مشقّةُ الإياب

مشقّةُ الإياب

إلى الصديقات والأصدقاء؛ كنا في مدينة سيدي بوسعيد*

الأزرق

الأمرُ ليس في سياجِ شرفةٍ طُلِيَ بالأزرقِ المهادن لئلا يفرَّ من مكانِه ليس في قهوةٍ انفتحَت لنا كبئرٍ بين الجبال، ليس في وَردٍ استطاعَ البقاءَ على أغصانِه حافظَ على رزانتِه ولم يغادر، الأمرُ ليس في بحرٍ مجّدَ زرقتَه وغلّفَها بالتماعاتِ شمسٍ وقدّمَها بهدوءٍ لنا، كذلك ليس في ضحكاتٍ واصلَت القفزَ من أفواهِنا لتعودَ إلى البحر، وليس في أغانٍ ردّدناها معًا نحتمي بها ونصنعُ بها مسافةً كافيةً تُبعِدُنا عن الجُرف؛ الأمرُ ليس كلَّ ذلك لنجدَ أنفسَنا عالقينَ بذاك الصباح بهجتُهُ ناشبةٌ في الحلق ولن تهبَّ لنجدتِنا طاولاتٌ أو منافض، لن يشدَّ قمصانَنا أو يعيدَنا ثانيةً إلى الأرض اتساعُ عيونِ كاميراتٍ، الأمرُ أننا سننتفضُ ونلمعُ في هواءِ الذكرى إلى الأبد، وربما كانَ الأمرُ أنّ الظلَّ الذي أحكمَ علينا أكمامَه لم يكفَّ عن التلويح ولم ينتبهْ له أحد.

24 يونيو 2022م

غيمُ المصافحات

يباغتُني غيمُ المصافحاتِ الذي يتصاعَدُ ويظلّلُنا، يتبعُنا أينما ذهبنا. لا أنتبهُ للشجرِ يفقدُ أعصابَهُ ويخرجُ عن أغصانِهِ وأوراقِه، ويتفرّعُ أكثر، لا أضعُ في حساباتي أنّ قُماشَ أشرعتي يمكن أن يتمزّقَ في تلك اللحظةِ التي يعصفُ بها ما يتهدّمُ من جدرانٍ داخلي لا أعرفُ مَن أقامَها أو متى، لكن لم يفتْني إدراكُ أننا كنّا نفيضُ ونمتدُّ ساحبينَ كلَّ ما يصادفُنا مِن ابتساماتٍ وقمصانٍ وفساتينَ ولونِ بَشَراتٍ وقصّاتِ شعرٍ ونوافذَ وصمتٍ محروثٍ وقصائد؛ ما لم أتوقعْهُ أبدًا هو أن ترفضَ، أصواتُنا وبحّاتُنا ونبراتُنا التي كانت على مقاسِ ذهولِنا، ونظراتُنا الطويلةُ الواسعة وضحكاتُنا، العودةَ معنا وتحرُنَ هناك. ما لم يَدُر في البالِ أن أتمدّدَ في سريري، وأن يكونَ غيمُ المصافحات الذي صار داكنًا أكثر معلّقًا بالسقف، أن يشقَّهُ برقٌ.. ويمطرَ هكذا
مطرًا همجيًّا.

24 يونيو 2022م

تمشي وتمشي

أنت تمشي بين ملاعقَ وشُوَكٍ، وتثبُ فوقَ هدنةِ سكاكين. أنت تمشي وتعبُرُ بين أطباقٍ ومناديل، لا تعوقُكَ قهقهةُ صديقٍ ولا تعدَم طريقة لتجاوُزِ نظرةٍ بعيدةٍ لآخر. أنتَ تغذُّ السيْرَ في أزرق بركةٍ وتشدّدُ قبضتَكَ على حبلٍ تتعلق به لتتخطَّى لهجةَ النادلِ العميقة، لكنّكَ تمشي تَطوِي منافضَ وقدّاحاتٍ ومظلّاتٍ ومقاعدَ وطاولاتٍ. تمشي وتلتفتُ أحيانًا لتقدّرَ كم قطعتَ من مفاتيح غُرفٍ، كم بقيَ من زَهْرِ موظّفةِ استقبال، وكم عليكَ أن تقفَ وتقدّرَ الجهةَ الصحيحة في مُفترَقِ ابتسامتِها، ونبرتِها وأقراطِها.. لكنّكَ تمشي غيرَ عابئٍ أنّك ربما تضيعُ، غيرَ عابئٍ بقلقِ قمصانِكَ ونداءاتِها العالية. كأنك لا ترى نسائمَ بحرٍ يضعُها في طريقِك، يحاولُ إعادةَ خَطوِكَ إلى الأرض؛ إعادتَكَ إلى سويّتِكَ، إلى حقيبةٍ معلّقةٍ بكتفِك سئمَتْ عدمَ إصغائِكَ لها، غيرَ معترفٍ بحقائبَ جاءَت معك تقفُ على الأهبةِ في غرفتِك، لكنّكَ تنكرُها بشدّةٍ وأنت تمشي وتمشي وتمشي وتمشي.

24 يونيو 2022م

الذي فاضَ عن قميصِه

لم نكن بحاجةٍ لاقتلاعِ صخْرِ الجبال، ولم تكن خُضرةُ أشجارِها ملحّةً علينا، رخامُ «المدينة الثقافية» كان كافيًا لإزالةِ الأشواك لأصلَ على مهلٍ إلى حنطةِ بَشَرتِها دونَ عائق، حتى إني عرفتُ بكلِّ سهولة أنّها قادرةٌ على حمْلِ ابتسامتِها من روحِها إلى فمِها، وأنها لا تجدُ صعوبةً أبدًا في نقْلِ حلقةِ الكعك وإيصالِها سريعًا إلى يدي كأنها ريشة، كانت تنفضُ بنبرتِها غبارًا تراكمَ بكثافةٍ على روحي لسنوات، وكانت تنفثُ دخانَ سيجارتِها الإلكترونية خطْفًا، كأنّ مفرقَ شعرِها سيشي باستدارةِ كتفِها، كأنّه سيُفشِيها وكأنّ خطوطَ قميصِها رسالةٌ لم تُحسِنْ إخفاءَ حروفِها، أو أنها أرادتْها واضحةً.. وكان يعنيها كثيرًا أن تُحدِثَ سدًّا بضحكتِها؛ لتجمعَ هذا الذي فاضَ عن قميصِهِ. تعدّدَ في ذراعٍ مُورِقٍ، استندَ إلى ذراعٍ ثم فاضَ برغوتِهِ كلِّها مِن حلمِهِ؛ ليخرجَ غزيرًا ووحيدًا مِن بابِ نظرتِهِ الواسع الذي بلا سقف.

25 يونيو 2022م

ما يتركُهُ الغريب

تركْنا هناك أكوامًا من الضحك، سيحتاجونَ جرّافاتٍ.. سيحتاجونَ وقتًا طويلًا لإزالتِها، تركْنا ظلالًا على حجارةِ طُرُقِها، لُهاثًا ثقيلًا على الدَّرج، تركْنا كلامًا أزرق وصمتًا أبيض يهفهفانِ في الهواء، تركناهما لم يسعفْنا الوقتُ ولا سعةُ الحقائب، تركْنا ورْدَ الباعةِ وصقورَهم ونداءاتِهم والفساتينَ التي تمشي وحدَها والقبعاتِ المروّضة، تركنا اللغطَ متناثرًا هنا وهناك لم يكن فيه ما يُغرِي بحمْلِه. تركْنا ما يتركُهُ الغريبُ مِن لوعةٍ ومِن دهشةً، لم يعُد في وسعِهِ حمْلُها فذرّاها للطيرِ وللعيون؛ وتركْنا البحرَ أدرْنا لهُ ظهورَنا… فقد فاتَ أوانُ أن نصبحَ زرقةً أو سمكةً فيه، أو موجًا أو حتى رملًا كامدًا بجوارِه.

25 يونيو 2022م

حافيةٌ على الهواء

لم تكن بنا حاجةٌ للكتابةِ على الأشجار فقد كانت وحدَها تتحدّث، لا توارِبُ خُضرةً ولا تنهرُ غصنًا التَوَى أكثرَ يومَ صدعَ فستانُها بحمرتِهِ ويومَ هَبَّ فمُها بالشِّعر. تحلِّقُ فوق المسرح وتبتعدُ قليلًا، ثم تعودُ واحدةً من نغماتِ الغيتار نغمةً تظلُّ تتصادَى لتُسقِطَ ما جئنا به على ظهورِنا. الغيتارُ الذي يعرفُها ويحبُّها كلما أقبلَت يفرحُ ويصرخُ من أقصى وترٍ فيه. لا تَعرفُ متى تنسلُّ ومتى تعودُ حافيةً على الهواء، لا تحطُّ على تصفيقٍ ولا تتمسّكُ بعيونِ كاميراتٍ كان بعضُها يرتشفُها بصوتٍ؛ هي الفراشةُ الفسفوريةُ بضوءِ قوائمِها ووجهِها.. بجناحيها الواسعينِ تحفُّ بهما المكان.. بخطوطِ ابتسامتِها الذهبية، بقبّعتِها القصيدةِ ذاتِ الشذرات. وهي الغيمةُ التي أينما ترحّلَت أو أقامَت دائمًا تَهمي.

26 يونيو 2022م

ماريان

ماريان لا تذهبُ إلى البحر، تستطيعُ أن تراها واقفةً ولن يكونَ صعبًا أن ترى صُحبتَها شجرةً، مع ذلك ماريان لا تذهبُ إلى البحر، تضعُ وِشاحَها على كتفيها مثلَ علامةٍ حتى لا تضيعَ منها نظرتُها التي تهذّبُ بها أشجارَها غيرَ المرئية، حتى تهتديَ إليها بُحيرتُها إذا ضلَّت وحتى تعرفَها الأغصانُ والأوراقُ الطافيةُ هناك، وتعرفُ جيّدًا أنّ ماريان لا تذهبُ إلى البحر لأنها كثيرًا ما تواربُ عينَها لتقتربَ أكثرَ من جذعِها الأول، ولأنّ بياضًا اقتحمَ شَعرَها دون إذْن ولم تقل له شيئًا. تنشغلُ ماريان أحيانًا بالتقاطِ الوجوهِ وإيداعِها في حقيبتِها، ولا تتورّعُ عن ردِّ التحيةِ للنجمة إذا ما لمعَت باسمِها، لكنّها لا تَعفُّ عن ظلٍّ أو كتاب ولا شاشةِ هاتفٍ نقّال، ولا تُعنَى أبدًا بسؤالِ نفسِها لماذا برُغمِ كلِّ عُمقِها الواضح الذي بلا قعر لماذا لا تذهبُ إلى البحر؛ لماذا ماريان لا تضحّي بشيءٍ من وقتِها أو مائِها أو ريشِ ابتسامتِها الخاطفة والبعيدة. لماذا لا ترتكبُ زعنفةً واحدةً وتذهبُ لو مرّةً إلى البحر.

والبحرُ يدعو ماريان إلى وجهِهِ يفتحُ لها مياهَه، يُرِيها وميضَ قلبِهِ الأزرق يجهشُ وينتظر، لكنّ ماريان تَسدِلُ قصيدتَها عليها لتعذُبَ وتشعَّ أكثر. تنصرفُ إلى كلِّ مكانٍ إلى كلِّ جهةٍ إلا جهةَ البحر؛ لأنها ماريان التي تُصغِي جيّدًا بكلِّ ما أُوتِيَتْ مِن ملامحَ إلى ظلِّها لكنّها لا تفكّر أن تذهبَ إلى البحر.

27 يونيو 2022م

زفّةُ العروس

يخرجنَ من تسريحاتِ الشَّعر يعبرن من ألوان الفساتين، يقرعن الدفَّ يدخلن فيه ويُصغين إلى نبضِ قلبِه إلى ما كان يودُّ منذ زمنٍ أن يسألَه أحدٌ عنه، يُطلقنَ أصواتًا كادت تذبل وتيبس في دخائلِهن. كُنَّ يغسلن بالضحكاتِ حجارةَ الطريق، كُنّ يجابهنَ الوحدةَ التي طالت بأحمرِ شفاهٍ أو أغنية. يُعِدْنَ إلى الأجسادِ ألسنتَها، يردّدنَ بالخَطْوِ إيقاعًا لم يكن يومًا غيرَ انكسارِ قيدٍ غيرَ خروجٍ على الشبكة وتحرُّرٍ من الطُّعْم؛ يلتفتن إلى الواحدة ليعرفن أين بلغَت في لمعتِها، وكم قطعَت من الوسوسة.. هل شَقَّت حجارتَها هل نبتَ لها ريشٌ لتؤدي الأفواهُ كلَّ ما جاءت من أجلِه؛ يخرجنَ من الكُحلِ ومقابضِ الشَّعر من حُمرة الوجناتِ من فصوصِ الخواتم من همسِ الخلاخلِ ومن العقودِ من الأقراطِ والقبعات المزركشة.. يُيمّمن صوبَ البحر يقلنَ له: جئناك أيها البحر بزرقتنا العالية جئناكَ جئناكَ فانظرْ إلينا صِرْنا مثلَكَ فارقصْ معنا أيُّها البحرُ وغنِّ.

28 يونيو 2022م


*  المهرجان الدولي للشعر بمدينة سيدي بوسعيد بتونس (الدورة الثامنة – من 16 إلى 19 يونيو 2022م).

الموتَى يُخطِئون

الموتَى يُخطِئون

إلى: الجوهرة صالح المرحوم (1360- 1442هـ)

الموتى يخطئون،

يخطئونَ خطأَهم الذي يؤدّي إلى توارِيهم في عتمتِهم لأنهم أهدروا نفَسَهم الأخيرَ على شمعتِهم.. يرتكبونَ موتَهم غيرَ مبالينَ بأحذيتِهم غيرَ مبالين ببقايا حكاياتِهم ولا نبراتِهم التي ألصقوها عاليًا في الهواء.

يخطئون في حقِّنا وحقِّ مراياهم التي تبحثُ عنهم ولا تجدُ في فراغِها الحادّ إجابة، يخطئُ الموتَى حين يقامرونَ بهذا الموت لا يعتذرونَ من أريكةٍ تهضّبَتْ أكثرَ وتوتّرَ نسيجُها منذُ النهارِ الأوّلِ لخطئِهم الصارم ولم يسقطْ لهم ظل وحين تضاءلَتْ روائحُهم لم يدعموها بجسدٍ أو حتى قطعةٍ منه.

يخطئون ولا يفكّرونَ بالتراجعِ عن فداحتِهم، يخطئون ويصرّونَ على ثيابِهم التي خلَتْ منهم، تعرفُ ذلك من تشظِّيهم في صوتِكَ ومن شجرتِهم السوداء نبتَتْ فجأةً في دمِك لا تعرفُ من غافلَكَ وغرسَها، تعرفُ ذلك حين تسألُ كيف انحدرَتْ أخلاقُهم إلى هذا الحدّ ولم يكونوا أبدًا كذلك.

نعرفُ أنّ الموتى ليسوا معصومين ونعرفُ أن الخطأَ واردٌ لكنْ ليس بهذا الحجم.. يتركونَ خواتمَهم وساعاتِ أيدِيهم دون رعاية، يتركونكَ تنظرُ إلى خطئِهم الواضح لا تعرفُ بماذا تصحّحُهُ ولا كيف توقِفُهُ أو تضعُ له حدًّا.

كانوا أسوياءَ لكنْ لا تدري كيف أسقطوا سَوِيَّتَهم كلَّها، كيف نكثوا عهودَهم جحدوا غُرَفَهم وأبوابَهم.. كانوا عاديين جدًّا لا تتوقعُ خطأَهم الذي أقدموا عليه.. عاديين جدًّا لا تعلمُ كيف واتاهم الانصرافُ الكامل فلم يتردّدوا لم يتشاغلوا عنه أو يصرفوه.

كانوا وكانوا وكانوا حدَّ أنهم أوقعوكَ في موتِهم.. هكذا أخطأَ الموتى كما لو أنهم لا يعرفونَ أنهم يَسقُونَ جمرةً في الذاكرةِ كما لو أنهم لا يعرفوننا ولا يعرفونَ أن بيننا وبينهم كلماتٍ ونظرات. بيننا وبينهم ضوءٌ اقتسمناه معًا لئلا يشعرَ أحدٌ بالغبن، بيننا وبينهم مسافةٌ كانوا ينظّفونها أحيانًا بالعتاب وأحيانًا باللوم، يستبعدونَ منها ما قد يعوقُ من توجّسٍ أو هجس كي نصلَ أسرعَ إلى خطئِهم هؤلاء الخَطَأَة.

يخطئ الموتى حين يخطئونَ ليس عن عدمِ معرفةٍ بقهوتِهم ولا عن جهلٍ بزعفرانِها لكنهم يخطئون ويديرونَ ظهورَهم لها ولفناجينِها، يخترعونَ لهم ملامحَ جديدةً تناسبُ خطأَهم الأكثرَ من فادح والأكثرَ من تقديمِهم أجسادَهم وظلالَها لقمةً سائغةً للأرض، الأكثرَ من وقوفِ الواحدِ قُبالةَ حفرةٍ لا يجدُ غيرَ دمعتِهِ يتّكئُ عليها منتظرًا نهوضَهم نادمينَ ومعتذرين معترفينَ أنهم حقًّا أخطؤوا؛ لا تدري ماذا أرادوا أن يقولوا بخطئِهم هذا ولا تدري أبدًا لِمَ فعلوا ذلك.

9 سبتمبر 2020م.

مثل وحدةٍ لامعة

مثل وحدةٍ لامعة

جناح أسود

لم أجد لي مكانًا في الهواء،

والأغصان، لا أدري لماذا أَوصدت في وجهي أبوابها،

جمعت دهشتي الحارة لئلا يضيع منها شيء، مثلما جمعت ريشَ جناحي الأسودَ، اخترت هدأة بعيدة جدًّا وقصيَّة، وتمدّدتُ كيفما اتفق…

مبعث الهمود لم يكن أفكاري العالية والمبالغ بها عن السماء، أفكاري غير المرئية التي تغطّيني الآن، إنما هو عدم توقّعي أن يكون الإسفلت بهذا التفهّم أو بهذا الكرم.

الفأس

تركتَ جذعَك للحائِه، أغصانَك لعيونِ أوراقِها،

تركتَ هواءَك يبتعدُ بأقدامِه عنك،

هكذا لم تأبه بالفأسِ الذي يمشي بجانبك مثلَ ظلٍّ، يتربّصُ بك،

هكذا هوى وانغرسَ تمامًا في جبهتِك، وبين العينين، مثلَ وحدةٍ لامعة.

الوحيد

أقعدُ وحيدًا مثل شجرة، أشواكي هي ذكرياتي التي لا تخزُّ إلّاي،

أقعدُ وحيدًا، أمدُّ حولي نظراتي؛

أكذّب هذا الرملَ

ولا أصدّقُهُ.

الرماد

ولكنني وحيد، فلا أصابع معي، ولا عيون..

كل الجدران جذبت أحجارها وهربت؛

لكنني أنبش هذا الرماد،

لكنني أهمزه،

أنفخ فيه وأكتب.

الصداقةُ‭ ‬عقيقٌ‭ ‬يَخْلُبُني‭ ‬وهجُ‭ ‬عروقِه

الصداقةُ‭ ‬عقيقٌ‭ ‬يَخْلُبُني‭ ‬وهجُ‭ ‬عروقِه

أُداورُ وَأَدْنو، أقتربُ وأبتعدُ حول هذا الحجر، أتَحَسّسُهُ بأطرافِ أصابعي، أضعُ راحةَ كفّي على نتوءاته، وألصقها هناك، ولا ألبثُ أن أجرَّها إلى منطقةٍ هابطة فيه تصنعُ ظلّها، الذي يَصلحُ ملاذًا للعيون، تحطّ فيه تعبَها، وتتخفَّف من مشقّة ترحُّلها إليه، من تَربُّصها لِاصْطيادِ، ما قد يخرجُ منه، وما يدبُّ فوق صلابتِه، مستعينًا بقرونِه وأظلافه.

أداورُ وألتفُّ حوله، أداور وأحاورُ صمتَه بعيوني، علَّه يُظْهرُ لي ما به، أناقشُه وأجادله وأسائله بإزميلِ النظراتِ، أطرقُه بحذرٍ بالصّور والذكريات، لئلَّا أثلمَه أو أوذيه، ولا أفرّط أبدًا بما يتطاير من بُرادةٍ وقطع.

أعرف أن هناك ضوءًا، فها هو يُشعّ ويقعُ على يديّ وثيابي، ويسقطُ شعاعهُ الأشدُّ في قلبي الذي أستفْتيه في جهته، أرتجفُ وأنا أُنَهْنِهُ، علّه ينضُو دثاره الحجريَّ، يتخلى عن نتوءاتِه، عله يفتحُ صفحتَه لي ويتركني أقرأ..

لستُ مايكل أنغلو، ولكني أوقنُ أنه هناك، داخلَ هذي الكتلة التي يسمُّونها الصداقة، عقيق، يخلبني وهج عروقه، وتذهب بي هَسْهَستُه؛ يصلُني صوتُ أنفاسِه، أنا الذي لا أفتأُ، أتتبّعُه وأبحثُ عنه.

كلما سبقتْكَ اﻷرض أدركْها بالنشيج

كلما سبقتْكَ اﻷرض أدركْها بالنشيج

لوعتي

مستوحدٌ في لوعتي

كلما أجّتْ نهضتُ

كلما ومَضَتْ أحصيتُ رياحي وغيومي التي في داخلي

كلما انبثقتْ مني تلفّتُّ؛

ولا يجيئُني غيرُ ظلي.

الوحيدون

صمتُ الوحيدين يغرقُهم في أيديهم وفي نظراتِهم،

صمتُهم يمحو كلَّ يدٍ تمتدُّ إليهم

يهشُّ كلَّ خشبةٍ تحنو عليهم..

صمتُ الوحيدين يعضُّهم ويرفعُهم

يعيدُهم إلى عيونِهم.

أصابعي

أدعُ أصابعي لظلِّها

أدعُها لوحدتِها وتشوّفِها

فقد تصطادُ غيمة.

أدعُ أصابعي لانتظارِها

ربّما مرَّ بها الريش

ربّما غيّرَ طريقَه.

المشهد

في بحثِكَ عن قدّاحة

في اختبارِ وضْعٍ مناسب لجسدِك

جهة لنظرِكَ يكونُ المشهدُ فيها أقلَّ بشاعة..

تنسى أحيانًا بابَ القصيدةِ مفتوحًا؛

فلا تجدُ أحدًا هناك

عندما تعود.

الصباح

دع الصباح يعبر حاملًا أشجارك التي لم يسقِها أحد

دعه يمر من عيونك ومن قهوتك وسجائرك، افسح له تحديقتك في يدك الخالية وأخلِ له تمامًا شرودك؛

وقبل أن ينعطف ازعقْ به، قبل أن يختفي قل له:

أيها الصباح، ترفّقْ بأشجاري التي انتزعتها مني ولا تذبلها أكثر، فإنها أشجارٌ حزينة.

طيران

افتح يديك

ودع الكلمات تغطيك

ارسمْ غصنًا وقفْ عليه،

أضفْ إليه سماءً بلونِ أحلامك

واربْ فمَك ودندنْ؛

من يدري؟

فقد تطير.

المعول

اجعل المعول قريبًا منك دائمًا، وليكن في المتناول، حتى وإن أودعتَهُ عروقك؛ تلتقطه وتعالج الكلس كلما أصابك.

الكتاب

هل كان مشغولًا، عندما هبَّ هبّتَه؟

هل كان منصرفًا تمامًا إلى إيقاع حزنه، عندما كان وتره اﻷثير يربّت على تلفّته؟

وهل كان كتابًا منسيًّا في ظلّه،

يتحصّن بغلافِه ويحفرُ

عميقًا بين أصابعه علّها تنفرج أكثر وتفورُ الكلمات؟

الأرض

لا تدع اﻷرض تفوتك

امشِ والهثْ

امشِ والهثْ

فلا تدع اﻷرض تفوتك

وليكن صدرك مفتوحًا إذا مشيت

ﻷن اﻷشجار عندما تجيء لا تطرق

ولا تنتظر.. تومئ إلى أوراقها وسرعان ما تمضي

لا تدع اﻷرض تفوتك

بل امشِ والهثْ

ابكِ والهث

وكلما سبقتك اﻷرض

أدركْها بالنشيج

واجعلْها في مدى دمعتك

لا تغيبُ عنه

ولا تفوتُك.