خليل علي حيدر:  «تيار الصحوة» مأزوم وممزق من الداخل وينبغي التمييز بين التنوع الطائفي الذي له فوائده وبين الطائفية

خليل علي حيدر: «تيار الصحوة» مأزوم وممزق من الداخل

وينبغي التمييز بين التنوع الطائفي الذي له فوائده وبين الطائفية

يُعد الكاتب والباحث الكويتي خليل عليّ حيدر أحد أبرز الكتّاب في الخليج العربي منذ أربعة عقود، على الأقلّ، بعد حصوله على الدرجة الجامعيّة في اختصاصين هما التاريخ والتربية، من جامعة رود آيلاند في الولايات المتحدة الأميركية سنة 1984م. ويأتي هذا البروز من جهة غزارة إنتاجه وكذلك انخراطه في مشاغل المنطقة العربيّة عمومًا والخليجيّة على وجه أخصّ، سواء ما ارتبط بالمشاغل الراهنة أو التاريخيّة وما يترتّب عليها اليوم، إضافة إلى سعيه الدائم نحو استشراف وقراءة الأحداث ومآلاتها في المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والثقافيّة.

ولئن بدت اهتمامات خليل عليّ حيدر كثيرة ومتنوّعة فإنّ خيطًا ناظمًا يربطها وهو ما يمكن تبيّنه عند قراءة كتبه ومقالاته، فقد كتب في قضايا التنمية والديمقراطيّة ومدنيّة الدولة وقضايا المرأة وعلاقات الدول العربيّة بالدول الآسيويّة والغربيّة وقضيّة التحديث، وما سمّي بـ«الصحوة الدينيّة» والطائفيّة والإسلاميّة، وهي قضايا شديدة الارتباط، وكلّ محاولة لفصلها بالنسبة إليه يمثّل تجزيئًا غير مُجْدٍ.

ومن اللافت للنظر في كتاباته أيضًا اهتمامه العميق بالمسألة الثقافيّة التي تمثّل بالنسبة إليه محورًا شبه قارّ، وفي ذلك دلالة على الوعي بقيمة البعد الثقافي في معناه الواسع في العمليّة الإصلاحيّة، وأثرها في تجاوز الواقع المتردّي ومعالجة كلّ أشكال التخلّف والتعصّب والعنف والهيمنة. وممّا تتّسم به كتابات وتحليلات خليل حيدر هو عدم تفسير أيّ ظاهرة ببعد واحد ممّا يجعل الفهم قاصرًا ومنقوصًا؛ إذ كلّ ظاهرة هي بطبيعتها متعدّدة الأبعاد، وهذا الأمر خرج به من الركون إلى التفسير التآمري المستسلم إلى الإلحاح على مبدأ المسؤوليّة الذي ينبغي علينا الوعي به؛ فنحن أيضًا متسبّبون بشكل أو بآخر فيما نعيشه من أوضاع.

مثل هذه التوجّهات نلمسها في كتبه العديدة ومن ضمنها: «نقد الصحوة الدينيّة» (1986م)، و«تيّارات الصحوة الدينيّة» (1987م)، و«الحركة الدينيّة: حوار من الداخل»، و«العمامة والصولجان» (1997م)، و«اعتدال أم تطرّف؟» (1998م)، و«الخروج من مدار بن لكن» (م2006)، و«دوائر متداخلة» (2015م)، و«طرف الخيط» (2015م)، وغيرها من الكتب، إضافة إلى عشرات المقالات.

في هذه السياقات تستضيف مجلّة «الفيصل» الباحث والكاتب خليل عليّ حيدر للحديث عن شيء من اهتماماته ومشاغله، فكان الحوار التالي حول قضايا «الصحوة الدينيّة» وارتباطاتها بالإسلام السياسي، وتعلّق كلّ ذلك بالمسألة الطائفيّة التي وظفتها قوى سياسيّة في المنطقة العربيّة واعتمدت كورقة في السياسات الإيرانيّة وفي غيرها من السياسات أيضًا، من دون التغافل عن الأبعاد الفكريّة والثقافيّة والتاريخيّة المرتبطة بمثل هذه الإشكاليّات.

«الصحوة الدينيّة» والإسلام السياسي

  اهتممت في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بما يسمّى «الصحوة الدينيّة» من جهة تفكيكها ونقدها وبيّنت مدى تعلّقها بحركة الإخوان المسلمين. كيف يمكن لك بيان هذا التعلّق وبخاصّة أنّ هناك الكثير من المغالطات «الاصطلاحيّة» في هذا الموضوع حول محاولات التمييز بين الأمرين؟

  للإخوة في مجلة الفيصل جزيل الشكر والثناء إذ أتاحوا لي فرصة اللقاء مع القراء بعد عقود عديدة من نشر كتابي الأول عن الإسلام السياسي بعنوان «مستقبل الحركة الدينية»، دراسات الوطن 1985م، الكويتية. الذي جمع، مع كتب لاحقة، من مجموعة ما نشرت في صحيفة الوطن من مقالات حول الظاهرة التي سميت بـ«الصحوة الدينية». قد نختلف الآن حول التسمية التي تستحقها -عبر مساراتها ومآلاتها وما فعلته بالمجتمعات العربية ومجتمعات العالم الإسلاميّ، وما فشلت في إنجازه- إلا أنها كانت في مختلف مذاهبها، في العالم العربي وإيران وباكستان وأفغانستان وشمال إفريقيا وفي أوربا، حركة مدمرة أجهضت جوانب أساسية من محاولات تحديث العالم العربي والإسلامي. وقد استفادت هذه الحركات في انبعاثها الجديد -خلال الأزمنة الحديثة والقرن العشرين والسنوات الأخيرة- من تقدم المواصلات والاتصالات وسهولة التعبئة السياسية والوصول إلى الأرياف والبوادي، واستفادت كذلك من انتشار التعليم وظهور المدن وتأسيس الجامعات وتشكل الشرائح المتوسطة التي أسهمت في تنامي الظاهرة الدينية المعاصرة، إضافة إلى ما تتميز به هذه الحركات من تنظيم حزبي وقيادة هرمية وأيديولوجية شمولية ولجان متخصصة وإعلام مطبوع ومسموع ومرئي وغير ذلك.

تأسست جماعة «الإخوان المسلمين»، أبرز وأقوى هذه الجماعات، عام 1928م، أو نحو ذلك، في مصر، وامتدت منها إلى دول أخرى عربية وغير عربية، وهي اليوم في إنجلترا وألمانيا وأميركا ربما أقوى مما هي في دول عربية كثيرة. وعلى الرغم ممّا تعانيه حركة الإخوان اليوم فإنّها لا تزال متماسكة ومؤثرة وجماهيرية كما كانت، غير أن الجماهير المصرية والعربية والإسلامية هي التي تغيرت عما كانت عليه عام 1928م، وبخاصة بعد ما سمي بالربيع العربي عام 2011م. وهذا ما جعلني والكثيرين ممن يدرسون الإسلام السياسي و«الصحوة الدينية» يهتمون بالإخوان لما للحركة من جاذبية فكرية في مجالها، ومن تأثير وامتداد وقدرة على التشكل والتلوّن واللعب في الخفاء وكسب الجماهير في العلن، مستفيدة من تعثر ما طمحت له الدول العربية من تقدم ونهضة، ومستفيدة أيضًا ممّا في العالم العربي والإسلامي من سذاجة سياسية وتعجل واقتناع بالوعود، وانتشار الفقر والبطالة وغير ذلك من أسباب.

كان أبزر ما شعر به مرشد الحركة، عند تأسيسها، بعض أشكال الفراغ فدفع بجماعته تحت مؤثرات المرحلة وما فيها من أنظمة شمولية وحركات فاشية لأن تجمع بين دفتيها كل ما يتمناه الجمهور من حركة سياسية اقتصادية اجتماعية رياضية… إلخ. وظلت الحركة إلى اليوم تتلقى الدعم في كل المجتمعات الإسلامية من «جيش لا آخر له من المتعلمين وغير المتعلمين، وفقراء المدن المقتلعين من الأرياف الذين تمتلئ نفوسهم غضبًا واحتقارًا تجاه سكان المدن والنخب الحاكمة والقيم والقوانين السائدة فيها، ومن الطلاب السذج سياسيًّا، والكثير من الحالمين أو المستفيدين الآخرين والذين يبحثون عن حلول مثالية سحرية سريعة لمشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية معقدة. فلا عجب أن تسحرها الوعود الجميلة، والمنجزات البلاغية وأن تسير خلف شعارات وكتب وأشرطة الإسلاميين في أي اتجاه مشوا… إلى أن تصدمهم الحقائق»(١).

  في كتاباتك حول «الصحوة الدينيّة»، منذ ثلاثة عقود، استشرفْتَ مآلاتِها. كيف يمكنكم اليوم، وبخاصّة بعد التحوّلات السياسيّة في العقد الأخير في الكثير من الدول العربيّة، تقويم ذلك الاستشراف؟

  التحولات السياسية في العقد الأخير، في الكثير من الدول العربية -التي حاولت الأحزاب السياسية الدينية وبخاصة جماعة الإخوان الاستفادة منها والهيمنة الكاملة على المنطقة- أثبتت أن تغيرًا قد حدث في موقف نسبة كبيرة من شعوب المجتمعات العربية إزاء تيار الإسلام السياسي وأحزابه. وفي مصر خاصة كان الانقسام عام 2013م حادًّا والمشهد دراميًّا ونفور الملايين من جماعة الإخوان واضحًا. تمنيت نتائج أفضل لتحرك الشعب الليبي بعد أربعين عامًا من تسلط الرئيس القذافي ولكن النتيجة كانت دامية، ولا يزال المستقبل غامضًا. إن الدكتاتوريات العربية وغير العربية لا تحطم الحاضر فحسب وإنّما تدمر المستقبل كذلك؛ لأنها تحرم الشعوب من ممارسة العمل السياسي والنضج الاجتماعي وتسبب ضمور تقاليد المشاركة في الحياة العامة وفي مؤسسات المجتمع الميتة، ما عدا القوى الأمنية والجيش؛ بسبب عسكرة كل جوانب الحياة وحاجة النظام للقمع.

فوجئت كالكثيرين بالأداء الهزيل لحركة الإخوان وقياداتها في مصر خلال فترة هيمنتهم، وبخاصة فشلهم في فرز زعيم أقوى من «محمد مرسي» الذي لم يكن أداؤه مقنعًا وبخاصة من قبل حركة عمرها أكثر من ثمانين أو تسعين عامًا. بعد هيمنة الإخوان المسلمين على حكم البلاد كادت مصر أن تدخل نفقًا مجهولًا عام 2013م. وكان من الممكن بسهولة أن ينشأ تحالف بالغ الخطورة له ثلاثة أطراف قوية هي مصر وإيران وتركيا، وربما دول أخرى عربية وخليجية وغيرها. وهو وضع كان سيقلب تاريخ المشرق العربي ومستقبله، وبخاصة دول الشام والعراق والمنطقة الخليجية.

وحول مآلات «الصحوة»، اليوم، فالواضح لكل دارس وباحث، بل للإسلاميين أنفسهم، أن التيار مأزوم وممزق من الداخل، بين توجهات وقناعات ومدارس، وبين تجارب الماضي وضغوط المستقبل وبين الحمائم والصقور!

لا تستطيع جماهير العالم العربي اكتشاف خطورة شعارات «الصحوة الإسلامية» وعدم واقعيّتها بالسهولة نفسها في كل البلدان والأحوال؛ فللتيار الديني، كما هو معروف، وسائله ومغرياته لجذب شرائح المجتمع. فعلى سبيل المثال، أغرق زعماء الثورة الإيرانية الجمهور بين عامي (1978: 1979م) بالوعود والإغراءات، وأعطوا الريفيين والشباب والعاطلين على وجه الخصوص «الشمس بيد والقمر بالأخرى»، وها هي القيادة الإيرانية، منذ أربعين عامًا ونيف، أبعد ما تكون عن تنفيذ وعودها.

  هناك انحسار سياسيّ واضح، خلال السنوات الأخيرة، لحركات الإسلام السياسي. كيف تتوقّعون مستقبلها؟

  أتساءل دائمًا عن هذا «الهدوء المريب» للتيار الديني وجماعات الصحوة! هل هو انحسار فعلًا أم كمون، وتغيير جلد، أم شيء ما لا نعرفه؟! هل يمكن لهذا التيار الذي كان ملء السمع والبصر، ومهيمنًا على الناس والإعلام والمساجد، أن يخسر مصر ودول الخليج مثلًا، وأن تقوم في وجهه فجأة كل هذه الحواجز الإقليمية والدولية، وأن يخسر كل هذه الأموال؟ لقد تلقى التيار منذ انتهاء تحولات 2011م ضربات موجعة، وهناك معاناة داخلية مجهولة ضمن الأحزاب والجماعات والقيادات. ولكن هل جرت كذلك تحولات داخل مجتمعاتنا وثقافتنا ومناهج تعليمنا؟ هل فُتحت أبواب النقاش حول الإعلام أو التعامل مع التراث أو علاقة الدين بالدولة والسياسة؟ هل درسنا بعمق ما جرى في عام 2011م و2013م إلى اليوم. أشكّ أن هناك جهودًا فكرية لم تبذل وحوارات لم تجر وقضايا لا يزال من الصعب الاقتراب منها.

إن توازنات المشرق العربي في هذه المرحلة قائمة على علاقات وثيقة بين مصر والدول الخليجية، ولكن هل الأمور بخير إن كانت العراق وسوريا ولبنان واليمن خارج الحسابات؟ الحاجة مُلِحّة لظهور تيار سياسي وثقافي واقعي مضاد للتعصب وغير معادٍ للدين وقادر على اجتذاب الشباب بتوجهات منفتحة على العصر. ولكن أين العالم العربي وسط معاناته، ومن كل هذه الأماني! توقعاتي أن تلجأ الصحوة وجماعاتها إلى إعادة ترتيب أوراقها ومحاولة الاستفادة من كل خلاف وانقسام. وهناك كذلك النموذج التركي ومدى قدرته على تهميش أو تبديل الإسلاميين العرب. ثمة رصيد هائل في العالم العربي والإسلامي من الفهم المنغلق والاستعلائي للدين الذي يشارك فيه الأميون والمتعلمون والأطباء والمدرسون والمهندسون على حد سواء. ثمة أوهام سياسية وهناك الكثيرون ممن يروجون للحلول السهلة والمرتجلة لمشاكل التخلف والفقر، وهناك من الدول من تصرف عليهم بسخاء أحيانًا ومجانًا أحيانًا أخرى؛ ولهذا وغيره من المستبعد أن تزول الظاهرة على الرغم مما يبدو عليها من انحسار وتراجع.

علاقة الإسلام السياسي بالمسألة الثقافية

  من الواضح تمامًا من خلال إجابتك أنّ المسألة فيها بعد فكريّ وثقافيّ عميق، فكيف يمكن تحديد علاقة تيّارات الإسلام السياسي بالمسألة الثقافيّة؟

  أشكر الأخ المحاور ومجلة الفيصل على تسليط الأضواء على هذا الجانب غير المدروس في مجمل نشاط التيار الديني الثقافي وجماعاته، وأتمنى أن ندرس عطاءه الفكري والأدبي والفني والإبداعي عمومًا. فما من تيار عربي وطني أو قومي أو تقدمي أو غيره، إلا وقدّم للثقافة العربية بعض أبرز الروائيين والشعراء والنقاد والكُتّاب والبُحّاث. وهكذا برزت في ثقافتنا شخصيات فكرية وأدبية خلال القرن العشرين وما قبله. لكن يصعب على القارئ والباحث أن يصدق أن جماعة بحجم الإخوان المسلمين في مصر وسوريا والأردن والسودان -وما عايشته هذه الجماعة من ظروف سيئة وملاحقات، ونفي وهروب وضغوط- لم تعط الأدب الروائي أو الشعر أو الفكر السياسي أو السينما أو الفني التشكيلي أعمالًا، بل حتى عملًا واحدًا، يتناسب مع انتشارها وثقلها السياسي، وقد تحدّثت عن ذلك في مقال بعنوان «صحوة دينية… أم فكر عقيم؟».

لقد تحدث الإسلاميون طويلًا عن ضرورة أسلمة المعارف والعلوم، وانتشال الفكر العالمي من براثن الصليبية والماسونية واليهود، واليوم بيد المؤسسات والبنوك والشركات الإسلامية مئات المليارات، فلماذا لا نرى مؤسساتهم البحثيّة ومبدعيهم ومفكريهم وقواميسهم وموسوعاتهم التي تبز الموسوعات الغربية؟ بل لا نجد حتى تفسيرًا موضوعيًّا موسعًا للقرآن الكريم يحل محل تفسير «في ظلال القرآن» البالغ الانحياز لتيار الإسلام الحركي وتوجهات سيد قطب التوسعية وآرائه. وأين مجهود التيار الديني في مجال خدمة قواميس اللغة العربية أو دراسة تاريخ الإسلام وإعداد الدراسات عن المجتمعات الإسلامية والشخصيات المعاصرة، وعن مشاكل هذه المجتمعات؟ لا عذر لمن يتحجج باضطهاد الإسلاميين وملاحقتهم؛ ففي ألمانيا وإنجلترا وأميركا جحافل إسلامية من الأساتذة والمختصين في كل مجال، وفي بنوك هذه الدول ما يكفي وزيادة للتمويل ودعم مشاريع تجديد وتقوية الانتشار وترسيخ الجماعات. أين حديث «الإسلاميين» عن أسلمة علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وغيرها؟!

ثمة في الواقع جهد بذله الإسلاميون في مجال ما اعتبروه «الأدب الإسلامي» ومطبوعات وروايات وقصائد، ولكنها لم تخلق واقعًا أدبيًّا أو روائيًّا أو شعريًّا أو مسرحيًّا أو نقديًّا، وبقيت من قبيل الأدب الشعبوي. قد يكون أدب الجماعات الإسلامية وما يطلقون عليه مصطلح «الأدب الإسلامي الملتزم، شبيهًا بالأدب الاشتراكي الملتزم الذي تبناه التيار الاشتراكي باسم «الواقعية الاشتراكية» وقامت عليها الثقافة في المعسكر الاشتراكي لعقود عدة حتى عام 1990م. وخلاصة مثل ذلك الأدب أن الفن والأدب لا بد أن يعكسا الحقيقة الاجتماعية، ولا بد أن يصفا التطورات الثورية في المجتمع»(٢). ومن مخاطر هذا الالتزام الأدبي والفكري بالأيديولوجية الرسمية أن الإنتاج «قد يتجمد» ضمن قوالب معينة بسبب تدخل الدولة، «مما يقيد الخلق والابتكار، ويسقط الخلق والإبداع إلى مستوى الدعاية المبتذلة»(٣). ومما ينذر بتشديد الرقابة الدينية، في ظل حكم الجماعات على الإنتاج الأدبي، دعوة معظم الإسلاميين إلى تشديد الرقابة والتحكم في مضامين النصوص التعليمية ابتداءً من المناهج المدرسية، التي هي بمنزلة مدخل الطالب إلى الأدب العربي.

ومما رسخته كتابات هذه الجماعات، مثلًا، في أذهان عامة الناس أن المسؤول عن تطرف وعنف أتباع الحركات هي السجون والتعذيب وغير ذلك. والواقع يقول: إن كتب وخطب المرشد حسن البنا دعت منذ البداية إلى استخدام العنف عندما تحين اللحظة المناسبة. وكانت جماعة الإخوان المسلمين أول من دعت علنًا، على لسان مرشدها، إلى ما أسماه «إتقان صناعة الموت». وأكد في بعض رسائله الدعوية المطبوعة والمنشورة إلى أن استخدام القوة والعنف قد يكون ضروريًّا لتحقيق أهداف الدعوة وتحقيق النصر، وهذا يثبت أن جواز استخدامهم للعنف لم يتأسس بتأثير السجون والتعذيب والاعتقال كما يزعمون.

إن ثقافتنا الدينية في أزمة، وما تطرحه القيادة في المملكة العربية السعودية حول تنقية النصوص وتغيير عقلية التعامل مع الاجتهاد هي محاولات جادة لانتشال الشباب في العالم العربي وفي الغرب من الانزلاق نحو التعصب والإرهاب، كما كشفت لنا بوضوح قدرات «داعش» على تجنيد الشباب مع زوجاتهم للقدوم إلى بادية الشام، و«الجهاد» في الموصل وحلب ودير الزور وسيناء. إننا منذ عقود لا نزداد نضجًا واستفادة من تجاربنا، وينعكس ذلك على الجماعات الإسلامية التي تخاطب بدورها كتلة بشرية لم ترتفع بمستواها الفكري. وقد لاحظ بعض الباحثين العرب أن «الأفغاني وعبده كانا أكثر رحابة حتى تجاه الماضي الإسلامي وأكثر انفتاحًا على الحضارة الغربية ومنجزاتها، وأكثر اعتدالًا وليونة تجاه معاصريهما»(٤).

المسألة الطائفية

  تحدّثت عن أزمة الثقافة الدينيّة، وهي أزمة أدّت إلى معضلة الإسلام السياسي ومعضلة الطائفيّة، وهما أمران مترابطان عندك، ولكن في الأغلب لا يُركَّز كثيرًا على علاقة الطائفيّة بالإسلام السياسي عمومًا غير أنّه في كتاباتك تشير إلى ذلك في كثير من المواضع. كيف يمكننا فهم مثل تلك العلاقة؟

  للأسف استفادت الجماعات الشيعية في العراق ولبنان والبحرين والمنطقة الخليجية من بعض السياسات الرسمية التي وسعت الفجوة بين الطائفتين، وأعطت المزيد من القوة للتوجهات الانعزالية والتباعد السياسي. كان رجال الدين الشيعة، ممن يسمون بالعلماء والمجتهدين، يهاجرون من إيران إلى العراق ولبنان والمنطقة الخليجية تحت تأثير ضغوط النظام الملكي القاجاري والبهلوي في إيران، وكان -ولا يزال- في هذا دعم قوي للشيعة في هذه الدول وتسهيل في بعض الأحيان لتأسيس بعض النشاطات وبعض الجماعات الدينية حول العلماء والمجتهدين المهاجرين إلى العراق ولبنان مثلًا، الذين لهم مكانة متميزة لدى الشيعة، ولكونهم «مراجع تقليد»؛ فمرجع التقليد يتبعه الكثير من المتدينين الشيعة ويدفعون له خُمس دخلهم السنوي للصرف على المدارس الدينية ورجال الدين ونفقات الدارسين فيها. وكلما ازداد عدد التابعين لهؤلاء العلماء المراجع، ازداد «الخمس» وارتفع عدد الطلاب، وتحول الفقيه إلى مرجع أعلى، مما يصعب على أية سلطة زمنية الاقتراب منه أو التضييق عليه؛ وذلك لانتشار شعبيته وحرص السلطات على كسب رضاه. ويتحكم بعض كبار المراجع بالأوقاف الدينية، كما يلقون الدعم من التجار وملاك العقار، حيث يتزاوج أبناء وبنات الطرفين في أحيان كثيرة، ويشكلون كتلة اجتماعية من العلماء، وتجار البازار أطاحوا عام 1979م مثلًا بنظام الشاه كما هو معروف.

حاول المفكر الإيراني اليساري أستاذ علم الاجتماع الدكتور علي شريعتي (1933– 1977م) أن يؤسس حركة إسلامية تتجاوز الانقسام المذهبي وتجتذب شباب ومثقفي إيران، وبذل جهدًا فكريًّا وكتابيًّا وخطابيًّا واسعًا داخل الجامعة وخارجها، وله اليوم رواد ومعجبون وكان يفكر بأهداف أخرى للثورة وإيران. لم يكن تحليل شريعتي الأيديولوجي هو الأكثر فاعلية في جذب الشباب لقضيته، بل كان خطابه البسيط حول الإسلام والمجتمع والتغيير الاجتماعي. وقد كان أغلب أولئك الشباب، رجالًا ونساءً، من عائلات دينية تقليدية، وكانوا متأثرين بالمناخ، غير الديني، الحديث في إيران وغيرها وكانوا يحاولون التمسك بمشاعرهم الدينية وفي الوقت نفسه يواصلون مشوار الفكر والممارسة العصرية التقدمية. كان شريعتي ينتقد الزعماء الدينيين المحافظين انتقادًا شديدًا، ويميّز بين «إسلاميين مختلفين» وبين التشيع العلوي والتشيع الصفوي الذي كان سائدًا في عصره ويعتبره زائفًا ورجعيًّا. وبذلك فقد كان يقارن بين فكرته عن الإسلام الثوري وإسلام رجال الدين الشيعة. وبخلاف القومية الرسمية السائدة التي كانت تروج لماضي إيران قبل الإسلام كانت «العودة إلى الذات» تعني بالنسبة إلى شريعتي العودة إلى التشيع الخالص والجذور الإسلامية. وهو ما عبّر عنه هوما كاتوزيان حين أكّد أنّ «العودة للجذور» تعني العودة إلى الجذور الثقافية، التي هي في حالة إيران ليست العودة إلى إيران قبل الإسلام، والتي لا تؤثر في جموع الشعب الإيراني، وإنما العودة إلى جذورنا الإسلامية(٥).

  كيف كانت الطائفيّة من أبرز العوائق أمام فكرة التعدّد والحريّة والمواطنة في المجتمعات العربيّة؟

  أعتقد أن السبب الرئيسي في هذا الوضع، أي كون الطائفية من عوائق التعددية، هو عدم نضج الطرفين والطائفتين، السنيّة والشيعيّة، في العالم العربي مذهبيًّا وسياسيًّا. لقد استغلّت قوة خارجية، وهي الولايات المتحدة، النظام المتسلط (في العراق) لسنوات طويلة، وهو نظام عانى منه السنّة والشيعة على حدّ سواء، ولكن ما أن سقط النظام حتى برز التعصب والفساد والانحياز الطائفي على الجانبين لأسباب لا يمكن تجاهلها البتّة. فقد تدخلت القوى المحسوبة على الحرس الثوري الإيراني لتحريك الكتلة الشيعية بما يمهد لإقامة سلطة دينية على حساب أهل السنة والمسيحيّين والعلمانيين والليبراليين وغيرهم، ووجد الطرح الطائفي استجابة لدى قوى شيعية مؤثرة وبخاصة بعد أن ساد الانقسام والجري خلف المصالح. وجاء الدور لأهل السنة غربي العراق في الفلوجة و«هبت» و«الموصل» والشمال مع تدخل تنظيمي القاعدة ثم داعش الذين توعّدوا الشيعة بأشنع انتقام، مما زرع الرعب في النفوس. غير أن التنظيمين الإرهابيين انقلبا على أهل السنة بعد اتهام السنة بالكفر والتصوف وموالاة الغرب وغير ذلك! وتوالت جرائم الإرهاب المريعة في مدن العراق حتى مساجد أهل السنة.

إنني لا أصدق أن العراق الذي مضى على تأسيس دولته الحديثة قرابة القرن وكان دائمًا موطنًا لكبار الساسة والمثقفين عاجزًا عن قيادة مصيره، وتبرز في الميدان قيادات دينية كمقتدى الصدر أو غيره! أين مثقفو العراق وساسته وأساتذته وقياداته التي كانت تعاني وتشتكي طوال سنوات حكم صدام حسين؟ لماذا يعجز العراقيون رغم البترول والمال والأرض والماء في إدارة بلادهم؟ ولماذا فعلت الطائفية ما فعلته بالعراق ولبنان وسوريا بدلًا من أن تزدهر فيها جميعًا التعددية والتنوع الثقافي والاعتدال السياسي؟ صحيح أن ثمة تدخلًا إيرانيًّا بوسائل مختلفة في العراق، وبشكل علني في لبنان وسوريا، ولكن أين صمود هذه الشعوب؟

  هل يمكننا اعتبار الطائفيّة ورقة سياسيّة تتغلّف بالديني والإثني والعرقي وتوهم بالخصوصيّة وهي في الحقيقة تُؤَجِّجُ الصراعات وتديم الأزمات؟

  ينبغي أن ندرك ضرورة التمييز بين التنوع الطائفي، وهو أمر طبيعي وله في اعتقادي فوائد ثقافية واجتماعية، وبين الطائفية وهي الاستغلال السلبي والمغرض لهذا التنوع بالإيحاء لكل طرف أن «مصالحه مهددة» وأن الطرف الآخر سيسلبه حقوقه إن لم يقدم على أخذ الحيطة والحذر وإبداء الشك في أقواله ومبادراته. ولا شك أن التصدي للطائفية يزداد تعقيدًا خلال السنوات الأخيرة لاهتمام الجميع بالهوية المذهبية والكيان الاجتماعي ومخاطر التذويب، ومن الصعب في الواقع الارتفاع دائمًا بالوعي السياسي وعدم الانخداع بالأوهام التي تروجها بعض الشخصيات لمنافع انتخابية أو مالية أو انتقامية، وربما كان أفضل علاج لهذا كله المصارحة بين الشعب والقيادة السياسية وتوفير الحماية القانونية لكل الفئات والطوائف والتصدي للشائعات.

إن مناهج التعليم والثقافة الدينية والتوعية الإعلامية أبرز أدوات تقوية التماسك الاجتماعي، ونحن بحاجة ماسة إلى تطوير عميق في المجالات الثلاثة، وبخاصة أن التنوع والتعدد لا يمكن تجاهلهما في مجتمعاتنا بعد أن بقينا عقودًا لا نكترث بهما. يكتفي العديد من الكتاب والمؤلفين بتوجيه أصابع الاتهام إلى الاستعمار في خلق المشكلة الطائفية، والحقيقة أنه ربما استفاد من هذه الانقسامات، كما في بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها، غير أن الانقسام الطائفي بين المسلمين وظهور مختلف الحروب الأهلية في القرن الهجري الأول مثلًا لا يَدَ للاستعمار البريطاني أو الفرنسي فيها؛ ولذلك يجب علينا أن نتحمّل مسؤوليّتنا.

يشير بعض المفكرين العرب إلى القبلية كمنشأ للطائفتين. فالباحث كمال صليبي في دراسته التاريخية للطوائف اللبنانية يصل إلى أن هذه الطوائف في سلوكها الاجتماعي قبائل مقنَّعة. ويرى الدكتور خلدون النقيب أن علاقة المواقف السياسية بالقضية المذهبية ظاهرة مغرقة في القدم في مجتمع الخليج والجزيرة العربية. ويضيف: «إن التحرك الزيدي السياسي في اليمن جاء تمثيلًا للقبائل العربية القحطانية الجنوبية المنافسة للقبائل العربية العدنانية،» ولذلك كان اعتناق بعضها للمذهب الزيدي في القرن الرابع عشر يمثل امتدادًا لهذا الموقف التاريخي. ولكن المنافسة بين قحطان وعدنان لم تقف عند هذا الحد، فالقبائل التي اعتنقت الوهابية في نجد كانت تنتمي إلى ربيعة بن عدنان.. ثم إن القبائل العمانية التي اعتنقت المذهب الإباضي كانت في أغلبها تنتمي إلى الأزد وقضاعة (وهي قبائل جنوبية).

ربما كان ما يجري على أرض الواقع مساندة علنية من جانب بعض الأحزاب الدينية حسب مذهبها في العراق ومصر ولبنان لمن يماثلها في المذهب أو الدين. حتى توزيع الزكاة من جانب بعض الدول الخليجية يأخذ في الحسبان الانتماء المذهبي. وفي الكويت تبرز الطائفية عارية في الانتخابات البرلمانية وانتخابات الجمعيات التعاونية، حتى جمعيات النفع العام؛ إن كان في مثل هذه الجمعيات «نفع خاص»! وقد روى لي صديق متوفى وكان أستاذًا للعلوم السياسية أنه تحادث مع مرشح انتخابي كان بعيدًا من الأطروحات الطائفية، في دورات انتخابية عديدة، ثم بدأ يبرز ميوله الطائفية ويناصر الطائفة علنًا. فلما سأل الأستاذ هذا المرشح عن سبب هذا التحول قال: كنت دائمًا أخسر أصوات المنطقة بالشعارات الوطنية العامة وصرت اليوم أفوز بالدعم الطائفي.

إن استغلال الانتماء المذهبي في الانتخابات البرلمانية أمر شائع في دول كثيرة. وإلى جانب الطائفية هناك القبيلة حيث تنقسم المناطق القبلية حسب تركيبتها وتسبقها أحيانًا وبشكل سري انتخابات فرعية.

الاستحواذ الإيراني على التشيّع

  قادنا الحوار حول المسألة الطائفيّة إلى توظيفها سياسيًّا، كيف يمكننا أن نقرأ، سياسيًّا وتاريخيًّا، معضلة استحواذ «قم» على «النجف»؟ وكيف ترسّخت فكرة أنّ التشيّع إيرانيّ في حين أنّه في الأصل لم يكن كذلك؟

  تثار هذه القضية بسبب خلفية العلاقات التاريخية بين إيران والعالم العربي التي كانت للأسف سيئة في معظم الأحيان، وخلال الأزمنة الحديثة، وقد أثرت فيها، منذ قيام الدولة الصفوية عام 1502م، هيمنة العثمانيين على العراق وبلاد الشام ومصر عام 1517م، وجرى خلالها احتلال العراق أحيانًا، إذ كانت العراق، كحالها عبر التاريخ، مسرح الصراع بين إيران والدول العربية. وقد تجدد هذا الصراع في القرن العشرين مع ظهور الدولة العراقية الحديثة وتنامي المشاعر القومية العربية من جانب، وتأسيس النظام الملكي وأسرة بهلوي في إيران من جانب آخر، وظهرت بعد ذلك مشاكل مثل شط العرب والمشكلة الكردية، وفي النهاية تصارع الشاه مع صدام حسين، ثم النظام البعثي مع نظام رجال الدين في حرب طاحنة بعثت الاختلافات القومية والطائفية بقوة كما هو معروف.

هناك بالطبع مخاوف طائفية لدى الشيعة لكونهم أقلية ترى نفسها مظلومة في بعض المجالات كالتعليم والحرية المذهبية والتوظيف وغيرها، ولحسن الحظ تتجه الدول العربية عمومًا نحو المساواة السياسية والاجتماعية وتقليص التمييز. ولا تعني هذه الاختلافات وهذه الشكاوى أن الشيعة أو السنة محقون دائمًا؛ فالقضية متداخلة، فهناك التدخل من خلال أحزاب كحزب الله في لبنان، وهناك التمييز داخل إيران ضد أهل السنة والبهائيين، فنادرًا ما تسند لأهل السنة في إيران مناصب وزارية أو دبلوماسية ولا ينعمون بالحريات نفسها الممنوحة للإيرانيين الشيعة، أما البهائيون فيعاديهم النظام بلا رحمة.

كانت روسيا القيصرية قبل عام 1917م تقدم نفسها في العالم العربي حاميةً للمسيحيين الأرثوذكس، وكانت فرنسا تدافع عن الكاثوليك الموارنة، وبريطانيا عن الدروز. وللباحثين أن يتساءلوا: هل كان لدى المسيحيين العرب شعور بالانتماء لروسيا أو لفرنسا، أم كانت مشاعر المسيحيين الودية تجاه هاتين الدولتين وليدة مخاوف طائفية لكونهم من الأقليات، إلى جانب الخدمات والمساعدات المقدمة للمسيحيين والتهجم على «النصارى» من جانب الإسلاميين المتشددين في لبنان وسوريا ومصر وأماكن أخرى؟ ثم إن مشاعر التعاطف والإعجاب بإيران وثورتها وشعاراتها وقائدها وتصريحاته وغير ذلك، كانت طاغية في الوسط الشيعي والسني على حد سواء، وقد تراجع ذلك كله عبر الأربعين عامًا من حكم ولاية الفقيه وما فعلته بالإيرانيين، وما فعله حزب الله بلبنان، والتعبئة السياسة المتشددة ضد الدول الخليجيّة.

  هل فعلًا هناك شعور لدى المواطن العربي الشيعي أنّه جزء من إيران؟ أم إن هذا يدخل فيما يروّج سياسيًّا وإعلاميًّا؟

  لا نستطيع ولا يحق لنا الاكتفاء بلوم إيران على استخدامها ورقة المذهبية لتحقيق أهداف سياسية، فهذا شائع في مناطق ومذاهب أخرى من العالم. كل ما تفعله إيران في هذا المجال هو الاستفادة من الثغرات الطائفية والشد والجذب المذهبيّين اللذين ولدت منهما «الصحوة الدينة»، واستجابت لها الحكومات في الحياة العامة والأوقاف والتعليم والقانون والترخيص ببناء المؤسسات الدينيّة… هناك مثلًا قوانين عربية عادلة ومنصفة للجميع، أي لكل الطوائف، ولكنها لا تأتي للأسف إلا متأخرة. وقد كتبت مرارًا عن موسوعة إسلامية عربية بالغة الأهمية تتجاهل كل ما له صلة بالتشيع والإباضية، فهل هذا مما يوحّد الصف الطائفي في وجه من يبث التفرقة؟ من جهة أخرى، ما تفعله إيران منذ عقود أمر أشد خطورة في سوريا وغزة ولبنان واليمن وعموم الجزيرة العربية. نحن في حاجة ماسة إلى دراسة دور الدين والمذهب وعلاقتهما بمجتمعنا وفكرنا وكلّيات الشريعة في بلدنا وبإعلامنا؛ كي لا تجد التعبئة المذهبية أي مجال لاختراق المجتمع، وأن نهتم بالتوعية قدر اهتمامنا بالأمن والاستقرار السياسي والعسكري.

  كيف تستعمل إيران التشيّع ليكون مدخلًا للتأثير في المنطقة العربيّة؟

  العلاقة المذهبية بين المسلمين معقدة ومتنوعة كما هو الأمر بين الطوائف في الشرق والغرب. ولحسن الحظ لم تقع في مجتمعاتنا، ضمن العالمين العربي والإسلامي، حروب دينية طاحنة كالتي اشتعلت بين الكاثوليك والبروتستانت مثلًا في دول غرب أوربا الحالية قبل أن يضع الأوربيون حدًّا لها ويتخلّون، إلى حدّ كبير، عن التعصب الديني والمذهبي. لم تكن الفتن المذهبية الإسلامية بين الشيعة والسنة فحسب، وإنّما كانت تقع مرارًا بين مذاهب أهل السنة أنفسهم ويستخدم كل طرف سلاح التكفير ضد الفريق المخالف.

…وعندما نجحت الثورة في إيران، عام 1979م، بقيادة رجال الدين فيها، عقد الإيرانيون العزم -وبخاصة بعد بروز مدينة «قم» الإيرانية مركزًا روحيًّا ومذهبيًّا للنظام الجديد- على إخضاع سائر الشيعة خارج إيران لنفوذ المرجعية الإيرانية: آية الله الخميني ثم آية الله عليّ الخامنئي، ووظفت القيادة الإيرانية كل إمكانياتها المالية والمذهبية وأجهزة الدولة السياسية والدعائية والدينية لربط الشيعة العرب خاصة، وغيرهم، بإيران ومؤسساتها الجامعية والدعائية والإعلاميّة وغيرها.

لقد اكتشفت إيران أن قيادتها للشيعة، وبخاصة شيعة العالم العربي في البلدان الخليجية ولبنان والعراق، لن تتحقق إلا بالسيطرة على مدينة النجف العراقية حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب وكليات دراسة الفقه الشيعي المسماة بالحوزات الدينية، ولِمَا للمدينة من قدسية ومكانة مذهبية وفقهية وتأثير في عموم الشيعة، ومَنْ يدرس في حوزتها مِنْ طلاب يتخرجون بعدها فقهاء، ويكون لهم تأثير كبير في التوجيه الفقهي والسياسي.

لقد تناولتُ بالتفصيل جوانب من هذه العلاقات المذهبية ودور المرجعية في كل من إيران والعراق في كتابي «العمامة والصولجان»، ولا مجال هنا للخوض فيها. لقد نجحت إيران خلال أربعة عقود من السيطرة على المرجعية الشعبية في البلدين، ولم نعد نسمع صوتًا مستقلًّا لفقهاء ومراجع الشيعة في القضايا السياسية، إلا إذا كانت آراؤهم مطابقة لمواقف إيران وآراء الولي الفقيه، أما لبنان فكما لا يخفى يتولى الأمر فيها «حزب الله» الموالي في كل صغيرة وكبيرة لإيران.

أما عن ترسخ فكرة «أن التشيع إيراني» -في حين أن ظهوره وتطوره كان في الجزيرة العربية ومع بدايات الإسلام في القرن الأول الهجري ثم في العراق- فقد ساهمت فيه بعض الصراعات والمواقف العربية كذلك، والحرب العراقية الإيرانية، وبعض الكتب والمؤلفات، مثل كتاب «وجاء دور المجوس». ولا يمكن في اعتقادي معالجة بعض ذيول هذه القضية ما لم تتغير السياسة الإيرانية تجاه العالم العربي خاصة.

  هل يمكننا أن نقرّ بأنّ قبول الديمقراطيّة والتعدّديّة السياسيّة والفكريّة والتركيز على قيم المواطنة في المجتمعات العربيّة تشكّل أحد أهمّ السبل للخروج من مآزق «الصحوة الدينيّة» ومحاولات الهيمنة الإيرانيّة ومقاومة التطرّف ومخلّفات الطائفيّة؟

  كان «التوحيد» أو « التقريب» بين المذاهب، وبخاصة بين السنة والشيعة، أهم الأفكار المطروحة في الحياة السياسية العربية، منذ مدة طويلة على امتداد القرن العشرين، ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى وزوال الدولة العثمانية. وما ينبغي أن نركز عليه في هذا القرن هو التعددية الثقافية والمذهبية والسياسية. لا بد أن نتجنب تسلط أي فئة أو مذهب على آخر، وأن يتعلم كل طالب في المدرسة وكل إنسان ومواطن تقبل الآخر والتعايش معه بوصفه مختلفًا لا مخطئًا منحرفًا، وأن الحكم على مذاهب المسلمين وغيرهم ليس وظيفة الناس ورجال الدين والدعاة ومراجع التقليد والحكومات. إذا رسخت مثل هذه الأفكار في مجتمعاتنا فستتراجع الطائفية وتفشل دعوة التسلط والهيمنة، وتفشل معها محاولات إخضاع العالم والعقل العربي لمثل هذه النداءات.


هوامش:

(١) خليل علي حيدر، «اعتدال أم تطرف؟» الكويت، دار قرطاس، 1998م، ص 94.

(٢) موسوعة الهلال الاشتراكية، القاهرة، طبعة 1970م.

(٣) المرجع نفسه، ص 518.

(٤) د. أحمد عرفات القاضي، «تجديد الخطاب الديني»، القاهرة 2008م، ص 14.

(٥) هوما كاتوزيان، «الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة»، ترجمة أحمد حسن المعيني، لبنان، 2014م، ص 428 – 429.

زكي الميلاد: زمن ما بعد الحداثة كشف مدى بعدنا من العالم وكيف أننا نتراجع ولا نتقدم

زكي الميلاد: زمن ما بعد الحداثة كشف مدى بعدنا من العالم

وكيف أننا نتراجع ولا نتقدم

طُرحت قضايا الإصلاح والعلاقات بين الحضارات والأديان وغيرها منذ أكثر من قرنين في المجالات العربية والإسلامية عمومًا، بأدوات مختلفة ومقاربات متعددة ومن زوايا نظر كثيرة تتقاطع أحيانًا وتتعارض أحيانًا أخرى، ويُبنى بعضها على بعض في أُطر من التكامل أو الجدل. ومثل هذا الأمر ما زال محل نقاش واسع إلى اليوم وتُنشر في شأنه الدراسات. في هذا السياق العام كان لـ«الفيصل» حوار مع الكاتب السعودي الدكتور زكي الميلاد، المختص في الدراسات الإسلامية، الذي صدرت له كتابات كثيرة سعى من خلالها إلى استقراء الفكر العربي والإسلامي من وجوه عدة، تمحورت حول قضايا الإصلاح منذ ما سُمي «عصر النهضة العربية»، وكذلك القضايا الحضارية الراهنة، وهو السياق الذي صدرت له فيه كتب كثيرة من أهمها «عصر النهضة: كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟» الحائز على جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب في مجال الفكر والفلسفة سنة 2017م، ليصدر له بعد ذلك كتاب «فكرة الحضارة: دراسة تحليلية في الكتابات العربية المعاصرة» إضافة إلى قائمة طويلة من الإصدارات.

  على الرغم من تعدد أعمالك ومقالاتك، هل يمكن أن نعدها في شكل أو آخر تندرج في إطار واسع يجمعها هو دعوتك إلى «إصلاح ثقافي» في المجتمعات العربية والإسلامية عمومًا؟

  في التحليل العام، لقد وجدت أن أقرب الناس إلى الإصلاح الثقافي قناعة ومسلكًا، هم أولئك الذين ينتمون إلى المجال الثقافي، ويحملون نزعة إصلاحية، ويشتغلون بتعمق وتركيز في حقل الثقافة والدراسات الثقافية، وتتأكد لديهم هذه القناعة مع توالي الأيام ومرور الزمن، ومع تطور التجربة وتراكم الخبرة، وفي ظل معايشة وضعيات الأمة واستشراف مستقبلياتها.

وهنا نقف أمام مفارقة بين مسلكين؛ مسلك يتمسك بالثقافة بلا نزعة إصلاحية، ومسلك يتمسك بالإصلاحية ويكون بعيدًا من الثقافة. المسلك الأول قد ينتج ثقافة بأشكال مختلفة ومستويات متعددة وفي نطاقات شتى، لكنها ثقافة لا تحسب على نهج الإصلاح الثقافي، لغياب شرط النزعة الإصلاحية. والمسلك الثاني قد يُنتج فعلًا إصلاحيًّا بأشكال مختلفة ومستويات متعددة وفي نطاقات شتى، لكنه فعل لا يُحسب على نهج الإصلاح الثقافي، لغياب شرط الثقافة.

وعلى مستوى المفهوم، وجدت أن مفهوم الإصلاح الثقافي بهذا الصك البياني من ناحية المبنى، وبهذا التركيب الثنائي التبادلي من ناحية المعنى، يعد من نمط المفاهيم الحديثة التي تكثف حضورها في المجال التداولي العربي خلال العقدين الأخيرين من الألفية الثالثة الجديدة، ويتأكد لنا هذا الأمر عند ملاحظة عناصر التواتر والاتصال والتراكم في استعمالات هذا المفهوم على مستوى الكتابات والتأليفات والأنشطة خلال هذه الحقبة المقصودة، بطريقة لم نلحظها من قبل.

ومن جهتي فقد وجدت فعلًا أن مجموع أعمالي الفكرية كتابًا ومقالة ودراسة، هي أقرب إلى الإصلاح الثقافي حقلًا وتاريخًا. ولدي كتاب في هذا الموضوع كذلك، يحمل عنوان «الإسلام والإصلاح الثقافي… لماذا نحن بحاجة إلى إصلاحات ثقافية؟»، (صدر في طبعته الأولى سنة 2007م، وفي طبعته الثانية المجددة والمطورة سنة 2021م)، قدمت فيه مجموعة مقاربات ومطالعات وتحليلات تتخذ من الإصلاح الثقافي مرتكزًا وأساسًا.

الإصلاح وحاجته إلى الثقافة

  هل المقصود بعبارة «الثقافي» هو فقط ما تُعُورِفَ عليه، أم إن الثقافي يشمل الاجتماعي والديني والسياسي والاقتصادي والفكري؟ أي المعنى الواسع للثقافة؟

  من الناحية التطبيقية أرى أن مفهوم الإصلاح الثقافي يتحرك في اتجاهين، اتجاه خاص يتعلق بالثقافة والمجال الثقافي، واتجاه عام يتعلق بالمجالات الأخرى التي تحتاج إلى الثقافة بوصفها ركنًا فيها. بشأن الاتجاه الأول: له صفة الخاص لأنه يتعلق بالمجال الثقافي متحددًا به شكلًا ومضمونًا، ويراد بالإصلاح الثقافي هنا أمران: الأول له علاقة بفكرة المجال بمعنى أن الثقافة تمثل أحد مجالات الإصلاح حالها كحال باقي المجالات الأخرى. فكما أن الإصلاح يشمل السياسة متحددًا بالإصلاح السياسي، ويشمل الاقتصاد متحددًا بالإصلاح الاقتصادي، ويشمل الاجتماع متحددًا بالإصلاح الاجتماعي، ويشمل التربية متحددًا بالإصلاح التربوي، فإنه يشمل كذلك الثقافة متحددًا بالإصلاح الثقافي، أي أن المجال الثقافي كباقي المجالات الأخرى معرض لأن يصاب بأعطاب وخلل واعوجاج وآفات، ومن ثم فهو بحاجة إلى إصلاح يحمل صفة الإصلاح الثقافي. الأمر الثاني له علاقة بفكرة الفاعلية، ويراد من الإصلاح الثقافي هنا إعطاء الثقافة فاعلية إصلاحية، وعَدّ هذه الفاعلية من وظائف الثقافة الثابتة والأساسية إلى جانب وظائفها الأخرى في النقد والتحليل والبناء والاستشراف.

وبشأن الاتجاه الثاني: له صفة العام لأنه يتعلق بالمجالات الأخرى الدينية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية والسياسية وغيرها التي تتصل بها الثقافة ولا تنفصل، فالإصلاح في عموم هذه المجالات يظل بحاجة إلى الثقافة والإصلاح الثقافي. ولهذا يمكن القول: إن الإصلاح الديني لا يكتمل من دون إصلاح ثقافي، وإن الإصلاح السياسي يظل بحاجة إلى إصلاح ثقافي، وكذا الحال بالنسبة إلى الإصلاح الاقتصادي، فقد عَدَّت الدراساتُ الحديثة التنميةَ الاقتصادية هي جزء من ثقافة أي شعب، كما جاء في تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية حول التنوع البشري الخلاق.

  إن الدعوة إلى مثل ذلك الإصلاح الثقافي لا تستبطن الحاجة المُلِحّة إليه فحسب، وإنما على وجه الخصوص الانطلاق من تقويم للأوضاع الثقافية العامة، ونقدر أن كل إلحاح على الإصلاح يتضمن نوعًا من التقويم السلبي، وهذا ما يجعلنا نسألك عن تقويمك للوضع الثقافي الحالي؟

  تقويم الوضع الثقافي العربي العام، يتحرك كذلك في اتجاهين: اتجاه تجزيئي خاص يتعلق بالثقافة وأحوالها، واتجاه تركيبي عام يتعلق بالوضع العربي العام الذي تمثل الثقافة جزءًا منه يتصل ولا ينفصل. وفي كلا الاتجاهين الأزمة قائمة، والتأزم ما زال ساريًا، ويتبادلان الأثر والتأثير في تكريس الأزمة واستفحالها. فلا الثقافة تمكنت من النهوض بذاتها، ولا الوضعيات العامة أسهمت في تحريك الثقافة وتحسين أحوالها.

فأزمة الثقافة عاقت نموها، وعطلت طاقتها، وحجبت إشعاعها، ولم يعد بمقدورها النهوض بالوضع العام المثقل بأزمات مركبة، نحسن التعبير عنها بيانًا وبلاغة، ولا نستطيع مواجهتها والتأثير فيها تغييرًا وإصلاحًا. وقد أصبحنا حائرين أمام هذا الوضع الذي بات يقبل التوصيفات السلبية على اختلاف أنواعها وأنساقها.

ومن المؤسف أن يحدث ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين، وفي ظل عصر العولمة وثورة المعلومات، وفي ظل الحديث عن الثورة الصناعية الرابعة والمجتمع الخامس ويراد به مجتمع ما بعد المعلومات، وفي زمن ما بعد الحداثة، الوضع الكاشف عن مدى بعدنا من العالم وتقدمه، وكيف أننا نتراجع ولا نتقدم! وليس هناك إجماع تقريبًا بين الباحثين والمفكرين العرب على اختلاف مشاربهم ومناهجهم يطابق إجماعهم على أزمة الثقافة من جهة، وأزمة العالم العربي من جهة أخرى، وهم أكثر الناس حديثًا عن هذه الأزمة المزدوجة، وأكثرهم تفننًا في تشريحها بنيويًّا وتفكيكيًّا وإبستيمولوجيًّا وأنثروبولوجيًّا، وعملًا بمناهج ومنهجيات أخرى تنتمي إلى معارف العلوم الإنسانية والاجتماعية.

وصُور هذه الأزمة الثقافية ومظاهرها عديدة؛ منها: غياب المشروعات الفكرية الكبرى المميزة والمؤثرة، وضعف الإبداع الفكري على مستوى ابتكار النظريات والمفاهيم والمناهج، وضعف الحس الاجتهادي عند الباحثين والمفكرين والمؤرخين، وعدم قدرة الجامعات على بناء العلماء وتكوين المفكرين والنهوض بالعلم والبحث العلمي، إلى جانب مظاهر أخرى.

صور متنوعة للمثقف

  في ظل مثل هذا التقويم هل يمكن إعادة تعريف المثقف ودوره اليوم؟

  المثقف ليس بحاجة لمن يعرفه بدوره أو أدواره، وليس مثقفًا من لا يفقه دوره أو أدواره، والمثقفون هم أكثر الفئات الاجتماعية حديثًا عن هذه القضية، وبيان هذا الأمر لن يغير شيئًا من واقع المثقفين، ولن يبدل حالهم أو يرفع من منزلتهم، كما أنهم بطبعهم لا يتقبلون من يذكرهم أو من يشير إليهم بهذا الشأن، وقد يعدُّونه نوعًا من الوعظ الذي لا يفضلون الإصغاء إليه، ومنهم من ينفر منه تعاليًا.

من جانب آخر، للمثقف صور متعددة، كان وما زال وسيبقى بهذه الصور المتعددة، ولا يقبل التنميط في صورة أحادية مهما كانت قوة هذه الصورة وبلاغتها وجاذبيتها، ومن حقه أن يتمثل هذه الصور المتعددة، وليس باستطاعة أحد أن يُكرهه على تمثل صورة محددة. لكن بإمكانه العبور بين هذه الصور، متنقلًا في تمثلاته من صورة لها علاماتها وإشاراتها ورموزها إلى صورة أخرى مباينة أو مغايرة، وحدث مثل هذا الأمر ويحدث عادة بين المثقفين، وهذا ما يعرفه هؤلاء عن أنفسهم، فهناك من يبدأ بصورة ويظل يتنقل بين الصور، وينتهي متمثلًا صورة يرى فيها نضجًا ورشدًا واختيارًا. ونادرًا ما نجد مثقفًا احتفظ لنفسه من البداية إلى النهاية بصورة واحدة لا تغير فيها ولا تبدل ولا تجدد.

إدوارد سعيد

ومن هذه الصور المتعددة، صورة المثقف الناقد التي دعا إليها إدوارد سعيد، وصورة المثقف المفكر التي دعا إليها علي حرب، وصورة المثقف المناضل التي دعا إليها علي شريعتي، وصورة المثقف الحر التي دعا إليها محمد عابد الجابري، إلى جانب من يتبنى صورة المثقف الأكاديمي الذي يعطي الأفضلية والأولوية لإنتاج المعرفة، وهكذا تتعدد الصور وتتفاضل، ولا أرى حرجًا في ذلك على الإطلاق، فمن حق المثقف أن يقرر اختياره بإرادته، لكن بشرط أن يحافظ على صورته الأخلاقية، ويتمسك ولا يتخلى عن قيم الحق والعدل والحرية والعلم والمساواة وحقوق الإنسان.

  من ضمن المسائل التي طرحْتَها بعمق فيما يتعلق بالمسألة الثقافية صنف مخصوص سمّيتَه «المثقف الديني»، ورأيت أنه يعيش محنة مع العصر، فيمَ تتمثل هذه المحنة؟ وما مظاهرها؟ وما سبل الخروج منها؟

  هناك مفارقة مدهشة بين مثقف الحضارة الإسلامية ومثقف الحضارة الأوربية؛ الأول هو مثقف ديني بطبيعته، يجمع في تكوينه بين معارف الدين ومعارف علوم الإنسان والمجتمع والطبيعة، بلا تعارض ولا تصادم، يضع الإلهيات إلى جانب المنطقيات والطبيعيات، يوفق بلا حرج ولا تكلف بين الدين والفلسفة، وبين الدين والمنطق، وبين الدين والعلم، متمثلًا في صورة شريحة كبيرة من المثقفين العلماء والفلاسفة يبرز منهم ويتقدم: ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن خلدون.

والثاني هو مثقف غير ديني بطبيعته، قد يكون مؤمنًا وليس ملحدًا، لكنه ليس معنيًّا كثيرًا بالعلاقة مع الدين، لا يجمع في تكوينه غالبًا بين معارف الدين ومعارف علوم الإنسان والمجتمع والطبيعة، قادتْه تجربته التاريخية في العصور الوسطى إلى الدخول في معركة حامية وشرسة وطويلة مع طبقة رجال الدين اللاهوتيين المستبدين والمتسلطين والفاسدين، وخرج من هذه المعركة منتصرًا، معلنًا انتصار الفلسفة على اللاهوت، وتغلب الفيلسوف على رجل الدين، وتفوق الجامعة على الكنيسة، وإعلاء ما هو إنساني.

ومن هذه التجربة التاريخية انبثق مفهوم المثقف الحديث، وإلى هذا النموذج الغربي الطاغي ينتمي المثقف المعاصر، بما في ذلك مثقف العالمين العربي والإسلامي، المثقف الذي تقلصت علاقته مع الدين إلى درجة تكاد تضمحل بالنسبة للبعض، ولم يعد الدين يمثل مرجعية فكرية وفلسفية عند قطاع كبير من المثقفين. ومن هنا أصبح المثقف الحقيقي في نظر إدوارد سعيد هو المثقف العلماني الذي ينتمي إلى ما هو إنساني. في ظل هذه الوضعيات الملتبسة، ونتيجة فرض نموذج المثقف الأوربي، نشأت محنة المثقف الديني، وأصبح هناك من يرى أن المثقف لا يكون دينيًّا، والمفكر لا يكون دينيًّا، والفيلسوف لا يكون دينيًّا، والعالم لا يكون دينيًّا وهكذا.

وأردت من طرح مفهوم المثقف الديني، أولًا: إظهار صورة مثقف الحضارة الإسلامية الذي يغاير صورة مثقف الحضارة الأوربية. وثانيًا: إثبات أن الدين لا يتعارض مع الثقافة ولا يتصادم. وثالثًا: لدفع من ينتمي إلى المجال الديني نحو الانفتاح على معارف الثقافة متمثلة في علوم الإنسان والمجتمع، ودفع من ينتمي إلى المجال الثقافي نحو الانفتاح على معارف الدين متمثلة في علوم الوحي.

في الحداثة وتعارف الحضارات

  من المفاهيم الأساسية التي ركزتها في الكثير من كتاباتك ومواقفك مفهوم «تعارف الحضارات»، هل يمكن عَدّه شكلًا آخر مما هو متداول عند الحديث عن «حوار الحضارات» مثلًا، أم لما تطرحه خصوصية ما؟ وفِيمَ تتمثّل؟

  مفهوم حوار الحضارات وصلنا بشكل أساسي في المجال العربي من خلال روجيه غارودي، الذي نشر كتابًا مهمًّا بهذا العنوان في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وجرى تداوله في ترجمتين عربيتين، ولم يكن هذا المفهوم آنذاك لافتًا أو مثيرًا للدهشة، ولا يأتي الحديث عنه إلا متقطعًا وفي نطاقات محدودة، فكان بعيدًا من الفحص والتدقيق مبنى ومعنى.

امتد هذا الحال إلى زمن مقالة «صِدام الحضارات» التي نشرها صامويل هنتنغتون سنة 1993م، وفجر معها أعظم سجال عالمي يحدث في تاريخ الأدب الإنساني الحديث والمعاصر. على وقع هذا السجال الشديد جرى تذكر مفهوم حوار الحضارات بوصفه نقيضًا وبديلًا لمفهوم صدام الحضارات، فدخل هذا المفهوم «حوار الحضارات» بقوة في المجال التداولي عربيًّا وإسلاميًّا، أتاحت لأول مرة إمكانية فحص هذا المفهوم تحليلًا وتفكيكًا، وبعد الفحص وجدت أنه لا يتصف بالدقة لا من الناحية المفهومية والاصطلاحية، ولا من الناحية التطبيقية والتاريخية.

وفي سياق هذا الفحص رجعت باحثًا ومدققًا إلى الأعمال الكبرى التي أنجزها أبرز الباحثين المعاصرين في حقل دراسات الحضارة، مثل ألبرت إشفيتسر صاحب كتاب «فلسفة الحضارة»، وأوسفالد شبنغلر صاحب كتاب «تدهور الغرب»، وآرنولد توينبي صاحب موسوعة «دراسة التاريخ»، وصولًا إلى صامويل هنتنغتون صاحب كتاب «صدام الحضارات». فلم أجد أحدًا من هؤلاء استعمل تسمية «حوار الحضارات» عند بحثهم وتحقيقهم لصور العلاقات بين الحضارات قديمًا وحديثًا.

أما غارودي فقد طرح هذا المفهوم موجهًا خطابه إلى الغرب، قاصدًا دفعه نحو الانفتاح على الحضارات الأخرى، بحثًا عن الأبعاد المفقودة، والفرص الضائعة، ومن أجل وضع حد لما يسميه غارودي حوار الذات الغربي الانتحاري، سعيًا وأملًا في أن يتخلص الغرب من أزماته ومآزقه الداخلية. أما مفهوم تعارف الحضارات فله بنية مغايرة، وتركيب مفاهيمي مباين، وسياق مختلف، ويرتكز على أصل أصيل، بمعنى أنه ليس مفهومًا لا أصل له ولا سند، ويتحدد هذا الأصل في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (سورة الحجرات، الآية 13).

وبعد الفحص والنظر في هذه الآية، وجدت أنها تضمنت الإشارة إلى مبادئ كلية وأبعاد إنسانية عامة، تضعنا أمام الأفق الإنساني الكلي الذي يتوجه فيه الخطاب إلى الناس كافة، والتعارف هو المفهوم الذي حاولت هذه الآية تحديده وتأكيده والنص عليه، من خلال سياق وخطاب يبرز قيمته بوصفه مفهومًا إنسانيًّا عامًّا يتصل بالناس كافة. وهذه المبادئ الكلية والأبعاد الإنسانية العامة، نستظهرها من الآية على هذا النحو:

أولًا- الخطاب في الآية موجه إلى الناس كافة بلسان: (يا أيها الناس) مستغرقًا عموم جنس الإنسان، ناظرًا لهم على تعدد وتنوع أعراقهم وألوانهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، ذكورهم وإناثهم، إلى غير ذلك من تمايزات أخرى.

ثانيًا- تذكير بوحدة الأصل الإنساني بلسان: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)، مقررًا أعظم حقيقة في مجال الاجتماع الإنساني، هي حقيقة وحدة الأصل الإنساني، وتعني أن الناس مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وأجناسهم، لغاتهم وألسنتهم، ألوانهم وأشكالهم، بيئاتهم وأمكنتهم إلى غير ذلك من اختلافات أخرى، مع ذلك فإنهم يرجعون إلى أصل إنساني واحد.

روجيه غارودي

ثالثًا- إقرار بالتنوع الإنساني بلسان: (وجعلناكم شعوبًا وقبائل)، بعد تأكيد وحدة الأصل الإنساني، جاء الإقرار بمبدأ التنوع الإنساني، بمعنى أن وحدة الأصل الإنساني لا تقتضي أن يجتمع الناس كافة ويعيشوا في مجتمع واحد ومكان واحد، وحينما توزعوا شعوبًا وقبائل، وتعددت وتنوعت أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وألوانهم فهذا لا يعني أبدًا أن لا رابط بينهم. فوحدة الأصل الإنساني لا تنفي حقيقة التنوع الإنساني، كما أن التنوع الإنساني لا ينفي حقيقة وحدة الأصل الإنساني.

رابعًا- خطاب إلى الناس كافة، وتذكير بوحدة الأصل الإنساني، وإقرار بالتنوع الإنساني، فما شكل العلاقة بين الناس؟ من بين كل المفاهيم المحتملة في هذا الشأن، يتقدم مفهوم التعارف بلسان: (لتعارفوا). ولأن التعارف بين شعوب وقبائل، أي بين مجتمعات وجماعات، وليس بين أفراد، فهو يصدق على جميع أشكال الجماعات الصغيرة والكبيرة، ومنها الشعوب والمجتمعات والأمم حتى الحضارات؛ لذلك جاز لنا استعماله في مجال الحضارات، الاستعمال الذي نتوصل منه إلى مفهوم (تعارف الحضارات). هذه بعض الحقائق والمعطيات الكاشفة عن بنية مفهوم تعارف الحضارات، وكيف أنه أكثر دقة وإحكامًا وصوابًا من مفهوم حوار الحضارات. وقد لقي هذا المفهوم تقبلًا كبيرًا، ونال شهرة واسعة، وكسب اهتمامًا مميزًا، وحقق متابعة نشطة، وما زال محافظًا على ديناميته وحيويته وتراكمه، وبات معروفًا ومتحركًا في حقل الدراسات الحضارية، على امتداد مشرق العالم العربي ومغربه.

أثر الجهل في صِدام الحضارات

  هل يمكن عَدّ نظرية تعارف الحضارات نقيضًا ممكنًا لصراع الحضارات؟

  يرتكز مفهوم تعارف الحضارات من جهة على نفي الجهل وكل ما يقع على طريق الجهل بين الحضارات، وعلى تحصيل التعارف وكل ما يقع على طريق التعارف بين الحضارات، فلا يكفي نفي الجهل فحسب، وإنما لا بد كذلك من تحصيل التعارف، فالأول يتمثل شرط الهدم أو الشرط السلبي، والثاني يتمثل شرط البناء أو الشرط الإيجابي. والجهل بصوره كافة كان سببًا قويًّا للصدام بين الحضارات قديمًا وحديثًا، وما من صدام حدث بين الحضارات إلا كان الجهل سببًا من الأسباب. بينما على أرضية التعارف تعاقبت الحضارات في التاريخ، وعلى أساس التعارف اعتبرنا أن كل حضارة في العالم هي تمثيل بديع للإرث الإنساني المشترك، وتعد ملكًا لجميع البشر، وتمثل تعبيرًا عن روح الإنسان المتوثب للنهوض والمتطلع للتقدم.

ومن أوضح الشواهد التاريخية الدالة على هذه الحقيقة بعنصريها الجهل والمعرفة، ما حدث مع المغول في تاريخ الحضارة الإسلامية، فالجهل قادهم إلى تدمير الحضارة الإسلامية في القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي، والمعرفة والتعارف قاداهم إلى الإسلام، ومن ثم الانتساب إلى الحضارة الإسلامية.

والشاهد الآخر الدال على ذلك أيضًا، أن الجهل قاد المجتمعات الأوربية إلى ما عرف في أدبياتهم بالحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي، والمعرفة الناشئة من هذا الاحتكاك وَلّدت ما عُرف بحركة الاستشراق في القرن الثامن عشر أو ما قبله على اختلاف الروايات والتحليلات، التي اتخذت من المعرفة وجهة ودربًا، ومَثّلت أعظم عملية معرفية في التاريخ الإنساني اتجهت من حضارة إلى دراسة حضارة أخرى هي الحضارة الإسلامية، بغض النظر عن جودة هذه المعرفة ودقتها وصوابيتها. لذا فإن نظرية تعارف الحضارات لا تمثل فقط نقيضًا لصدام الحضارات، وإنما بإمكانها إزالة مسببات الصدام بين الأمم والمجتمعات والحضارات.

  هل يمكن عَدّ «تعارف الحضارات» مفهومًا منطلقًا من الدائرة الإسلامية نفسها لاحتكامه إلى مسألة «لتعارفوا» أي العبارة القرآنية؟

  لقد توصلتُ فعلًا إلى أن تعارف الحضارات هو المفهوم المعبر عن الرؤية الإسلامية في مجال العلاقات بين الحضارات، وبين الناس كافة شعوبًا وقبائل، لكنه لا يتحدد في نطاق المسلمين أو المؤمنين وينحصر عليهم، وإنما هو مفهوم يلامس الأفق الإنساني الكوني العام؛ فموضوعه الناس كافة. والمدهش في هذا المفهوم يتكشف لنا بالعودة إلى الأصل القرآني؛ حيث نرى أن الخطاب في سورة الحجرات من بدايتها إلى نهايتها كان متجهًا إلى المؤمنين بلسان: (يا أيها الذين آمنوا)، لكنه تغير واختلف فقط في آية التعارف متجهًا إلى الناس بلسان: (يا أيها الناس)، وهذا يعني انتقال الخطاب من الخاص إلى العام، في مورد يقتضي تقديم العام على الخاص. ولو جاءت هذه الآية على منوال النسق نفسه من الخطاب متجهة إلى المؤمنين، لأصبحت الآية أجنبية عن موضوع العلاقات بين الحضارات، وانتفى معه مفهوم تعارف الحضارات.

  انطلاقًا من هذا التصور للتعارف، هل يمكننا أن نَعُدّ مثلًا نَقْدَك لمحمد عابد الجابري واستنتاجاته المرتبطة بابن سينا وجعله على نقيض ابن رشد مندرجًا في إطار كسر كل المفاضلات بما فيها تلك الواردة في السياقات الإسلامية نفسها بين الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي؟

  أمام هذا السؤال أود لفت الانتباه إلى مفارقة أراها مدهشة إليَّ، تفارق بين حالتين: الأولى قديمة والثانية حديثة، متحددة في أن الفارابي في عصره القديم جمع بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، والجابري في عصره الحديث فرق بين الحكيمين ابن سينا وابن رشد. الفارابي جمع بين حكيمين لا ينتميان إلى ديانته وثقافته وتاريخه وحضارته، والجابري فرق بين حكيمين ينتميان إلى ديانته وثقافته وتاريخه وحضارته، بحسب هذه الموازين كان المفترض أن يحدث العكس؛ الفارابي يفرق والجابري يجمع، ولو حدث هذا الأمر بهذه الطريقة العكسية لما وجدناها خارج نطاق المعقولية. من وجه آخر، كان المفترض كذلك أن يكون الجابري، قياسًا على طريقة الفارابي في الجمع بين الحكيمين، أقرب إلى هذه الطريقة النموذجية التي تتخذ من الجمع معيارًا، مع ذلك خالف الجابري هذا التوقع، وسلك دربًا لا يصلح أن يكون نموذجًا؛ لأنه لم يكن موفقًا من جهة، ولأنه من جهة أخرى يتخذ من الفرقة معيارًا.

والسؤال: ما الذي جعل الفارابي يُقْدِم على هذه الخطوة ويجمع بين حكيمين بعيدين منه وغريبين لا أقل من ناحية الشكل والمظهر؟ بعيدًا من المحتوى المعرفي التفصيلي لهذه القضية، وبحسب المنظور الحضاري العام يمكن القول إن خطوة الفارابي تعبر عن الروح التوافقية للحضارة الإسلامية، التي لا تتحرج في الجمع بين حكيمين بما أنهما حكيمان. وتتأكد هذه الملحوظة عند معرفة أن علاقة الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية القديمة وبالتراث اليوناني المدهش، مثلت أفضل نموذج تطبيقي لتعارف الحضارات. والإشكالية مع الجابري أنه لم يتمثل الروح التوافقية للحضارة الإسلامية كما عبر عنها الفارابي، وأنه لم يفرق بين ابن سينا وابن رشد فحسب، وإنما فرق كذلك بين المشرق العربي الإسلامي والمغربي العربي الإسلامي، وأراد أن يسحب هذه الإشكالية من الماضي إلى الحاضر، وكأننا ننتمي إلى أمتين وثقافتين وعالمين!

الحداثة الأُحادية والحداثات المتعددة

  لو خرجنا إلى المستوى الكوني، هل يمكن أن نعتبر دعوتك إلى «حداثات» عوض «الحداثة» يندرج في السياق نفسه للتركيز على التعدد الموجب لما تسميه التعارف والخروج من هيمنة الأحادية؟

  قياسًا على الحضارات يمكن القول بوجود حداثات؛ لأن كل حضارة مثلت مشروع حداثة في عصرها، وما دامت هناك حضارات في التاريخ وليست حضارة واحدة، فهذا يعني أننا أمام حداثات وليس أمام حداثة واحدة، وتختلف هذه الحداثات شكلًا ومضمونًا، قوة وضعفًا، بحسب قوة هذه الحضارات وضعفها. وبناءً على ذلك فإن الحضارة المصرية القديمة مثلت مشروع حداثة في عصرها، والحضارة اليونانية مثلت كذلك مشروع حداثة في عصرها بنمط مختلف، وهكذا الحضارة الإسلامية مثلت مشروع حداثة في عصرها وبنمط مختلف أيضًا، وهكذا باقي الحضارات الهندية والصينية والفارسية وغيرها. ومع الحضارة الغربية اختُرع مفهوم الحداثة، وكان جديدًا من ناحية البيان، ومدهشًا من ناحية المعنى، لكنه من ناحية المضمون الواسع فقد عبرت عنه جميع الحضارات السابقة، وكل حضارة مثلت محطة تاريخية في تاريخ محطات الحداثة، وقد حققت الحضارة الغربية ما يمكن تسميته بالحداثة الفائقة. وأمام الجدل القائم بين حداثة أو حداثات، فإن المجتمعات القوية والمجتمعات القادرة والمجتمعات صاحبة الحضارات العريقة، هي التي تتحدث اليوم عن فكرة الحداثات المتعددة، ولا تقبل بفكرة الحداثة الأحادية، مثل مجتمعات اليابان والصين والهند، ومنها مجتمعات مسلمة مثل ماليزيا وغيرها. كما أن الحديث عن حداثات متعددة لا يعني تصادم هذه الحداثات، وتتأكد الحاجة هنا أيضًا إلى شرط التعارف والدعوة إلى تعارف الحداثات، التي هي من مصاديق فكرة تعارف الحضارات.

  تشير أحيانًا إلى ما يسمى «حداثة إسلامية»، ألا يمكن أن يؤدي ذلك بشكل أو بآخر إلى الوقوع فيما يُعرف بالأسلمة؟

  هناك سياق تطوري متعاقب لم يسجل من قبل، يشرح تطور العلاقة بين الحداثة والإسلام في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، يتحدد هذا السياق في ثلاثة أطوار هي:

الطور الأول: يمكن تسميته بـ(الطور التعارضي)، وتمثلت فيه العلاقة بين الإسلام والحداثة على نحو التباعد الكلي، والتعارض القطعي، والتفارق التام، جعلت الفكر الإسلامي يضع نفسه في ضفة والحداثة في ضفة أخرى لا يلتقيان ولا يتقاربان. الطور الثاني: يمكن تسميته بـ(الطور التجاوري)، وقد تغيرت نسبيًّا في هذا الطور تمثلات العلاقة بين الإسلام والحداثة، وبات من الممكن التجاور بينهما، ليس بالضرورة توافقًا، وإنما من خلال أطر المقارنة والمقاربة المؤتلفة والمختلفة. الطور الثالث: يمكن تسميته بـ(الطور التجاوزي)، اتجه الفكر الإسلامي فيه نحو البحث عن حداثة إسلامية، كاشفًا عن بلوغه مرحلة متقدمة في طريقة فهم الحداثة، متخطيًا موانع ومحذورات الطورين السابقين، قاطعًا تلك المسافات التي كانت تفصله عن الحداثة، وتمنع عليه الاقتراب منها والتواصل معها. وتزامن في هذا الطور حديث بعض الغربيين متسائلين عن الحداثة الإسلامية، ومنهم الباحث الألماني أستاذ الإسلاميات راينهارد شولسته الذي نشر مقالة سنة 1997م بعنوان: «هل توجد حداثة إسلامية؟». وهو الأمر الذي يعني أن مسألة الحداثة الإسلامية ارتبطت بسياق فكري، له علاقة كذلك بالتفكير بالحداثات المتعددة.

وكانت لي أطروحة في هذا الصدد، تَفرّدتُ بها، تحددت في أن الاجتهاد في المجال الإسلامي هو مفهوم يعادل أو بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي، وذلك استنادًا إلى قاعدة جوهرية صلبة ترى أن مفهوم الحداثة يتكون من ثلاثة عناصر أساسية هي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها هي من مكونات مفهوم الاجتهاد.

  ألا يمكن أن يؤدي هذا التأصيل إلى صراع من نوع آخر بين الخصوصية والكونية، خصوصًا فيما يرتبط بالمنظومات القيمية والثقافية؟

  جدل الخصوصية والكونية سيظل قائمًا لن يتوقف أو ينتهي؛ لأن الخصوصية لها شرائط ومقتضيات لا تتطابق بالضرورة وبصورة كلية مع شرائط ومقتضيات الكونية. كما أن هذا الجدل بحسب قاعدة التنوع له سياق، وبحسب قاعدة التنميط والأحادية له سياق مختلف تمامًا. وعلى هذا الأساس فالخصوصية لا تعني الانغلاق وقطع جسور التواصل مع المجتمع الإنساني والعالم، كما أن الكونية لا تعني القولبة والتنميط وفرض النموذج الأحادي، لا على قاعدة العولمة، ولا على قاعدة نهاية التاريخ.