«الإسلاموفوبيا» بين الشعبوية الغربية وحركات الإسلام السياسي

«الإسلاموفوبيا» بين الشعبوية الغربية وحركات الإسلام السياسي

أثارت الرسوم الكاريكاتيرية (12 صورة) المسيئة لشخص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم التي نشرتها صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية اليمينية في 30 سبتمبر 2005م، وأعيد نشرها في عدد من الصحف الغربية ردود أفعال رسمية وشعبية واسعة النطاق آنذاك في البلدان العربية والإسلامية، وبدا وكأن ذلك تأكيد لأطروحات وقناعات رائجة لدى قوى اجتماعية وسياسية متنفذة في الغرب تتسم بنزعتها الثقافوية (المركزية الغربية) والأيديولوجية القومية الشعبوية المحافظة، وكذلك لدى جهات وجماعات أصولية وإسلاموية مماثلة في العالمين العربي والإسلامي (مركزية معكوسة).

ومع أني شعرت كغيري بالسخط والغضب لذلك الفعل الآثم الذي ارتكبته الصحيفة الدانماركية والصحف الأخرى آنذاك، والذي يسيء إلى مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين، وهو ما يستحق الإدانة، ويستوجب المطالبة بتقديم الاعتذار من الصحيفة الدانماركية والصحف الأخرى المماثلة، لكن في الوقت نفسه شعرت بالصدمة إزاء التصرفات غير المسؤولة التي اتسمت بها ردود الأفعال آنذاك؛ مثل حرق السفارات، وتدمير الممتلكات، والتعرض للكنائس والرموز الدينية المسيحية، والدعوات إلى مقاطعة شاملة للبضائع الدانماركية، ونسينا قول الله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾.

فلماذا نضع الجريدة والمجتمع والدولة الدانماركية في سلة واحدة؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا أقدمت تلك الصحيفة الدانماركية اليمينية آنذاك على نشر رسوم الكاريكاتير المسيئة والمستفزة لعقائد المسلمين ومشاعرهم؟ ولماذا جاء الرد (بعد ثلاثة أشهر على نشرها) متأخرًا وبتلك الصورة التي حوت العديد من المظاهر المنفلتة والعنيفة والمدمرة؟

من الواضح أن ردود الأفعال العاطفية والعفوية في الشارعين العربي والإسلامي قد جرى تشجيعها وتأجيجها آنذاك من بعض الأنظمة والقادة والأطراف السياسية التي دخلت على الخط، في محاولة لتنفيس وامتصاص الضغوط الخارجية والداخلية التي تتعرض لها، والسعي لكسب التعاطف والالتفاف الشعبي حولها، كما رأينا المجموعات الأصولية المتطرفة وجماعات الإسلام السياسي استغلت الحدث كعنوان ولافتة لتحركها العلني والواسع بهدف قيادة الشارع والتأثير فيه، مستغلة عواطف ومشاعر المسلمين العاديين.

يعود الترويج والتنظير لهذا التوجه والمنظور المعادي للإسلام إلى عديد من العقود السابقة، وبعضهم يربطه بمرحلة الحروب الصليبية (1096- 1291م). وما جرى لاحقًا من السيطرة الاستعمارية الغربية على جُلّ البلدان العربية والإسلامية.

ظهور مصطلح الإسلاموفوبيا

ظهر مُصطلح «الإسلاموفوبيا» أوّل مرّة عند المستشرقين وعلماء الاجتماع الفرنسيين، خلال زمن الاستعمار الفرنسي للعديد من البلدان العربية والإفريقية المسلمة في مطلع القرن العشرين.

في عام 1910م، أصدر المفكّر الفرنسي آلان كيليان كتابه «السياسة المسلمة في إفريقيا الغربية الفرنسية». وقد عرّفَ الإسلاموفوبيا في الكتاب «بأنه حكم مسبق ضدّ الإسلام، منتشر عند شعوب الحضارة الغربية والمسيحية»، مضيفًا «بالنسبة لبعض المسيحيين والأوربيين، المُسلم هو العدو الطبيعي، العدو غير القابل للنقاش والمساومة. أن تكون مسلمًا، بالنسبة إليهم، هو أن تنفي الحضارة، وأن تكون تابعًا لدين محمد لا يعني شيئًا سوى الوحشية والقساوة والنية السيئة».

إدوارد سعيد

المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد أشار إلى ظاهرة الخوف من الإسلام المتأصلة في الغرب. وذكر في كتابه المهم «الاستشراق» أنه «طيلة فترةٍ طويلة من تاريخ أوربا كان الشرق العربي المسلم هو الوحيد الذي يمثّل تحديًا كبيرًا لها. وطيلة هذه الفترة، كانت فكرةُ الشرق في ذهن الغرب تتأرجحُ بين الاحتقار والخوف». غير أن أول من سلط الضوء على ما يسمى رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) في الغرب في المرحلة المعاصرة، خلية تفكير بريطانية يسارية يطلق عليها رنيميد ترست، انتقدت صناعة صورة نمطية مسبقة ومشوهة عن الإسلام في الغرب، كان ذلك في عام 1997م.

وقد شارك في ترسيخ هذا المفهوم بعض المستشرقين ورجال الفكر والسياسة وعدد من مراكز الأبحاث والدراسات ذات التوجهات اليمينية، من بينها مؤسسة «راند»، والمستشرق برنارد لويس، كما نذكر في هذا الإطار أطروحات صموئيل هنتنغتون وما طرحه في كتابه «صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي»، وذلك في حقبة ما بعد الحرب الباردة؛ إذ أكّد هنتنغتون أن الصراعات بعد انتهاء الحرب الباردة ستكون بين الحضارة الغربية وثماني حضارات وثقافات مختلفة في العالم، غير أنه ركز على أن التناقض الرئيس يتمثل بين الغرب كحضارة وقيم علمانية من جهة، وبين الإسلام وقِيَمه الدينية والثقافية التي تحرض على الكراهية والعنف من جهة ثانية.

وجاءت تفجيرات 11 سبتمبر 2001م الإرهابية التي تبنّتها القاعدة واعتبرها أسامة بن لادن علامة فاصلة في حرب الفسطاطين ضد ما اعتبره معسكر الكفر والتسلط لتكريس هذا التوجه عمليًّا، وهو ما شاهدنا تداعياته في الحرب الأميركية على أفغانستان والعراق، والحرب المفتوحة على الإرهاب التي أعلنها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش.

في ظل الأزمة الاقتصادية– الاجتماعية وتدهور الأوضاع المعيشية، وتصاعد مستويات الفقر والبطالة في المجتمعات الغربية، وخصوصًا في أعقاب الأزمة الاقتصادية والمالية التي تفجرت في عام 2008م في الولايات المتحدة الأميركية، وامتدت للدول الأوربية لتصبح أزمة اقتصادية عالمية، ولا تزال تأثيراتها وامتداداتها الخطيرة ماثلة حتى اليوم، وفي ضوء تصاعد الخطاب القومي اليميني الشعبوي ووصول عدد من القوى اليمينية القومية «المسيحية والعرقية» إلى سدة السلطة في الغرب، كما هو الحال في الولايات المتحدة «ظاهرة ترمب» وبريطانيا «بريكست» وعدد من الدول الأوربية، تم تصعيد المخاوف والرهاب وخطاب الكراهية للمهاجرين الأجانب (وخصوصًا من البلدان العربية والإسلامية) وما يروجون له في خطابهم القومي الانعزالي، من الخطر الذي يتهدد الهوية الوطنية والقيم الثقافية الغربية، وكذلك مزاحمتهم للعمالة المحلية.

صموئيل هنتنغتون

في العودة إلى فرنسا، عاودت مجلة شارلي إبدو الفرنسية الساخرة نشر تلك الصور القديمة المسيئة، كما تضمنت الصفحة الأولى رسمًا كاريكاتيريًّا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم للرسام الفرنسي كايو تحت عنوان: «كل ذلك من أجل هذا»، وقد قُتل هذا الرسام ومعه 11 من بينهم بعض أشهر رسامي الكاريكاتير والعاملين في المجلة وأُصِيبَ 11 آخرون وذلك في هجوم 7 يناير 2015م الإرهابي، وأعلن تنظيم القاعدة تبني الهجوم حيث اقتحم سعيد وشريف كواشي مقر المجلة في باريس وأمطرا المبنى برصاص بنادقهما الآلية. في فرنسا هناك ألفان وخمس مئة مسجد، وهو رقم دالّ جدًّا على أن حرية العبادات مكفولة للجميع، غير أنها عانت وتعاني الأفكارَ المتطرفةَ (كبقية الدول الغربية)، كما طالتها العمليات الإرهابية المدفوعة من قِبَل تنظيمات «جهادية» إرهابية في السنوات الأخيرة، وتأثر بها رهط من المسلمين الموجودين فيها، وبخاصة الشباب المهمش والمحبط منهم.

الإرهاب بلا أيديولوجية

غير أن الإرهاب ليس لصيقًا بدين أو وطن أو أيديولوجية بعينها، ونستذكر هنا إصدار محكمة في النرويج حكمًا بالسجن 21 عامًا على أندريه بريفيك (نرويجي مسيحي من النازيين الجدد)؛ لإدانته بارتكاب مجزرة راح ضحيتها 77 شخصًا من النرويجيين في عام 2011م، وأقر بريفيك بالجريمة التي أصيب فيها أيضًا أكثر من 240 آخرين عندما فجر قنبلة في أوسلو، ثم فتح النار على مخيم صيفي للشباب في جزيرة نرويجية.

كما شهدت نيوزيلندا جريمة مماثلة بشعة حين قتل رينتون تارانت (وهو متطرف أسترالي أبيض) 51 شخصًا، وجرح 50 آخرين في هجوم على مسجدين في الخامس عشر من شهر مارس 2019م، وأعلن أنه كانت لديه خطط لاستهداف مسجد ثالث. كما نستعيد هنا جلسات محاكمات المفكر الفرنسي الشهير الراحل روجيه غارودي في باريس في يناير 1998م بتهمة معاداة السامية وإنكار محرقة الهولوكوست بحق اليهود وسط صمت إعلامي فرنسي مريب.

لنقارن مجزرتي النرويج ونيوزيلندا ومحاكمة غارودي بما جرى في فرنسا، في شهر سبتمبر 2020م، حين عاودت مجلة شارلي إبدو الفرنسية اليمينية نشر الرسوم المسيئة المنشورة سابقًا، كما أعاد مدرس التاريخ الفرنسي صامويل باتي توزيع الكاريكاتير على جميع الطلاب لديه، وهو يناقش معهم حرية التعبير، وهو ما أدى إلى مقتله في عملية إرهابية بشعة على يد لاجئ شاب شيشاني متطرف. وقد علق الرئيس الفرنسي ماكرون على الحادث بقوله: إن الإسلام في أزمة.

إيمانويل ماكرون

في حفل تأبين وطني أقيم للمدرس المقتول، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في (21 أكتوبر 2020م): إنّ صامويل باتي قُتل «لأنّه كان يجسّد الجمهورية». مضيفًا «أنه قُتِل لأنّ الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا، ويعرفون أنّهم لن يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله».

وإزاء الهجوم الإرهابي والوحشي الذي نفذه مهاجر (غير شرعي) تونسي ضد كنيسة نيس وأسفر عن ثلاثة قتلى، وجاء بعد بضعة أيام على حادثة مقتل المعلم الفرنسي، وصف الرئيس الفرنسي الحادثة بأنها «هجوم إرهابي إسلامي»، وقد أثارت تلك التصريحات ردود أفعال غاضبة في البلدان العربية والإسلامية، ووصلت إلى حد المطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع باريس ومقاطعة البضائع الفرنسية.

لا بد من تأكيد ضرورة احترام حرية الرأي والكتابة والنشر والتفكير للأفراد والجماعات… وهذه المعايير والقيم الإنسانية الأساسية لا تتناقض مع جوهر وقيم الإسلام، كما أكدتها الأنظمة والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وصادقت عليها معظم الدول العربية، غير أنها لم تلتزم بتجسيدها وتحقيقها على أرض الواقع، حيث تعيش معظم المجتمعات العربية في ظل أنظمة يتفشى فيها التخلف والفقر والفساد والبطالة والأمية والمديونية والتبعية للخارج، وهو ما أدى إلى انفجار الانتفاضات الشعبية منذ أواخر عام 2010م.

في حقيقة الأمر، إن الإرهاب هو ظاهرة تاريخية وموضوعية، شهدته المجتمعات والحضارات والأديان والثقافات كافة، وفي مقدمتها المجتمعات والحضارة الغربية المعاصرة، التي مارست شتى صنوف القمع الدموي والإرهاب الأعمى في حق السكان الأصليين (الهنود الحمر) والعبودية (إزاء السود المختطفين من القارة الإفريقية كما هو الحال في القارة الأميركية) وإزاء شعوب المستعمرات من الدول الاستعمارية الغربية ومن بينها فرنسا التي ذهب ضحيتها الملايين من البشر.

لا شك أن هناك جهات متعددة لها أجندتها الخاصة، تريد أن تدفع بالأمور نحو أجواء التوتر والاحتقان والمواجهة بين الإسلام والغرب. وهذا يتفق مع ما تصوره وتروج له وتعمل من أجله الصهيونية العالمية، والأصولية الغربية، والنزعة القومية الشعبوية المتصاعدة في الغرب، وفي الجانب المقابل نجد الأصولية الإسلاموية وجماعات الإسلام السياسي، وبعض الدول التي تمثلها على حد سواء، تسعى لتوظيف الموقف الفرنسي لصالح أجندتها الداخلية والخارجية الخاصة.

قمة العشرين تواجه تحديات مصيرية

قمة العشرين تواجه تحديات مصيرية

في إطار رئاستها لمجموعة العشرين التي تسلمتها من اليابان في الأول من ديسمبر 2019م تستضيف المملكة القمة القادمة بالرياض. وفقًا للبرنامج المقرر، تستضيف المملكة أكثرمن مئة مناسبة ومؤتمر قبيل القمة، بما في ذلك اجتماعات وزارية. كما أن هناك ثماني منظمات رسمية تعمل تحت مظلة مجموعة العشرين من أجل استخلاص توصيات ونتائج تُقَدَّم لقادة مجموعة العشرين للنظر فيها، وهذه المنظمات تشمل مجموعات الأعمال والمجتمع المدني والعمال والفكر والمرأة والعلوم والمجتمع الحضري.

تَوَلِّي السعودية رئاسة مجموعة العشرين يجعلها أول دولة عربية تقود هذه الهيئة التي تمثل المنتدى الرئيس للتعاون الاقتصادي الدولي والتي تأسست في عام 1999م، وتضم قادة من جميع القارات يمثلون دولًا متقدمة ونامية. وتمثل الدول الأعضاء في مجموعة العشرين، مجتمعةً، نحو 80% من الناتج الاقتصادي العالمي، وثلثي سكان العالم، و75% من حجم التجارة العالمية، و80 % من الاستثمارات العالمية، وبشكل عام يجتمع ممثلو دول المجموعة لمناقشة القضايا المالية والاجتماعية والاقتصادية.

غير أن جائحة كورونا وتداعياتها ألقت بظلها الثقيل، مشكلة للبشرية قاطبة تحديات اقتصادية واجتماعية وصحية وأخلاقية غير مسبوقة. وقد تعهد زعماء دول مجموعة العشرين في جلسات قمتهم الاستثنائية (عبر الإنترنت) التي ترأستها المملكة بضخ أكثر من 6 تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي للحد من ضياع فرص العمل ونقصان الدخل، نتيجة تفشي «فيروس كورونا» وقالوا في بيانهم الختامي: «تلتزم مجموعة الـ20 ببذل كل ما يمكن للتغلب على هذه الجائحة، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة البنك الدولي، والأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الأخرى».

تمثل قمة مجموعة العشرين فرصة لمشاركة رؤية المملكة 2030 مع العالم بأكمله؛ إذ تتسق الخطط التنموية لرؤية 2030 مع أهداف مجموعة العشرين، وبخاصة ما يتعلق بتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي، والتنمية المستديمة، وتمكين المرأة وتعزيز حركة التجارة والاستثمار.

لا شك أن هناك إقرارًا واضحًا بأن تسعة خطط تنموية (1970- 2015م) سابقة لم تحقق هدفها المركزي في تنويع القاعدة الاقتصادية الإنتاجية ومصادر الدخل، الذي لا يزال معتمدًا على نحو رئيس على إنتاج وتصدير النفط الذي هو ثروة ناضبة مهما طال عمره الافتراضي، كما أن أسعاره عرضة لتذبذبات العرض والطلب، وهو أسير لحال الاقتصاد العالمي الذي يلفّه الغموض والقلق إن لم يكن التشاؤم، وهو ما يتطلب ربط الرؤية المستقبلية برؤية نقدية شفافة للتوجهات والخطط السابقة وللحاضر بإنجازاتها وإخفاقاتها.

الرؤية تمثل خطوة مهمة نحو مواجهة التحديات الراهنة واستحقاقات المستقبل، وبالتأكيد لا يكفي صياغة الخطة والرؤية مهما كانت متكاملة من الناحية النظرية أو العملية إن لم يَجْرِ اختبارها على أرض التجربة والواقع، وهو ما يقع على عاتق الدولة بأجهزتها المختلفة، ومؤسسات المجتمع المدني والنخب والأفراد في الآن معًا. وقبل كل شيء، تأكيد أن الإنسان- المواطن هو هدف التنمية وأداتها في الآن معًا، وأن التنمية المستديمة في جوهرها ليست أرقامًا وبياناتٍ أو جردةً حسابيةً كميةً، بل هي عملية إنسانية حضارية واعية ومترابطة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

ملامح مرحلة جديدة في الاقتصاد العالمي

القمة المقبلة لمجموعة العشرين تعقد في ظل التشاؤم المتزايد حول واقع ومستقبل الاقتصاد العالمي، مع استمرار واستفحال جائحة كورونا؛ إذ تشيـر التقديرات إلى أن خســائر الاقتصــاد العالمي جراء هـذه الأزمـة خـلال النصـف الأول فقط مـن عـام 2020م تقدر بنحو 6 تريليونـات دولار، وسـينكمش الاقتصـاد العالمي 11% مقارنـة بالمدة نفســها مــن عــام 2019م.

التساؤل الذي يفرض نفسه هنا: هل نحن فعلًا بصدد تكرار الأزمات الدورية (ركود – انتعاش- ركود) المعتادة للرأسمالية، التي سرعان ما نتجاوزها من خلال مرونتها وقدرتها على التكيف بما في ذلك تقديم التنازلات إزاء قوة العمل، وهذا ما حصل مع الأزمات الدورية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أم أننا سنتعايش مع طور بنيوي جديد في هذه الأزمة (ما بعد كورونا) الراهنة التي فاقمتها «الليبرالية الجديدة المعولمة» التي تدفع بتحولها من أزمة دورية إلى أزمة هيكلية دائمة، لن تنفع أي حلول ترقيعية في مواجهتها؟

أزمة 2008م لا تزال تداعياتها ماثلة بقوة حتى الآن، وتتمثل في الانهيارات والانخفاضات الحادة في بورصات الأسهم، وتذبذب وانخفاض العملات الرئيسة، وتفاقم مظاهر الركود والبطالة والفقر وارتفاع الأسعار، في البلدان الرأسمالية المتطورة ودول الأطراف على حد سواء، كما نقف عند ظاهرة صعود الخطاب الشعبوي القومي اليميني في الغرب الذي استغل موضوع اللاجئين والهجرة الأجنبية.

تعقد قمة مجموعة العشرين في ظل ظروف غير واضحة المعالم وتتسم بالتعقيد وغياب اليقين (حتى ما قبل جائحة كورونا) حيث استفحال الفوارق (على كل الصُّعُد) بين دول الشمال ودول الجنوب، وفي داخلها في الآن نفسه. وفي المقابل توضح الإحصاءات الغربية بالأرقام أن الدول الصناعية تملك 97% من الامتيازات العالمية كافة، وأن الشركات الدولية عابرة القارات تملك 90% من امتيازات التقنية والإنتاج والتسويق، وأن أكثر من 80% من أرباح إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية يذهب إلى 20 دولة غنية.

عمقت جائحة كورونا حدة الاستقطاب الحاد في المجالات كافة، ما بين الدول المتقدمة والدول النامية من جهة، وفي داخلهما من جهة أخرى. وبحسب تقرير جديد لمنظمة العمل الدولية، فإنه من المتوقع أن يشهد العالم تقليصًا في الوظائف لنحو 200 مليون من الموظفين بدوام كامل في الأشهر المقبلة. وبسبب فرض إجراءات الإغلاق الكامل أو الجزئي في العديد من الدول، وما حمله ذلك من تأثير في نحو مليارَيْنِ و700 مليون عاملٍ ، أي 4 من بين كل 5 من القوى العاملة في العالم. ضمن هذا السياق كتب ستيفن توبين، الخبير الاقتصادي في منظمة العمل الدولية والمعدّ الرئيس للتقرير: «إن زهاء نصف العمال في الاقتصادات الناشئة يعملون في مهنٍ هشة، وترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 80% في الدول النامية».

وبحسب تقرير البنك الدولي الصادر في 17 أكتوبر 2018م، فإن القضاء على الفقر المدقع يظل تحدّيًا ضخمًا رغم التراجع الكبير في معدلاته. ووفقًا للتقرير، فإن هناك أكثر من مليار و900 مليون شخص، أو 26,2% من سكان العالم يعيشون على أقل من 3.20 دولارات للفرد في اليوم في عام 2015م، كما أن هناك نحو 46% من سكان العالم يعيشون على أقل من 5.50 دولارات للفرد في اليوم.

ووفقا لإحصاءات الأمم المتحدة «الفاو» هناك نحو 795 مليون شخص في العالم لا يجدون طعامًا كافيًا للتمتع بحياة صحية نشطة. أي ما يعادل نحو واحد من كل تسعة أشخاص في العالم. من جهة ثانية يُظهر تقرير إحصاءات الديون الدولية لعام 2020م الصادرة عن البنك الدولي أن إجمالي الديون الخارجية للبلدان منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل قفزت بنسبة 5.3% إلى 7.8 تريليونات دولار العام الماضي.

تفاقم الركود وتردي مستويات المعيشة

على صعيد البلدان الغنية، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي واليابان، تشير المعطيات الاقتصادية إلى تفاقم الركود الاقتصادي وإفلاس الشركات والبنوك والمصارف وتردي مستويات المعيشة والفقر والبطالة. الأرقام الأميركية (قبل جائحة كورونا) تشير إلى أن 41 مليون شخص من مجموع سكان الولايات المتحدة يعيش في فقر، ويعيش نصف هذا العدد أي 19 مليونًا تقريبًا في فقر مدقع. ويعود الفقر في دولة غنية مثل الولايات المتحدة بالدرجة الأولى إلى الفروق الكبيرة في توزيع الثروة والدخل أو بين الـ1 % و99 % وفقًا لشعار مظاهرات «احتلوا وول ستريت».

وقد أشارت وزارة العمل في الولايات المتحدة بتاريخ 7 مايو 2020م إلى أن المطالبين بتعويضات البطالة، منذ منتصف مارس، صار عدد هؤلاء يناهز 33,5 مليون أميركي وهم يشكلون 20%، مقارنة بنسبة شهر مارس الماضي. 4.4%. الجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب نجح في تمرير قانون يخفض الضرائب على الشركات الأميركية الكبرى، وبالطبع ستُوَاجَه تداعياته من خلال تقليص خدمات الرعاية الاجتماعية، التي هي بالأساس هشة، كما جرى الالتفاف وإضعاف نظام الرعاية الصحية (أوباما كير) وهو ما أدى إلى تعميق الفوارق الاجتماعية والطبقية في المجتمع الأميركي، وإلى الفشل الذريع (5 ملايين مصاب و200 ألف حالة وفاة) في مواجهة جائحة كورونا.

هذا وقد سبق أن حذرت منظمة أوكسفام البريطانية الخيرية من اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في بريطانيا؛ إذ كُشفت عن امتلاك 1% من أغنى الأغنياء في البلاد ثروة تزيد 20 مرة على ما يمتلكه 20% من السكان الأفقر.

وفقًا لمكتب إحصاءات الاتحاد الأوربي، في جميع أنحاء الاتحاد الأوربي، بلغ معدل البطالة 7.2% في يوليو الماضي، مقابل 7.1 % في يونيو، كما أن البطالة في صفوف الشباب أخذت في الارتفاع، لتصل إلى 17 % في دول الاتحاد و17.3% ضمن منطقة اليورو. وتشير تقديرات المكتب إلى أن 15.2 مليون شخص كانوا عاطلين عن العمل في يوليو الماضي في الاتحاد الأوربي كله، بينهم 12.8 مليونًا في منطقة اليورو.

وجاء في تصريح للأمين العام لاتحاد النقابات الأوربية، لوكا فيسينتيني: «وفقًا لمصادرنا، هناك 45 مليون شخص في بطالة جزئية ومؤقتة». في ظل الأزمة البنيوية العميقة للاقتصاد العالمي هل بات العالم مقبلًا على انهيار وسقوط نهائي لنمط الإنتاج الرأسمالي، ومن ثَمّ يكون مصيره كمصير الاشتراكية السوفييتية، أو على نحو أدق كمصير رأسمالية الدولة البيروقراطية، أم إن الرأسمالية ستستطيع تجاوز أزمتها بفضل ما تتمتع به من حيوية ومرونة وقدرة على التكيف؟

مساءلة ومجادلة الليبرالية الجديدة وإخضاعها للتحليل والتقويم والنقد ضمن إطارها وشروطها وحدودها التاريخية لا تبدو صيحة في برّية. فالمسارات والنتائج التي أفضت إليها الليبرالية الجديدة أدت إلى خلق أوضاع صعبة ومعقدة، خصوصًا في بلدان الجنوب حيث ينعدم الحد الأدنى من آدمية وكرامة الأغلبية الساحقة من البشر.

ويفرض بقوة مشروعًا أمميًّا محددًا وواضحًا للرأسمال الدولي، فيما يعرف بسياسة الخصخصة والتكيف الهيكلي، وبموجب ذلك لم تعد مسائل مثل صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، واختيار أسلوب النمو الاقتصادي والاجتماعي من حق وصلاحية تلك الدول التي رضخت لمشروطية وتصورات المنظمات المالية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والشركات متعددة ومتعدية الجنسية، والدول الغربية المُقرِضة، فيما يتعلق بسياسات الأجور والإعانات وتقليص الميزانية العامة عن طريق تخفيض النفقات وأشكال الدعم المقدم للخدمات والسلع الأساسية، وإطلاق الأسعار وتصفية وبيع ممتلكات ومشاريع الدولة، وبخاصة المشاريع الناجحة والمربحة، وفتح المجال أمام الرأسمال الأجنبي والمحلي لتملكها عن طريق شراء أصولها الثابتة أو الدخول كأطراف مشاركة، ويتم ذلك وسط تفاقم المديونية والانكشاف الغذائي والتبعية الاقتصادية والتكنولوجية

في جميع الحالات، فإن الحياة والتجربة التاريخية أكدتا سقوط مبدأ الحرية المطلقة للأسواق وقوانينها الغابية، استنادًا إلى «الليبرالية الجديدة» وعلى محورية الدولة ودورها الموازن ووظيفتها الاقتصادية/ الاجتماعية.

مؤسسة الفكر العربي في عالم متغير

مؤسسة الفكر العربي في عالم متغير

انعقد في القاهرة خلال المدة (27 – 29 أكتوبر عام 2002م) المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي وقد شارك في فعالياته نحو 700 من المفكرين والسياسيين والمثقفين العرب والأجانب، كما حظي بتغطية ومشاركة إعلامية واسعتين. وشملت فعاليات المؤتمر إلى جانب كلمات الافتتاح عشرة محاور أساسية غطت معظم القضايا والتحديات التي يعانيها العالم العربي في مطلع الألفية الثالثة.

ويذكر أن قيام مؤسسة الفكر العربي تحول من حلم إلى حقيقة ماثلة بفضل وعي وبصيرة وإرادة الأمير الشاعر المثقف خالد الفيصل، الذي طرح مبادرته لأول مرة في بيروت (مايو عام 2000م) وجُسِّدتْ في الاجتماع التأسيسي في القاهرة (يونيو عام 2001م) حيث ناقش الأهداف والرؤية والمنهج ومسائل تنظيمية إجرائية، واختيرتْ بيروت لتكون المقر الدائم، ويعد انعقاد المؤتمر الأول للمؤسسة في القاهرة باكورة عمالها.

عقدت مؤسّسة الفكر العربيّ مؤتمرها السنويّ السابع عشر «فكر» الأخير بالشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافيّ العالميّ «إثراء» خلال المدة (2- 5 ديسمبر 2019م) في مدينة الظهران بالسعودية، أكدت ديباجة التعريف بها أنها «مؤسسة دولية أهلية مستقلة ليس لها ارتباط بالأنظمة والتوجهات الحزبية أو الطائفية، وهي مبادرة تضامنية بين الفكر والمال لتنمية الاعتزاز بثوابت الأمة ومبادئها ومنهجها وأخلاقها بنهج الحرية المسؤولة… وتعنى بمختلف سبل المعرفة… في سبيل توحيد الجهود الفكرية والثقافية التي تدعو إلى تضامن الأمة والنهوض بها والمحافظة على هويتها». الأهمية الخاصة لتشكيل مؤسسة الفكر العربي تنبع أولًا: من طبيعة تكوينها المستقلّ وفقًا لتعريفها، بوصفها إحدى منظمات المجتمع المدني العربي المنفتحة على كل الاتجاهات والفعاليات الثقافية والمعرفية والعلمية العربية والإنسانية المؤمنة بضرورة تشخيص قضايا الأمة العربية والنهوض بها، وتفجير الطاقات والقدرات الكامنة فيها، وتحرير إرادتها من كل عوامل التعويق والتخلف والاستبداد والتبعية.

وثانيًا: تعود للظروف والمرحلة الدقيقة والحرجة التي تمر بها البلدان والمجتمعات العربية قاطبة، جراء استفحال التحديات الخطيرة التي تجابهها على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتي من شأنها زعزعة أوضاعها بل استئصال وجودها ذاته، حيث تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ وتفكيك وتفتيت المجتمعات العربية، وزجها في لجة الإرهاب والصراعات الدموية والحروب الداخلية العبثية، عبر استثارة وتأجيج الهويات (الدينية، والمذهبية، والعرقية، والمناطقية، والقبلية) الفرعية القاتلة، في ظل عولمة عاتية (لا مكان فيها لغير الأقوياء)، وتدخلات قوى دولية متعددة، إلى جانب تطلعات وأطماع إقليمية (إسرائيلية وإيرانية وتركية) شرسة تستهدف جميعًا (من منطلقات متباينة) التوسع والهيمنة في عموم المنطقة العربية، ومصادرة استقلال ومقومات وثروات ووحدة شعوبها، التي يفاقمها الفشل العربي الخطير في مواجهتها وإيجاد الحلول والمخارج الصحيحة، فالأزمة شاملة وعميقة ومركبة، ليس بالإمكان لأية حلول ترقيعية وسطحية وتلفيقية أن تخرج العالم العربي من الحال المزرية التي وصل إليها.

باختصار هي أزمة الواقع والبديل أو البدائل المزعومة معًا. وتعود هذه الأزمة في جذورها وأبعادها إلى عوامل وشروط تاريخية حكمت نشأة وانبثاق «الدولة العربية الحديثة» بمكوناتها وعناصرها الملتبسة وفي سيرورتها المرتبكة والمتناقضة، كما يعود إلى فشل وإجهاض المشروع النهضوي العربي (منذ أواسط القرن التاسع عشر) نتيجة عجزه عن تمثل وإنجاز مسائل ومهام تاريخية تعد أساسية وحاسمة، سبق للمجتمعات الغربية أن حلتها وفقًا لشروط تطورها الخاصة، كما أن عددًا كبيرًا من المجتمعات (في البلدان الأخرى) قطعت شوطًا متقدمًا على صعيد تحقيقها.

السؤال المطروح هنا ما الأسباب والعوامل التي أدت إلى وصول العالم العربي إلى الطريق المسدود والأزمة البنيويه التي يعانيها؟

بعضهم يعزو ذلك إلى أسباب وعوامل تاريخية وخارجية كطبيعة السلطة العثمانية التي تميزت بالتخلف والاستبداد والفساد، ثم المؤامرات والمكايد الاستعمارية التي تكللت في اتفاقيات سايكس بيكو التي أجهضت مشروع الاستقلال العربي، وقطعت أوصال المنطقة العربية على هيئة مستعمرات أو سلطات حماية وانتداب تقاسمتها بريطانيا وفرنسا، ومع أن هذه العوامل مهمة في تعويق مشروع النهضة لكنها لا تعطي تفسيرًا وتحليلًا شاملًا للمسألة، خصوصًا أن العديد من البلدان العربية مضى على تشكلها واستقلالها ما يقارب قرنًا من الزمن.

فشل مشروعات الإصلاح الديني

وهنا لا بد من التطرق إلى العوامل الداخلية الأخرى وأشير هنا إلى فشل وإجهاض محاولات ومشروعات الإصلاح الديني، والتطوير والتحديث السياسي والفكري الذي قاده الرواد من رجال الدين والمثقفين المتنورين الذين احتكوا بالغرب ونهلوا من معارفه وعلومه، ولمسوا مدى تقدمه الحضاري والصناعي والعلمي، وتأثروا بمستويات تطوره السياسي والاجتماعي والثقافي، وسعوا جاهدين للاستفادة من تلك المنجزات لتطوير الأوضاع في البيئة والتربة العربية، ومع وجود قواسم مشتركة بين النخب الدينية والثقافية الإصلاحية، فإنهم انقسموا إزاء الكيفية أو الوسيلة الفُضلى لتحقيق ذلك، خصوصًا إزاء السؤال الكبير؛ لماذا تقدم الغرب ولماذا تخلف العرب والمسلمون؟

غير أن المشروع النهضوي بشقيه الديني الإصلاحي والليبرالي واجه طريقًا مسدودًا. وفشل في ترسيخ مفاهيمه وتصوراته على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت، والثورات والانقلابات التي اندلعت. بعضهم يعزو ذلك إلى نظرية المؤامرة (ونحن نتفق معها جزئيًّا) الخارجية وممارسات الغرب إبان سيطرته الاستعمارية (الكولونيالية) المباشرة، حيث سعى بكل الوسائل للإبقاء على الطابع المتخلف والريعي والتابع للاقتصادات الغربية، وهو ما عرقل وشوّه تشكل الطبقات الحديثة، كما مارس أساليب التسلط والقمع والتنكيل الهمجي إزاء كفاح وتطلعات الشعوب العربية بصورة مباشرة، أو عبر وكلائه المحليين، ثم من خلال المشروع الاستعماري (الكولونيالي) الصهيوني الذي أدى إلى زرع الكيان العنصري التوسعي (إسرائيل) في قلب الوطن العربي كعامل تقسيم وإضعاف للعرب.

العناوين الرئيسية في فكر النهضة تمثلت في الإصلاح والتنوير والحداثة، وعلى الرغم من الإنجازات المحدودة التي تحققت على هذا الصعيد، فإنها وصلت إلى طريق مسدود، ولم تواصل سيرورتها بصورة منسجمة، على الرغم من مرور أكثر من قرن ونصف القرن على طرحها، واللافت أن هذه الأطروحات التي لا تزال تحتفظ براهنيتها في خطوطها العريضة شكلت مبعثًا للخلاف والتناقض داخل السلطة والمجتمع والنخب وفيما بينها في البلدان العربية.

إبان السيطرة الاستعمارية، اقتصر الاستثمار الغربي على المجالات التي تهدف لتلبية مصالح السوق الرأسمالية (المتربول) من السلع والمواد الخام (قطن ونفط)، ولتشجيع فتح الأسواق أمام تصريف المنتجات الغربية، كل ذلك أدى إلى استمرار تخلف قوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وعاق إلى حد كبير التشكيل الطبقي الاجتماعي الحديث. وهو ما شكل أحد العوامل المجهضة لمشروع النهضة العربي حيث ظل مشروعًا نخبويًّا يفتقد الحامل الاجتماعي والأدوات السياسية والمؤسسات الثقافية والاقتصادية الحديثة.

لقد فشلت أنماط التنمية العربية المختلفة سواء في النظم (البرجوازية الوطنية) الراديكالية أو النظم (الريعية) المحافظة والمستندة في الحالتين إلى رأسمالية هشة لدول، تتحكم فيها وبها بيروقراطية أصبحت مرتعًا للفساد المالي والإداري ولتفشي المحسوبية والولاءات لأصحاب النفوذ والمصالح، ورافق ذلك تضخم الجهاز البيروقراطي المدني والعسكري والأمني للدولة، وجرى على نطاق واسع تهميش المجتمع ومصادرة مؤسساته المدنية وإلغاء الحقوق والحريات الأساسية للفرد والجماعات، وتراجعت على نحو خطير قيم ومبادئ التسامح والعقلانية والتعددية السياسية والثقافية والفكرية.

جملة العوامل الخارجية والداخلية المختلفة لعبت دورًا حاسمًا في تدهور الأوضاع العربية، التي من مظاهرها الأزمة العامة للنظام العربي الرسمي بمستوياته المختلفة ( السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية) وتفاقم المواجهات والعنف والتطرف الديني والإرهاب، ناهيك عن التناقضات والتوترات الإثنية والطائفية والعرقية والقبلية التي تهدد بمزيد من التفكيك وإعادة تركيب الأوضاع السياسية والجغرافية والاقتصادية والثقافية في المنطقة، خصوصًا إثر أحداث 11 سبتمبر وتبلور وضوح السياسة الأميركية الجديدة التي يقودها المحافظون المتحالفون مع المسيحيين الجدد واللوبي الصهيوني المتنفذ في الداخل ومع إسرائيل حيث تربطهم وتجمعهم مصالح إستراتيجية وأيديولوجية مشتركة.

اختراق غير مسبوق

إزاء هذه الظروف الدقيقة والحرجة تمثل مؤسسة الفكر العربي اختراقًا غير مسبوق للواقع العربي ينبغي تطويره والابتعاد به من منزلقات المجاملات الرسمية والثقافية، من خلال الانفتاح على كل المكونات الثقافية والإبداعية العربية، والارتباط بنبض الشعوب العربية، والاستماع إلى احتياجاتها وهمومها ومشكلاتها بعقل وقلب مفتوحين، وأقول: إن الأمير خالد الفيصل بما يمتلك من وعي وانفتاح وإرادة قادر على المساهمة في تحقيق وإنجاز هذه المهمة الصعبة والدقيقة، ولكن الضرورية والحاسمة في هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها الأمة العربية. السؤال المؤرق المطروح: هل بالإمكان استعادة فكر النهضة؟ وما عناصر المشروع النهضوي الجديد ضمن الشروط التاريخية والعوامل والظروف (الموضوعية الذاتية) السائدة؟ وأين يتقاطع (يلتقي ويفترق) مع المشروع النهضوي المجهض؟ التجربة التاريخية تبين أن الإصلاح والتنوير والحداثة هي مراحل متداخلة ومتشابكة إلى درجة أن أية محاولة لفصم وفصل أحد مكوناتها ستؤدي إلى فشل وإحباط العملية برمتها. لذا من المهم معرفة الأسباب التي حالت وتحول دون الوصول بالإصلاح بشقيه الديني والليبرالي إلى اختراق حقيقي، يستند إلى قاعدة شعبية أو حامل اجتماعي يمتلك القدرة على التأثير العميق والشامل من خلال تبني موقف نقدي/ تاريخي إزاء التراث والفكر الديني (بما أنه نتاج بشري) بوصفه ينتمي إلى فضاء وحيز اجتماعي/ تاريخي واقعي بخلاف النص الأول المقدس (القرآن والسنة) الذي هو وحي وتنزيل رباني.

الحديث عن التنوير يتطلب ويستدعي إثارة قضايا ومسائل مفصلية في غاية الأهمية، مثل: العقلانية والعقل والعلم والرؤية النقدية إزاء النقل أو العلوم الدينية (علم الكلام)، وما يتصل بها من مفاهيم مثل الاستنارة والاجتهاد وحرية الفكر والتقدم.

أما على صعيد الحداثة فإن مسائل وقضايا حيوية لا تزال تراوح مكانها ولم تحسم بعد، مثل الحداثة السياسية التي تتطلب إقامة دولة القانون والمؤسسات وترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان والإقرار بالتعددية والمشاركة في صنع القرار. أما الحداثة الاقتصادية فإنها تتمثل في تطوير قوى الإنتاج (تعليم، مهارات، تدريب)، والعلاقات الاجتماعية، وتوسيع القاعدة الاقتصادية من خلال الصناعة والزراعة والخدمات والتكنولوجيا والمال، ورفض إملاءات وضغوط منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي نحو خصخصة القطاعات الإنتاجية والخدمية الحكومية، وتأكيد البعد الاجتماعي للدولة وتعزيز دورها في القطاعات الحيوية للشعب مثل: الاقتصاد والعمل والصحة والتعليم والخدمات ومراكز البحث العلمي.

الحداثة الاجتماعية تتضمن انطلاقة المجتمع المدني بمؤسساته وتشكيلاته وتكويناته المستقلة كافة، وتأكيد دولة كل المواطنين والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات، وهو ما يستدعي ويتطلب نبذ وإنهاء الممارسات والإجراءات كافة، التي منطلقها ولاءات وانتماءات قبلية وعشائرية ومناطقية وطائفية، بوصفها مظاهر متخلفة وبدائية تتناقض مع جوهر ومحتوى مفهوم الدولة العصرية الحديثة (الدولة – الأمة).

إن تحرير المرأة وممارستها لحقوقها الإنسانية كافة هو أحد المؤشرات الحاسمة لقياس مستوى التقدم الاجتماعي والحضاري لأي شعب. أما الحداثة الثقافية فهي تشمل القضاء على الأمية وتطوير المناهج التعليمية والعملية التربوية، وضمان حرية الكتابة والنشر والبحث العلمي والأكاديمي والفكري، وتحديث وتجديد الخطاب الإعلامي والديني، من خلال إضفاء مزيد من الشفافية والانفتاح والتسامح، وضمان أسباب تدفق المعلومة، والتنوع المعرفي والثقافي والحضاري. إن تجاوز المعوقات التي تحكمت في خطاب النهضة المجهض يتطلب التخلص من الرؤية والممارسة التلفيقية بين الثنائيات المتقابلة، مثل القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، النقل والعقل، المحلي والوافد، الأنا والآخر، الوطني والقومي، الخصوصية والعالمية. حل وإنجاز هذه القضايا والمهام يمثل خطوة تاريخية حاسمة باتجاه التحديث والإصلاح والتنوير، ومن شأنها وضع الشعوب العربية على عتبة التقدم الحضاري، وبالتالي تحسين وضعها ومشاركتها (على أساس متكافئ) في الحضارة البشرية المشتركة، ونظام العولمة بتجلياتها ومظاهرها المختلفة، وما تمثله من تحديات وأخطار جدية وحقيقية.

إننا بحاجة إلى مراجعة مسؤولة وشاملة يشترك فيها الجميع من دون إقصاء أو استثناء لأحد، وأعني هنا الجميع، الحكومات والشعوب والتيارات والجماعات والنخب كافة، على اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية لأننا (كما أشار الأمير خالد الفيصل) جميعًا في سفينة واحدة، فإن غرقت سيغرق الجميع، ولن ينبري أحد للتطوع لمساعدتنا.

استفحال الهجمة الشرسة

كل الدلائل والشواهد تشير إلى (وهو ما كان دائمًا) استفحال الهجمة الشرسة المتعددة الأوجه والاتجاهات (السياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية والعسكرية) التي تقوم بها القوى المتحكمة في نظام العولمة وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية، التي يتحكم بها وفيها عتاة اليمين المحافظ، المتحالفون مع المسيحيين الجدد واللوبي الصهيوني في الداخل، ومع إسرائيل في الخارج، وذلك بدوافع مصلحية إستراتيجية وأيديولوجية مشتركة. وهي تستهدف (بصورة لا سابق لها) عموم المنطقة العربية وتحت عناوين مثل الصراع الحضاري مع الإسلام، ومكافحة الإرهاب، ونزع أسلحة الدمار الشامل، أو الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات، وإشاعة الديمقراطية في المنطقة.

نلحظ في ظل التطورات الدراماتيكية التي شهدها العالم العربي منذ اندلاع ما يعرف بثورات «الربيع العربي» التي رفعت شعارات الحرية والعدالة والكرامة والمواطنة المتساوية، تصدُّر حركات «الإسلام السياسي» المشهد العام مستغلة فراغ وتجريف الحياة السياسية والثقافية، وغياب أو ضعف مؤسسات المجتمع المدني، التي تكرست بفعل الممارسات القمعية للأنظمة الحاكمة، وكذلك بفضل ما تتمتع به تلك الحركات من إمكانيات تنظيمية وتعبوية ومالية ودعائية، إلى جانب دعم أطراف دولية (أميركية وأوربية) وإقليمية (تركيا وإيران وقطر) لها.

وبات واضحًا سعي جماعات «الإسلام السياسي» وقوتها الضاربة المتمثلة في جماعة «الإخوان المسلمين» تجيير الحراكات الشعبية وفقًا لمصالحها وأجندتها الخاصة، من خلال سياسة التمكين والغلبة التي اعتمدتها، متجاوزة مرحلة المهادنة والموادعة والتقية إزاء الأنظمة العربية التي انتهجتها في مراحل سابقة.

هذه القضايا والهواجس والأسئلة المفتوحة تصبّ في إطار التوجه والجهد المعرفي والثقافي والفكري الذي تتطلع له وتصبو إليه «مؤسسة الفكر العربي» بوصفها بوتقة وإطار التلاقي وتفاعل مختلف الأفكار والاجتهادات الوطنية والقومية التي تصبّ في مجرى تطور وتقدم ورقي ووحدة الشعوب العربية، خصوصًا في هذا الوقت الحرج والعصيب الذي نجابه فيه تحديات خطيرة ستقرر إلى حد كبير مستقبل مجتمعاتنا وأجيالنا، بل وجودنا الوطني والقومي على حد سواء.

المخاطر البيئية وأنماط الإنتاج.. وجهان لعملة واحدة!

المخاطر البيئية وأنماط الإنتاج.. وجهان لعملة واحدة!

«يموت العالم القديم، والجديد لم يولد بعد، وما بين العتمة والنور، تندلع الشياطين».

أنطونيو غرامشي

يتعين هنا أن نقف عند التغييرات البيئية والمناخية المدمرة لمستقبل حياة البشرية في المقام الأول، ناهيك عن المقومات الاقتصادية. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية: إن تلوث الهواء يتسبب بالفعل في وفاة نحو سبعة ملايين شخص كل عام، (مقارنة بـ300 ألف وفاة حتى الآن نتيجة فيروس كورونا، حتى وقت كتابة المقال) ويعيش أكثر من 90 في المئة من سكان العالم في أماكن تتجاوز فيها نسبة تلوث الهواء الحدود الاسترشادية، وبخاصة في الدول الفقيرة، وتقول ماريا نيرا، مديرة الإدارة المعنية بالصحة العامة والمحددات البيئية والاجتماعية للصحة في منظمة الصحة العالمية: «ليس بوسعنا الخروج من هذه الأزمة، ونحن نُبقي على المستويات نفسها من التلوث (التي سادت قبلها). يجب أن نتعافى منها على نحو صديق للبيئة». وتضيف نيرا: «يجب ألَّا ننظر إلى تقليص مستويات التلوث بوصفه أمرًا مفيدًا فقط للصحة العامة، وإنما كأحد الحافزات الاقتصادية الرئيسة كذلك». وتمضي قائلة: «ستؤدي عودتنا إلى النمو الاقتصادي بالوتيرة السابقة، إلى التسبب في مشكلة هائلة على الصعيدين الصحي والاقتصادي معًا».

في أواخر عام 1992م انعقد مؤتمر قمة الأرض في ريودي جانيرو بالبرازيل، حضره زعماء الدول والآلاف من العلماء والمختصين ومنظمات حماية البيئة من معظم أنحاء العالم؛ لبحث المخاطر الجدية التي تحيق بكوكبنا الأرضي، وانعكاس ذلك على مستقبل الإنسان ووجوده، وكانت الملفات والتقارير المطروحة أمامهم خطيرة بالتأكيد، خصوصًا أن صيحات وإشارات الخطر دامغة وقد طرحها العلماء والمختصون بالأرقام والإحصائيات والشواهد، فماذا كانت النتيجة؟ صحيح جرى التوصل إلى اتفاقية «كيوتو» حول المناخ والبيئة التي تضمنت توصيات مهمة، غير أنها ظلت مجرد قرارات وبيانات غير ملزمة، أخذت صفة توصيات، ونداءات خالية البتة من الآليات العملية والتنفيذية، وينتهي المؤتمر بتسجيل موقف أخلاقي وسياسي فقط، بدلًا من القيام بواجبه لاحتواء الخطر المتفاقم المحدق بالبشرية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا خلت تلك القرارات من صفة الإلزام وآليات التنفيذ؟

ضمن هذا السياق وُقِّعَتِ اتفاقية باريس للمناخ فى عام 2015م، وهى اتفاقية دولية لمراقبة وتقييد تغير المناخ، واتفقت الدول الموقعة على: الاحتفاظ بدرجات حرارة الأرض بمستوى «أقل بكثير» من مستوى 2 درجة مئوية فوق المستوى الذي كانت عليه في أزمنة ما قبل الثورة الصناعية «والسعي لتقليلها» حتى إلى مستوى أكثر من ذلك وهو 1.5 درجة مئوية.

تقليل كمية غازات الدفيئة المنبعثة من نشاطات الإنسان إلى المستويات ذاتها التي يمكن للأشجار والتربة والمحيطات امتصاصها بشكل طبيعي، بدءًا من 2050م إلى و2100م. مراجعة إسهام كل دولة في تقليل انبعاث الغازات كل خمس سنوات، وهو ما يسمح بقياس حجم مواجهة تحدي التغير المناخي. إلزام الدول الغنية بمساعدة الدول الفقيرة وتزويدها بالتمويل والمساعدة في التأقلم مع التغير المناخي والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة.

الجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أعلن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من اتفاقية باريس للمناخ في 1 يونيو 2017م، وفي 4 نوفمبر 2019م، أرسل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، لتأكيد الانسحاب الفعلي بهذا الخصوص. وسوف يدخل حيز التنفيذ في 4 نوفمبر 2020م. وكان بومبيو قد أوضح في بيان صحافي أن «الرئيس ترمب قد اتخذ قرارًا بالانسحاب من اتفاقية باريس بسبب العبء الاقتصادي الظالم الواقع على العمال الأميركيين والشركات ودافعي الضرائب؛ بسبب التزامات الولايات المتحدة بموجب الاتفاق».

الانسحاب الأميركي في عهد الرئيس الأميركي ترمب أتى ضمن حزمة من الانسحابات الأميركية من اتفاقيات وهيئات ومنظمات دولية وإقليمية؛ نذكر من بينها: مجلس حقوق الإنسان، ومنظمة اليونسكو، واتفاقية الصواريخ، وقطْع الدعم عن وكالة غوث، وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، واتفاق التجارة الحرة لدول أميركا الشمالية، والاتفاق النووي الإيراني، والتهديد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وكانت الخاتمة (حتى الآن) قرار الرئيس ترمب وقف تمويل الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية في عز جائحة كورنا، بحجة تقصيرها في مواجهة الجائحة وكذلك وهو المهم، محاباة الصين.

انتفاء صفة الإلزام

هناك أطروحات مفادها، أن تنفيذ أي قرارات أممية يجب أن يراعي في المحل الأول السيادة الوطنية للدول بمعنى انتفاء صفة الإلزام، وهذا يبدو من وجهة النظر الشكلية والقانونية صحيحًا، ولكن وبالمنطق نفسه، ماذا نعدُّ حادثة انفجار مفاعل تشيرنوبيل (1986م) التي تعدت آثارها ونتائجها جمهورية أوكرانيا، وامتدت لتشمل مساحات واسعة من الاتحاد السوفييتي السابق وأوربا وإفريقيا وآسيا؟ وهل كان بالإمكان مواجهتها استنادًا إلى إجراءات خاصة ذات طبيعة وطنية أو إقليمية فقط؟

لنتذكر حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) وما أقدم عليه النظام العراقي السابق من تدمير للآبار والمنشآت البترولية الكويتية، وضخ البترول في مياه الخليج، وهو الأمر الذي أدى إلى تهديد خطير لمكونات الهواء والمياه والبيئة البحرية والتربة الزراعية، إلى جانب تأثير الأسلحة المشعة (اليورانيوم المنضب) التي استخدمتها قوات التحالف، والتي لا تزال آثارها باقية حتى الآن؛ فهل كان بالإمكان مواجهة ذلك بجهود دول المنطقة الذاتية فقط؟ المعطيات تفيد أن الأمر تطلّب مشاركة العشرات من الدول والمؤسسات والهيئات الدولية والإقليمية والمحلية المختصة بهذا الغرض.

جائحة كورونا كشفت مدى هشاشة نظام العولمة، والتجمعات والتكتلات الاقتصادية والسياسية في العالم، وهناك تساؤلات جدية تتعلق بمصير الاتحاد الأوربي، والشراكة الأميركية/ الأوربية، والسوق الأميركية الشمالية المشتركة وغيرها، في ظل سياسة الانكفاء والعزلة، والبحث عن المصالح الوطنية الضيقة، على حساب التضامن والتعاون الإقليمي والإنساني المشترك.

ضرورة وجود ضمير عالمي

أشير إلى ما جاء في التقرير الشهير الذي أصدره نادي روما المسمى «حدود النمو»: «هناك ضرورة لوجود ضمير عالمي جديد ومعيار أخلاقي جديد يحكم استخدام الموارد المادية.. وهو موقف جديد إزاء الطبيعة قائم على التوافق والانسجام وليس على الغزو والقهر.. وعاطفة قوية تجاه الأجيال القادمة، وإحساس باندماج مصيري معها.. لأول مرة في حياة الإنسان على الأرض مطلوب منه أن يحجم عن فعل أشياء هو قادر عليها، مطلوب منه أن يكبح اندفاع التقدم التكنولوجي والاقتصادي، ومطلوب من المحظوظين باسم جميع الأجيال القادمة على هذا الكوكب أن يقتسموا خيراتهم مع غير المحظوظين لا بروح الصداقة، وإنما بروح إدراك الضرورة.. فهل يستطيع بضمير مستريح أن يرفض؟» العالم يعيش مرحلة انتقالية، ما بين عالم قديم يتداعى ويضمحل بكل حمولاته، وعالم جديد سيأخد بالتشكل، ضمن صيرورة متناقضة وغير واضحة المعالم، ولا يمكن الجزم بوجهتها النهائية، لكنها لن تكون بالتأكيد على منوال المرحلة الآفلة.

أعود إلى جائحة كورونا «كوفيد – 19» التي امتدت تأثيراتها المدمرة المباشرة وغير المباشرة لتشمل العالم بأسره وكل أصقاع المعمورة، الدول المتقدمة (الغنية والمتطورة) مرورًا بما سُمِّيَ بالاقتصادات الجديدة (البازغة) وانتهاءً بدول العالم الثالث (المهمشة والتابعة) على حد سواء، فهي قد جسدت بحق وحدة المصالح والمصير الإنساني للبشرية جمعاء.

كشفت الجائحة عن العوار، والترهل، والضعف، والأزمة البنيوية العميقة التي تكتنف الرأسمالية المعاصرة، التي تسودها «الليبرالية الجديدة» بقوانين سوقها الغابية على الصعيد الاقتصادي من جهة، و أزمة الخطاب الشعبوي (القومي) الانعزالي الذي تَصَدَّرَ المشهدَ العام في العديد من الدول الكبرى والمؤثرة في العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة (الترمبية كتمظهر فاقعًا لها) حيث تكشفت عقم وخطورة ممارساته على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية، وقد عبر عنه بشكل واضح وفظ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عبر طرحه شعاره الشهير «أميركا أولًا» الذي لا يتناقض من وجهة نظره عن شعار «ترمب أولًا» من جهة أخرى.

مظاهر وتجليات الأزمة

تكشف على نحو صادم غياب البنية والهياكل الصحية القوية، فيما يشبه بالفضيحة في البلدان الرأسمالية المتطورة كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ودول الاتحاد الأوربي، ومن بينها (بدرجات متفاوتة) ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من الدول، حيث تتركز فيها غالبية الإصابات والوفيات في العالم، وذلك على الرغم من الجهود الجبارة والتضحيات الضخمة التي بذلتها الأطقم الصحية في تلك البلدان، غير أنه في ظل الإمكانيات المحدودة، والنقص الحاد في الأدوات الصحية الطبية، وخصوصًا أجهزة التحليل، والتنفس الصناعي، والأردية الطبية والكمامات، وهو ما أدى إلى إصابة الآلاف من الطواقم الطبية (أطباء وممرضين وإداريين ورجال إسعاف) ناهيك عن موت مئات الآلاف وإصابة الملايين بالفيروس القاتل على صعيد العالم، أما في بلدان العالم الثالث وخصوصًا الفقيرة منها، والمفتقرة إلى الحد الأدنى من المرافق والتجهيزات الطبية فحدث ولا حرج، وقد جاء في تقرير لمنظمة الصحة العالمية باحتمال إصابة 150 مليون إفريقي بفيروس كرونا.

كل ذلك نتيجة طبيعية لاستقالة الدولة عن القيام بوظائفها الاجتماعية والاقتصادية والخدمية، وذلك لصالح هيمنة رأسمالية متوحشة، استفادت من توجهات الدولة وخصوصًا في دول المركز، نحو تطبيق مبادئ «الليبرالية الجديدة» في تناغم مع القوى المتنفذة في نظام العولمة وآلياتها المتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، والداعية لتطبيق حزمة واحدة على جميع البلدان، تتمثل في خصخصة قطاعات حيوية للمجتمع مثل الصحة والتعليم والخدمات والمرافق العامة والشركات التي تشرف عليها أو تملك معظم حصصها الدولة، وذلك بهدف تعظيم أرباح الشركات الخاصة، التي دشنت في البلدان الرأسمالية المتطورة منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، من خلال ما عرف بالريغانية (نسبة للرئيس الأميركي السابق ريغان)، والتاتشرية (نسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر)، ثم انتشرت وسادت بقوة على الصعيد العالمي، إثر سقوط وانهيار وتفكك «المعسكر الاشتراكي» بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، الذي كان يمثل (مع كل نقاط ضعفه ومكامن خلله البنيوية التي أدت إلى انهياره في النهاية) تحدِّيًا ضاغطًا على الرأسمالية في عقر دارها، وهو ما جعلها تقدم على تنازلات جدية إزاء الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة، وتمثلت في النظرية الكنزية، التي تدعو إلى دور متزايد للدولة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، والتي سادت في الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية طيلة ثلاثة عقود، والتي جسدها ما سُمِّيَ «الحلم الأميركي»، والأمر كذلك على صعيد أوربا الغربية فيما سمي «بدولة الرعاية» تحت قيادة الأحزاب الاشتراكية- الديمقراطية التي حكمت أغلبية الدول الأوربية حيث «التصالح» بين الرأسمال والعمل، والتي تمثلت في تقديم تنازلات مهمة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والنقابية والخدماتية للطبقة العاملة، كما سُمِحَ بتطوير وتحسين أوضاع الطبقة الوسطى آنذاك.

تأثيرات وتداعيات كارثة كورونا لم تقتصر على الجانب الإنساني الذي أودى بحياة مئات الآلاف وأصيب الملايين من البشر، حيث يعيش المليارات من الناس (بمستويات مختلفة) في جميع القارات في ظل حالة طوارئ، وعزلة وتباعد اجتماعي، شلَّتْ أو جمَّدتْ إلى حد كبير جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها مرافق العمل والتجمع والتنقل، الذي انعكس في الانهيار والركود الاقتصادي والصناعي والمالي، حيث تقدر الخسائر على هذا الصعيد وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، تحدثت فيه عن حجم الاقتصاد العالمي، وما سيشهده من تقلص يَصِلُ هذا العام إلى حدود 3.2 في المئة، نتيجة لجائحة «كورونا» التي عصفت بجميع دول العالم.

وبحسب ما جاء في تقرير إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابع للأمم المتحدة، فإن حجم التقلص سيعادل ما حُصِّلَ من مكاسب في نحو 4 أعوام، ليبلغ حجم الخسائر نحو 8.5 تريليونات دولار. كما يهدد على نحو غير مسبوق بإفلاس الشركات الصناعية، وسوق الأسهم، والمصارف والمؤسسات المالية الكبرى، إلى جانب تصاعد المديونية، وعجز الموازنة العامة للدولة، ناهيك عن تفاقم حدة الفقر، والبطالة، والمجاعة في العالم أجمع بما في ذلك الدول الرأسمالية المتطورة.

تحديات وجودية

في الواقع، يمكن القول بأن البشرية تمرُّ في الوقت الراهن بمخاطر مصيرية وتحديات وجودية غير مسبوقة، ستكون لها بالضرورة تأثيرات وانعكاسات نوعية وعميقة لا تطول الحاضر فقط، بل تتصل بالمستقبل على وجه التحديد، وستشمل أنماط الحياة والعمل والقيم والمثل الأخلاقية، وقبل كل شيء الأنماط الاقتصادية السائدة، المتمثلة في طبيعتها المعاصرة «الليبرالية الجديدة» أو «الفيروس الليبرالي» وهو عنوان كتاب أصدره المفكر الاقتصادي البارز سمير أمين في عام 2003م، حلل فيه ظاهرة الليبرالية أو ما سمّاه «الفيروس الليبرالي» بالارتباط مع المسار التاريخي لنشوء الرأسمالية منذ القرن السادس عشر وتحولاتها ومآلاتها، حيث تنشط وتسود قوانين السوق الغابية، وذلك بهدف تعظيم الأرباح والثروات الهائلة التي تتركز في وقتنا الحاضر في أيدي حفنة صغيرة من البشر، تمثل ما يسمى المجمع الصناعي/ العسكري/ المالي، المتحكم في اقتصادات الدول المتقدمة (المراكز المهيمنة) والتابعة (الأطراف المهمشة) على حد سواء. التساؤل هنا: هل جائحة كوفيد – 19 هي السبب في الكارثة العالمية الحالية المحدقة بالبشرية، أم هي نتيجة سيادة نمط اقتصادي قائم على الاستغلال والهيمنة على مكامن السلطة والقوة والثروة، في ظل غياب العدالة والمساواة والتفاوت المريع، ما بين دول المركز ودول الأطراف من جهة، وفي داخل كل منهما من جهة آخرى.

يتحمل نمط الإنتاج المعاصر المسؤولية الأساسية في تفاقم مشاكل البيئة مدفوعًا بمعايير السوق والجشع، فدول الشمال الصناعية التي تضم 25% من سكان العالم تحصل على 80% من الناتج القومي العالمي، و70% من موارد الطاقة في كوكبنا، و75% من معادنه، و85% من أخشابه، ومن ثم هي مسؤولة عن 70% من التلوث البيئي في العالم. ماذا يعني كل ذلك؟ هل علينا أن نتجاهل مناحي ونوعية التطور، وأنماط الإنتاج والنمو، وفقًا لقوانين السوق الرأسمالية الغابية التي تروج لها «الليبرالية الجديدة»، ومفادها الإنتاج من أجل الإنتاج، والاستهلاك من أجل الاستهلاك، في حلقة جهنمية وعبثية؛ وذلك بهدف تعظيم الأرباح، بغض النظر عن مصالح ومصير البشر والإنسان، الذي هو هدف التنمية وأداتها، التي من شأنها تهديد حياة ومستقبل الإنسانية؟ أم إن هناك مخرجًا ومنحًى آخرَ يتعين اكتشافه؟

التساؤل هنا: هل المشكلة التي تواجه البشرية تكمن في جائحة كورونا (كوفيد – 19) أم هي متعلقة بنمط الإنتاج السائد، وأثاره المدمرة؟

الفساد كمحرك للانتفاضات الشعبية

الفساد كمحرك للانتفاضات الشعبية

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الفساد ظاهرة تختص بها بلدان العالم الثالث «الجنوب» في حين تنتفي في البلدان المتقدمة «الشمال»؟ التجارب والوقائع تؤكد أن الفساد أصبح ظاهرة عالمية توجد وتنتشر في البلدان والمجتمعات كافة بغض النظر عن مستوى تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ففي أوربا الغربية اضطر المستشار الألماني السابق هلمت كول إلى تقديم استقالته من زعامة الحزب الديمقراطي المسيحي بعد فضيحة تلقيه أموالًا غير شرعية لتمويل حملات حزبه الانتخابية، وفي فرنسا أدخل ابن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، المعتقل بتهمة قبض رشاوى، كما أدين رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي السابق بتسهيل وتمرير صفقات مشبوهة مع شركة النفط الفرنسية «آلف أكتان» بالتعاون مع عشيقته كريستين جونكور، وفي إيطاليا حكم على رئيس وزراء سابق «جوليو أندريوني» بالسجن بتهمة الرشوة والفساد.

أما في دول شرق أوربا فإن الفساد أصبح سمة عامة للمرحلة الانتقالية من الاقتصاد «الاشتراكي» الموجه إلى اقتصاد السوق «الرأسمالي»، وهو مرتبط بسياسة الخصخصة وتصفية القطاع العام، ومختلف أنواع التعديات غير المشروعة كالتهرب من الضرائب، وسرقة المال العام، والتهريب، والتلاعب بسعر الصرف، وتهريب العملات الصعبة.

وفي روسيا ما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، خصوصًا في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين فإن الفساد والرشوة أصبحا جزءًا لا يتجزأ من النسق السياسي الاقتصادي والاجتماعي في أعلى درجاته، الذي عبر عنه التحالف شبه المعلن بين المافيا ورجال المال والسياسة من جهة، وألمانيا التي تحكمت في جميع مفاصل الحياة في روسيا آنذاك من جهة أخرى.

وفي آسيا طالت تهم الفساد والرشوة عددًا من الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء وكبار المسؤولين في كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وماليزيا وإندونيسيا وتركيا وباكستان وأفغانستان وإيران والصين وغيرها.

وطالت قضايا الفساد الدول الإفريقية، ودول أميركا الوسطى والجنوبية، والأمر ذاته يشمل الدول العربية، حيث سادت ولمدة طويلة جدًّا الأنظمة العسكرية والدكتاتورية والاستبدادية في معظمها، حيث حول الجنرالات والحكام وبطانتهم، وما يسمى بتحالف مافيا المال والسلطة، بلدانهم إلى مزارع خاصة لهم ولبطانتهم على حساب الأغلبية الساحقة من الشعوب، الذين يرزحون تحت وطأة الاستبداد والفقر والبطالة والجوع والمرض والقمع والإرهاب وانعدام اليقين وغياب الثقة والأمل في المستقبل.

وفي الواقع، إن قضايا الفساد لم تعد تقتصر على الدول والحكومات والشركات متعددة الجنسيات وشركات السلاح بل طالت المنظمات والهيئات غير الحكومية، وهو ما أجبر المفوضية الأوربية للاتحاد الأوربي قبل سنوات على تقديم استقالة جماعية بما في ذلك عضوة المفوضية رئيسة وزراء فرنسا السابقة إديث كريسون، كما نشير إلى فضيحة الفساد الكبرى التي طالت قيادات بارزة في الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا».

وفي كثير من الأحيان، إن القانون والقضاء والقضاة أصبحوا أداة وغطاء ودرعًا يحمي الفساد، وبخاصة فساد كبار المسؤولين والشركات الكبرى ذات النفوذ، وهو ما يحصل بالفعل في عدد من بلدان العالم الثالث بما في ذلك البلدان العربية.

تمدد الفساد وتغوله

لدى استعراض الدوافع المحركة للحراكات والثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية، سواء في موجتها الأولى منذ 2011م التي شملت تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها، إلى جانب ما نشاهده من حراكات شعبية عربية واسعة في الموجة الثانية الراهنة، كما هو الحاصل في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، نلحظ استشراء وتمدد وتوغل الفساد في مفاصل الدول العميقة وأنساق السلطة، إلى جانب وجود عوامل مهمة أخرى، كالاستبداد واحتكار السلطة، وهيمنة نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، إلى جانب تفشي الفقر والبطالة وتردي الخدمات التي تتسم بها أغلب الدول العربية، بمستويات مختلفة.

لقد تنبهت الأمم المتحدة لحجم المشكلة الخطيرة «الفساد» التي تهدد الاستقرار ونظام القيم والأخلاق في العالم، وأصدرت قرارًا مهمًّا حول وجوب مكافحة الفساد على المستوى الدولي؛ إذ تشكلت في عام 1993م منظمة الشفافية الدولية ومقرها برلين، وقد عقدت عددًا من المؤتمرات، من بينها مؤتمر في نهاية عام ١٩98م في بروكسل تحت شعار «في سبيل مناخ تجاري خالٍ من الفساد».

ومن الملحوظ أنه حيث توجد أطر سياسية وقانونية ورقابية قوية، وحيث يوجد حضور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني، فإن الفساد يتم تطويقه ومحاصرته وكشفه، واتخاذ الإجراءات النظامية والقانونية والقضائية الرادعة بحق مرتكبيه، مهما كانت مواقعهم.

غير أنه في معظم الدول «جلهم من بلدان الجنوب» حيث تكون الأطر السياسية والقانونية والقضائية ضعيفة ومخترقة أو معدومة، وفي ظل شلل وغياب مؤسسات المجتمع المدني وطغيان النظم الشمولية والدكتاتورية، فإن ثروات ومقدرات تلك البلدان تصبح لقمة سهلة في متناول أصحاب السلطة والنفوذ، ويمتد الفساد ليشمل الحلقات العليا والحلقات الدنيا ضمن الجهاز البيروقراطي المترهل، وما سهل عليهم تحقيق مصالحهم الخاصة والأنانية انعدام أو ضعف التخطيط والإصلاح الإداري والإصلاح الوظيفي، وشلل أو غياب أجهزة الرقابة والتحقيق والمحاسبة، إلى جانب تردي الأوضاع المعيشية والمادية لصغار ومتوسطي الموظفين الذين يعيشون البطالة المقنعة، وسط الإهمال والتسيب والروتين والإساءة للمواطنين، وعدم تقديم الخدمات اللائقة بهم، وفي ظل غياب أو ضعف سياسة العقاب والثواب ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب وفقًا لمبدأ التكافؤ والمساواة والعدل إزاء الجميع.

السلطة مدخل لتحقيق الثروة

في الغرب عمومًا فإن الثروة هي المدخل إلى السلطة، أما في بلدان الجنوب والشرق فإن السلطة هي المدخل لتحقيق الثروة، حيث يستغل رجال الحكم والشخصيات العامة مواقعهم بغرض الإثراء الشخصي غير المشروع عبر العمولات والسمسرة وسرقة وإهدار المال العام وعقد الصفقات المشبوهة.

في الواقع الفساد ظاهرة قديمة وتعود تاريخيًّا إلى المراحل الأولى لتشكل المجتمعات «العمران البشري» والدول، وكان متضمنًا للصراع الأزلي بين الخير والشر، الحق والباطل، العدل والظلم، الحرية والاستبداد. كما احتل موضوع الفساد حجر الزاوية في النظام الأخلاقي/القيمي لجميع الحضارات والأديان، غير أن هذه الظاهرة «الفساد» في ظل نظام العولمة بمضامينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، أخذت بعدًا متقدمًا وحضورًا قويًّا على المستويين العالمي والمحلي.

التجارب التاريخية تؤكد أن عناصر الفساد والرشوة والجريمة المنظمة تستمد قوتها واستمرارها من حالة الجمود والشلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وضعف أو غياب الشفافية والمراقبة والمحاسبة؛ لذا فإن العديد من البلدان أقرت خططًا عاجلة للإصلاح الإداري والإصلاح الوظيفي، وعملت على تطوير الأنظمة والقوانين لتتواكب مع متطلبات الحياة والعصر، وتطبيق مبدأ «من أين لك هذا؟»، وتجريم أي تعدٍّ على الأموال العامة، أو استخدام الموقع والنفوذ والوظيفة من أجل الإثراء غير المشروع على حساب حقوق ومصالح الدولة والمواطنين.

وفي هذا الإطار فإن وسائل الإعلام المختلفة ومناهج التربية والتعليم تضطلع بدور كبير في التوعية الفكرية والوظيفية والأخلاقية حول احترام الملكية العامة للدولة والعمل على حمايتها من أي اعتداء أو إهمال أو تسيب، وفضح وكشف المتلاعبين بأموال وحقوق ومصالح الدولة والشعب أيًّا كانت مواقعهم.