«خاطف الغزالة يتعثّر بأعشابها..»  صراع التذكر ونقيضه النسيان

«خاطف الغزالة يتعثّر بأعشابها..» صراع التذكر ونقيضه النسيان

تتأوّل قصيدة الشاعر الفلسطيني نصر جميل شعث كمسكنٍ للذكريات، فيها يُعيدُ الشاعرُ تشكيل مخزون ذاكرته من خلال سؤال الكينونة المرتبط بالكلمات كمنابع للمعنى المُتذكَّر وللصورة المُستحضرة، حيثُ يصيرُ الشاعر ذاته استذكارًا واستجابة لنداء إعادة تعريف الذات، أي ابتكار وسيلة للتذكُّر عبرَ انفتاح الذاكرة ومحاولة تسكين الذكريات في إقامتها الجديدة مانحًا إياها ماهيّتها الأصيلة، فيما تتعيّن الإجابة في مجموعته الشعريّة «خاطف الغزالة يتعثّر بأعشابها»، الصادرة حديثًا عن دار مخطوطات بهولندا.

بهذا المعنى تصيرُ القصيدة لدى الشاعر شعث استحضارًا وإظهارًا، استحضار من الذاكرة عبرَ التذكُّر، وإظهار للوجود عبر منح حقّ الإقامة للذكريات في القصيدة، وفي هذا معنًى ما يدلّ على صراعٍ دائر بين التذكّر ونقيضه النسيان، الذي نتجت عنه قصائد المجموعة انتصارًا للتذكّر وهزيمة للنسيان، وفي ذلك ذِكر للكينونة ووجودها شِعرًا بما هو تجاوز فعّال للنسيان. يقول: «أوّلُ لعبةٍ فقدتُها/ في طفولتي:/ جدّتي../ كانت كلّما عرّضتُ نفسيَ للخطرِ/ تصرخ». يجد القارئ في تجربة الشاعر هذه، تأويل الذاكرة بمعنى التذكر والقول في الآن ذاته، كمن يُعيد النظر إليها شعريًّا، يدوّنها بحيادٍ محمولة على بُعد جمالي بوصفه الصوت المُوجّه لكينونتنا عبر انكشاف الذات الشاعرة على الوجود، والشاعر بذلك يسترجع طفولته وملامح وعيها، ومنطق الطفل عندما كان يعتقد الجدّة لعبة، وموتها مجرد فقدان لعبة، وهو منطق يعكس تفاعلات الداخل وتحوّلاته ومن ثمّ انكشافه وتماهيه مع الخارج، ويمنح الشاعرُ الطفلَ المُستدعى مكانه ومكانته للتعبير عن كينونته الجسدية والنفسية والعاطفية، تعبيرًا من رؤية ووجهة نظر الطفل ومعرفته ووعيه، يقول: «مَرّةً نمتُ والعلكةُ في فمي./ في الصباح رأتها أمّي معجونةً في شعري./ قصّتها وبكيتُ:/ «صارت حفرة على رأسي!»/ قبّلتني وقالت:/ في الليل سيرى الناسُ على رأسك القمر».

الغزالة: عتبة النصّ

نصر جميل شعث

المفارقة عند الشاعر شعث أنه جعل للغزالة أعشابًا يتعثر الخاطف فيها، مُحررًا إياها من قالبها الموروث، ووضعها في محمل رمزي ذي ملامح تدل على النجاة والأمل معًا، نجاة للحياة والحرية والجمال المتمثل في الغزالة وذلك يبعثُ على الأمل، هذه المفارقة ستمتد على مساحة المجموعة، إن كان يمتح من الذاكرة من خلال استدعاء ذكريات الطفولة في علاقته مع أشيائه وألعابه أو حتى في علاقته بأبيه أو أمه، أو إن كان يتأمّل مشهدًا حياتيًّا مترجمًا إياه للوحةٍ شعرية مبنية على المفارقة اللاذعة، حيثُ ارتداد البنية الثقافية للعنوان تحيل إلى الغابة بتنوعها وخضرتها وخطرها، ذلك أن طبيعة الغزالة أن تسكن الغابة، وطبيعة الغابة أنها مسكونة بالأشجار والحيوانات البرية الأليفة منها والمتوحشة، حيث يكون التنوّع مصاحبًا للصراع من أجل البقاء على قيد الوجود، وهو ما يحوّل الصراع الوجودي إلى صراع داخلي نفسي أيضًا، يقول: «في داخلي شخصٌ عارٍ/ كلّما ماتَ عزيزٌ جرى إلى الغابة/ وتلفّتَ كابنِ وحش» ثم نجد الشاعر يصعّد من هذا الصراع على مستوى عمق العلاقة في طبع «الغزالة»، التي تتميّز بسرعتها، غير أنّها لا تنفكّ عن عادةٍ فيها فناؤها، يقول: «الغزالةُ/ أسرعُ من الوحوش، لكن مأساتها أنّها تقفُ/ في كلّ لحظة/ لتلتفت وراءها»، ففي إطار هذه المقاربة بين الغزالة ومأساتها، أي بين «الأنا»، وطبعها الذي يتدحرج بها إلى الهاوية، علائق إسقاطية صافية مع الكائنات ضمن قدرة التجربة الشعرية على لمس جوهر الكينونة وتمثّل معناها الأصيل، من خلال إنارة حضورها ببرق الكلمة الخاطف، حضورها الواعي والفاتن في الوجود الجديد.

الذاكرة كملاذ

ما بين العبارتين «قسوة وطني البعيد» و«وطني غرفة»، تتجلّى الذاكرة كملاذ تفعيلًا لفاعلية الشعر بهدف كشف طاقات الوجود الكامنة، المفتوحة على اختبارات الخلق بالعدول عن السائد والساكن، واستبداله به مفارقات التوتّر «كسائح نزل من سفينة كبيرة/ وعالج غربته بإعادة النظر»، نظرة عارية ووحشيّة، حيثُ الكلمات تغدو دالة على ذاتها بانكشاف وافتضاض للكينونة، وهذا ما يعني تجاوزًا لتفسير العالم والغرق في الذاتية للتمكّن من نيل الخلاص من هذه الذاتية، لتأسيس كيان يعرف سرائره ويشيّد مرتكزاته، ويوجّه مسارات وعيه وحراك بواطنه، الذي يؤثث فيه تجليات كينونته حيث التماس قشّة نجاة في الشعر عبر تفاعل من طرف المُخيّلة وقدرة توظيف الخيال، يقول: «كلّما رأيتُ شيئًا دوّرته بالخيال/ والخيالُ يريدُ الأرضَ مستقيمة/ الخيالُ يجرحُ نفسَه بالحوافّ: يُعطي الماء جُزرًا/ ويُعطي الأرضَ ماء». هذا ما لا يحشر لغة الشاعر في خانة، ويجعلها متحرّرة ومشرقة غير متوقعة المعنى، تعانق أبعادًا إنسانية عبر تحريره لمخياله الشعري، فالشاعر يستبطنُ روح الشعر من كينونته الممتدّة امتداد التاريخ الروحاني للإنسانية، والمتمثّل في كيانه اللغة والوعي، فهو وليد منجز الإنسان ذاته.

فالذاكرة كمرجع ومنبع لتجربة الشاعر شعث، هي الأرضُ التي يقوم على حراستها من فعل النسيان، وحرثها لتبقى خصبة ومعطاءة، وحاملة لسرّ الديمومة في هباتها الطازجة والغاوية في التعاطي الشعري المُفكّر به والمُتناول المقصود، الذي غايته الاحتماء بقدرة التذكّر والاحتواء بدفءٍ مُنبعث من الذكريات، يقول: «ذاكرتي ثمرة/ ذاهب لأقطفها من الشرفة»، هذه الشرفة التي تملك لسانًا طويلًا في البيت، تجعل الثمرة في متناول اليد، فبينهما اشتباكٌ تحققه رغبة الشاعر في القطف، وفي اختيار «الشرفة» دلالة على المكانة العالية، ففعل القطف يحدث بعلوّ وفي حالة اشتباك في الآن ذاته بين الشاعر وذاكرته، أمّا توصيفه للذاكرة، في هذا السياق، بالثمرة، فنرى أنّ فيه إيحاءً لقدرة الذاكرة على إحياء روح الشاعر وتغذية القصيدة بما تحتوي من صور الحياة. والذاكرة ليستْ ماضيًا بضرورة وفعل مُضِيّ الزمن على حدوث ذكرياتها، بل هي حاضر بفعل حضورها المُؤثّر، وما بين ماضيها وحاضرها فعل التذكر المنفتح على الاحتمالات والإمكانيات، التي تتوالد عبرها المعاني والتآويل، في علاقة جوار لا يشوبها ما يتركه الزمن من آثار، فولادتها حياة جديدة موهوبة للمستقبل الآتي، في هيئة قصيدة، مقتصدة في عباراتها، ومقصودة في شكلها ومضمونها.

استدعاء الغياب

الغياب حضور بمعنى ما، والحضور غياب في سياق آخر، وللشعر فاعلية في ذلك بوصفه مُحرِّرًا للفهم السائد، ومُحرَّرًا من الأبعاد الوجودية؛ لأنه فوق وعي الزمان والمكان، وهو كذلك كثافة الوجود وموجوداته في علاقة تجاور واستضافة، داخل الذات الشاعرة، ومُعبّرة عن مقاصدها، ومن ثم، داخل القصيدة، ولحضور «الأب» المتكرر في القصائد، قدرة الذاكرة على استدعاء الغياب والغائبين، نقرأ في واحدة من اللوحات التي تبدأ بآهةِ ألم وحسرة، يقول: «آه يا أبي/ كم أنتَ حزينٌ من قصائدي الآن،/ حزنُكَ الذي أؤكّدُ به ما قلتُه لنفسي/ في لحظة يأسٍ من الحياة:/ لا أكتبُ الشعرَ طمعًا في قارئٍ متوقّع./ إنما لكَ كي أشعر بردّةِ فعلك في داخلي،/ وأنتَ ميّتٌ منذ سنين». هكذا يقدّم الشاعر تأمّلاته الشعريّة مفتوحة على مستويات متعدّدة من التلقّي، في إعادة خلقه لمعارفه الحسّية والمعنويّة، المتمثّلة في عالَمَيْهِ الداخلي والخارجي. فقراءة المجموعة الشعرية للشاعر شعث، يُظهر شبكة مكوّنات دلالية ممتدة ومتداخلة، تجعل من مجموع القصائد ولوحاتها، قصيدة واحدة عبارة عن لوحة شعرية مُتكاملة يحاول من خلالها إعادة تشكيل ذاته الإنسانية شعريًّا، امتدادًا لتجربته السابقة وترسيخًا لهويته الشعرية.

قتلت الحنين بدم بارد

قتلت الحنين بدم بارد

لم‭ ‬أترك‭ ‬الغابة‭. ‬الغابة‭ ‬تركتني‭. ‬لم‭ ‬تعترف‭ ‬بي‭ ‬الشجرة‭ ‬التي‭ ‬أنجبتني‭. ‬صرتُ‭ ‬ابنًا‭ ‬للموج‭. ‬والموج‭ ‬حضن‭ ‬وأرجوحة‭. ‬لذا‭ ‬لا‭ ‬زلت‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭.‬

كيف‭ ‬خانني‭ ‬الموج‭ ‬مع‭ ‬الريح‭. ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬الريح‭ ‬حين‭ ‬تغضب‭. ‬عرفتها‭ ‬حين‭ ‬صحوت‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬البرزخ‭. ‬تذكرت‭ ‬يدي‭ ‬التي‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬النهر‭. ‬تذكرت‭ ‬الغزالة‭ ‬المسجونة‭ ‬بين‭ ‬ضلوعي‭ ‬المسروقة‭. ‬لم‭ ‬أفعل‭ ‬شيئًا؛‭ ‬لأني‭ ‬صرت‭ ‬شجرة،‭ ‬وحولي‭ ‬غابة،‭ ‬ولا‭ ‬زلت‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭.‬

٭٭٭

يدي‭ ‬تسبحُ‭ ‬وحدها‭ ‬في‭ ‬النهر‭. ‬أمّا‭ ‬ضلوعي،‭ ‬ضلوعي‭ ‬المسروقة‭. ‬فقد‭ ‬صنعوا‭ ‬منها‭ ‬سجنًا‭ ‬لغزال‭. ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬الغزال‭ ‬وأبكي‭. ‬بكائي‭ ‬غزير‭. ‬دموعي‭ ‬صارت‭ ‬بحيرة‭ ‬لا‭ ‬تلتقي‭ ‬مع‭ ‬النهر‭ ‬أبدًا‭. ‬والغزال‭ ‬وحيد‭ ‬بين‭ ‬ضلوعي‭ ‬المسروقة‭. ‬أتنفّس‭ ‬من‭ ‬عينيه‭ ‬وأبكي‭.‬

٭٭٭

قطّعت‭ ‬كلَّ‭ ‬يدٍ‭ ‬له

حشوتُ‭ ‬رئتيه‭ ‬بكلِّ‭ ‬أنواع‭ ‬المخدرات

علّقت‭ ‬طرقَهُ‭ ‬كلَّها‭ ‬على‭ ‬المشانق‭.‬

جوّعتُه‭ ‬وعطّشتُه،‭ ‬

ربطتُه‭ ‬مثل‭ ‬كلبٍ‭ ‬في‭ ‬صحراء‭.‬

غلّقتُ‭ ‬شبابيكه‭ ‬وأبوابَه‭ ‬بالأسمنت

حاصرتُه‭ ‬في‭ ‬زنزانةٍ‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬ضوءًا

حرمتُه‭ ‬من‭ ‬التنفّس‭ ‬حتّى‭..‬

ورغم‭ ‬كلّ‭ ‬هذا

وفي‭ ‬لحظة‭ ‬إشراقٍ‭:‬

اكتشفتُ‭ ‬أنّني‭ ‬القتيل

قتلتُ‭ ‬الحنينَ‭ ‬بدمٍ‭ ‬باردٍ

منذ‭ ‬سنواتٍ‭ ‬وأنا‭ ‬أذبحُه‭ ‬يوميًّا

بسكينٍ‭ ‬حافيةٍ‭ ‬أشقّ‭ ‬أعناقه‭.‬

كلّما‭ ‬صحا‭ ‬صوتُه،‭ ‬أخرستُه‭ ‬بالحرق

في‭ ‬داخلي‭ ‬مقابر‭ ‬لأصواتٍ‭ ‬محروقةٍ‭.‬

كلّما‭ ‬فتح‭ ‬عينيه،‭ ‬رششتُهما‭ ‬بالغبار‭. ‬

ذاكرتي‭ ‬مغلّفة‭ ‬بطبقاتٍ‭ ‬من‭ ‬غبار‭ ‬أبدي‭. ‬

منذ‭ ‬سنواتٍ‭ ‬وأنا‭ ‬أقمعُه‭ ‬يوميًّا

كسّرت‭ ‬أقدامَهُ‭ ‬الكثيرة