بناء الفضاء وبلاغة التخييل في القصة القصيرة.. جبير المليحان نموذجًا

بناء الفضاء وبلاغة التخييل في القصة القصيرة.. جبير المليحان نموذجًا

تستهدف هذه القراءة مقاربة بلاغة تشكلات النوع القصصي، من خلال الحفر في سيمياء الفضاء وأنساق الشخوص، انطلاقًا من تجربة القاص السعودي جبير المليحان.

إن أبرز تجليات بلاغة القصة القصيرة هو بنية العنوان «ج. ي. م» (صادرة عن أثر للنشر والتوزيع) باعتباره علامة تكشف انفتاح النص وتخييل لغة القصة. ومن ثم، فالتخييل الكابوسي والحلمي في هذه النصوص، يشتغل كآلية تعري تناقضات الواقع؛ فضلًا عن المفارقة التي تسم فضاء اليومي، والثنائيات التي تجسد أبعاده ودينامية شخوصه. أما عنوان المجموعة الجديدة الصادرة حديثًا عن دار سطور للنشر والتوزيع «سيرة الصبي. قصص وحكايات» فيخلق جدلًا على صعيد تمثل الجنس الأدبي، مستشرفًا أفقًا يعيد من خلاله المؤلف قراءة تقاطعات تمثيل الجنس الأدبي.

فهيمنة الأنا السارد/ الطفل القروي المشارك في الحكي داخل كل النصوص المشكلة للمجموعة الأخيرة، وتكرار شخوص بعينها (الخال مزبد، صورتي الأب والأخ) علاوة على وحدة كل من الفضاء (القرية) والزمن (الطفولة)؛ كلها مؤشرات تحيل على رؤية تنحت ذاكرة الطفولة بوصفها لحظة قصصية. ويتأكد ذلك بالانتقال إلى زمن الخطاب كما نعاين مع استرجاع الذات/ السارد لحظات الطفولة بين حقول القرية وداخل فضاء المدرسة. غير أن سردية الطفولة ترتكز على ما يمكن أن نسميه تخييل الواقع/ الذاكرة بوصفه لحظة تحفر في الطفولة. ففي قصة «الجن» يكشف السرد القصصي عن البعد العجائبي للواقع، ليتمثل عالم الطفولة مفسرًا للظاهرة الفوق- طبيعية وهي مطاردة الجن للطفل السارد: «أسمع ركض الجن خلفي، وكأن أيديهم ستمتد وتمسكني» (ص: 29) يطفو إلى السطح سؤال سردية الطفولة والذاكرة وعلاقتها بتمثيل الجنس الأدبي، كما يظهر من خلال المجموعة الأخيرة. فالسارد الطفل يتذكر ما يمكن أن نعبر عنه بسردية النسيان عبر السرد المرجعي، بوصفه يتجاوز أسلوب السرد غير المباشر ليضعنا في قلب شعرية النوع القصصي. وحضور الذاكرة ما هو إلا مقاومة للنسيان وتجلٍّ من تجلياته:

«في كل مرة تحكي لنا أمي التفاصيل… كنت رضيعًا، قال ذلك حين كبرنا». (ص: 12)، مستثمرًا السارد المطلق المعرفة. ولقد جاء التلخيص والتكرار، كما نعاين، من خلال تكرار لحظات العمل في السوق والحقول، وبدايات العلاقات الحميمية التي تكشف صورة الطفل القروي.

سردية القصة القصيرة

يتمظهر بناء الشخوص في معظم تجربة جبير المليحان بوصفه نسق علامات تنتمي إلى عالم المهمش/ الواقعي، بكل حمولاته الرمزية الغائرة في المتخيل اليومي، وقلق الذوات وهي تواجه مصايرها التراجيدية. ففي قصة «النخيل ليست في الحدائق» يكشف السرد القصصي نُوية الخطاب السردي بوصفه لحظة ترتبط بكثافة الزمن في فضاء الهامش، بينما تستثمر «سيرة الصبا» ذاكرة الطفولة في فضاءات القرى ومختلف تجلياتها، معيدًا صوغ هذه الذاكرة في لغة القصة القصيرة. وبذلك نقف أمام توازٍ وتماثل دلالي وإيقاعي (سردي، كما نستشف من خلال زمن الخطاب) بين زمنين كل واحد امتداد للآخر؛ ونعني هنا زمني القصة القصيرة والطفولة من جهة، والقصة القصيرة والحلم من جهة أخرى.

هكذا يتشكل الزمن السردي القصصي في كلتا المجموعتين من خلال بناء الحبكة، وظهور بنية المتحول في القصة. ينتقل السارد الذي يحكي بضمير الغائب من سرديات الحلم إلى سرديات الكابوسي، كاشفًا سلطة الذات المنكسرة بفعل علاقتها المتوترة بالواقع. وبالتالي، فاللحظة السردية في مجموع قصص المليحان تبئير سيكولوجي يكشف قلق الذات- الشخصية وهواجسها ورغباتها.

في هذا الإطار تتشكل سردية القصة القصيرة محاولةً استلهام المتخيل السردي، المجسد في صورة الحلم بوصفه لحظة سردية موجزة تتميز بالكثافة والرمزية، والإيقاع المتسارع للحدث الذي ينمو ويتطور ليصبح صدمة مشحونة برمزية هيمنة المركز على الهامش؛ كما نستشف من خلال قصة «أولاد الحيوان». فتخييل الحلم في هذه النصوص ينقلنا إلى صورة ترتبط بالطفولة، وتعيش على هامش اليومي وقلق الواقع وكوابيسه، كما يكشف عن ذلك مكون وصف الفضاء. إن شفافية فضاء الطفولة تكاد تتماهى مع شفافية الحلم وكثافته الرمزية وإيقاعاته المتسارعة والصاخبة. فكأن السارد يبئر على الفضاء المشحون بعلامات القلق والتراجيدي، كاشفًا أغوار الشخوص وهواجسها المؤلمة انطلاقًا من وضعيتها في الفضاء.

فحضور مكوني الحلم والكابوسي يشتغل كتضعيف للمعنى، انطلاقًا من خطاب البداية الذي تنسجه صورة القصة، ليصل هذا النمو ذروته مع اللوحة السردية الأخيرة، كما يكشف عن ذلك العنوان الفرعي «الحلم والكوابيس» في القصة السابقة الذكر. فحلم الطفولة يتحول في الواقع إلى كابوس يدل على الواقع والفضاء، كما نستشف من خلال الوصف «النوع الأسود، الليل ناصع كالموتى، تعفنت أحزاني، بقع…».

بيد أن مكون الوصف هنا يتجاوز الكشف عن بنات المتحول في القصة وعلاقته بالواقع الكابوسي، إلى بناء شعرية اللفظ القصصي. ففي قصة تحمل العنوان نفسه، نجد أن المكونين اللفظيين «بقعة» و«كوابيس» يحملان في ذاتهما كثافة رمزية، تشتغل على بناء الدال المرتبط بنمو وتراكم مجموعة من المقومات السياقية (تعفنت، ناصع كالموتى) التي تؤسس الحبكة وتكشف عن صورة الفضاء الكابوسي، كما نستشف من خلال البقع في عيني المعلم.

تكشف لنا القصة السابقة الذكر لا وعي النص، كما نستشف من خلال بلاغة الحلم ورعب الواقع. فيظهر النص القصصي «له لا وعي يجعله يشتغل وهو اللاوعي الذي يمكن أن يظهره ويدل عليه»(١). وهو ما نستشفه من خلال حضور كثافة لفظ «البقعة» التي تتحول من بعدها المباشر، المرتبط بالبقعة التي تحجب عمل وجمالية دفتر السارد، إلى حضورها الكابوسي في اليومي ومن ثم رمزيتها التراجيدية التي تحيل على الواقع.. فهي استعارة للواقع الذي يتربص به القبح في كل مكان كما يتجلى من خلال التبئير الداخلي على شخصية الطفل.

يأتي التبئير على شخصيتي الطفل والمعلم في فضاء مغلق، كاشفًا الحرية المستلبة، موسومًا بعلامات التوتر، علاوة على كونه يتمثل بوصفه كاشفًا ما تعرض له الطفل الشخصية من تشوه جمالي نتيجة البقع بكل حمولاتها الرمزية، إضافة إلى فضح قصر رؤية المدرس الذي لم ينتبه إلى البقع في عيني السارد الطفل التي تؤشر إلى قلق داخلي وأثر من آثار الواقع. هكذا تتحول البقعة إلى رحم نصي يولد مجموعة من الدوال المرتبطة بأنساق الحكي كاشفًا المفارقة التي تسم واقع الشخوص.

وعلى الرغم من انشغال معظم نصوص المجموعة القصصية بهاجس تصوير الواقع واليومي، فهي لا تفتأ تتوغل في الحفر في غرابة الفعل السردي الذي يستمد تخييله من هذا الفضاء الكابوسي، بوصفه امتدادًا لذاكرة وسيكولوجية الشخوص التراجيدية. ولعل قصة «أبي وبورخيس» تمثل ذروة انفجار جماليات بلاغة تخييل الحلم، كما نستشف من خلال التناص مع نصوص تحفر في الذاكرة الجمعية، وفي عمق الذات الإنسانية وشخوص الواقع التي تنتمي إلى المهمش. والنص الموازي الداخلي «Péritexte» بتعبير جينيت(٢)، جاء ليضيء القصة الراهنة، «ابن رواف».. فقد جاء عنوان القصة حاملًا لنسق مرجعي يتموقع بين الواقعي، الأب، والتخييلي، بورخيس، علاوة على التناص مع القصة الأصل الواردة في الليالي. وهو التناص الذي يضع الذات بين الحضور والغياب، الماضي والحاضر.

إن قصة الأب تحضر بوصفها انزياحًا سرديًّا عن القصتين: حكاية كل من بورخيس والليالي. فابن رواف، بحسب رواية الأب، يعيش وضعية شخصية الحالم ذاتها، ليتحول فعل القص الأصلي إلى سرد راهن بفعل تدخل عوامل سردية جديدة تنسج رؤية جديدة، وهي الراوي الأب والمروي له الأبناء. ينتقل بنا السارد الذي يحكي بضمير الغائب، من السرد الشفوي على لسان الأب إلى السرد المكتوب لِيُكتَشَفَ الآن/ الحاضر من خلال الماضي، أي قصة إسحاق على لسان بورخيس؛ ومن خلال هذا كله يحاول السارد سبر أغوار الذات الإنسانية، وعلاقتها بفضاء المهمش على ضوء تخييل الحلم كما يجسده التناص. ويأتي المتحول أو ما يمكن أن نسميه اللامتوقع والغريب، ليجعل من النص الأصلي محكيًّا يقع عليه التبئير، وعلامة مولدة لأنساق الحكي فـ«غير المتوقع يعني الخروج عن المألوف وخلل التوازن الذي يستثير انتباهنا»(٣). واللامتوقع صورة تنسج انزياح مسار الحدث نحو مناطق سردية يتجاذبها قطبي التخييل والواقع.

سيمياء الفضاء بين المركز والهامش

إن مما يضاعف من غرابة عالم المحكي القصصي هو الموقع الذي يحتله كل من الفضاء والشخصية؛ والمرتبط بعالم الهامش والمهمش. وهذا ما نستشفه من خلال بنية المتحول في خطاب «أبي وبورخيس» مع ظهور شخصية عجائبية تنتمي إلى تخييل الحلم كما يظهر من خلال المنادي الذي ينادي ابن رواف ويخبره بأن رزقه بالشام. وبحافز من الرغبة في البحث عن الرزق ستنطلق رحلة العامل الذات/ الشخصية، وهو ابن رواف بعد الانفصال عن زوجته التي تخلت عنه بسبب شح رزقه. وفي طريقه للبحث عن موضوع قيمة، وإعادة تجديد اتصاله بالعالم وانبعاث أمل استمرارية الحياة، من خلال البحث عن الرزق وكسب قوت عيشه، سيصطدم بعامل معاكس يتجلى في أخطار فضاء الطرق المتمثلة في قطاع الطرق، والسبع والجن والأمطار والجوع. وبهذا «يظهر أن البنية العاملية أكثر فأكثر مثل بنية قادرة على استيضاح تنظيم المتخيل البشري، إنها إسقاط لأكوان جماعية وفردية»(٤).

يكشف لنا تدخل العامل المعاكس التخييل الغرائبي الذي يضعنا في عمق المواجهة بين ذات شخصية وظاهرة غريبة، كما يتجلى من خلال الفضاء ذاته، وما يزخر به من علامات.

إن رحلة شخصية الحالم تمثل سيمياء الكون المشحون برمزية العجائبي، كما يظهر من خلال المواجهة مع الجن والسباع بوصفها تعوق تحقيق رغبة الذات العامل الشخصية ابن رواف، وتجسد ثنائيات الطبيعة/ الثقافة، الخير/ الشر. فالفضاء الخالي والشاسع يحضر كمفسر للظاهرة العجائبية حاملًا القارئ إلى البقاء ضمن إطار التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق- طبيعي للظاهرة العجائبية، كما يكشف عن ذلك سرديات الحلم.

هكذا يحفر سارد المجموعتين معًا في ذاكرة فضاء حلم الكابوس اليومي بين المهمش والمركز، كاشفا عبثية وتناقضات اليومي، وآلام الفرد والواقع الكابوسي المؤلم، مستندًا إلى سردية الطفولة/ الذاكرة وتفاصيل اليومي.


هوامش:

(1)  Jean Bellement-Noël. Vers l’inconscient du texte. Edition: puf. 1996. p: 6

(2)  Genette (Gérard): Seuils, Paris seuil 1987.P:10

(3)  إمبرت أندرسون إنريكي «القصة القصيرة: النظرية والتقنية». ت: علي إبراهيم علي منوفي. المجلس الأعلى للثقافة. القاهرة. 2000م. ص: 26.

(4)  أ.ج. كريماس. «سيمائيات السرد». ترجمة وتقديم: عبدالمجيد النوسي. المركز الثقافي العربي. البيضاء. 2018م. ص: 147

شعرية المعمار السردي في قصص فهد العتيق

شعرية المعمار السردي في قصص فهد العتيق

تستهدف هذه الدراسة مقاربة تشكلات المعمار السردي في القصة القصيرة، من خلال نموذج القاص السعودي فهد العتيق. وهكذا استطاع العتيق أن ينحت أسلوبًا قصصيًّا يتمرد على تقاليد البناء القصصي وكل جمالياته المعروفة والتقليدية.

عمارة السرد وشعرية النص الموازي

يشكل النص الموازي للمجموعتين «إذعان صغير…»(١)  و«أظافر صغيرة وناعمة»(٢)  نسق علامات يؤشر على التمثل الأيقوني للمتن، ولنصوص المجموعتين. فكأن العنوانين معًا يمثلان النسق الأيقوني للنص، ويحيلان على ما يشبه الواقع وهو ما أسماه بارث أثر الواقع، و«بعبارة أخرى يصبح نقص المدلول ذاته لصالح المرجع وحده، دال الواقعية بالذات»(٣). إننا أمام لغة تحاكي لغة القصة القصيرة من زاوية البساطة، الكثافة والإيجاز وقوة الرمز؛ وفي الآن نفسه تتشاكل مع لغة الطفولة والحلم.

وهكذا فبنية العنوان تؤسس تلك العلاقة الجدلية بين الداخل والخارج، كما يتجلى من خلال توزيع فضاءات ولحظات النصوص: البيت، الحجرة الدراسية، المسجد ومكتب الحقوق، ثم فضاءات الشوارع، وسطح المنزل وفضاءات أخرى تؤشر إلى اللامحدود. وهي مكونات معمارية تتجاوز البعد الجمالي إلى البناء والحفر في علاقة الذات بالعالم، وأنثروبولوجيا الأمكنة التي تتوزع بين الداخل والخارج، المنغلق والمنفتح، المحدد واللانهائي. ولقد جاء حضور مكون الحذف في العنوانين معًا، ليرسخ بناء هذه الدلالة لعمارة السرد التي تؤشر إلى أن النص الحديث الذي يشبه الواقع، لا يستنفد معناه وعمارته الخطابية. فهو نص يتمثل في عَدِّه ذاكرة تتوغل في عمق الأمكنة. ومن ثَمَّ هو نص منفتح على محتمل المعنى.

بناء معمارية السرد القصصي بين المغلق والمنفتح

فهد العتيق

تتشكل معمارية السردية القصصية في نصوص المجموعتين، انطلاقًا من التقابل بين ثنائيات الخارج والداخل، في تناغم وجودي مع جغرافية المحدود واللامحدود، المنفتح والمنغلق. إن النص الموازي كما يتمثل من خلال الكلمة النووية «صغير» ينتقل بنا إلى فضاء الحجرة الدراسية الذي يتجاذبه قطبان ينتظمان داخل نسقي الداخل/ الخارج. فنحن أمام توازٍ دلالي بين عالمين، داخل الحجرة وداخل الذات /خالد. وهكذا يكثف النص لحظة بسيطة تكشف حالة من حالات الطفولة. ومن هنا هذا التماهي بين الجنس الأدبي، واللحظة القصصية من جهة والطفولة من جهة أخرى. فالذات الساردة تعمد إلى تكثيف حالة سيكولوجية داخل نسق سردي. ولعل هذه الكثافة تحفر في ذاكرة اللغة وتستحضر الذات، والقلق الذي تعيشه داخل فضاء التوتر. وهذا ما يتجلى من خلال الانتقال من التبئير على الفضاء إلى التبئير الداخلي على شخصية خالد:

«في برودة الحجرة الدراسية المكتظة بالأطفال، الرؤوس المسترخية على الكراسي الخشبية، تبدو على وجهها ملامح كسل صريح. تختبئ خلف ستار ثقيل من الخوف والحزن…» (حصة رسم ص 3).

إن التناوب على التبئير بين المكان والشخصية يكشف التماهي الداخلي والفضاء بوصفه امتدادًا للذات الشخصية، كما أن التبئير على الفضاء ومكون الوصف، يتجلى من خلال المؤشرات المعمارية الخطابية: برودة/ صفراء/ كسل/ الخوف والحزن/ خطوط حمراء/ وجوه مشوهة/ اللوح الأسود. وهي مقومات سياقية ترتبط بأعماق فضاء الغرفة بوصفه امتدادًا للخارج حيث يهيمن التوتر والقلق. وهذا السفر الداخلي بين الذوات والفضاء يكشف بنية اللامتوقع، كما يظهر من خلال ظهور شخصية خالد، وظهور مكونات معمارية سردية جديدة وهي الطباشير، الفرشاة التي سيرسم بها وجه الأستاذ. وبذلك سيصبح السرد حلزونيًّا ينطلق من تفاصيل صغيرة، وهي حصة الرسم الرحم النصي، ليتحرر من انغلاقه كسرد دائري إلى معمارية منفتحة مثلما نستشف من خلال خطاب النهاية.

وإذا كانت بنية اللامتوقع تحفر في حدود تشكل النوع الأدبي، فإنها في نص «رجلان» تنهض بوظيفة أخرى ترتبط برمزية معمارية السرد، كالبياض الذي يتشاكل مع جماليات ثيمتَيِ الطفولة والذاكرة.

وهكذا ينبني المعمار السردي القصصي في المجموعتين على طبقتين: المتوقع واللامتوقع. فنص «لوحة تشكيل» يمثل امتدادًا واستعارة لجمالية المعمار السردي كما يظهر أيضًا من خلال قصة «حصة رسم».

إن النصوص التي تؤلف المجموعتين معًا، تتمرد على الحدود المفترضة للمحكي القصصي. فحفريات اللغة القصصية، تتجاوز الثنائية الضيقة الداخل/ الخارج، إلى تفكيك التداخل بينهما وبين الذوات والأجناس الأدبية، وذلك من خلال بناء معمارية سردية تستلهم لغة القصة القصيرة انطلاقًا من لغات التشكيل والشعر والسرد وسيرة الأمكنة. ففي النص الذي أشرنا إليه سابقًا، تسبر الذات الساردة بضمير
الغائب لحظة تشكل وتشكيل معمارية المكان انطلاقًا من التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي تؤلف العالم والوجود (البيت الصغير، لحظة عابرة، لحظة ابتهاج صغيرة، هزة رعب صغيرة) ؛ إضافة إلى محاولة التوغل في سيرة الذات/ المرأة في المكان بوصفها لحظة وجودية يمتزج فيها الواقع بالخيال، الحقيقة بالمجاز،
الغرابة بالمألوف. بيد أن أبرز ما يمكن أن نستخلصه وهو علاقة الشخوص بالفضاءات والأمكنة كما نستشف من خلال نص «إذعان صغير». فاللحظة القصصية تنبني على رصد لحظة مثول السارد المشارك في الحكي صاحب سرب الحمام، وبين الجار المشتكي. فننتقل من عالم بسيط يرصد لحظة توتر بسيطة بين الجار والذات الساردة أمام المسؤول عن مكتب الحقوق المدنية، إلى عالم السلطة والعلاقة بين الأنا والآخر السلطة. وهذا التدرج من الصغير للدلالة على عالم أوسع وأكثر شسوعًا يتحقق على نحو خاص من خلال خواص تشكلات النوع القصصي. ويظهر أن الكبت والقمع الذي مارسه ممثل السلطة مكتب الحقوق المدنية، يحول اللحظة القصصية إلى حالة نفسية كما نعاين في قصة «حالة فصام». وهذا الكبت هو الذي جعل الذات تهرب من واقع السلطة مكتب الحقوق المدنية إلى متخيل الحلم بوصفه لا وعي النص. فنجد الحلم بمنزلة استباق لواقع اللحظة من أجل التحرر من القلق الذي يراود الذات. فيرى السارد- الشخصية أنه يبيع حمامه إذعانًا للسلطة وتجنبًا للمواجهة.

إن المجموعتين معًا تمثلان رصدًا للحظات الطفولة والذاكرة، ومختلف ترسباتها في لا وعي السارد. بيد أن هذه اللحظة المستلهمة من الواقع والذاكرة، تحملنا إلى المناطق الأشد غموضًا وغرابة في الذات بوصفها حالة نفسية، وسردية يصعب الإمساك بمعناها. فسارد النص السابق لم يعد يحكي بضمير المتكلم كما عهدنا في النصوص السابقة التي ترصد لحظة من تفاصيل الحياة والواقع كاشفة المفارقة، بل نجده كما في نص «حالة فصام» يحكي عن شخصية الزوج المُبَأَّرَة داخليًّا لسَبْر أغوارها النفسية في علاقتها بالخوف من الموت، وهاجس المرأة. فالذات الزوج وأستاذ العربية يجد نفسه هاربًا إلى النوم بوصفه الخيال والغرابة التي تمنحه حصانة وهروبًا من الواقع كما يتمثل من خلال رمزية فضاء الغرفة. وهي بداية الكشف عن هوية الشخصية من خلال الوظيفة مدرس النصوص العربية الثانوي والوصف/ رجل أصفر/ مولع بالشعر، وهي سمات تمنحه بعدًا غرائبيًّا. إن بداية التمفصل السردي المزدوح تكشف العلاقة بين المغلق فضاء الغرفة بوصفه استعارة للحالة النفسية للذات الزوج مدرس النصوص العربية، وبين المفتوح بوصفه فضاء التحرر من سلطة فضاء المغلق/ الغرفة، وما يرتبط بها من قلق نفسي وترسبات الطفولة المرتبطة بهاجس المرأة.

وهكذا فالقصة في مجموع المتون التي نقوم بمقاربتها، استلهام ضمني للغة الحلم: المجاز، والكثافة، والإيجاز، وسرعة الصورة وجذور الواقع.. وهو بالفعل ما يكشف عنه التبئير الداخلي على شخصية أستاذ العربية التي تحمل سمات الغرابة.

إن انفتاح النص القصصي الذي يميز المجموعتين معًا ليس سوى لعبة سردية، تهدف إلى هدم لغة السرد القصصي التقليدية، من أجل إعادة بناء العالم وترتيبه وفق عمارة السرد واستعارة الكتابة. فالسارد في هذه النصوص أركيلوجي يحاول اكتشاف وتفكيك ذاكرة اللغة وما تزخر به من سردية وغرابة، وهو بالضبط العالم الذي يستلهمه السارد في قصة «فوزان يقرأ الشوارع ليلًا». فالأم الحافز على بداية الحكي تمثل الأيقون اللغوي الذي يشكل مجاز الحكاية والأصول اللغوية في هذا النص. إنها الرحم اللغوي الذي تسقط منه حفريات القصة واللحظة القصصية ويوقع لمخاض الولادة:

«اسقيني يا أمي أو مدي لي من رائحة التراب، فأنا ماولت حفار قبر، وسائق تاكسي وصاحب جن، وطفل قبيلة…» (فوزان يقرأ الشوارع ليلاً). وهذا يعني أننا نجد في هذه النصوص كما هو الأمر للزوج المدرس، وشخصية فوزان، وشخصية التلميذ في «حصة رسم»، ورئيس مكتب الفرع الجديد والموظف نوعًا من الغرابة التي تتأرجح بين قطبي الخيال والواقع. إنها غرابة تولد من رحم الفضاءات التي تتحرك داخلها هذه الشخوص، والتي تجسد في الواقع أعماق الذات والقلق الذي يراودها في مواجهة غرابة ومفارقات العالم. فالغرفة في قصة «فوزان يقرأ الشوارع ليلاً» فضاء الخيال والحلم وهي التي تمنح العالم والشخصية الغرابة والمفارقة، فهي غرفة تعكس كوابيس واقعية؛ لذا يتساءل السارد حين يستيقظ فزعًا: «أين الجدار؟» فهي غرفة امتداد للعالم ورمزية الشارع/ العالم في غياب الأم حيث تعيش الذات حالة نفسية ترتبط بالعزلة والوحدة.

إن النصوص القصصية التي تؤلف المجموعتين، تمثل رصدًا وتتبع لغرابة وأسطورية الأمكنة، وتوغلًا في تفاصيلها الدقيقة. فالأمكنة كما نعاين من خلال قصة «الرحيق» تتقاطع مع الحلم والغرابة وتنفتح على ترسبات الطفولة وكوابيسها.

وهكذا تشكل الكتابة القصصية عند فهد العتيق أسلوبًا سرديًّا ينهض على بناء شعرية المعمار وهدم اللغة من أجل إعادة بنائها، انطلاقًا من ثنائيات الداخل/ الخارج المولدة لدوال الخطاب وجمالياته. فاللحظة القصصية تتقاطع مع الغرابة والحلم، وتستوحي من مجاز معمارية السرد بناءها الدلالي، معيدة تشكيل الواقع ضمن أنساق جمالية كاشفة في الآن نفسه سرديات الحياة والذاكرة.


الهوامش:

(١) فهد العتيق. إذعان صغير . الهيئة المصرية العامة للكتاب .القاهرة .1990م.

(٢) فهد العتيق. أظافر صغيرة وناعمة . النادي الأدبي. جدة . .1994م.

(٣) ج . المؤلفين. الأدب والواقع. ترجمة: محمد معتصم. مراجعة: محمد برادة. منشورات الاختلاف. 2003م. الرباط. ص: 44.