنا‭ ‬أثرَ‭ ‬النائمات

على‭ ‬ركبتَيها‭ ‬بـــــ(‬دارة‭ ‬جَلجَلْ)‬

‭ ‬

فيعقر‭ ‬يومًا

ونعقر‭ ‬يومًا

وهنّ‭ ‬على‭ ‬الماء‭:‬

سربٌ‭ ‬يغطُّ

وسربٌ‭ ‬يطيرُ

وسربٌ‭ ‬يُؤلْ

‭ ‬

وطار‭ ‬اليمامْ

غناءً‭ ‬يهيج‭ ‬حتى‭ ‬رخام‭ ‬المقابر

طار‭ ‬اليمام

‭ ‬

ويمضي‭ ‬الحريقُ‭ ‬بهنَّ‭ ‬بعيدًا‭ ‬وتمضي

فإما‭ ‬انطفأن‭ ‬سكبتَ‭ ‬عليهنّ‭ ‬زيتًا‭:‬

‮«‬فمثلكِ‭ ‬حُبلى‭ ‬قد‭ ‬طرقتُ‭ ‬ومرضعٍ‮»‬

وقلّبتهن‭ ‬صفيفَ‭ ‬حروفٍ

بمدٍّ‭ ‬رقيقٍ

وضمٍّ‭ ‬رفيقٍ

وشدٍّ‭ ‬صفيقٍ

ومَيل‭ ‬بغنى

فلا‭ ‬أنتَ‭ ‬أنتَ

ولا‭ ‬هنَّ‭ ‬هنَّ

وأنتَ‭ ‬تجوس‭ ‬خلال‭ ‬المثنى

فهات‭ ‬الصفيفَ‭ ‬وقد‭ ‬خرَم‭ ‬السَّمنُ‭ ‬أذنَيهِ

ذابت‭ ‬يداهُ

وأولِم

تمنى‭:‬

حييٌّ‭ ‬تمشّى‭ ‬كمشي‭ ‬السحاب

وأخرى‭ ‬لعوبٌ

كُمثرى‭ ‬مُبلّلْ

‭ ‬

مساءُكَ‭ ‬عرسٌ‭ ‬إذن‭ ‬يا‭ ‬مرأ‭ ‬القيس

عرسٌ‭ ‬يليق‭ ‬بأبهى‭ ‬أميرٍ

حريقٌ‭ ‬من‭ ‬الفاتناتِ

رمادٌ‭ ‬يضيء

ولكنّ‭ ‬صُبحَكَ‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬أرملْ

‭ ‬

فممَّ‭ ‬الحريقُ؟

انطفئ‭ ‬يا‭ ‬صديقي

انطفئ‭ ‬أو‭ ‬تحوّلْ

‭ ‬

أتحسبُ‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬بيننا‭ ‬محضَ‭ ‬شِعْر؟

كلامٌ‭ ‬يعيد‭ ‬الذكورَ‭ ‬لأحضان‭ ‬زوجاتهم‭ ‬دون‭ ‬أسلحة

سعداءَ

ودودينَ

متّكئينَ‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬المجازْ

وبحرٍ‭ ‬طويلٍ

تنام‭ ‬على‭ ‬ضفتَيه‭ ‬بناتُ‭ ‬الحجازْ

أتحسبُ‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬بيننا‭ ‬محضَ‭ ‬فاصلة؟

ليكن

ولتكن‭ ‬فرسٌ‭ ‬أزرقٌ

ريشةٌ‭ ‬من‭ ‬جناح‭ ‬القصيدة

تلك‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تحمل‭ ‬أوجاعنا‭ ‬من‭ ‬عكاظَ‭ ‬إلى‭ ‬ذي‭ ‬المجازْ

وماذا‭ ‬ستحسبُ‭ ‬أيضًا‭ ‬لتحسبَ‭:‬

حَبُّ‭ ‬القرنفلِ

عِلكُ‭ ‬اللِّبان

وخوف‭ ‬النعام‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬عبرن‭ ‬هزيعَ‭ ‬النفوذ‭ ‬إلى‭ ‬حلم‭ ‬بازْ

أتحسبُ‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬بيننا‭ ‬محضَ‭ ‬صيدٍ؟

أعمُّ‭ ‬من‭ ‬الصَّيد

أدهى‭ ‬وأنكلْ

‭ ‬

فهيّا‭ ‬تعالَ

تعالَ‭ ‬هزيمًا‭ ‬من‭ ‬الرعد

سيلًا‭ ‬من‭ ‬اللعناتِ

ووفّر‭ ‬يدَيكَ‭ ‬لِسَوط‭ ‬ومعولْ

‭ ‬

كلانا‭ ‬سيضرب‭ ‬أنفَ‭ ‬القصيدة‭ ‬حتى‭ ‬تفيء‭ ‬إلى‭ ‬مطلعٍ

بين‭ ‬أم‭ ‬الرباب‭ ‬وأم‭ ‬الحويرث

بين‭ (‬الهجيني‭) ‬وبين‭ ‬الغناءْ

كسولٍ

كحناءَ‭ ‬تمشي‭ ‬على‭ ‬سُلَّم‭ ‬أبيض‭ ‬في‭ ‬المساء

قطاةٌ‭ ‬تفلّي‭ ‬قطاةً

وضبيٌ‭ ‬تناور‭ ‬ضبيًا

وسهمٌ‭ ‬نبيلٌ

ومرمى‭ ‬سفرجلْ

‭ ‬

وطار‭ ‬اليمامُ

غناءً‭ ‬يهيّج‭ ‬حنى‭ ‬رخامَ‭ ‬المقابر

طار‭ ‬اليمام

‭ ‬

وعاد‭ ‬عليَّ‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس

عاد‭ ‬بجَمْرٍ‭ ‬ومنقلْ

‭ ‬

فأوقد‭ ‬نارًا

وأشعلَ‭ ‬بيتًا‭ ‬كذيل‭ ‬الثريا

أضاءَ‭ ‬صدورَ‭ ‬المطيّ‭ ‬لنا

ثم‭ ‬أكملْ

‭ ‬

فهبّت‭ ‬علينا‭ ‬نؤومُ‭ ‬الضحى

هودجًا‭ ‬هودجًا

ورويًّا

رويًّا

وثنّى‭ ‬بأخرى

فكبّر‭ ‬فينا‭ ‬بعيرٌ‭ ‬وهللْ‭:‬

‭ ‬

‭-‬سلامٌ

‭-‬سلامًا

‭-‬‮«‬أمِن‭ ‬أمِّ‭ ‬أوفى‭..‬؟‮»‬

‭-‬وحِرنا‭ ‬قليلًا

فكفكف‭ ‬طيرًا‭ ‬على‭ ‬منكَبَيه

وعضَّ‭ ‬لِجامَ‭ ‬النَّسيم‭ ‬فأقبلْ‭:‬

‭ ‬

ياطيب‭ ‬طاريه‭ ‬من‭ ‬يسري‭ ‬أشمّن‭ ‬وعِل

جلوة‭ ‬رياحين‭ ‬طبها‭ ‬الذيب‭ ‬وجفلة‭ ‬وعل

ياليت‭ ‬ساريه‭ ‬كود‭ ‬اللّيت‭ ‬تنفع‭ ‬وعَل

يطبقني‭ ‬راحات‭ ‬وبقلبي‭ ‬يجر‭ ‬سامره

بردانه‭ ‬لدفوف‭ ‬وبحضان‭ ‬الجمر‭ ‬سامره

عافن‭ ‬هوا‭ ‬البيض‭ ‬وصاحن‭ ‬حيل‭ ‬يلسامره

جلهن‭ ‬نثايا‭ ‬وما‭ ‬بيهن‭ ‬خلافَك‭ ‬وعِل

‭ ‬

ترجّل

عليكَ‭ ‬من‭ ‬الشِّعر‭ ‬ما‭ ‬تستحق‭ ‬ترجّلْ

‭ ‬

فأنتَ‭ ‬على‭ ‬كلِّ‭ ‬حال‭ ‬ولِدتَ‭ ‬وحيدًا

وتحيا‭ ‬وحيدًا

وأنت‭ ‬على‭ ‬كلِّ‭ ‬حال‭ ‬ستنطح‭ ‬شِعْركَ‭ ‬نطح‭ ‬الجواميس‭ ‬أفراخَ‭ ‬بطٍّ

وترحلْ

‭ ‬

مساءَ‭ ‬الجواميسِ‭ ‬يا‭ ‬شعراءُ

مساءَ‭ ‬البلاغةِ

أهلًا‭ ‬وسهلًا

‭ ‬

فهذي‭ ‬القصيدةُ‭ ‬منذ‭ ‬البَسوس

ولا‭ ‬خيلَ‭ ‬فيها

وهذي‭ ‬طرائدُها‭ ‬في‭ ‬الجبال

ولا‭ ‬ذئبَ‭ ‬إلا‭ ‬أخانا‭ ‬المهلهلْ

‭ ‬

إذا‭ ‬ما‭ ‬انتبذنا‭ ‬رعى‭ ‬الشاة‭ ‬عنّا

وقال‭ ‬عن‭ ‬الذئب

ثم‭ ‬محا‭ ‬القولَ

ثم‭ ‬سقانا‭ ‬به‭ ‬شربتَينِ

وطار‭ ‬الشرابُ

وما‭ ‬زال‭ ‬فينا‭ ‬من‭ ‬الذئب‭ ‬مرجلْ

‭ ‬

‮«‬جعلت‭ ‬لعراف‭ ‬اليمامة‭ ‬حكمه

وعراف‭ ‬نجد‭ ‬إن‭ ‬هما‭ ‬شفياني

فما‭ ‬تركا‭ ‬من‭ ‬رقية‭ ‬يعلمانها

ولا‭ ‬شربة‭ ‬إلا‭ ‬بها‭ ‬سقياني‮»‬

‭ ‬

مساءَ‭ ‬الجواميس‭ ‬يا‭ ‬شعراءُ

مساء‭ ‬الجواميس‭ ‬يحرثن‭ ‬أرض‭ ‬القصيدة

شطرًا‭ ‬فشطرًا

وبيتًا‭ ‬فبيتًا

فتصفرّ‭ ‬حينا

وتخضرّ‭ ‬حينا

وتمطر

تمسكُ،‭ ‬ترغو،‭ ‬تفح،‭ ‬تغني

مخمورةٌ

تستثير‭ ‬النبيذَ‭ ‬فيزبدّ

حتى‭ ‬إذا‭ ‬مالَ

مالَ‭ ‬كخَصْر‭ ‬الأميرة‭ ‬ميلًا‭ ‬كسولًا

فأوحَى‭ ‬وسوّلْ

‭ ‬

تمرُّ‭ ‬كشهر‭ ‬من‭ ‬الخمر‭ ‬هذي‭ ‬القصيدة

مقطورةً‭ ‬بالجواميس

شهر‭ ‬وأطول

‭ ‬

ومهما‭ ‬تقول

ومهما‭ ‬تأول

‭ ‬

ستولد‭ ‬هذي‭ ‬القصيدة

أخت‭ ‬الجواميس‭ ‬هذي‭ ‬ستولَدُ‭                                                                                                        ‬‭        

منحوتةً‭ ‬بكلام‭ ‬غزيرٍ‭ ‬كشفرة‭ ‬سَيْلٍ

ومجبولةً‭ ‬من‭ ‬عظام‭ ‬القيامة

مطعونةً‭ ‬بالخيول

فهودٌ‭ ‬من‭ ‬البرق‭ ‬تهوي‭ ‬على‭ ‬ساعديها

جبالٌ

مواقدُ‭ ‬طيرٍ

تصوّفُ

رعدٌ‭ ‬سحيقٌ

مغولٌ

سياطُ‭ ‬ملائكة‭ ‬واجمينَ

سحابٌ‭ ‬يحث‭ ‬عليها‭ ‬السحابَ

وبدرٌ‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اعترته‭ ‬استهلْ

‭ ‬

‭(‬أيا‭ ‬دارَ‭ ‬ليلى‭…)‬

ألا‭ ‬نارَ‭ ‬ترعى‭ ‬بوادي‭ ‬العَقيقِ

ولا‭ ‬نايَ‭ ‬يعبُر‭ ‬حلمَ‭ ‬الحجَلْ

‭ ‬

‭(أيا‭ ‬دارَ‭ ‬ليلى‭…)‬

وما‭ ‬طار‭ ‬بيتٌ‭ ‬من‭ ‬الشّعر

إلا‭ ‬رأته‭ ‬نياقٌ‭ ‬لليلى‭ ‬فهاجت‭ ‬حنينًا

وخرَّ‭ ‬وأرغى‭ ‬رغاءَ‭ ‬الجمَلْ‭:‬

‭ ‬

مِلْ‭ ‬بنا‭ ‬يا‭ ‬جملُ

فِضّةٌ‭ ‬تغتسلُ

تحت‭ ‬أشجار‭ ‬الصبا

والصبا‭ ‬يشتعلُ

سادِرٌ‭ ‬فيها

غويٌّ

ثَمِلُ

وخلاخيلٌ‭ ‬لها

خاض‭ ‬فيها‭ ‬الرمَلُ

كلّما‭ ‬مسَّ‭ ‬قبيلًا‭ ‬أعولوا‭:‬

هاتها‭ ‬واعتدلوا

مِلْ‭ ‬بنا‭ ‬يا‭ ‬جملُ

وهزيعٍ‭ ‬صبّها

مُرّةً‭ ‬فاقتتلوا

ثم‭ ‬دالَت‭ ‬دولُ

ذلَّت‭ ‬الريحُ‭ ‬لنا

من‭ ‬بعدها‭ ‬والسُّبلُ

وتعرّت‭ ‬قُبَلُ

فانتهبْها

انتهب‭ ‬يا‭ ‬جملُ‭!!‬

‭….‬

أيبدو‭ ‬بأني‭ ‬خرجتُ‭ ‬عن‭ ‬الوزن

أغوى‭ ‬نياقيَ‭ ‬هذا‭ ‬الجملْ

‭ ‬

فكيف‭ ‬أعودُ؟

وما‭ ‬زال‭ ‬يرغو‭ ‬ويزبد‭ ‬حتى‭ ‬تثلّم‭ ‬شدقاه

كيف‭ ‬أطبّبُ‭ ‬جُرح‭ ‬القصيدةِ

سمعتَها‭ ‬كلّما‭ ‬مرَّ‭ ‬رهطٌ

وقال‭:‬

كسَرتَ‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬زحفتَ‭ ‬هنالكَ

‭ ‬

ليس‭ ‬مهمّا‭ ‬

فذلك‭ ‬شأن‭ ‬الخليل‭ ‬يعالج‭ ‬مرضاه‭ ‬من‭ ‬قلق‭ ‬الوزن

مرضى

ملاحدةٌ‭ ‬طيبونَ

فدعهم‭ ‬يلوكون‭ ‬إيمانها

يكسرون‭ ‬مواعينهم‭ ‬فوق‭ ‬أعتابها

يطفئون‭ ‬ابتساماتها‭ ‬برؤوس‭ ‬السجائر

دعهم

وصلِّ‭ ‬لهم‭ ‬إنهم‭ ‬تائهون

ودربُ‭ ‬القصيدة‭.. ‬هذي‭ ‬الرسولة

دربٌ‭ ‬زلِقْ

‭ ‬

فأوقد‭ ‬لهم‭ ‬نارها‭ ‬كي‭ ‬يروها

وماطل‭ ‬دفوفكَ‭ ‬بالجمر‭ ‬حتى‭ ‬ترِقْ

‭ ‬

وغنِّ

وأشعل‭ ‬أصابعهم‭ ‬بالأغاني

برمش‭ ‬مريضٍ‭ ‬ونهْدٍ‭ ‬قلِقْ

‭ ‬

وغنِّ‭:‬

بربك‭ ‬حدّثت‭ ‬ليلى؟

أما‭ ‬زالَ‭ ‬قيسٌ‭ ‬يجمّرُ‭ ‬أعراسها‭ ‬كلَّ‭ ‬ليلٍ

ألَم‭ ‬يحترقْ؟

وما‭ ‬بالُ‭ ‬ليلى

إذا‭ ‬ما‭ ‬انتضاها‭ ‬وأغمدَ‭ ‬فيها‭ ‬نصالَ‭ ‬الكلام

استشاطت‭ ‬بروقًا

وزمّت‭ ‬عُراها‭ ‬ببيتٍ‭ ‬شبِقْ

‭ ‬

وغنِّ

ابتهاجًا‭ ‬بكل‭ ‬اللواتي‭ ‬همزن‭ ‬مجامرها

ثم‭ ‬هِجن‭ ‬بخورًا،‭ ‬دفوفًا،‭ ‬هياكلَ

نيران‭ ‬أغنية‭ ‬لا‭ ‬تنامْ

‭ ‬

تشبّ‭ ‬

ونطفئ‭ ‬أعقابها‭ ‬بالمدامْ

فتسقط‭ ‬كالحظ‭ ‬منّا

وتنهضُ‭ ‬ثانيةً

‭-‬كيف‭ ‬أنتِ؟

‭-‬لــقحطان‭ ‬ضحكي،‭ ‬وحزني‭ ‬ليامْ

‭ ‬‭-‬ونومُكِ؟

‭-‬نومُ‭ ‬القطا‭ ‬في‭ ‬وجَلْ

‭ ‬تمرُّ‭ ‬كشهر‭ ‬من‭ ‬الخمر‭ ‬هذي‭ ‬القصيدة

مقطورةً‭ ‬بالجواميس

شهرٍ‭ ‬وأطولْ‭ ‬

‭ ‬2023

في أوصاف المهد وحالاته

في أوصاف المهد وحالاته

«نص مشترك» مع المعلّم الشيخ ‎إبراهيم بن ناصيف اليازجي *

رجفةُ المهدِ على الوليد؛

كالشجرة إذا مسّتها الرِّيحُ،

ومعها الأَرض.

خوفُ المهدِ على الوليد؛

واستطيَرَ فؤادُكَ من الذعر وفرائصُك.

تذكّرُ المهدِ للوليد؛

وشغلْتَ شعابَ قلبك.

غفلةُ المهدِ عن الوليد؛

رحلتُكَ في السهوِ

لا تكتملُ إلا بفُجاءةٍ وأخرى.

ممازحةُ المهدِ للوليد؛

يا حلوَ الشمائل

وإن لك لمزحًا يضحكُ المحزون.

حَمْلُ المهدِ للوليد؛

ثمرُ الشجرة،

وما يُحْمَل كحملِ العِنَبِ بين يدين.

ركضُ المهدِ بالوليد؛

وأنتما تجريان في عِنان.

سَرَحانُ المهدِ في الوليد؛

وجسسْته بعينك،

وآنسَكَ إيناسًا.

تَوَهانُ المهدِ في الوليد؛

فِكرُك في بريةٍ، مولهًا،

غلبَكَ حزنٌ وتِهتَ في شِعاب.

لَعِبُ المهدِ مع الوليد؛

ويكون بك الـمَوْجُ شهرًا.

غفوةُ المهد عن الوليد؛

يا نَوْمانُ أناديك،

وإنك لتغطُّ في منامك.

معانقةُ المهدِ للوليد؛

التزمْتَه وأدنيتَ عُنُقَك من عُنُقِه،

وقيلَ في مودّة.

كفكفةُ المهدِ دمع الوليد؛

قمتَ بمسحِهِ وكفِّهِ

مرةً بعد أخرى.

مناغاةُ المهدِ للوليد؛

كلامٌ ما لِحُسنه نهاية

وكأن لفظَك ممرُّ الصبا على العذبات.

مساررةُ المهدِ للوليد؛

وجعلتَ سرَّكَ في خزائنه

نجيّكَ الذي استكتمته الخبر.

تعبُ المهدِ من الوليد؛

لا يذوقُ للدّعة طعمًا

ولايتأففُ من الكلال.

شوقُ المهدِ إلى الوليد؛

يستوقده، لا يمسحُ أعشارَ قلبه بيدِ السلو

ولا أصبحَ نزوعُهُ إليه نزوعًا عنه.

شفقةُ المهدِ على الوليد؛

وأدركَتْك عليه رقةٌ

وآواهُ ظلُّ رحمتك.

كَمَدُ المهدِ على الوليد؛

كاسفُ البال متغيرُ اللون.

نظرةُ المهدِ إلى الوليد؛

من مُحبٍّ ذي عَلَق.

أخذُ المهدِ للوليد؛

تناولْتُه لاعبًا جادًّا وهزلًا.

حَضْنُ المهدِ للوليد؛

وهو البشارةُ، والعلم.

حنانُ المهدِ على الوليد؛

بالتثنيةِ كان،

حنانًا بعد حنان.

حَدَبُ المهدِ على الوليد؛

وكنتَ طائرًا تخفضُ له الجناح.

هدهدةُ المهدِ للوليد؛

وتُحرِّكه في مُهْدَته باللين

وبالترقق.

ميلُ المهدِ إلى الوليد؛

وأرى لك مَيْلةً إليه

بالودِّ موصولة.

تشبّبُ المهدِ بالوليد؛

وتقولُ فيه عذبَ الكلام.

* هو المعلّم الشيخ إبراهيم بن ناصيف اليازجي (١٨٤٧ – ١٩٠٦م)، من آباء اللغة العربية المعاصرة وأسباب نهضتها، وصاحب معجم «نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد» الذي يأتي هذا النص بإلهامٍ منه.