ربيعة

ربيعة

حطت (ربيعة) على مكتبها كنورس، وخلعت منقارها الأسود ودسته في شنطتها المسلوخة من جلود البشر. تأملتُ بشغف وجهها البيضاوي الساحر القسمات الذي يستحق أن يُقدّس، وناجيتُ نفسي بأن الوقت قد حان للتقرب منها. صبرتُ حتى تفرغ من تأمل ماكياجها في مرآتها الصغيرة، ثم سبحتُ منجذبًا إلى عبيرها الزكي الذي تفرزه مسامات جلدها، ووضعتُ بين يديها قارورة عطر نسائي مستخلص من مروج المحيطات، وأنا أهمس متهدج الأنفاس بأنها هدية. حملقتْ فيّ بعينيها النجلاوين مستنكرة وفمها ممتعض. سألتني: «ما المناسبة؟». كف الزميلان – عبدالقاهر ونجوى- عن تحريك زعانفهما، وراحا يتابعان ما يجري بتركيز وعيون جاحظة. تأتأتُ بصورة مخزية، ثم نطقت بصوت خافت: «لأننا زميلان في العمل». ردت بنبرة مؤنبة تأديبية: «لكن لماذا أنا؟ لماذا لا تعطي الهدية لنجوى؟». بطرف عيني لاحظتُ (نجوى) التي تحولت ديباجة وجهها إلى اللون القرمزي وسقطت شطيرة البيض المسلوق من يدها. أجبتها بصوت مشروخ باذلًا جهدًا هائلًا للسيطرة على ارتجاف يديّ: «نجوى متزوجة». انبعثتْ من (ربيعة) ضحكة ساخرة: «يعني.. ماذا تريد؟». تشجعتُ وابتلعتُ ريقي: «هل أنتِ مخطوبة؟». سكتتْ برهة، وراحت تحدق فيّ بتركيز شديد وإنسانا عينيها يجوسان ببطء في تقاطيع وجهي، وكأنها تحسب في دماغها ما أستحقه من درجات في اختبار الوسامة.

حبستُ أنفاسي وراح جسدي ينضح عرقًا مترقبًا النطق بالحكم. ساد صمت ثقيل في المكتب وأنا واقف أمامها لا أتزحزح كتمثال حجري، وبدا لي أن (نجوى) و(عبدالقاهر) قد تحولا إلى ميكروفونين عملاقين وفقدا هيئتهما الآدمية. صكّت (ربيعة) زفرة طويلة تعطي انطباعًا بأن المشاعر التي تنتابها هي الضيق والتبرم ونفاد الصبر، التقطتْ قارورة العطر بأصبعين وكأنها تمسك صرصارًا مقرفًا وأعادتها إليّ: «هل تعرف ما الذي لا يعجبني فيك؟». توترت بشدة وقلبي المغلوب على أمره ساح وانزلق نازلًا من فتحة بنطلوني. وقفتْ بإزائي ووضعت سبابتها على أنفي وضغطتْ عليه بقوة وخشونة لم أتوقعهما وكأنها تريد أن تكسره: «أنفك لا يعجبني، يجعلك قبيحًا في عيني». رفعتْ أنملتها ذات الظفر المطلي بالأحمر الفاقع ومسحتها بمنديل ورقي، ثم انتشلتْ حقيبتها وخرجت من المكتب برقبة صلبة ووجه ناشف لا يحمل أدنى تعبير.

بعد مغادرتها استرخى الزميلان في ضحك مكتوم متحرج، ثم تجاسرا على القهقهة بصورة فاضحة ضاربين عرض الحائط بروح الزمالة وأواصر الصداقة. زلقتُ هديتي في جيب معطفي، وتشاغلتُ عن النظر إليهما بإدخال الملفات وترتيبها في أدراج الصوان، وأنا أُفكر هل أُغلقها أم أتركها مفتوحة؟ حسمتُ أمري وقررتُ تركها مفتوحة لكي لا يظن الزميلان أنني أنوي المغادرة. تمالكتُ شتات نفسي بصعوبة وأنا أشعر بركبتيّ متخاذلتين وكأنهما مصبوبتان من عجينة رخوة. انتبهتُ أن أنفي كان يختلج والعصب الذي يتحكم به قد خرج عن سيطرتي، وراح يُعبر بطريقته عن غيظه وألمه من الخزي الذي ناله. بخطوات مترنحة تفتقر للاستقامة، خرجتُ من المكتب معطوف القامة مُديرًا وجهي للجهة الأخرى، في محاولة بائسة لصرف انتباه زميليّ الثرثارين عن ملاحظة حالة أنفي. تمنيتُ فقط ألا أُصادف (ربيعة) في طريقي وأنا خارج من الشركة. حقق الله أمنيتي، ولكن حرس البوابة منعوني من الخروج وطالبوني بتصريح. عدتُ أدراجي ودماغي يصدر صوتًا غريبًا.. ضجة تشبه صوت المضخة! سألني مسؤول حافظة الدوام عن مبرر انصرافي المبكر، شرحتُ له أن أبي قد تعرض لحادث سير وعليّ أن أُباشر إجراءات دفنه. أعطاني أغرب جواب سمعته في حياتي: «هاه.. لأجل هذا يرف أنفك في وجهك كدجاجة مقطوعة الرأس! لكن مع هذا عليك أن تنتظر حتى نهاية الدوام، والدك.. يعني.. لم يعد بإمكانه الذهاب إلى أيّ مكان.. أليس كذلك هاها!!».

لم أستطع مجادلته بسبب تفكك إرادتي وخشيتي من سيلان دموعي دون إذن مني. آليًّا وجدتُ نفسي أخف الخطى إلى المكتب. تناوشني الندم على قراري الاندماج في الجماعة البشرية، وفكرتُ أنه كان من الخير لي لو أن الله خلقني خنزيرًا. حين دخلتُ عاود الزميلان الابتسام فالضحك بصفاقة وكأنهما يريان إعادة لمشهد كوميدي. اتجهتُ إلى الصوان الحديدي وفتحتُ الدرج الأخير – ذاك الذي يُغلق بالقدم- وأفرغته من الملفات، وبدأتُ بحشر جسمي فيه بادئًا برأسي. كان قرارًا نهائيًّا ولا رجعة فيه.. سأسكنُ هناك كنوع من الاحتجاج على رداءة السلوك البشري وقلة اكتراثهم بمشاعر الآخرين.

انحراف بصريّ

انحراف-بصريأول شيء لفت انتباهي إلى تدهور حاسّة البصر عندي هو ذلك المتبختر الذي يُدرّ السعادة، لقد بدا أقصر من طوله المألوف! وفي يوم آخر تأمّلت أصابعي، ولحظت أنها قصيرة وثخينة فوقعتُ في حيرة؛ لأنني متيقّن أنها طويلة ورشيقة؛ أنامل فنان، وهذا بشهادة الجميع، لكن الآن وبسبب هذا الخلل البصريّ صرت أراها كملاعق خشبية ذات مظهر خشن بشع، تناسب رجلًا أمضى حياته في العمل اليدويّ الشاقّ. وأنا أمرّ أمام متجر ملابس لمحتُ انعكاس صورتي في الزجاج، فرأيت أن وجهي غير متناسق.. النصف الأيسر منفوخ إلى الأعلى والجبين ممطوط (شاقوليًّا)، بينما يبدو النصف الأيمن طبيعيًّا كرأس أي آدميّ عاديّ. شعرت بالحرج من منظري، لكن عيون المارّة التي كانت تنزلق على وجهي بنظرة عابرة، ولا تتلبّث، طمأنتني بأن ليس ثمة تشوّه في جمجمتي إنما العيب في بصري. ذهبتُ إلى عيادة للعيون، وأجرى لي الطبيب الفحوص اللازمة، وضحك بشدة حين أخبرته عن الأشياء المرعبة التي رأيتها في آلة تصوير الشبكية. أخبرني وهو يطفح بالسعادة أنني أُعاني من «انحراف بصريّ شديد جدًّا»، وأنه يجب أن أرتدي نظارة طبية تُصحح هذا الانحراف. قال: إنني لو تأخّرت قليلًا لَأُصبتُ بالعمى.

حصلتُ على واحدة بعدستين مستطيلتين، أنيقة ومتينة، تشبه حمارًا صبورًا، ومنحتني على الفور مظهرًا وقورًا وثلاث سنوات إضافية إلى عمري، فلم أعد أشبه مجنونًا هائمًا في الشوارع، لكن أشبه طبيب نساء وولادة جادًّا وطيِّب القلب. سألت أصدقائي عن رأيهم في نظارتي، فعلّق أحدهم: إنها نحيلة كـ(مايوه) سباحة! ضحكوا جميعهم، وأما أنا فلم أضحك، وشعرت بتعليقه كمن لكزني بين أضلاعي. لقد أثّر فيّ ذلك التعليق السخيف، وأصابني بحالة من عدم الرضا، تطوّرت إلى هوس نادر، تمثّل في هواية اقتناء النظارات. مواردي المحدودة لم تكن تسمح لي بالذهاب إلى المحلات ذات الديكورات المزركشة؛ لذلك كنت أشتريها من (المفرشين) الفقراء في (قاع اليهود). عند هؤلاء تجد أحشاء الحضارة معروضة للبيع. وفي الأغلب لا يزيد رأسمال الواحد منهم عن ثمن وجبة طعام متواضعة. لكي تبدأ بالتجارة هنا يكفي أن تفرش قطعة قماش بالية على الرصيف، وتعرض للبيع كلّ اللَّقَى التي يمكن العثور عليها في حاويات القمامة. مساء اليوم قمت بزيارة تفقّدية لسوق البؤس هذا، وجذبني شيخ بفمٍ أَدْرَدَ وخَدَّينِ غائرين جاثمًا كنَسْرٍ تناساه الموت عند مفرش صغير (متر × متر) يعرض فيه أشياء قليلة؛ من بينها نظارة طبية سميكة العدسات. اقتربت منه وسألته عن سعرها، فأجابني ببطء: «ألف ريال». أطلقتُ صيحة اندهاش. أردت أن أتفحصها فضربني على يدي وحذرني بفظاظة: «ممنوع اللمس». في الحالات المماثلة كان النزاع سينشب لا محالة؛ لأنني سريع الغضب وطَبْعي ناريّ، إلا أن لهذا المعمر هيبة منعتني من ذلك، مع أنه في واقع الأمر لم يكن سوى كومة من العظام يمكن بنفخة واحدة أن يتناثر إلى حطام. فتشتُ المفارش الأخرى فلم أعثر على أي نظارات. عدتُ إليه مضطرًا، وجدته يدخن سيجارة، أردتُ أن أُساومه فحَدَجَني بنظرة ازدراء، ولم يتنازل حتى للردّ عليّ. نقدته الألف ريال (وشلت) النظارة، فنفث الدخان في وجهي بعدائية كأنني انتزعت منه تذكارًا عزيزًا على قلبه.

ناولتُ زوجتي النظارة، فغسلتها وجففتها وطرحتها على رفّ الكتب: «ضحكوا عليك، زجاج النظارة مشروخ»؛ علقتْ ببرود ثم انصرفت. في حالات مماثلة كنت سأرد لها الصاع صاعين، لكن الله سلّم وكان مزاجي حسنًا. توضّأت وصلّيت العشاء، وعقب الصلاة رحت أقرأ في كتاب «فتح القدير» للشوكانيّ.

خطر ببالي أمر ما؛ أحضرت النظارة الجديدة وتأملتها برهة.. العدستان مستديرتان وأكبر من المعتاد، لكن تارة أخرى تبدوان بشكل بيضويّ! أما زجاجهما فكان سليمًا وخاليًا من أيّ خدش، إلا أن فيه عقدًا بالغة الصغر تمتد منها خطوط رفيعة جدًّا، وتارة تبدو كشبكة خلايا النحل السداسية! وضعت نظارتي الأصلية جانبًا، وارتديت هذه النظارة الغريبة الأطوار، ولعَجَبي كنت أرى بوضوح! تابعتُ القراءة، وبعد عدة أسطر بدأتُ أرى الكلمات ثلاثية الأبعاد، ويمكن لبصري أن يراها من جميع الاتجاهات! أبعدتُ النظارة شاعرًا بالدوار، وهرعت إلى المطبخ، وأعددتُ لنفسي قدحًا من القهوة.

لم أنم، أرقت وتناوشتني الوساوس. غادرت غرفة النوم إلى حجرة الجلوس؛ حيث تربض تلك النظارة المشاكسة. اقتربت منها بتوجس وقلّبتها بين كفّي مدة من الوقت، ثم تشجعتُ ووضعتها على عينيّ. مكثتُ دقائق منتظرًا حدوث تلك الرؤية البانورامية، لكن شيئًا لم يحدث. وصلتني رسالة بالواتس آب، أخذت هاتفي المحمول، وانشغلت نحو الساعة بقراءة الرسائل الواردة، وكتابة ردود على بعض منها. فجأة تقلّص الهاتف وانكمش حتى اختفى، وصرت أنظر إلى كفي ولا شيء فيها. رفعت رأسي وذهلت.. حتى إنني فقدت القدرة على النطق، وأصاب الشلل جسدي كله باستثناء بصري الذي كان يدور من اليمين إلى الشمال وبالعكس. أين أنا لا أدري، المكان يشبه حديقة بديعة المناظر داخل أنابيب عملاقة ذات أشكال فنية لم يسبق لي أن رأيت مثيلًا لها. تجمّع حولي عدد من الناس فيهم جمال صارخ يفوق الجمال البشريّ بأضعاف، وعلى مُحيَّاهم الاستغراب، وسمعتهم يتهامسون بلغة فيها حروف لم تطرق أذني من قبلُ. أتى أشخاص طوال القامة بملامح متجهمة، ووضعوني داخل فقاعة صابون شفافة لها مقبضان من الخارج، ثم حلّ الظلام التامّ. سمعت صوتًا يناديني باسمي (مهيوب) فانتبهت. ظل الصوت يكرّر مناداتي، فأجبته: «نعم». سأل مرة أخرى: «أنت بخير؟». أجبت بامتعاض: «لا، أخرجوني من هنا». «أَبْعِد النظارة من عينيك» ردّ الصوت. أردتُ تحريك يدي فلَمْ أجدها، ووجدتُني عاجزًا عن تحريك أيّ عضو من أعضائي أو الإحساس به، قلت بحدة: «لا أستطيع، أين أنا؟». بعد صمت طويل أجابني الصوت نفسه: «لا تذعر.. أنت في مكان بعيد جدًّا من عالمك.. لكنك بأمان». أردت أن أتقدم إلى الأمام، أو أرجع إلى الخلف؛ أن أدور حول نفسي، لكنني عجزت، فصرخت غاضبًا:

– عليكم اللعنة ماذا فعلتم بي؟

– لا تلعن أيها الإنسان، فأنت من سعى إلينا، والآن نحاول إخراجك من هذه الورطة.

– من أنت؟ الشيطان؟!

– لا وجود للشياطين في عالمنا.

– حزرت.. أنتم كائنات فضائية اختطفتموني؛ أليس كذلك؟

– نحن لا ننتمي للكون الذي تحيا فيه، نحن نسخة أخرى من الكون ذات ثمانية أبعاد.

– كون آخر.. يعلم الله كم مليارًا من السنوات الضوئية تفصلني الآن عن بيتي؟!

– لا تقلق.. المسافة بين كوننا وكونكم صفر تقريبًا.. نحن كونان متداخلان.

– لكن لم يسبق أن تشرفنا بمعرفتكم.. أقصد أين أنتم؟

– المسافة التي تفصلنا عنكم ليست مكانية لكنها مسافة زمنية.

– كم؟

– نحن نسبقكم بفارق زمني قدره واحد على المليون من الثانية.

– لستُ ضليعًا في الرياضيات، لكن أتصوّر أن هذا فارق زمنيّ تافه!

– هذا الفارق الزمنيّ الذي تحسبه تافه القيمة هو العلة في تمايز كوننا من كونكم؛ لذلك حضارتنا أرقى من حضارتكم، ومستوى ذكائنا أعلى من مستوى ذكائكم؛ لأننا أقرب للمستقبل منكم.

– ربما ما تقوله صحيح.. الإناث والذكور الذين أحاطوا بي وتسنّت لي رؤيتهم لبرهة وجيزة وَسِيمون وسامة مفرطة.. جمال لا نظير له حقًّا بين بني البشر.

– ك.ه.ي. أنت الآن جاهز للعودة إلى وطنك.

– مهلًا، أريد أن أعرف السرّ في انتقالي إلى كونكم هذا.

– النظارة التي استعملتها أتذكرها؟ زجاجها يحتوي على فصوص رقيقة من الألماس.. ويبدو أن العصب البصري لديك مهيأ للتعامل معها.

– من صممها؟

– إنسان اسمه هيو إيفيرت.

– هل هذا اختراع سرّيّ للتواصل مع كونكم؟

– أنت تتلكأ.. ألا تريد العودة إلى ديارك؟

– بصراحة حياتي هناك ليست فريدة من نوعها.. فهل يمكنني البقاء هنا وأن أعيش حياة طبيعية كما تحيون أنتم؟

ممكن.. هل أنت متأكد من قرارك؟

– كل التأكد، وأقسم أنني لن أتراجع عن قراري هذا أبدًا.

– لست بحاجة للقسم؛ لأنك بمجرد أن تلمس واحدًا منا ستُغيِّر ذراتُ جسمك مظهرها لتكون مؤلفة على التوافق مع قوانين كوننا، وسوف يستحيل عليك بعد ذلك تفكيك ذرات جسمك مرة أخرى.

– أخرجوني من هنا وسوف ألمس أول واحد أقابله فورًا.

انبلج الضوء كشروق الشمس ببطء، وعادت الحياة إلى جسمي بالتزامن مع سقوط الضوء عليه، فصرت قادرًا على الإحساس به وتحريكه. كان حولي مجموعة من أفراد الكون الثماني الأبعاد يبتسمون بودّ ولطف. دنوت من شابة جميلة جمالًا خارقًا ولمستها في سرتها فضحكت، انتبهتُ أنني كنت عاريًا كما ولدتني أمي! شعرت بالعروق والشعيرات الدموية تُغيِّر تموضعها. أجهزتي الحيوية فعلت الأمر نفسه. تحسستُ قلبي فإذا هو ينبض في الجهة اليمنى.

عشتُ حياتي وسطهم كواحد منهم في سعادة خيالية، تساوي السعادة الأرضية مضروبة في مليون. ولم أندم قط على قراري بمغادرة ذلك الكون الرباعي الأبعاد الذي لا ينتج سوى مقادير ضئيلة من السعادة.