الأدب العربي والتحليل النفسي في مطلع القرن العشرين معاوية نور في صحبة سيغموند فرويد

الأدب العربي والتحليل النفسي في مطلع القرن العشرين

معاوية نور في صحبة سيغموند فرويد

انطوت حياة الكاتب والناقد السوداني معاوية محمد نور (1909- 1941م)، الذي تمر ذكرى رحيله الثمانون في شهر ديسمبر المقبل، على مفارقة مأساوية من الصعب مقاومة إغراء ذكرها في مستهل مقال كهذا يتطرق إلى موقع هذا الأديب في مشهد تفاعل أدباء النهضة العربية مع نظرية التحليل النفسي ومؤسسها النمساوي سيغموند فرويد (1856-1939م) خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

معاوية الذي درس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم انتقل للإقامة في العاصمة المصرية وحقق حضورًا لامعًا في مدة وجيزة في أبرز صحفها ومجلاتها الثقافية في تلك الحقبة، عبر طائفة غنية ومتنوعة من المقالات والدراسات التي كان يكتبها باللغتين العربية والإنجليزية؛ هذا المثقف الطليعي الذي اتسم بالحيوية والجسارة والطموح تدهورت صحته العقلية فجأة وهو لم يتخطّ العقد الثاني في عمره، وحُجز بمصحة للأمراض العصبية في القاهرة قبل أن ينقل إلى بيت عائلته في العاصمة السودانية، حيث عزل في غرفة قصية، إلا أنه كان يخرج من حين لآخر إلى ضوء النهار وقد تحول إلى رجل شاحب وسقيم يلبس الزي الشعبي السوداني (الجلباب)، ويهيم على وجهه وهو يحمل القرآن الكريم ويردد آياته؛ هو الذي عاش متمثلًا وممثلًا روح العلمانية الغربية في كل ملمح من شخصيته (في لغته، وقراءاته، وكتاباته، حتى ملبسه، وهواياته، وعلاقاته الاجتماعية،… إلخ).

وبعد وقت قصير -وهنا مكمن المفارقة العبثية- عمل أهله كل ما في وسعهم لأجل معالجته فعرضوه على (فكي/ فقيه) فأخذ هذا يعالجه بالأعشاب والطلاسم، وفي مرحلة تالية راح يمزق ظهره بالسياط زاعمًا أنه سيخرج الأرواح الشريرة الكامنة في بدنه. إلى أن ساءت الحالة الصحية لمعاوية أكثر، ثم مات.

تلك النهاية المفجعة بوقائعها العبثية ما كان لأحد أن يتوقعها آخر محطة في المسار الأدبي الواعد لمعاوية نور الذي «بشر العالم العربي بأمل كبير لم تنجزه المقادير» وفق قولة الشاعر والناقد المصري عباس محمود العقاد (1899- 1965م)، ولكنها تبقى نهاية ممكنة بالطبع. فالعديد من أدباء العالم كانت نهاياتهم شبيهة أو ربما أعقد من نهاية الأديب السوداني، وغالبًا ما فُسّرَت تلك النهايات بوصفها رد فعل أو استجابة لما تعرض له هؤلاء الأدباء من اضطهاد اجتماعي أو سياسي، أو نتيجة لحساسيتهم الفائقة أو بسبب تعرضهم لهزات عاطفية عنيفة، … إلخ.

والشاهد أن الروائي والمؤرخ اللبناني- الإنجليزي إدوارد عطية (1903- 1964م) فسر ما حصل لتلميذه وصديقه معاوية بأنه نتيجة فشله –معاوية- في التوفيق بين طموحه الفكري وبيئته الاجتماعية المتخلفة، إلى جانب أنه اختبر الفقر والعوز وهو في مصر وقد عجز عن تدبير ما يكفي من مال للعيش والعلاج. وكل تلك التفسيرات، التي قد تصدق أو لا تصدق، هي من بين ما ورثه الذهن الإنساني الحديث من تركة رواد التحليل النفسي، مثل فرويد ويونغ وسواهما، الذين أنفقوا أعمارهم بحثًا واستكشافًا في مجاهل وألغاز النفس البشرية بهدف فهم واستيعاب ما يصدر منها من أفعال، وما تتجلى عليه من أحوال، وما تنتهي إليها من مآلات. ويمكن القول: إن معاوية كان من أوائل –إن لم يكن أول- أدباء النهضة الأدبية العربية احتفاءً بجهود أولئك المحللين النفسانيين، وقد سجل افتتانه بفتوحاتهم في كتاباته بطرائق شتى، وأراد أن يكون بمنزلة جسر رابط بينهم وبين الثقافة العربية.

الترجيح واليقين

وقبل التفصيل في ذلك تلح على الذهن قصة قصيرة كان كتبها معاوية تحت عنوان «إيمان» ونشرها في جريدة مصر (13 سبتمبر 1930م)، لعل ذكرها هنا يستكمل موضوع هذه الفقرة من المقال. وتحكي القصة عن جلال أفندي الذي يستمع بشغف لأحاديث المتكلمين حوله في المكتب والترام والمنتديات، ثم يأخذ الآراء التي تروق له من دون تثبت ويتبناها تبنيًا، وبخاصة إذا سمعها من متكلم قوي وحازم وأكيد في حجته وشخصيته.

يأخذ جلال أفندي هذه الآراء فيعيد ترديدها على أصحابه، وكأنما هي له وهو يتعصب لها ويذود عنها. وتروي القصة كيف أمست حياة الأفندي في النهاية مزيجًا من الآراء المتناقضة في مسائل كالتوظيف في دواوين الحكومة والموسيقا والرقص والكيمياء والفيزياء، وكيف تحول من شخص يؤمن بكل شيء إلى شخص يشك في كل شيء، ثم كيف راح أفراد مجتمعه يسخرون منه حتى اضطرب كيانه العصبي وصار لا يأكل ولا يشرب، وأخذ يهيم في الطرقات بعدما اعتراه مس من الجنون، ثم مات.

فيودور دوستويفسكي

يصعب القول: إن معاوية تنبأ عبر هذه القصة بالطريقة التي سيموت بها فليس من شبه بينه وبين شخصية بطل القصة، بل هما مختلفان بعضهما عن بعض كل الاختلاف مع أن هناك تشابهًا واضحًا بين ظروف وفاة معاوية وبعض ملامح القصة: الاختلال العقلي فالموت.

ولكن هذه القصة تمثل ترجمة أو تجسيد لرؤية معاوية التي ما انفك يرددها حول «نسبية المعرفة»؛ إذ كان يلح على أهمية ألّا نأخذ الآراء والنظريات بوصفها ثوابت ويقينيات، فهي له مجرد «مسألة ترجيح وقوة واتزان في القول»، وفي رأيه ليس من الحكمة في شيء «تشيع الإنسان للنظرة الفلسفية تشيعًا مطلقًا، في حرارة وجزم وإيمان».

ويمكن رؤية هذا الموقف المبدئي لدى معاوية في تعليق له يتصل بموضوع هذا المقال، كما يتصل بواحد من أسبق المثقفين العرب تفاعلًا مع نظريتي «النشوء والتطور» و«التحليل النفسي»، وهو سلامة موسى (1887- 1958م)؛ فلقد أخذ عليه معاوية عدم التزامه الروح العلمية ونبرته اليقينية في حديثه عن مدرسة فرويد النفسية. قال معاوية في مقالة له بعنوان «عالم القيم والنظريات..» نشرتها السياسة الأسبوعية (18 أكتوبر 1930م): «يحزنني حقًّا أن أرى رجلًا كالأستاذ سلامة موسى يكتب في العلم، وعلم النفس بنوع خاص، أحدث العلوم وأصغرها، كتابة فيها من صيغة الجزم ما يخرجها من حيز العلم النظري، فلقد لخص لبعض كتاب التحليل النفسي من مدرسة فرويد وأتباعه فأعطى كلامه بالعربية عن النظريات صيغة «النهائية» كأنما العلم استقر لدى فرويد وأتباعه، والقارئ العربي المسكين يحسب أن هذا الذي ينقله إليه سلامة موسى إنما هو علم النفس الحق الذي لا علم بعده ونحن نعلم أن فرويد وأتباعه إنما يكونون مدرسة واحدة بين علماء النفس العديدين».

بيد أن كل ذلك لا ينفي انجذاب معاوية انجذابًا عميقًا إلى فرويد أو إلى مجال التحليل النفسي في عمومه، وما قصته القصيرة (إيمان) إلا واحدة من مجموعة قصص كتبها ونشرها بهدف توطين وترسيخ ما كان يسميه «القصة النفسانية» في تربة الأدب العربي، وقد قال ذلك: «أرمي في كتابة هذه الصور والأقاصيص […] إلى درس الشخصيات درسًا سيكولوجيًّا، درسًا يعنى بالنتائج والأسباب، كما يعنى بالدوافع والأزمات».

فرويد ودوستويفسكي

«إن الدرس الصحيح هو درس الإنسان نفسه» هذا قول للشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب (1688-1744م) استعاره معاوية في مقالة له بعنوان «كيف نفكر» (جريدة مصر، 8 مارس 1931م) بينما كان يتحدث عن أن البشر حققوا طفرات نوعية في المعرفة العلمية وأحاطوا علمًا بأشياء كثيرة في الطبيعة ولكنهم ما زالوا يجهلون أنفسهم؛ إذ ليس من شيء أصعب من درس النفس ولا أعسر منه منالًا لطالبيه، يقول معاوية، ويضيف موضحًا في المقالة نفسها: «لأن الإنسان أدق من أي آلة عرفها العالم […] غير أن الممارسة تذلل كل صعوبة فالقارئ الذي يعوّد نفسه مجابهة صعابه النفسية التي تنشأ بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين منطق الحياة وظروفها لواجد في مثل هذه المحاولات لذة وإمتاعًا […]، فليس أمتع ولا ألذ من سرور الاستبانة والاكتشاف عند الإنسان».

ولعل شغف معاوية بالسيكولوجيا هو الذي جعله ينظر إلى الفن بوصفه «تاريخ للنفس في أعلى ساعات نشاطها وفي أحرج لحظات حياتها وفي أثمن تجاربها وصراعها بين العوامل المتضادة والقوى المتنافرة» كما ذكر في مقالة له بعنوان: «الأدب العالي والقصص الفرنسي» نشرها في جريدة السياسة الأسبوعية (26 إبريل 1930م).

ولقد كان معاوية قارئًا نهمًا، وكان يقرأ في كل شيء تقريبًا، ولكن بدارسة تجربته يمكننا أن نرى استغراقه الواضح في قراءة مقالات وكتب علم النفس، إلى جانب عنايته الفائقة بكتب السير والتراجم، ولا عجب فكتب السير والتراجم هي بمنزلة البعد الأدبي للتحليل النفسي.

ويبدو أن تعلق معاوية بعلم النفس وعلمائه كان شائعًا في الوسط الأدبي بالقاهرة، وهو ما نستشفه بقراءة استطلاع كانت مجلة «الدهور» اللبنانية أجرته في عددها العاشر (ديسمبر 1934م) بعنوان: «لمن أو لماذا تكتب- تنظم؟» واستنطقت عبره مجموعة من الأدباء نذكر منهم: بشارة الخوري، ومحمود تيمور، وإيليا أبو ماضي، وخليل مطران، وعمر أبو ريشة، ومحمد الهمشري، إضافة إلى معاوية نور. ويلاحظ أن المجلة قدمت كل المشاركين بصفاتهم الإبداعية أو المهنية، وحين جاءت إلى معاوية وصفته بـ«أديب.. مهتم بنشر كتابات سيغموند فرويد».

ولا غرابة فلقد تأثر معاوية بكتابات عالم النفس النمساوي الشهير تأثرًا ظاهرًا، ولئن كان هناك من تفسير لكونه من أوائل من كتبوا باللغة العربية -إن لم يكن أولهم- عن الكاتبين النمساويين أرتور شنتسلر (1862- 1931م)، وشتيفان تسفايغ (1881- 1942م)، فذلك التفسير بلا شك لن يخرج عن شغفه بثلاثة أمور هي: علم النفس، والسير والتراجم، وسيغموند فرويد.

لا يتعلق الأمر بحقيقة أن هؤلاء الثلاثة (فرويد وشنتسلر وتسفايغ) من بلد واحد، وأصلهم واحد (يهود) ولكنهم أيضًا كانوا أصدقاء وتشاركوا الاهتمام بعلم النفس والفن؛ فشنتسلر هو طبيب وكاتب مسرحي وروائي، وكانت بينه وبين فرويد مراسلات معلومة، وتسفايغ هو الآخر كاتب مسرحي وروائي، وكان إلى جانب صداقته لفرويد من أبرع كُتاب التراجم، وقد ترجم لحياة صاحب كتاب «تفسير الأحلام»، كما كتب سيرته الذاتية، وفيها ذكر علاقته بفرويد والتحليل النفسي والسير الذاتية (انظر: شتيفان تسفايغ: عالم الأمس، ترجمة عارف حديفة، دار المدى- العراق).

وعندما كتب معاوية عن شنتسلر في مناسبة وفاته (جريدة مصر، 25 أكتوبر 1931م) قال عنه: إنه «كرس جميع رواياته وقصصه لتصوير الحياة في فيينا -عاصمة النمسا- تصويرًا سيكولوجيًّا، وتفرد بطريقة
خاصة في تشخيص أبطاله وتحليل ميولهم ونزواتهم، بل أصبح صاحب مدرسة في التحليل النفساني…». ولم ينسَ، في سياق المقال، أن يلفت الانتباه إلى تسفايغ، صديق شنتسلر.

ولعل من المفيد في هذا السياق أن نلفت إلى دراسة رائدة -في اللغة العربية- كتبها معاوية عن رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، ونشرت في جريدة السياسة الأسبوعية (7 يونيو 1930م)؛ إذ يبدو واضحًا بين سطورها تأثره بتلك الدراسة الذائعة التي كتبها فرويد «سنة 1928م» عن الرواية نفسها وكاتبها حيث اتخذ الرواية أنموذجًا لتحليل نفسية دستويفسكي، وعدّها إلى جانب «أوديب ملكًا» لسفوكليس، و«هاملت» لشكسبير، من أكبر الأعمال الأدبية على مر الأزمان (راجع: سيغموند فرويد.. التحليل النفسي والفن، دار الطليعة ـ بيروت، 1975م).

وقد استخدم معاوية عبارات مماثلة في مقالته مادحًا الراوية التي بدت له كـ«إنجيل للعراك النفسي وقرآن للألم الروحي […] ونموذج حي للأدب العالي»، وأضاف «رجل مثل دستويفسكي يخطو أميالًا في اكتشاف النفس البشرية حينما يمشي فرويد ودوما وماكدوغال ومورغان وباسيل كنغ خطوات وخطوات، وإن القارئ الفهِم يجد في هذه القصة من حقائق النفس ما لا يجده في مئات من كتب علم النفس». وقول معاوية: إن دوستويفسكي ارتأى بعبقريته الفنية كثيرًا من الآراء الحديثة في علم النفس، هو ما قاله فرويد قبله.

قلب المعري

في كتابه «من الوجهة النفسية.. في دراسة الأدب ونقده»، الصادر سنة 1947م، عدّ محمد خلف الله سنة 1914م نقطة انطلاق لاهتمام نقاد وأدباء العالم العربي بالتحليل النفسي، واستنتج من قراءاته أن رسالة طه حسين «ذكرى أبي العلاء»، التي نوقشت في تلك السنة ونال عليها صاحبها لقب «دكتور»، تُعَدّ أول مصنف عربي أكاديمي في هذا الاتجاه، مع أن صاحب الرسالة لم يذكر في أي موضع منها أنه سيعالج مادته من وجهة نظر سيكولوجية، ناهيك عن أنه عرف بانزعاجه من استخدام منهج التحليل النفسي في تفسير الأدب.

أيًّا كان من أمر، بتتبع الصدى النقدي الذي خلفه كتاب «ذكرى أبي العلاء» في صحف ومجلات تلك الأيام يُلاحظ أن ذلك الصدى في معظمه تركز على مسألة واحدة، وهي كيف أن طه حسين ذهب إلى عدّ «المعري» فيلسوفًا؛ إذ خالفه في مذهبه هذا بعض من درسوا الأدب العربي القديم، ومنهم المستشرق الإنجليزي رينولد ألين نيكلسون الذي رأى أن «من الإسراف وصف أبي العلاء بأنه فيلسوف». وقد ردّ عليه عميد الأدب العربي عبر مقال تحت عنوان: «المعري: أشاعر أم فيلسوف؟» نشر في مجلة المجلة (يونيو 1938م). ويثير الانتباه في هذا السياق ما كتبه معاوية حول هذا الكتاب في جريدة السياسة الأسبوعية (1 مارس 1930م)؛ إذ أخذ على عميد الأدب العربي عدم اهتمامه بالبعدين النفسي والعصبي في شخصية الشاعر الذي عُرف بتشاؤمه!

كتب معاوية «وإنني لأعجب كيف حاول الدكتور طه حسين أن يجعل من المعري فيلسوفًا وحكيمًا […] ليس المعري بالفيلسوف ولا الحكيم، وإنما هو رجل تسيطر عليه أعصابه […]، فلقد عاش في عصر كثرت فيه الأضاليل الكاذبة […]، كان عصر مكر وغدر ووشاية […]، ثم تخيل كيف تصل مثل هذه الأشياء إلى قلب أعمى لا يبصر إنما يتخيل […]، فليس عجيبًا أن ينشأ في نفس المعري ما يسمى في علم النفس الحديث OBSESSIONS AND INFERIORITY COMPLEXES».

لم يكتفِ معاوية في مقالته التي جاءت تحت عنوان: «أبو العلاء كما أراه في فنه» بتسجيل ذلك التعليق اعتراضًا على وجهة نظر عميد الأدب العربي، بل قدم أمثلة عدة على ما يمكن أن يخلص إليه المرء حين يدرس «الدورة النفسية» للمعري، واستخدم في أمثلته مصطلحات ومفاهيم من المعجم السيكولوجي، وقد انتهى في مقالته إلى أن صاحب اللزوميات «لم يكن متشائمًا في صميمه واكتسب تشاؤمه اكتسابًا؛ بسبب فقده أمه وأباه والحالة الاجتماعية التي أحاطت به، وأوهام خياله ورزئه في بصره الذي أكسبه كثيرًا من «مركب النقص» و«استحواذ فكرة على الذهن»».

وبمناسبة ذكر المعري والتحليل النفسي نشير إلى أن قراءة كتابات معاوية تظهر أن أول مرة تحدث فيها عن السيكولوجيا وعلاقتها بالأدب تعود إلى سنة 1929م، حين كتب في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر في ذلك العام في جريدة السياسة الأسبوعية عن ثلاث طرائق/ مناهج لدراسة الأدب، وهي (التاريخية، والنفسية، والفنية)، وفي حديثه عن «الطريقة النفسية» قال: إنها تذهب إلى أن «الأدب ما هو إلا تاريخ نفسي للأدباء والكتاب الذين كتبوه، فنحن لكي نقدر قطعة من الشعر أو النثر وجب علينا أن ندرس حياة هذا الكاتب أو الشاعر وهذا أمر لا غبار عليه […] أما أن تكون هذه المعلومات غاية في ذاتها كما صارت إليه في هذه الأيام الأخيرة فهذا هو الأمر الذي لا نقرّه ولا نفهم كيف يساعد في تذوق الفنون وتقدير الآداب».

وأكد معاوية أن حياة الأديب مهمة لفهم ما تنطوي عليه أعماله الأدبية، وقال: «نحن لا نقدر مقالات [تشارلز لام] مثلًا إنْ لم نعرف شيئًا عن حياته الحزينة وشيئًا عن طبعه الوديع، ولا المعري إن لم نعرف شيئًا عن أنه كان أعمى، إلى آخر المعلومات الهامة». وإشارة معاوية الأخيرة إلى المعري في هذا السياق تبين أنه فكر لثلاث سنوات تقريبًا في إنجاز دراسة نفسية حول تجربة الشاعر الضرير قبل أن ينجزها!

مسالك الوعي

في الأغلب الأعم، تشير المصادر المتصلة بموضوع تداخل الأدباء العرب مع علم النفس ونظرياته إلى كتاب «ابن الرومي» لعباس محمود العقاد الذي صدر سنة 1931م بوصفه من العناوين الرائدة في هذا الجانب، وربما كان معاوية نور من أوائل من أعطوا ذلك الكتاب تلك المكانة. تناول معاوية ذلك الكتاب من فور صدوره عبر مقالة حافلة بعبارات التقريظ والإعجاب نشرها في جريدة مصر (30 أكتوبر 1931م)؛ إذ وصف الكتاب بأنه «مثمر الصفحات زاهرها، جامع الجملة، قوي الوحدة» ولا نعرف أكان قربه من العقاد هو سبب احتفاله أم لأن الكتاب استجاب لنزوعه الشخصي الحار إلى التراجم والسير وعلم النفس؟

ولقد بذل معاوية مجهودًا واضحًا حتى يدرج معظم ما سجله العقاد من ملحوظات حول ابن الرومي وشعره وعصره في سياق المعارف المتصلة بعلم النفس، وراح يقتبس من الكتاب بعض الفقرات ويسبغ عليها مفهومًا سيكولوجيًّا، ولضيق المساحة نعرض نموذجين للتدليل:

أخذ معاوية الفقرة التي تحدث فيها العقاد عن تطير «ابن الرومي»، وقال معلقًا: إن العقاد «أجاد التعبير أتم إجادة عن الاصطلاح المسمى في السيكولوجيا MIND-SET». ثم عرض لقول العقاد: «أما تداعي الخواطر فصاحبه أبدًا يستخرج من الكلمة أو الفكرة غاية تؤدي إليه وتتقلب عليه، ومتى كانت طبيعته الحذر ومزاجه مركبًا على التشاؤم فليس أسهل من اتجاه خواطره السريعة إلى حيث ألفت طبيعته واستمر مزاجه»، وعلق معاوية قائلًا: «وهذا ما نسميه في علم النفس الحديث بـ NEURAL PATHS».

ولكي يعمق إحساس القارئ بالجهد الذي بذله العقاد لم ينسَ معاوية أن يشير في الجزء الأخير من مقالته إلى أن ما جمعه كتاب «ابن الرومي» من حقائق علم النفس الدقيقة إنما مرجعه «تبصر المؤلف بسراديب الروح ومسالك الوعي ومنعرجاته وأخاديده عن طريق البداهة لا عن طريق الدراسة، وما وصل إليه في هذا الباب هو نتاج استقامة النظر وصحة الإدارك لا نتيجة الاطلاع على كتب السيكولوجيا ومذاهب علم النفس […] وحسب الكتاب قيمةً أن فيه مثل هذه الاستطرادات النفسية التي تكون كتابًا في حد ذاتها».

ترجمة الذات

ولم يقتصر تجاوب معاوية مع التحليل النفسي على تلك التعليقات إذ حرص دائمًا على الترويج لـ«الرواية أو القصة النفسانية» وقال: إنها «أعلى صنوف الأدب القصصي»، وحثّ الأدباء العرب على الاحتذاء بتجارب كتّابها البارزين -من وجهة نظره- مثل دوستويفسكي ومارسيل بروست وجميس جويس، وعندما بدا له أن الاستجابة لدعوته محدودة توجه -هو الناقد- في مرحلة متقدمة من حياته (1930- 1931م) إلى كتابة هذا اللون القصصي، وقد حرص على تذكير القراء دائمًا بأن نصوصه تستلهم التحليل النفسي وتهتدي بتجارب المبدعين الذين كتبوا بإيحاء منه. نلمح ذلك في قصته «إيمان» الفائت ذكرها، ونلمحه أيضًا في تقديمه قصته القصيرة «المكان» التي وصفها بـ«القصة التحليلية»؛ إذ قال: «هذا اللون القصصي […] يعرض لأدق المسائل العلمية السيكولوجية المظلمة حتى للعلماء أنفسهم، ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي.. ويغلب في كتّاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم؛ فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان». (جريدة مصر: 11 نوفمبر 1931م).

في ضوء ما سلف، يصح القول: إن اهتمام معاوية بالتحليل النفسي كان اهتمامًا جوهريًّا وقد وظف كل إمكانياته كناقد وقاصّ وكاتب صحفي لأجل إشاعة مبادئه والمعارف المتصلة به وإبراز حضوره في الأدب الغربي وفي كتب التراث العربي، وعلى الأرجح صدر اهتمام الكاتب السوداني هذا عن إلحاح ذهني قوي للوصول إلى بواطن النفس البشرية وسبر أغوارها.

كيف تعرف الأدب العربي إلى فرجينيا وولف: أيقونة «النسوية» في العالم؟

كيف تعرف الأدب العربي إلى فرجينيا وولف:

أيقونة «النسوية» في العالم؟

لطالما حظيت فرجينيا وولف (1882- 1941م)، ربما أكثر من أي كاتبة أخرى، بالاهتمام والانتشار العالمي؛ ولا سيما عبر كتاباتها النقدية ومقالاتها حول المرأة، والسيرة الذاتية، والأزياء، التي كانت وما زالت مصدرًا موحيًا لدارسي الأدب والنسوية والفلسفة؛ وكذلك مذكراتها، ورسائلها، وصداقاتها، وصحتها النفسية، والطريقة التي اختارت أن تنهي بها حياتها؛ إذ مثّلَ كل ذلك مادةً خصبة ومغرية بالاستلهام والمقاربة الإبداعيّة للعديد من صنّاع المسرح والسينما والمسلسلات التلفزيونية. أما نصوصها السردية، فكثيرًا ما بدت صعبة ومعقدة، رغم اعتراف أبرز كتّاب القرن في العالم بتأثرهم بها.

ومع ذلك، لا يسعى هذا المقال إلى إعادة سرد أو تدوير قصة حياتها وشهرتها؛ فذلك معلوم وشائع، وإن تزامن مع الذكرى الثمانين لرحيلها (28 مارس)، بل يحاول حفر طريق جديد في حقل المعرفة العربية المتصلة بها، من خلال استكشاف جانب من مسار رحلتها إلى الشرق؛ عبر السؤال التالي: كيف تعرف العرب إلى هذه الكاتبة التي يكاد يندر ذكرها من دون وصفها بـ«العظيمة» و«الأيقونة» و«المنارة»؟

هذا السؤال غائب في مقدِّمات ما تُرجم لهذه الكاتبة، وفيما كُتب عنها من مقالات ودراسات باللغة العربية، وما كان لغيابه هذا أن يثير الاستغراب أو التفكير لولا القدر الكبير من الاهتمام الذي ظفرت به فرجينيا وولف لدى كاتبات وكتّاب لغة الضاد؛ فلقد كتبوا عنها وحولها وتحت تأثيرها لنحو قرن من الزمان، ويمكن القول بشيء من المبالغة: إن ما كتبوه عنها فاقَ، في كمه وأنواعه ونبرته التبجيلية، سائر ما كُتب عن الأديبات العربيات منذ بدأ استخدام المطبعة في المنطقة!

ويغامر هذا المقال بطرح السؤال، ليس للإجابة عنه بالضرورة، إنما لرسم إطار أوَّليّ لما يمكن عدّه المدخل الأول لفرجينيا وولف إلى ذاكرة الأدب العربي، وذلك من خلال تسليط الضوء على ما رافق حضورها من أسئلة في الصحافة الثقافية العربية.

ولعل ما يثير العجب، أن هذا السؤال سيعود بنا إلى الثلث الأول من القرن العشرين، ففي ذلك الوقت وصل اسم هذه الكاتبة إلى المشهد الأدبي العربي، وحينذاك -وهنا مكمن العجب- لم يكن قد وقع أيٌّ من تلك الأحداث التي يُشار إليها دائمًا لتفسير شهرتها العالمية، مثل واقعة مرضها، أو «رسالة» وحادثة انتحارها، أو نشر مذكراتها… ولم تكن صورتها قد زينت غلاف مجلة «التايم» (حدث ذلك في 12 إبريل 1937م)، ولم يكن إدوارد ألبي (1928- 2016م) كتب بعدُ مسرحيته «من يخاف فرجينيا وولف» (كُتبت عام 1962م) التي تحولت إلى فِلْم (1966م) وذاعت أكثر؛ كما لم يكن الحراك النسوي الغربي الذي وجد في كتاباتها بذوره الفلسفية، قد بلغ ذروته التي عرفها في حقبة ستينيات وسبعينيات ذلك القرن!

لا شيء من كل ذلك كان قد حدث، ولكن تجربة هذه الكاتبة شقّت طريقها إلى المشهد الأدبي العربي؛ وهذا بقدر ما يعكس التأثير القوي لطاقتها الإبداعية أو النقدية، ومن ثم عدم حاجتها إلى أحداث مدوية حتى يتخطى صيتها حدودها الجغرافية؛ فهو أيضًا يبين الحيوية العالية التي اتسم بها تواصل الأدباء العرب، وتفاعلهم مع الثقافة الغربية وقتذاك، أو انبهارهم بها ووقوعهم تحت سطوتها إن شئت.

ترجمات نسوية

لكن، وعلى الرغم مما يمكن أن يقال عن بلاغتها الإبداعية، ورصانتها النقدية؛ يبدو صعبًا تجنب الربط بين شهرة «وولف» ورمزيتها النسوية، سواء أكان في الشرق أم في الغرب، اليوم أم الأمس. وبالتركيز على الصعيد العربي، نجد أن الاهتمام بها بات ملحوظًا في عقدي الستينيات والسبعينيات أكثر من أي وقت مضى، وبنظرة سريعة إلى صفحات المجلات الثقافية التي كانت تصدر في بيروت والقاهرة وبغداد والكويت، يمكن ملاحظة أن هذا الاهتمام العربي بهذه الكاتبة صدر في معظمه عن أقلام نسائية؛ إذ من بين أهم الدراسات العربية حول تجربتها الإبداعية، كانت تلك التي أنجزتها فاطمة موسى لمجلة «الآداب» البيروتية، تحت عنوان: «المؤثرات الفلسفية في قصص فرجينيا وولف» (مارس، 1962م). من ثم، كان أول ما نُقل من مؤلفاتها إلى اللغة العربية، كتابها النقدي «القارئ العادي» وترجمته عقيلة رمضان (1971م).

وفي السنوات التالية، أضحى ملحوظًا اتجاه المترجمات العربيات إلى نقل نصوص «وولف» إلى اللغة العربية، فجاءت ترجمة سمية رمضان لـ«غرفة تخص المرء وحده» (1999م)، ثم ترجمت فاطمة ناعوت «جيوب مثقلة بالحجارة» (2004م)، و«أثر على الحائط» (2009م)، وترجمت ليلى محمد عثمان نجاتي «يوم الإثنين أو الثلاثاء» (2008م)، وترجمت إيزابيل كمال «إلى الفنار» (2015م)، وترجمت سناء عبدالعزيز «غرفة يعقوب» (2019م)، وهناك ترجمات أخرى لبعض هذه العناوين، لمترجمات عربيات أخريات صدرت في مواقيت وبلدان مختلفة.

مصاير مشتركة

معاوية محمد نور

وبخلاف ما حصل في الستينيات وما بعدها، لم يظهر اسم الكاتبة الإنجليزية في منابر الأدب العربي خلال ثلاثينيات القرن الماضي، بوساطة الأقلام الناعمة؛ إذ لا ذكر لها مثلًا فيما خلفته الكاتبة اللبنانية مي زيادة (1899- 1941م)، على ما بين الكاتبتين من أمور مشتركة، مثل: الانشغال بالأدب والصحافة الثقافية وقضايا المرأة، إضافة إلى أن زيادة -مثل وولف- أصيبت باضطراب عصبيّ، وأدخلت المصحة العقلية، ثم ماتت في السنة نفسها التي انتحرت فيها الكاتبة الإنجليزية، كما بيّنت أخيرًا سعاد العنزي في كتابها «نساء في غرفة فرجينيا وولف» (2021م)، وكما فعل قبلها الكاتب سامي الجمعان حين قارب هذه المشتركات بين الكاتبتين عبر نص مسرحي عنوانه: «انتحار معلن» (2020م).

جاء ذكر صاحبة رواية «الأمواج» في تلك المرحلة الباكرة، عبر قلم الكاتب والناقد السوداني معاوية محمد نور (1909- 1941م)، ومع أن مجرد ذكره اسمها، حتى لو جاء عابرًا، يستحق الوقوف عنده، بالنظر إلى ما بات يعنيه اسم فرجينيا وولف اليوم؛ إلا أن معاوية لم يأتِ على ذكرها عرضًا لمرة واحدة أو مرتين، إنما مرات عدة، وبقدر لافت من الإعجاب والاحترام.

والأهمّ من ذلك، أن ذِكْره إياها جاء مرتبطًا بأسئلة حيوية، لعله كان رائدًا في طرحها، وفي اتخاذه تجربة هذه الكاتبة سببًا لإثارتها ومناقشتها، بينما خطابه كان موجهًا إلى القراء والأدباء العرب. تطرقت تلك الأسئلة إلى أثر الحرب العالمية الأولى في مضامين وأساليب الأجناس الإبداعية، واستجلَتْ مفاهيم القصة القصيرة والتراجم والسير الذاتية، وكما هو معلوم كان الوعي بهذه الأجناس الكتابية ضعيفًا في الساحة الثقافية العربية وقتذاك.

وقبل التفصيل في هذا المنحى، قد يكون مهمًّا لأولئك الذين يهتمون بمثل هذه الظواهر، أن نشير إلى أن معاوية هو الآخر -مثل مي زيادة- كان يلتقي فرجينيا وولف في كثير من الاهتمامات؛ فهذا الكاتب الحداثي الذي وصفه محمود عباس العقاد بـ«الأديب النابغ»، كان يماثلها في التأثر بفلسفة هنري برغسون (1859- 1941م)، والافتتان بالأدب الروسي، وكان إعجابه كبيرًا بفيودور دوستويفسكي (1821- 1881م)، وكما حدث معها أصيب هو أيضًا في عقله وحُجِزَ في مشفى الأمراض العقلية، ثم مات -بطريقة غامضة- في السنة نفسها التي رحلت هي فيها!

مي زيادة

إضافة إلى كل ذلك، كان معاوية -مع أن ذلك ليس من أبرز ما عُرف عنه- مدافعًا عن حقوق النساء في العمل والتعليم والمناصب العليا، وفي رأيه أن «البلاد تكون عظيمة بنسائها عظمتها برجالها»، كما كتب في مقال له بجريدة «مصر» (5 سبتمبر 1931م) متخذًا تجربة الشاعرة والخطيبة الهندية ساروجيني نايدو (1879- 1949م) نموذجًا لإبراز المكانة التي بلغتها المرأة في العالم، لافتًا إلى أن ساروجيني «احتملت آلام السجن ونصب النضال والجهاد الذي لا يطيقه كثير من الرجال»، كما أشار إلى الروائية والأكاديمية التركية خالدة أديب (1884- 1964م)، وقال: إنها «تكتب الكتب وتمتطي صهوة الجواد، وتفعل ما لا يفعله كبار الجنود»، واستغرب كيف يحدث ذلك للمرأة في بلدان قريبة، بينما الناس في مصر ما زالوا «يعادون تعليم المرأة ويحرّمون عليها الاختلاط بالرجال في معاهد الثقافة والتعليم، ويبيدون تلك المعاهد إذا هي تأسست وفُرغ من تأسيسها»، وهو يقصد هنا أول معهد للتمثيل تأسس في القاهرة (1930م) وأُغلق في السنة التالية؛ لأنه أباح الجمع بين الطلاب والطالبات في فصله الدراسي!

هواء بلومزبري: الاستعمار والحضارة

ولئن كان صعبًا القول: إن ذِكْره «وولف» جاء استجابةً لنزعته النسوية، فمما لا شك فيه أنه لم يكن يفوت مناسبة للحديث عن السرد من دون الإحالة إليها؛ فهي له «أعظم فنانة تكتب في الوقت الحاضر»، وهي الرمز الحيّ لـطائفة من الكتاب والفنانين والمفكرين البريطانيين جمعتهم «مجموعة بلومزبري» التي شُغل بها معاوية، وربما كان يتطلع إليها ويحلم بالانتساب إلى عضويتها، بينما كان يعرّف القراء العرب بأعلامها، إذ كتب عن ليونارد وولف (1880- 1969م) زوج فرجينيا ورفيقها في المجموعة، وكذلك عن كاتب السيرة والناقد الذي تزوجها مدة قصيرة، ليتون ستراتشي (1880- 1932م)، وعن ألدوس هكسلي (1894- 1963م) الذي انفصل لاحقًا عن المجموعة، وكذلك كتب عن القاصّة النيوزيلندية كاترين مانسفيلد (1823- 1923م) التي عاشت في إنجلترا وكانت صديقة حميمة للزوجين وولف، وعُدَّت من أعضاء المجموعة،… إلخ.

الانتماء والاستلاب

ولفهم ما كان على معاوية اختباره، فيما هو يرنو إلى تجربة «وولف» وتجارب رفاقها في بلومزبري، لا بد من الإشارة إلى ما سجله الروائي والمؤرخ اللبناني -البريطاني إداورد عطية (1903- 1964م) في كتابه «عربي يروي قصته: دراسة في الولاءات»، الذي صدرت نسخته الإنجليزية عام 1946م، حيث ذكر أن معاوية الذي درس في الجامعة الأميركية ببيروت «وجد في الأدب الإنجليزي مأواه الروحي» ولكن ثمة هوة هائلة كانت تفصل «بين مأواه الروحي ومسقط رأسه، بين البلاد والأسرة والعادات التي ينتمي إليها من ناحية، والعالم النائي وغير البادي للعيان الذي يتطلع إليه بكل شغف وحميمية من ناحية أخرى، وإذا شئت أن ترى صورة التباين وتتخيل الهوة التي كان يجتازها عابرًا، فتصوره وهو في أحضان أسرته في أم درمان، تحيط به والدته وخالاته وأخواته […] نساء أميات ليس في عقولهن سوى الحقائق الأولية البيولوجية والعائلية، كالولادة والخفاض […] ثم تصوره في هذا الإطار وهو يتجول في داخل حجرات الرسم الإنجليزية المصقولة من طراز القرن الثامن عشر، ويستنشق هواء بلومزبري في القرن العشرين».

كاترين مانسفيلد

عطية، وهو أحد أساتذة معاوية في كلية غردون (1926م)، ثم صار صديقه، كان نظيره في التوله بلغة وثقافة وأدباء الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، وفي النظر إلى الإمبريالية كفرصة لنهوض العرب وتحضرهم، وقد ظفر بمعركته الشخصية مع هويته، وصار إنجليزيًّا، وحاز كل ما اشتهاه من إنجلترا: إجازة في التاريخ من أكسفورد، زوجة أسكتلندية، ووظيفة مجزية ومستقرة. وقال في كتابه «الآن، أستطيع أن ألتقي أي رجل إنجليزي ندًّا لند، لم أعد أشعر بالعار من نفسي، ولا أنني دونيّ، فلقد ورثت كل ما يمكن للإنجليزي أن يتباهى به عدا الدماء التي تجري في عروقي».

أما معاوية فلم يُكافأ على حبه ومعرفته العميقة بثقافة وتاريخ وحضارة المملكة، بل على العكس، خسر كل شيء: الفرصة الوحيدة التي أُتيحت له لشغل وظيفة في الخرطوم فقدها، حين لم يكبح حسه النقدي في معاينة التوظيف، فدخل في جدل مع مسؤول التوظيف الإنجليزي… حول ماذا؟ حول الكاتب والشاعر الدكتور جونسون (1708- 1784م) وعلاقته بعصره؛ فتأمل!

وفي وقت سابق، كانت السلطات الاستعمارية حرمت معاوية حق استصدار جواز سفر، ووقفت ضد رغبته في استكمال دراسته، ليس في أكسفورد أو كمبردج كما تمنى له أستاذه وصديقه عطية، بل حتى في القاهرة القريبة! ولكن ما كان لكل ذلك أن يخمد تعلقه بلغة الإنجليز وأدبهم وأدبائهم إلى آخر أيام حياته، بيد أن غضبه مما وقع له، دفعه إلى شن حملة قلمية شرسة ضد سياسات ساستهم الاستعمارية في البلاد العربية والإفريقية، عبر سلسلة من المقالات، من دون أن يجد حرجًا في الاستنصار بـ«الإنتلجنسيا الحرة» في مجموعة بلومزبري، وفي غيرها من الجمعيات الثقافية الأوربية والأميركية، مرددًا قول أفلاطون: «لا تصلح الممالك إلا حين يكون ساستها فلاسفة وفلاسفتها ساسة»!

السير والتراجم: زواج الصوان وقوس قزح

لعل أول مرة كتب فيها معاوية عن فرجينيا وولف، جاءت في إطار بحث أعده عن فن السيرة الذاتية وفق المنهج الغربي، أي الكتابة عن الذات بما يشمل محاسنها ومعايبها، قوتها وهشاشتها. كان قد قرأ بتركيز واضح العديد من السير الذاتية الخاصة بالمبدعين والمفكرين، وفحصها وكتب عنها. وكان يود، كما ذكر ذات مرة، أن يرى نفسه «في تراجم عظماء الإنسانية، فيتطلع إلى مثلهم العليا، ويجول معهم في عوالم الفكر والإنشاء، ويشعر بمثل ما يشعرون… يرى مظاهر القوة ودلائل الضعف ومواطنه، فلا يعيبه أن يكتشف نفسه في هذه المرآة السحرية، تطلعه على صورتين في صقال واحد، أو على صورة واحدة ذات أوجه متعددة!».

في دراسة نشرها بمجلة الهلال (إبريل 1931م) بعنوان: «فن التراجم الجديد…»، تحدث معاوية عن انتعاش ورواج هذا اللون من الكتابة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، متناولًا تجارب بعض مبدعيه، مبرزًا خصائصه التقنية، ومتكلمًا عن وجوه الشبه بينه والدراما، وغير ذلك. وفي جزء متقدم من بحثه هذا، تطرق إلى إشكالية المزج بين التخييلي والحقيقي في كتابة السيرة، ومن هنا كانت وقفته عند مقال رائد كتبته فرجينيا وولف تحت عنوان: «السيرة الجديدة» (1927م)، وبخاصة عند قولها الذي وصفه بالعميق قبل أن يترجمه ويعرضه: «إن الشخصية كقوس قزح في تلونها وتعدد وجهاتها، وإن الحق صلب متين متانة حجر الصوان، فأي سبيل إلى تزاوج هذين العنصرين المتنافرين؟».

وفي تعليقه كتب معاوية: «السبيل عندنا هو محك قدرة الفنان، فإذا قال لنا قائل كما تقول الكاتبة الفاضلة، قلنا: إن نحاتي الإغريق قد تمكنوا في براعة ولباقة من إظهار الحركة الدافقة في الحجر الصامد الجامد، ألا يستطيع المترجم الحديث ما هو أسهل من ذلك». وهو اتفق في قوله هذا مع ما قاله سابقًا الكاتب الفرنسي أندريه موروا (1885- 1967م) حول سؤال الكاتبة الإنجليزية، الذي تحول إلى عنوان لكتاب ضم مجموعة من مقالاتها حول السرد والسيرة «Granite and Rainbow» صدر للمرة الأولى سنة 1958م.

الموحي والممل

وكانت فرجينيا وولف ضمن المحاور التي تطرق إليها معاوية في الحوار الذي أجراه مع أندريه موروا حين جاء إلى القاهرة. حيث اختلفا في المقابلة التي نشرتها مجلة الهلال (6 مايو 1932م) عندما قارنا بين فرجينيا وولف والكاتب الفرنسي مارسيل بروست (1871- 1922م). قال موروا: إن صاحب رواية «البحث عن الزمن الضائع» هو رائد القصة الحديثة، فكان رد معاوية عليه: «بروست فيما يتضح لي من مطالعته -التي لم أقو عليها طويلًا- يقتل دنيا أحلامه التي يصورها بالتحليل والإسهاب في الوصف والتحليل العقلي، وإنني أجد كتّاب إنجلترا المحدثين أمثال فرجينيا وولف وكاترين مانسفيلد أسهل على الفهم وأخف في القراءة؛ لأنهم يستعملون الإيحاء بدلًا من التحليل المملّ».

القصة وتيار الوعي

وكان معاوية قد طور فهمه لتجربة فرجينيا وولف وتعمق في مساراتها قبل سنة من ملاقاته موروا شخصيًّا، في فندق صموئيل شبرد في العاصمة المصرية، ويتضح ذلك في المقدمة التي وضعها لنصه القصصي «المكان»، الذي نشره في جريدة مصر (11 نوفمبر 1931م). وقال: إنه اراد بتلك المقدمة القصيرة إعانة «القارئ العربي» على فهم هذا النوع من التأليف القصصي حديث العهد، حتى في أوربا، ولكنه في الواقع سجل من خلالها أول أو أعمق تفاعل عربي خلّاق مع ما عُرف لاحقًا في الخطاب السرديّ وعلى نطاق واسع بـ«تيار الوعي»؛ وعُدّت فرجينيا وولف رائدته وعميدة كُتّابه.

سمية رمضان

وسنكتفي بعرض جزء مما قاله معاوية معرفًا بهذا الاتجاه الأدبي في مقدمته: «هذا النوع من الفن القصصي ليس مهمته تصوير المجتمع، ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الإحساس والعطف القوي على الخلائق… وليس مهمته أن يحكي حكاية، إنما هو يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير […] ويربط كل ذلك بموسيقا الروح واتجاه الوعي، كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة، ويشير عن طريق الإيحاء إلى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى، هو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الإحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان […] كما أنه يصور ما يثيره شيء تافه من ملابسات الحياة، في عملية الوعي وتداعي الخواطر، وقفز الخيال، وتموجات الصور […] هذا النوع عرف في أَتَمِّهِ وأَحسَنِهِ عند كاترين مانسفيلد وفرجينيا وولف من كتاب الإنجليز».

وبالطبع لا يمكن فهم وتثمين هذه المقدمة الشارحة التي قدمها معاوية من دون إدراك ما كان يعنيه ويعانيه فن «القصة القصيرة» في المجتمع الثقافي بالقاهرة في ذلك العصر. ولْنقُلْ في اختزال: كان فنًّا محتقرًا حتى لدى كاتب حداثي مثل محمود عباس العقاد (1889- 1964م)، حتى بعد مرور سنوات على كتابة معاوية عن هذا الفن كانت الصحف الثقافية في القاهرة تستطلع الأدباء بسؤال كهذا: «القصة والدراما؛ هل خُلُوُّ الأدبِ منهما برهانُ نقصٍ؟». كما فعلت مجلة «المجلة الجديدة» (مايو 1934م).

الكاتبة النابهة وأدب ما بعد الحرب

وقبل شهرين من نشر حواره مع موروا، كان معاوية كتب مقالًا ونشره في مجلة المقتطف (مارس 1932م) أعطى فيه فرجينيا وولف مكانة عالية في أدب ما بعد الحرب العالمية. جاء المقال تحت عنوان: «الاتجاهات الحديثة في الفنون والآداب المعاصرة»، تطرق فيه إلى ما لوحظ من توجه إلى الاعتناء بالقالب والشكل على حساب الموضوع والعاطفة في مختلف الأجناس الإبداعية (النحت والتصوير والموسيقا والقصة)، ولفت إلى مدرسة التكعيبية، وكذلك إلى ما أحدثه جاكوب أبشتين في النحت من انقلاب على القواعد والأصول الراسخة، إضافة إلى ما فعله الموسيقيّ إسترافنيسكي الذي كان يوصف بـ«إقليدس الموسيقا»؛ لِمَا في موسيقاه من تأثر بالأفكار الرياضية والهندسية وحيوية آلية.

في الجزء الأخير من المقال، ذكر معاوية أنه يعتقد أن هذا الدور في تطور الآداب والفنون سوف يعقبه دور آخر «يجمع بين جلال الموضوع الإنساني وبين الابتكار في القالب والإبداع فيه»، ثم قال: «نرى بوادر هذا الطور عند الكاتبة الإنجليزية النابهة فرجينيا وولف، أعظم فنانة تكتب في الوقت الحاضر». ثم استعرض منهجها في التفكير والكتابة، كما لو أنه يكتب عنها قصيدة: «هذه المرأة مفكرة عنيفة التفكير، وقالبها الأدبي يصعب تتبعه للقارئ الحديث، وهي لا تخاطب مشاعرنا المعروفة، ولكنها في واقع الأمر تتناول أكبر مسائل الحياة الشعورية وتعرضها في أسلوب كله الدقة والشعور والتفنن. فهي تتناول مثلًا مشكلة عواطف الإنسان وتغيرها، واستمرار الوقت وعدم تغيره، وتؤلف كل ذلك في قوالب جديدة، بارعة الرمز شديدة الإيحاء، وهي لا تؤثر في قارئها مع أنها تستعمل الكلم، عن طريق المنطق والتفكير، ولا تحكي قصتها كما يحكي القصاصون بالطريقة الزمنية المكانية، وإنما قصصها تترك جوًّا خاصًّا في وعي القارئ الدقيق الشعور، يحمل إليه كل ما تريد التعبير عنه، جوًّا هو مزيج من الأصوات والألوان والأنوار المختلفة، جوًّا يقرب في فعله وأثره من فعل الموسيقا… فهذه المرأة هي أقدر النساء اللائي كتبن في الأدب على وجه الإطلاق، وعمق إحساسها بالحياة ليس له من قرار، وخيالها القوي النشيط لا يتتبعه إلا من كان قوي الخيال نشيطه، وإيحاؤها الفني يترك حلقات من الموج في وعي القارئ، تنفذ رويدًا رويدًا إلى مناطق من الروح غير مكتشفة… غامضة مليئة بالحقائق المجهولة… نرى إذن أن فرجينيا وولف بادرة طيبة من بوادر الطور القادم الذي يجمع صرامة التفكير، ودقة القالب، ومشاعر الإنسانية الكبرى، وقيم الروح العليا في الفنون الأدبية».

خاتمة

هكذا، يتبين أن حضور فرجينيا وولف إلى المشهد الأدبي العربي في تلك البدايات، إذ جاء مرتبطًا بتجربة كاتب ومثقف عربي واحد، لكنه لم يكن حضورًا عابرًا أو واهنًا، بل كان عميقًا ومؤثرًا، سواء فيما أَثارَه من أسئلة جمالية وثقافية، أو فيما تقاطع معه من قضايا سياسية واجتماعية.

زعماء النهضة الأدبية والمثقفون الجدد معاوية محمد نور ضد طه حسين

زعماء النهضة الأدبية والمثقفون الجدد

معاوية محمد نور ضد طه حسين

على أي أساس يعد الكاتب زعيمًا لحركة أدبية ما، وما الذي يجعل بعض الأعمال الفنية قادرة على عبور الأزمنة والأمكنة، وهل يمكن لشاعر مثل أبي العلاء المعري أن يكون فيلسوفًا؟ هذه الأسئلة التي يتداخل فيها الثقافي مع الجمالي والفلسفي ناقشها الناقد السوداني معاوية محمد نور (1909-1941م) في ثلاثة مقالات نشرها في مواقيت ومنابر مختلفة في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي، معقبًا على كتابات للدكتور طه حسين (1889-1979م). ونستعيد تلك الأسئلة التي ظلت تطرح على مر السنين لاستكشاف بعض شواغل مثقفي تلك المرحلة، بخاصة فيما يتصل بتفاعلهم مع تراثهم المحلي وانفتاحهم على الثقافة الغربية، ولفهم جانب من العلاقة الجدلية بين جيلي الرواد والشباب في مشهد بواكير حركة الحداثة الأدبية العربية، وكذلك لإحياء جانب من سيرة ذلك المثقف السوداني المتمرد الذي أدركته حرفة الأدب فقلبت حياته رأسًا على عقب.

لمحة عن البوهيمي

أراد معاوية منذ سنواته الأولى أن يكون ناقدًا، ولأجل هذا الهدف قرأ باكرًا روائع الأدب الغربي، وكتب مقالات عن النقد وأعلامه وهو بعدُ لم يتخطَّ المرحلة الثانوية في دراسته، وحين كبر قليلًا رغب في دراسة الأدب، ولهذا اختلف مع عائلته وقطع دراسته للطب، ثم هرب إلى مصر للالتحاق بكلية الآداب في جامعتها، مضحيًا بفرصة مهنية ثمينة، ومتحديًا الأخطار السياسية والمادية لخطوته هذه. ونتيجة لهروبه تعرض للحبس للمرة الأولى في حياته، وفي بلاد كانت في ذلك الوقت غريبة بالنسبة له؛ إذ لاحقته سلطات الاستعمار البريطاني التي كانت قد حظرت على المتعلمين السودانيين السفر إلى القاهرة خشية التحاقهم بالأحزاب المصرية
المعارضة لها.

وحين تمت إعادته إلى الخرطوم استجابت عائلته لرغبته في التخصص بالأدب ودعمت سفره إلى بيروت حيث درس الأدب في الجامعة الأميركية هناك. وهو لم يكتف بالتحصيل الأكاديمي في الجامعة بل صحب دراسته بالمواظبة على الكتابة الأدبية ونشر مقالاته في الصحف الثقافية في القاهرة، وحين أتم دراسته لم يبق في بلده وسط أهله وبين أصحابه، بل اختار السفر إلى القاهرة باحثًا عن موقع له في مشهدها الثقافي العامر.

في العاصمة المصرية عاش معاوية حياة بوهيمية. سكن في غرفة صغيرة فوق سطح عمارة في هيليوبولس، وسط أثاث قليل ولكن بين أكداس من الكتب. كان يعيش بجسده هنا بينما عقله وروحه في أوروبا التي درس آدابها وما كان يكتب عن شيء إلا عنها؛ وقد زاول مهنة الصحافة سنوات عدة في جريدة مصر والأهرام والهلال والإجيبشن ميل وسواها، ولقد برز في المجال بعقله الفذ كما عرف برصانته وجرأة قلمه وجسارة مواقفه. ولكن ما كان يحصل عليه من مال نظير كتاباته بالكاد كان يكفي لإيجار البيت ولوجبة بائسة مكررة قوامها الجبن والخبز. كان يكتب بكثافة كأنه عرف قِصر عمره، وخلال سنوات وجيزة اُنهك جسده النحيل بالقراءة والكتابة والسهر والجوع؛ فمرض، ومات.

الفلسفة الخاصة

كتب معاوية مقالة في صحيفة البلاغ الأسبوعية المصرية في عددها الصادر 6 مارس 1929م انتقد فيها ثلة ممن وصفهم بـ «زعماء النهضة الأدبية»، وأخذ عليهم ضآلة إنتاجهم في مجالات الرواية والدراما والبحوث الفكرية، ولكن بصفة خاصة افتقارهم لـ «الفلسفة الخاصة»؛ فكل كتبهم في رأيه عبارة عن «مقالات نقدية صفوية تنشر في الصحف السيارة ثم تجمع في كتاب وتقدم للجمهور وفي هذا ضعف وفقر لا مثيل لهما».

انطلق معاوية في حكمه على هؤلاء الكتّاب من وجهة نظر عبّر عنها قائلًا: «من ليس له فكرة أساسيّة يصدر عنها في كل ما يكتب قمين به ألا يعد من زعماء النهضة وقادتها». في هذا المقال نتوقف عند واحد من أولئك الكتاب الذين سأل معاوية عن كفايتهم لاستحقاق زعامة النهضة الأدبية العربية، وهو الكاتب والناقد المصري الدكتور طه حسين، ولنأخذ الأمر في هذا السياق – وهو كذلك في الواقع – كما لو أن معاوية في تلك المدة يجسد صورة المثقف الشاب المهمش والمغترب والمتمرد، في حين يمثل طه حسين المثقف الرائد والمركزي، والمقيم، وصاحب المكانة الأكاديمية البارزة إذ كان أستاذًا في الجامعة المصرية كما كان نافذًا في مواقع ووقائع الساحة الثقافية القاهرية.

بالعودة إلى مقالته، نجد أن معاوية برر تقييمه النقدي لـ «زعماء النهضة» بتعليقات قصيرة حول كتبهم التي صدرت في تلك المدة، إذ بدت له في معظمها إما مجرد مقالات وصفية مجمعة أو منتحلة من كتب غربية. وفي تعليقه حول مساهمات صاحب كتاب «الأيام» سأل معاوية: «ما الذي فعله طه حسين لحد الآن؟». وبعد أن أقرّ بتلذذه عند قراءة تحليلات الدكتور للقصص الفرنسية زاد معاوية قائلًا: «ولكن هل هذا هو ما نطلبه من زعيم نهضة؟ قد يقول قائل: إن الدكتور طه مؤرخ آداب وناقد وليس بأديب فما لك تطلب منه ذلك؟ فأقول أين هي مقاييسه المبتكرة في نقد الآداب وكتابة تاريخها؟ فإننا نعلم أن كبار مؤرخي الآداب لهم فلسفة خاصة بهم كـ تين وسانت بيف وهالام؛ فأين الدكتور من هؤلاء وأين هي تآليفه؟ «حديث الأربعاء» ما هو إلا حديث عن الشعراء ليس فيه فكرة أساسية. «الشعر الجاهلي» نعم فيه فكرة أساسية ولكنها منقولة عن المستشرقين أمثال نولدكه الألماني، ونيكلسون الإنجليزي . «فلسفة ابن خلدون» هو الآخر ليس فيه فكرة أساسية إنما هو تحليل فقط وتطبيق لنظرية [هيبوليت] تين في درس الرجال، فهل مثل هذا التطبيق يجدر بزعماء النهضة؟

لسنا في محل تصديق، وتبني أو تكذيب ونفي ما قاله معاوية آنفًا، و بخاصة ما يتصل منه بالإشارة إلى كتاب «الشعر الجاهلي» الذي قال إنه يعبر عن «فكرة أساسية» ولكنها منقولة عن المستشرق الألماني ثيودور نولدكه (1836- 1930م) والإنجليزي رينولد ألين نيكلسون (1868- 1945م)؛ وهي إشارة تذكرنا بما كتبه الكاتب والمترجم المصري محمد لطفي جمعة (1886- 1953م) في سلسلة مقالات نشرها في جريدة المقطم أولًا ثم أصدرها في كتاب تحت عنوان «الشهاب الراصد» سنة 1926م، وخصص صفحاته التي تزيد على الثلاثمائة لنقد كتاب طه حسين، وقد قارن في جزء منه بين «في الشعر الجاهلي» وكتابات المستشرقين مثل الفرنسي أرنست رينان (1823-1892م)، إضافة إلى نولدكه ونيكلسون، حول مسألة صحة الشعر الجاهلي، كما أشار إلى أن فكرة الشك في صحة بعض هذا الشعر صدرت بالأساس من نقاد عرب قدامى سبقوا أولئك المستشرقين.

ولعل معاوية قرأ أو لم يقرأ ما كتبه جمعة في هذا الصدد، لكن ما يهمنا فيما قاله عن زعماء النهضة، وعن الدكتور طه حسين تحديدًا، هو أنه يمثل أول ملمح ظاهر من موقفه النقدي كأديب شاب تجاه الجيل الذي سبقه في المجال.

جيل جديد

لقد فهم معاوية أنه يمثل «الجيل الجديد» وأن جزءًا من تعبيره عن ذاته يظهر في مواجهة «كتّاب الجيل الماضي»، وفي مجابهة «الحقائق المقررة دون تقديس أو خشوع» على نحو ما فعل في بريطانيا الكاتب: ألدوس هكسلي (1894-1963م)، وجي. بي. بريستلي (1894-1984م)، ومايكل أرلن (1895-1956م). كان هؤلاء في رأي معاوية قوة يأبه لها كبار الأدباء، وتخشاهم الصحف الأدبية والناشرون، «فلهؤلاء الكتاب حملات ودراسات نقدية عن كتاب الجيل الماضي أمثال شو، وولز، وهاردي، وجولزروثي، وكونراد، معروفة ومشهورة حتى إن اسم ألدوس هكسلي أصبح عنوان الشباب المتجدد الثائر الهدام، وأعرف أن قلمه لم يقتصر على معاصريه دراسةً ونقدًا وتمحيصًا بل إنه تناول عبقريات الأمة الإنجليزية المقررة ولم يقف منها موقف القداسة والخشوع، ولكنه تناولها غير هياب ولا وجل في جرأة نادرة وحصافة رأي وعمق بديهة فأنزل ديكنز- أكبر قصاصي الإنجليز – من ربوته العالية، وأبان مواضع الضعف في فنه، واقترب من وردزورث، وإدجار آلان بو، فسخر منهما وضحك، وكان أن ردد العالم ذلك الضحك وتلك السخرية. وقد يكون في آراء الدوس هكسلي كثير من الخطأ وقد لا يكون، ولكنه أصبح مثال الشباب المفكر ورائد نزعة فكرية وإمام مدرسة وهو لم يتجاوز الثلاثين عمرًا. ذلك هو المجد وتلك هي الجرأة في سبيل الأدب والفن».

والأمر كذلك، لم يكن غريبًا أن يشارك معاوية في تأسيس رابطة أدبية عرفت بجمعية الأدب القومي وضمت إلى جانبه ثلة من الكتّاب الجدد في مصر حينذاك، وفي بيانهم الذي نشر بجريدة السياسة الأسبوعية (28 يونيو 1930م) تحت عنوان «دعوة إلى خلق أدب قومي»، كان واضحًا وعيهم بحقيقة أنهم يمثلون الجيل الجديد، فلقد ترددت كلمة «شبان» أربع مرات في البيان. وحين كتب أحد الكتّاب داعيًا إلى عدم حصر الرابطة في «الجيل الشاب»، تصدى بالرد عليه معاوية قائلًا: «اقتصار هذه الرابطة على الجيل الجديد واضح لا يحتاج إلى تدليل أو بيان. كيف تطلب من رابطة تعمل لغرض واحد وبين أفرادها فروق كبيرة في الثقافة والمنزع والسن، فالتجانس ضرورة وليس بمانع أن يعمل كل الكتاب والأدباء في دائرة الأدب القومي والإنتاج الفني والتشيع لهذا الرأي، فذلك مما يسر ولا يأباه الإنسان ولكن ذلك شيء وشأن الرابطة شيء آخر».

ومن يتأمل بيان هذه الجماعة الشابة يلمس بسهولة ارتيابها الواضح في كتابات الجيل السابق؛ حيث كانت تنظر لمعظمها بوصفها مجرد انتحالات وسرقات من الأدب الغربي؛ وبأكثر مما هو دعوة إلى «أدب وطني» كان البيان عبارة عن صرخة ضد السطو على الأدب الأوربي، إذ مما ورد فيه: «من العيب أن نضيق بحياتنا فنتلمس تصويرها بأقلام غير أقلامنا وأفهام غير أفهامنا فنبدو في آدابنا، كما نبدو في كل صورة من صور حياتنا، مرآة لا تفعل أكثر من أن تعكس الصور الباهرة الجميلة لتشوهها بالادعاء والمسخ غاضين أبصارنا عن كل ما يحيط بنا [..]، ولئن سرنا هذه السيرة فلن نستطيع أن نخلق لنا أدبًا محليًّا يتميز بالطابع المصري، مهما امتدت بنا الحياة، ومهما كظظنا صحفنا ومجلاتنا وكتبنا بما نريد أن نوهم القراء أنه خلق وإبداع وتجديد، وهو ليس في الواقع إلا قطعًا مدعاة أو محورة أو منقولة في غير أمانة أو دقة من كتاب الغرب وأدبائه…».

رينولد ألين نيكلسون

تذوق الأدب وتبدل الأحوال

على أية حال، بعد جدله في شأن زعامة النهضة ومتطلباتها، نقل معاوية حواره مع الدكتور طه حسين إلى مسائل ذات طبيعة مفاهيمية في شأن تذوق الأدب. كان الدكتور قد كتب مقالة تحت عنوان «الذوق» نشرتها مجلة «المجلة» في عددها الصادر ديسمبر 1929م، وسأل عبرها عما يمكن أن يكون السبب وراء توافق عملين أدبيين في تناول موضوع واحد، وفي الوقت نفسه، وتجاوب الجمهور معهما إعجابًا بالقدر ذاته. وقد أرجع السبب إلى «الذوق العام» الذي تشكله «ظروف وقتية طارئة»، وشرح ما يعنيه بمصطلح الذوق العام فقال هو الحد الأدنى من الاتفاق الذي يحصل بين الجمهور حول قيمة عمل فني ما.

من جانبه، كتب معاوية مقالة نشرتها جريدة السياسة الأسبوعية (28 ديسمبر 1929م) وجاءت تحت عنوان «الذوق الأدبي» وافق فيها الدكتور طه على ما قاله عن حاجة المرء إلى العقل والشعور في تذوق الأعمال الإبداعية، ولكنه أخذ عليه قوله إن الذوق «منوط بتغير الأزمان وتبدل الأحوال».

في رأي معاوية الأعمال الفنية المجيدة قادرة على عبور الأزمنة والأمكنة، وشأن تذوقها منوط بما تتضمنه من «العناصر الباقية» لا باختلاف الظروف والبيئات، فالمبدع الذي يرسم «صور الحب والحياة والموت ويرسمها رسمًا مجيدًا فإن الناس تتذوقه في كل العصور ولو خالفت آراؤه آراءهم، ولو رأى أشياء ربما لا يوافقونه عليها. أما الذي يعمد إلى المسائل الطارئة التي ليست لها قيمة إن هي تجاوزت العصر الذي كتبت فيه، فهذه لن تذاق ولا تقرأ ولا تكون شيئًا مذكورًا».

المعري بين الشعر والفلسفة

سنة 1922م أعاد الدكتور طه حسين طباعة كتابه «ذكرى أبي العلاء المعري» الذي كان قدمه إلى الجامعة المصرية سنة 1914م وحاز عليه لقب «دكتور» ثم طبعه. ثم أعاد طباعته بعدما عاد من باريس 1919م. جاء الفصل الخامس من هذا الكتاب تحت عنوان «فلسفة أبي علاء» حيث ذهب المؤلف إلى أن صاحب «اللزوميات» هو فيلسوف وشاعر في آن. ولكن هذه الفكرة لم ترق لمعاوية الذي كتب مقالة في جريدة السياسة الأسبوعية (1مارس 1930م) تحت عنوان «أبو العلاء المعري كما أراه من فنه». حيث درس تجربة الشاعر العربي الكلاسيكي وفق منهج التحليل النفسي، ولكن ما يعنينا هنا هو ما قاله تعليقًا على خلاصات الدكتور طه حسين في كتابه المشار إليه آنفًا. قال معاوية: «ليس المعري بالفيلسوف ولا الحكيم.. ليس من شأن الفلاسفة والحكماء هذه التأوهات ولا هذه الزفرات ولا هذا الصراخ العالي أو السخط الصارخ.. إنما هذا شأن الشعراء.. وإنني لأعجب كيف حاول الدكتور طه حسين أن يجعل من المعري فيلسوفًا وحكيمًا»!

في منظور معاوية «يجب ألا ننظر إلى المعري كفيلسوف يترجم عن أفكار هادئة هي نتيجة درس وتمحيص، ولا كحكيم يزن الأشياء ويقارن ثم يصدر أحكامه.. ليس المعري هذا.. إنما هو ينقل إلى القارئ حركة إحساسه هو بالحياة.. وآية ذلك هذه المتناقضات التي هي أهم ما يلاحظ الدراس لللزوميات. مما يدل دلالة صريحة على بعده عن التنسيق في كل ما يقول، وهو لا يود أن يجعل من كل ذلك فلسفة منسقة كما خيل إلى البعض، إنما حسبه أن ينفث وحي الساعة، وأن ينظم شعرًا ما يجول في خاطره..».

وفي موضع آخر في مقالته قال معاوية: «يمكنك أن تجد في اللزوميات أبياتًا يؤمن فيها بالجبرية، وأخرى باختيار الإنسان، وأخرى يؤمن فيها بالدين وغيرها ينكر فيها الدين وتعاليمه، وأخرى يظهر فيها تهكمه على الأحياء وسخره منهم، وغيرها يتأسى فيها لهم ويعطف عليهم، وفي غيرها تجده باكيًا عليها».

بالنسبة لمعاوية ما المعري سوى رجل تستولي عليه الفكرة فيرسلها حارة تعبر عن ألمه وعن حيرته واضطرابه وشكه ويأسه وإيمانه وكفره، ولقد عاش في عصر فساد في السياسة والاجتماع والأخلاق والدين إذ كان «عصر مكر وغدر ووشاية كما يصوره المؤرخون.. ثم تخيل كيف تصل مثل هذه الأشياء إلى قلب أعمى لا يبصر، إنما يتخيل ولا يرى نفسه مقدرًا تمام التقدير فليس عجيبًا من بعد ذلك كله أن ينشأ في نفس المعري ما يسمى في علم النفس الحديث obsessive – compulsive _ الوسواس القهري».

الدكتور يرد

في يونيو 1938م نشر الدكتور طه في مجلة الهلال مقالة تحت عنوان «المعري: أشاعر أم فيلسوف؟» بمناسبة احتفال المجلة بسيرة شاعر المعرة، وجاءت المقالة على جزأين، خصص حسين بداية الجزء الأول منها للرد على من جادله في استحقاق المعري لقب «فيلسوف»، ولكنه خصّ بالذكر المستشرق الإنجليزي نيكلسون وقال إنه كان «أشدهم لي مجادلة.. فهو لا يرى في حكمة أبي العلاء التي تمتلئ بها اللزوميات والتي تشيع في غير اللزوميات من كتبه مظهرًا من مظاهر الفلسفة كما يفهمها أهل هذا العصر[..] وأخص ما يحول عنده بين أبي العلاء ولقب الفليسوف أنه لم يقم لنفسه مذهبًا فلسفيًّا واضح الأعلام، متميز النواحي، نستطيع أن نبينه ونرسم حدوده كما نبين المذاهب الفلسفية ونرسم حدودها حين نتحدث عن أفلاطون أو أرسطاليس أو أي فليسوف من فلاسفة العصر.. فالأستاذ نيكلسون يرى من الإسراف وصف أبي العلاء بأنه فيلسوف».

ألدوس هكسلي

لا نعرف إلى اليوم ما إذا كان معاوية اطلع أم لا على مقالة نيكلسون التي جادل عبرها الدكتور طه حسين، وبالتالي لا نستطيع تفسير توافق رأيه مع رأي المستشرق الإنجليزي، كما لا نفهم لماذا لم يرد طه حسين على الملحوظات ذاتها حين صدرت عن معاوية نور قبل نحو عشر سنوات، وقد نشرت في «السياسة الأسبوعية» التي كان طه حسين نفسه من أبرز كتابها.

ونرجح أن معاوية لم يطلع على رد الدكتور المتأخر على ملحوظاته (أو الملحوظات الشبيهة بملحوظاته). ففي سنة 1938م لم يكن معاوية في كامل قواه البدنية والذهنية، إذ كانت قد مرت نحو أربع سنوات على واقعة إعادته إلى السودان بعدما افترض من هم حولهم أنه يعاني من اضطرابات نفسية، وهم أودعوه بالفعل في مشفى نفسي في القاهرة قبل إرساله إلى الخرطوم، حيث لزم غرفة قصية في بيت عائلته في عزلة تامة قبل أن يرحل بعد ثلاث سنوات تحت وقع سياط معالج شعبي، زعم أن جلد الفتى بالسوط كفيل بإخراج الشيطان الذي تلبسه!

«كلباء للمسرحيات القصيرة 6»: دراما الراهن في مرايا الكلاسيكيات  أعمال تعالج الوجود الإنساني وشيوع ثقافة العنف وتدهور مكانة المثقف والفنان

«كلباء للمسرحيات القصيرة 6»: دراما الراهن في مرايا الكلاسيكيات أعمال تعالج الوجود الإنساني وشيوع ثقافة العنف وتدهور مكانة المثقف والفنان

سجل مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة الذي تنظمه إدارة المسرح بدائرة الثقافة في الشارقة حضورًا مميزًا في دورته التي اختتمت أخيرًا. في الندوات النقدية التي استضافها المهرجان، كما في التعليقات المواكبة لفعاليات التظاهرة التي كانت تنشرها الصحف يوميًّا، وصل الانفعال بالمستوى المتطور للعروض، وبخاصة من الناحية التقنية، إلى حد وصفها بـ«العروض المحترفة»، في إشارة إلى ما اتسم به الأداء التمثيلي فوق خشبتها من دقة وانضباط وطواعية، وكذلك ما طبع مناظرها من تدبير حاذق وانسجام دال، سواء في أشكالها أو ألوانها أو فراغاتها وغير ذلك من مكوناتها.

المهرجان الذي انطلق للمرة الأولى عام 2012م، هدفه تأهيل وتطوير المواهب المسرحية ولهذا الغرض تنظم سنويًّا دورة تدريبية تستمر لثلاثة أشهر قبل انطلاق كل دورة من دوراته، وتشمل حصص التدريب مجالات ثلاثة هي: «الإخراج» و«التمثيل» و«السينوغرافيا». وفيما يتصل باللائحة المنظمة للمهرجان فهي تتسم بالمرونة؛ إذ لا تشترط سوى أن يقدم العرض باللغة العربية، وأن يعتمد في بناء مشهديته على الأداء التمثيلي ومجموعة من المجسمات الخشبية التي يوفرها المهرجان، وذلك من مبدأ العمل بكلفة مادية أقلّ وخيال أكثر. وفيما يتعلق بنصوص العروض فالمهرجان يركز على أعمال من مكتبة «المسرح العالمي» اتساقًا مع منهجه التعليمي الذي يوازي بين المعارف التقنية والوعي الثقافي في تمكين منتسبيه وتعزيز خبراتهم المسرحية. وفي مجال يصعب فيه على المرء أن يسجل أو يحقق حضوره المسرحي ما لم يكن منتسبًا لفرقة من الفرق المعتمدة رسميًّا في الدولة. ساعد المهرجان، خلال سنواته الست الماضية، عددًا من الطامحين إلى أن يكونوا فنانين مسرحيين وبات منصة بديلة، لتطلعاتهم وأحلامهم، وبخاصة الشباب منهم. عشرة عروض شهدها الجمهور هذه السنة، بعد أن أدرجتها لجنة فنية مختصة، في فئتين: (داخل المسابقة) و(خارج المسابقة)، لتتنافس ستة عروض على جوائز المهرجان وتقدم البقية على الهامش. ومع أن هذه العروض الستة اشتغلت في معظمها على نصوص تعد من الكلاسيكيات في أيامنا هذه، كما أن كتّابها ليسوا عربًا، إلا أنها بدت جديدة وقريبة الصلة بالمشهد الاجتماعي العربي. الإنسان ومعنى وجوده في هذا الكون، وعقبات عمل المؤسسات الإدارية في المجتمع وشيوع ثقافة العنف والمكانة المتدهورة للمثقف أو الفنان في المجتمع، والدكتاتورية.. كل هذه الموضوعات تناولتها العروض وقدمتها في صور ومشهديات جاءت هي الأخرى، بطبيعة الحال، متنوعة ومتباينة في تكويناتها وعناصرها.

ذاكرة

من مسرحية الذاكرة والخوف

في العمل الموسوم بـ«استعد» وهو من تأليف التركي عزيز نيسين (1915- 1995م)، وإخراج شعبان سبيت، استعارة فنية مكثفة حول المعنى الذي يسبغه الإنسان على الحياة حين يكون صاحب مكان ومكانة وحين يكون بلا شيء. ففي العرض، يستثار الجنرال السابق الذي بات كهلًا وأعمى، ويستعيد ذكريات عزّه في اللحظة التي يشعر فيها بالشك ويظن أن حارسه الشخصي الذي خرج معه في نزهة إلى البحر، قد يكون استغل فقدانه البصر ولم يذهب به إلى موقعه المعتاد من الشاطئ. وعلى الرغم من أن النص يستند إلى حضور شخصيتي «الجنرال» و«الحارس» فوق الخشبة، فإن المخرج شعبان سبيت، عمد إلى استدعاء جانب من حياة الجنرال السابقة، ما قبل التقاعد، عبر جملة من اللوحات المشهديّة، مستعينًا ببعض الممثلين ليتوسع فضاء التشخيص بين بعدين اثنين: الماضي والحاضر، كما تخفف العرض من ثقل طابعه السردي وصار أكثر إيقاعيّة وحيويّة. وبدا كما لو أن المخرج شعبان سبيت ركز على إظهار البعد النفسي وخصوصًا في الأسلوب الأدائي لدور «الجنرال» (قام به شعبان نفسه)، سواء في حركته أو إشاراته وتعبيرات وجهه أو تلوينات صوته تبعًا لحالاته الشعورية، ولعله أفلح في تجسيد معاناة الجنرال، بحيث تبدو صورته فوق الخشبة معبّرة عن اضطرابه وضعفه، فيما هو يستعرض شريط حياته المعقدة، بين خطوط الانطلاق والتوتر والانكسار.

أغنية أخيرة

في العرض المعنون بـ«أغنية طائر التم»، تأليف أنطوان تشيخوف (1860- 1904م) وإخراج أحمد الله راشد، نحن مع «ممثل مسرحي»، هذه المرة، تقدم به العمر هو الآخر وفقد حيويته وجمهوره ووهجه، وراح يبكي أيامه الأولى. شارك مخرج العمل زميله عبدالله الخديم في ترجمة النص إلى العربية وإعداده، واتفقا على استخدام عنوانه حتى يتداخل العمل مع الفكرة الشائعة التي مفادها أن طائر التم لا يغني سوى مرة واحدة وتحلّ حين يأتي ميقات موته. وكان عنوان النص الأساس للكاتب الروسي هو «أغنية البجعة». يشعر الممثل، (قام بالدور عبدالله الخديم) بحالة هي مزيج من اليأس والاستياء والعزلة، عقب تقديمه لعرض مسرحي خلت صالته إلا من القليل، وتنحى في مخزن قصي وراء الخشبة، وأخذ يتداعى حزينًا وكئيبًا، فيدخل عليه «الملقن»، ويبدأ في مواساته وتخفيف وطأة حزنه مشجعًا ومحمسًا له، إلا أن الممثل يبقى على حاله بل يتفاقم حرجه وانهياره حين يستعيد مشواره أيام تألقه وشبابه، ويبدأ في سرد سيرته مع الخشبة والنصوص والجمهور على مدار سِنِي عمره، وقد تحولت، اليوم، إلى حفنة تراب في قبضة يده المهتزة. صمم المخرج أحمد عبدالله راشد (الذي قام بدور الملقن) فضاءً عرضه في هيئة عامة لغرفة أغراض مسرحية: أزياء وإكسسوارات ومساند وتجهيزات مكياج وإضاءة، وقد تراكمت واحتشدت بشكل فوضوي، وقد بدت خلال العرض على صورتين؛ ففي مرة بدت مثل سجن يضيق على الممثل ويحشر حركته في نطاق ضيق، في دلالة على الانحصار والانقباض؛ وفي مرة أخرى، وبخاصة حين أخذ الممثل يستعيد الأنماط الأدائية التي قدمها والأدوار التي ظهر بها فوق الخشبة فيما مضى، وأخذ يجسدها أمام عين الملقن، فلقد كانت الغرفة المخنوقة تتحول إلى فضاء مسرحي رحب يتكون من خشبة مسرح وصالة.. تشع بالأضواء والألوان ولا يعوزها الجمهور.

تيه

من الممكن، أن ننظر في سياق هذا النوع من المسرح، الذي يركز على أوجاع الذات في علاقتها بالمجتمع كما ظهر في العرضين السابق ذكرهما، إلى عرض «العميان» تأليف موريس ماترلينك (1862- 1949م) وإخراج يوسف القصاب، القصاب الذي سجل اسمه بقوة كصائغ حريف للصور البصرية الثرية، حين مزج الألوان والأضواء والظلال والعتمات والأزياء، وجعل الخشبة أشبه بغابة إسكندنافية مفعمة بالبرد. في عمله الذي قدم ثلة من العميان فقدت سبيلها إلى الملجأ، وتاهت في غابة كثيفة في يوم شديد البرودة؛ وأخذت تسأل: أين الطريق إلى العودة؟ وإلى أين يمكن أن يأخذ هذا المسار إلى الأمام أم إلى الخلف؟ ومَن يمكن أن يأتي؟ ومِن أين تصدر هذه الأصوات؟ وفي أي وقت يحصل هذا؟ هذه هي الأسئلة التي تطرحها المجموعة التائهة من فاقدي البصر، في يأس وقلق وخوف؛ وفي تلك الأثناء تتحرك وتتماسك وتتنافر في نموذج مسرحي مصغر لضياع الإنسان في غابة العالم. وقد فاز العرض بجائزة لجنة التحكيم الخاصة.

بيروقراطية وعنف وتسلط

العروض الثلاثة الأخرى التي تنافست لنيل جوائز المهرجان ارتكزت على ثيمات أخرى، فعرض «سترة من المخملين» من تأليف البلغاري ستانسلاف ستراتييف (1941- 2000م) وإخراج رامي مجدي، نقلنا إلى خط يتصل بالنظم والقوانين المدنية والإدارية وأشكال الوعي بها وتطبيقها بين الموظفين والمواطنين. وذلك بالاستناد إلى موقف تعرض له الأستاذ الجامعي «إيفان» الذي انقلب يومه المستقر انقلابًا تامًّا حين اشترى سترة صوفية من بائع في السوق، وصادف أنها غير مشذبة فدلَّه صديقه على قروي متخصص في قص وتشذيب الصوفيات. يتمنع القروي ولا يُلبِّي طلب إيفان، فيتدخل «إيفغيني» ويدفع له بعض الجنيهات، فيوافق القروي الذي يرعى مجموعة من الأغنام، لكنه يطلب تسجيل السترة كملكية خاصة بالسيد إيفان ولا تتبع للقطيع الذي يرعاه لئلا يقع في مخالفة إدارية. ولم ينتبه السيد إيفان إلى أن سترته جرى تقييدها بوصفها «غنمة» وأنها من أملاكه. ولاحقًا سيدفع الأستاذ الجامعي وقته وجهده ثمنًا لإثبات أنه لم يتملك في أي يوم غنمة؛ وذلك حين تطالبه السلطات برسوم ملكية وبغير ذلك من واجبات على مالكي الأغنام.

من عروض المهرجان

في مقاربته الإخراجية عمد رامي مجدي إلى تغليب الطابع الكاريكاتيري في الشكل العام لعرضه، وهو ما أظهر حيوية لافتة في توظيفه مناطق خشبة المسرح إذ لم يوفر حتى صالة الجمهور؛ سواء بقطع الديكور أو من خلال حركة الممثلين، محولًا خشبة المسرح إلى صورة مجسمة للرؤية الساخرة المضمنة في النص، وبخاصة من خلال أسلوب الأداء التشخيصي الذي تكامل مع الطابع التهريجي للأزياء، بتصميماتها وألوانها اللافتة، وكذلك مع المسامع الصوتية المحاكية لبرامج «المقالب» التلفزيونية. وتداخلت كل هذه الحلول، بشكل متناغم ومنسجم، معمقة للأبعاد الهزلية والهجائية أيضًا التي تضمنها العرض. وقد حاز العرض جائزةَ التمثيل (لبنى حسن).

أما عرض «71 درجة» من إعداد مهند كريم وعبدالله الجروان وأحمد أبو عرادة، والمستوحى نصه من مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» لوليم شكسبير، فنهض على إسباغ طابع عصري على الحكاية العنفية التي صورها شكسبير في مسرحيته مستندًا إلى صراعات العرش الروماني التي كانت تزداد ضراوة وحروبًا بمطامع الرجال: إما في النساء أو في السلطة. يستعير عرض مهند كريم بعض المشاهد من المسرحية الشكسبيرية ولكن لبناء نص مسرحي آخر، نص جديد يصور حالة انتقام «تيتوس» من «سارنين»، في سياق جديد؛ فالأخير قتل ابنة الأول وصورها وبعث بصورها وهي قتيلة إلى والدها، وها هو الآن وقد وقع في التجربة ذاتها التي مرت بها القتيلة، فهو في قبضة الوالد المكلوم وعلى وشك أن يعذب ويقتل ويصور من الجميع وتعمم حالة قتله تعميمًا. ويذكر العرض بطابعه هذا بكثير من قصص القتل والانتحار التي انتشرت في وسائط التواصل الاجتماعي على نحو يظهر المدى الذي بلغه استرخاص حياة الإنسان. وقد فاز هذا العرض بجائزتي التمثيل «رجال: أحمد أبو عرادة. ونساء: دينا بدر».

أما العرض المتوج بجائزة المهرجان الكبرى فلقد جاء تحت عنوان: «الذاكرة والخوف» وهو مستلهم عن مسرحية «الملك لير» لوليم شكسبير، وقد اتسم بالدينامية في عناصره السمعية والبصرية مجملة. استند العرض إلى الخط الرئيس في مسرحية «الملك لير» التي تحكي عن ملك يوزع ملكه على بناته الثلاث حين يتقدم به العمر ويرغب في الراحة، لكنه يريد اختبار محبة وإخلاص كل واحدة منهن له!

من هنا، أي من لحظة انهيار المملكة وسقوطها.. يبدأ نص «الحريق» الذي كتبه المسرحي العراقي الراحل قاسم محمد، وعمد المخرج الواعد سعيد الهرش إلى إعداده بطريقته وإخراجه، حيث نكون بإزاء لوحة مسرحية أشبه بمحاكمة قضائية، يُجابه فيها الملك بأسئلة البُهلُول حول مسؤوليته عما لحق البلاد من خراب حين قسم المملكة بين بناته بلا حكمة أو تبصر. حشد الهرش الخشبة بأكثر من «بُهلُول»، أو هو مزج بين شخصية البهلول والشعب، فرأينا بَهاليل في جميع مناطق الخشبة وقد ارتدوا لباس القضاة وحاصروا الملك بأصواتهم ووجوههم وضيقوا عليه المكان. كما وظف المخرج المجسمات الخشبية في أشكال عمودية، بحيث تبدو أشبه بمنصات القضاة في حين، وفي حين آخر تتحول إلى مطارق وأعمدة عمرانية وعلب نارية. وقد وضع المخرج وسط الخشبة «كرسي الملك» الذي بدا أقصر مقارنة بمنصات البهاليل/‏ القضاة. ولإضفاء مسحة راهنية على العمل عمد المخرج إلى إظهار «الملك» في لباس عصري، كما بنى بعض المشهديات التمثيلية بلهجات عربية (عراقية وسورية… إلخ) لفتح دلالة العرض على ما يحصل في الجغرافية السياسية العربية. فاز هذا العرض بجوائز عدة في السينوغرافيا والإخراج والتمثيل إضافة إلى الجائزة الكبرى.

المهرجان الذي ضمّت لجنته التحكيمية خليفة التخلوفة وأيمن الخديم من الإمارات، وزينة ظروف ووليد قوتلي من سوريا، وحافظ خليفة من تونس، حفل بكثير من الأنشطة المصاحبة مثل: الملتقى الفكري الذي جاء تحت عنوان: «المسرح العالمي.. المفهوم وحدوده» وكذلك الدورة الخامسة من ملتقى الشارقة للبحث المسرحي.