«بَاهَبل» لرجاء عالم… رواية تدرأ حدود الواقع بشبهات الخيال

«بَاهَبل» لرجاء عالم… رواية تدرأ حدود الواقع بشبهات الخيال

تعود الروائية السعودية رجاء عالم في روايتها الجديدة: (بَاهَبَل؛ الصادرة عن دار التنوير لعام 2023م التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر لعام 2024م) إلى بيئتها السردية المفضلة؛ ألا وهي مدينة مكة المكرمة، التي كانت قد رصدتها سابقًا في رواية أخرى بعنوان: (طوق الحمام لعام 2010م) وتكاد تنطلق الروايتان من الثيمة ذاتها التي تهمز خاصرة حصان السرد لينطلق؛ ففي طوق الحمام نجد جثة لامرأة، وفي بَاهبل نلقى جثة لرجل قد انتحر! فالموت بالنسبة لرجاء عالم يُولّد الانتباه.

يُفتتح السرد بالعويل المغنّى من قبل مغنية الفادو البرتغالية؛ وهذا الغناء ممتلئ بالمعاني، فكلمة (الفادو) بالبرتغالية تعني بالعربية: القدر. تكمن جوهرية هذا الغناء، بأنه يكشف عن الجدل بين الرغبات الصاخبة والإيمان بالقدر في عمق التجربة البشرية. وتتنوع أصوله بالقول: إنه يعود إلى العبيد الذين استُقدموا إلى البرتغال. وهناك من يقول: إن جذوره ترجع إلى أغنيات الرثاء الخاصة بالبحارة البرتغاليين الذين كان البحر يبتلعهم أو يبعدهم من وطنهم وهم يمخرون عبابه بحثًا عن آفاق جديدة.

هذا التعريف لغناء الفادو ينطبق على شخصيات رواية رجاء عالم، حيث الأقدار الخام التي ولدت فيها عمّات عباس سالم مصطفى السردار، ومحاولتهن تحويل هذه الأقدار إلى مصاير تتسع لأرواحهن وأجسادهن معًا، فيمنحهن القدر فتى أشبه بمغني الفادو، متعدد الهوايات والأصوات، بين الذكورة والأنوثة، بين العقل والجنون، يتنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل، يُلبس ساعده ساعة مدمجة بكاميرا يجمع في ذاكرتها فيديوهات سيرة عمّاته خلف حجب عائلة السردار، وفي كل مكان آخر يمنع فيه التصوير، وصولًا للحرم المقدس.

بعد ذلك تشرع رجاء عالم في تعليل ولوجها حيوات عمّات عباس: سكرية، ونورية، وحورية؛ بعد أن تهمس لها نورية شيئًا من حكايتها، فتسأل عباس أن يزيدها معرفة بقصتها، فيجيبها عباس: «هي جَاتِك أنت كمان!؟»، وتتابع عالم بأن ما دفعها للكتابة هو: «الغضب تجاه صرامة العبودية المبطنة التي خضعن لها؛ عبودية تأتي باسم الحب والتكريم وصون العرض، لكنها تسحق وتطمس الهوية والوجود بجدارة». ثم تقدّم اعتذارًا لعباس عن قراءتها الخاصة لسيرة عمّاته، وللقراء أيضًا؛ لأنها وجدت في اللهجة المكية الحامل اللغوي المناسب لإيصال سرديتها والمعاني الخاصة لمجتمع مكة.

كان عباس السردار الدكتور في العمارة في جامعة الملك عبدالعزيز قد بنى فيلّته الخاصة في جدة، جاعلًا منها متحفًا لرواشن وشبابيك ومقابض أبواب بيوت مكة التي هدمت في إحدى توسيعات الحرم المقدس، مجسّدًا في بيته ذاكرة مكة المعمارية، والأحرى ملاعب طفولته، فقد ولد في بيت جده مصطفى السردار الحادي عشر في سلسلة من الأجداد كان لهم دور مهم في تاريخ مكة. كان البيت يطل على الحرم في حي المُدَّعى حيث يتزاحم الحجاج لأجل زيارة بيت الله. لم تكن ولادة عباس سهلة، فقد كان رافضًا الخروج من رحم أمه، على الرغم من صراخها وأدخنة البخور والعطور وقراءة الآيات الكريمات، لربما احتجاجًا على قرارات جده الذي وقف في وجه أية محاولة لأخذ أمه إلى المشفى، فالأفضل أن تموت، على أن يقال: إن إحدى نساء بيت السردار شق بطنها، لكن في النهاية تتوصل العائلة لحل وسط، بأن يأتوا بالقابلة الملقبة بــ(أنيسة القردة) التي ولد على يدها أكثر أطفال حي المُدَّعى في مكة.

ابتلاع التوأم

أخيرًا ولد عباس بن سالم، الابن الأكبر لمصطفى السردار، لكن هذا الوليد الجديد ابتلع توأمه، أو أنه اختفى من بطن أمه، بينما كانت القابلة أنيسة القردة والعمّات مشغولات باستقبال الوافد الجديد عباس، فذهلن عن توأمه! عاش عباس بين أحضان أربع أمهات؛ واحدة منهن بيولوجية، والثلاث الباقيات أعطينه أرحامه الأخرى: الواقعية والفكرية والخيالية، فسكرية منحته رحم الجنون والثورة، فيما حورية وهبته الفكر والتأمل، بينما نورية أشعلت به العاطفة المشبوبة. كل واحدة منهن أرضعته من سيرة حياتها. فيما هو قسّم شخصيته لتناسب عمّاته؛ فمع سكرية كان عباس. ومع حورية كان عباس/ نوري. ومع نورية كان نوري فقط؛ توأمه الذي اختفى في رحم أمه وأصبح قرينه الذي يلجأ إليه كلما ضاق به الواقع.

يتأمل عباس فيلّته ويتساءل بينه وبين نفسه عمن خوله أن يُبعد تلك المشربيات ومقابض الأبواب من مجاورة الحرم إلى مدينة أخرى. ومن ثم يقوده تفكره فيما آلت إليه حياته إلى عائلته، حيث الاختلاف الكبير بين اهتماماته ورغبات زوجته وأبنائه؛ ليجد نفسه غريبًا عن كل ما سعى إليه طوال حياته. وأمام هذا الواقع غير المتجانس يركب سيارته ويقود من جدة إلى مكة ليصل إلى بيت عمته نورية التي تُوفيت منذ سنوات، كعادته في الالتجاء لحضن إحدى عماته عندما تقبض عليه الحياة بمخالبها، وفي بيتها يضع رسالتين: «إلى من يهمه الأمر، وإلى كبار العلماء!»، ثمّ يشنق نفسه بإحدى تلك الثريات التي ألقت أضواءها عليه وعلى عمته نورية في ماضٍ قريب. وكما يقال: إن الإنسان في لحظة الموت يسترجع كامل شريط حياته، تبدأ عماته بالظهور من قمرية ابنة الجارية فرح التي حاولت أن تحرقها بالجاز لتنجو من عدم اعتراف مصطفى السردار بها، فتنقذها حورية، ليتبدل بعدها اسمها إلى سكرية التي زارت مصر وعادت ببدعة الأكل بالشوكة والسكين، التي زوجها أبوها من رجل يميل إلى أبناء جنسه، لتعود مطلقة بعد عدة أشهر.

فيما كانت نورية متزوجة من رجل تبين أنه عقيم لا ينجب، لكنها أحبته بجنون لينتهي منتحرًا، أما حورية التي غُمر بيت السردار بالورد عندما عشقها قنديل صاحب حدائق الورد في مكة، فقد دبّر أبوها مقتله في يوم عرسها لتمضي حياتها عانسًا. لقد تحجرت مصاير سكرية وحورية ونورية تحت سطوة أبيهن السردار الكبير، لكن ما إنْ ولد عباس بن سالم أخوهن الأكبر، حتى وجدن فيه نافذتهن الخاصة نحو العالم، فتنازعنه كل واحدة منهن تريد الاستحواذ على شخصية من شخصياته العديدة، وتنازعه الحرم المقدس معهن أيضًا؛ وذلك في تداعيات الحادثة الإرهابية عام 1979م حيث سيطر جهيمان على الكعبة والحرم معلنًا ظهور المهدي!

بَاهَبل: أي الأهبل! هذا كان لقب عباس في صغره من قبل جده، لربما بسبب الفتق الذي كان يعانيه في سرّته، الذي أثّر في تصرفاته وأفكاره. ومن هذا الفتق ولد قرينه الآخر نوري الذي كان يرتق ما تمزق في شخصية عباس نتيجة الحدود الكثيرة التي لم يكن من الممكن تجاوزها إلا بشبهات الخيال. هكذا كلما تقدم عباس في العمر وزاد تمرده على واقعه نال لقبًا جديدًا إلى أن أصبح عباس الزيبق على اسم الشاطر علي الزيبق في التراث.

بين شخصيتي عباس ونوري يكبر طفل آل سردار، مختلفًا عن أقرانه في طموحاته وأفكاره وآرائه التي كانت في نظر ذكور العائلة مخالفة لكل التقاليد التي عهدوها. وأمام رفض تقاليد الذكور لهذا الذكر الناشز أخذ الطفل يوزع حياته بين عباس ونوري، حيث يهرب عباس من الحدود الكثيرة في بيت السردار إلى نوري الذي يمنحه أجنحة الخيال ومحبة الفن والتوق إلى الحرية والإبداع، ويمكّنه من الوقوف في وجه جده ثم أبيه. بينما كان نوري يلجأ إلى عباس عندما تتكسّر أجنحة الخيال أمام صلادة الواقع.

لقد كان هذا الأهبل هو الروشن النافذة التي أطلت منها عماته على الحياة بعد أن سلبها منهن الأب بحجة الحب والحماية؛ لذلك أراد تسجيل حياتهن على شريط سينمائي. ولأن لحظة الموت تعيد شريط الحياة من بدايته إلى نهايته كان على عباس أن ينتحر ليحكي قصة عماته، فالموت يخلق الانتباه إلى ما هو مخفي وراء حجب العادات والتقاليد، فهل كان أهبل أم شبيهًا آخر للحلاج الذي قال: «اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي»؟ أليس المعنى المضمر لكلمة القتل: معرفة كنه الشيء وجوهره!

لقد كان انتحار عباس اللحظة التي ضغطت فيها رجاء عالم على زر التشغيل/play فبدأت الصور تتسارع، حتى استقام التاريخ عام 1946م في مكة على سطح بيت السردار والجارية فرح تحاول حرق ابنتها قمرية بالجاز؛ لتنقذها من عار عدم اعتراف أبٍ من عائلة السردار ببنوته لها مشرّعة أبواب الكلام لحكاية العمات.

الواقعية السحرية

إن العقل والحواس محدودان، ولا يمكن أن يكونا مطلقين في إدراكهما للوجود. هذه المعضلة التي لا تفك عُراها، قد حُلِّتْ –على الأقل نسبيًّا- عبر الخيال الذي ينطلق من اللمسة أو الفكرة متجاوزًا القصور الذاتي في كينونة الإنسان في الإحاطة بوجوده، مانحًا إياه آفاقًا جديدة. وإذا كان لنا أن نسبّب مذهب الواقعية السحرية الذي ينطلق من اعتلال إدراك الإنسان للواقع بسبب القصور الذاتي في كينونته، فإن تطعيم هذا الواقع بالخيال يسمح لمعرفة الإنسان نحوه أن تتضاعف، فلا يعود محكومًا بتتابعية الزمن الخطي، ولا بالأبعاد الثلاثة للمكان، فتصبح حواسه متراسلة، فالعين تشمّ، واليد تتذوق، والعقل يتكعب بأوجهٍ ستة، والشعور يدخل العوالم المتوازية، فالحزن هنا، فرح هناك.

لقد لجأت رجاء عالم إلى الواقعية السحرية من أجل مقاربة تاريخ مكان مقدس جدًّا: مكة المكرمة، حيث واقعية المكان المقدس المطلقة تعري النقصان الكامن في وجود الإنسان، فلا ينفع ترميزه لقول المسكوت عنه، فسطوة المقدس تستغرق أي ترميز وتثبطه. من هنا كان تعويل رجاء عالم على الواقعية السحرية، فهي نظرة خيالية/ واقعية تمكن الكائن البشري من التحرر من معوقات وجوده ومحدداتها الأسرية والمجتمعية والدينية، فكانت شخوص روايتها تستحلب الواقع بأسلوبها الخاص، تأملًا، حلمًا، خيالًا، هلوسة، جنونًا، سواء في تفسيره أو تأويله، مشكلة من تلك المعاني العامة والخاصة سيرها الذاتية وتاريخ المدينة المقدسة.

تنتهي الرواية، عودًا على بدء، في السنوات الأولى للألفية الثالثة من حيث انطلقت، بعد أن تصل رسالة للكاتبة من عباس عبر حسابه على الفيس تشي بأنه لم ينتحر! فهل انتحر توأمه نوري/ خياله؟ أم إن نوري/ الخيال تلبس عباس/ الواقع وأوهم الجميع بانتحاره؟ ستتعذر الإجابة! لكن هذا يعني أن الشريط السينمائي الذي أعده ليعرض في مهرجان البندقية السينمائي وكان قد روى فيه حياة عماته، ودمرته عائلته، بحجة فضحه لأسرار العائلة، لم تزل هناك نسخة أخرى منه! لم تكن رجاء عالم مهتمة بالأسئلة والإجابات بقدر ما كان تركيزها على سرد حيوات عمات عباس كما عشنها، وشاهدها عباس، وتخيلتها هي، لتمنح كل ذلك لقارئ شغوف بالبحث عن التاريخ في التفاصيل المخفية.

كتابٌ حول روح الإنسان يستحق غلافًا بشريًّا

كتابٌ حول روح الإنسان يستحق غلافًا بشريًّا

«للكتب أقدارها!» هذا ما يقوله الفيلسوف والتر بنيامين، وتتنبأ بأقدارنا أيضًا. وقع أفلاطون في شرك الكلمة المكتوبة، منذ اللحظة التي أشهر اعتراضه عليها في محاورة فيدروس، وذلك باستخدامه الكتابة وسيلة لنقل أفكاره، التي تُنكر أهمية الكلمة المكتوبة. كان هوميروس يطلق على الكلمات: «الأجنحة الطائرة»، كما جاء في كتاب «الشفاهية والكتابية»، (والترج. أونج، ترجمة: الدكتور حسن البنا عز الدين) دلالة على ذهابها ما إن يُنتهَى من نطقها، لا شيء يبقى من الكلمة المنطوقة حتى الصدى. إن الصوت له حاضر النطق فقط، فلا من ماضٍ يبقى، ولا من مستقبل. هذا الإدراك للصوت دفع الإنسان إلى مخيال للكلمة المكتوبة يتجاوز واقعها في تسجيل الصوت، حيث إن جذر (كتب) يفيد الحبس والقيد في إحدى دلالاته. إن تقييد كلمة الخلق المنطوقة بالمكتوب، هو ما أتاح قراءة المجهول، وأسّس للتنبؤ كفاعلية تنطلق من الكلمة المكتوبة.

يشير ألبرتو مانغويل في كتابه: «المكتبة في الليل» إلى أنه ورد في سفر الجزيرة أن الله خلق العالم من اثنين وثلاثين سراطًا من الحكمة: الأسفار أو الأرقام العشرة، والاثنين وعشرين حرفًا. من العشرة أرقام خلق الأشياء المجردة، ومن الأحرف صنع الكون وما فيه. إن هذا يعني وفق التقليد اليهودي والمسيحي، القدرة على قراءة الكون وكشف مستقبله، بل حتى إمكانية الخلق من خلال المواءمة بين الأحرف والأرقام.

تشير أسطورة إلى أن عالمَيِ التلمود حناني وهوشايان، كانا يدرسان سفر الجزيرة مرة في الأسبوع. واستطاعا بعد مؤالفة الأحرف بطريقة صحيحة أن يخلقا عجلًا له من العمر ثلاث سنوات وتعشّيا به. يتابع مانغويل استجلاء هذه الأسطورة متقفيًا علماء التلمود في تطبيقهم للجُمَّل على اسم (إسحاق) وكيف تكشّفت كل الوقائع التي تتعلق بقصة حمل سارة به، عبر قراءة كل حرف وفق مُعادِلِه الرقمي. إن مصطلح الجُمّل يعني: إعطاء الحروف قيمًا عددية، أو إحلال الحروف محل الأرقام من أجل غايات تنبؤية. وقد رأى ابن خلدون أن حساب الجُمّل جديد في التراث الإسلامي، لكنه أضاف أنه معروف منذ القدم. ومن الكتب العربية التي استخدمت للتنبؤ: كتاب الشجرة النعمانية لابن عربي، وكتاب الجفر الذي يُنسب إلى آل بيت الرسول.

مخطوطات السماء

ورد في كتاب العواصم والقواصم للوزير اليماني حديث عن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) رواية ابن عباس يقول فيها: «أولُ ما خلق اللهُ القلم، فقال له: اكتبْ فقال: يا ربِّ وما أكتبُ؟ قال: اكتب القدرَ ما هو كائنٌ من ذلك إلى قيامِ الساعةِ». إن مفهوم القضاء والقدر، يعني أن حياة الإنسان مكتوبة مسبقًا بصالحها وطالحها، لكن مفهوم القضاء والقدر فيه أكثر من ذلك! إن السؤال، هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ يُضمر إجابة، بأن الإنسان لديه رغبة ملحّة في معرفة المستقبل، فإن كان مخيّرًا، فلا بد من أن نفسه راودته أن يعرف إلى أين تنتهي خياراته. وإن كان مسيّرًا، فقد شطح به خياله إلى أن يتجرأ ويمنّي النفس، بأن يتطلّع إلى ما كتب في اللوح المحفوظ.

ألبرتو مانغويل

لقد اختصر المثل التالي هواجس الإنسان العلنية والخفية، وهو يتخبّط في إعصار رياح الأقدار: «المكتوب على الجبين لازم تراه العين» لكن كيف؟ الإجابة تكون بالمرآة! لكن صورة المرآة مقلوبة! يحلل ميشيل فوكو في كتابه: «الكلمات والأشياء» كيف كانت المعرفة في القرن السادس عشر، وما قبله؛ حيث كانت الأرض انعكاسًا للسماء. وعلى الإنسان أن يقرأ الإشارات في كل شيء حتى يعرف ما الذي تريده السماء وما قدّرته له؛ وذلك بأن يعيد الصورة المقلوبة إلى أصلها بأن يخرجها من المرآوية، عبر قراءة نبوءاتها المبثوثة في كل شيء من الكلمات إلى الأشياء.

لم يترك دانيال ديفو بطل روايته روبنسون كروزو من دون كتب وحيدًا في جزيرته، فمن بين الأشياء التي انتشلها من سفينته الغارقة؛ مجموعة من الكتب كان من بينها الكتاب المقدّس. استخدم كروزو الكتب ليس فقط للتعلّم وتزجية الوقت، بل للتنبؤ، كما جاء في كتاب: «المكتبة في الليل»، فأمام يأسه من النجاة، فتح كروزو الكتاب المقدس، لا على التعيين، وقرأ: «سوف لن أتركك أبدًا، ولا أتخلّى عنك». شعر أن هذه الكلمات موجّهة إليه تنبئه بما هو صائر إليه.

هذا التخييل الذي أبدعه ديفو لم يكن بدعًا، فهناك تاريخ يزدحم بالمواقف والحالات التي استخدمت فيها الكتب كأدوات للتنبؤ ومعرفة المستقبل والطالع. وأكثر من ذلك فقد كانت تحمل الموت الزؤام بين طياتها، أو النجاة. يذكر القديس أوغسطينُس في الاعترافات، أنه كان مصابًا بكرب عظيم وفجأة يسمع طفلًا يقرأ بصوت عالٍ: «خُذ واقرأ». شعر بأن هذا الصوت موجّهٌ إليه، فأمسك بكتاب يتضمّن رسائل للقديس بولس: «أخذت الكتاب، وفتحته وبدأت أقرأ المقطع الذي وقعت عيناي عليه مصادفة». كان المقطع عبارة عن تحذير من الاهتمام بالجسد ونسيان الرب. كأن صاعقة انقضت على أغسطينُس، فامتلأ بنور الثقة وطُردت ظلمة الشك، لقد ساعدته الكلمات في الكشف عن قدره بأنه سيصبح قديسًا.

إن ما فعله كروزو والقديس أوغسطينُس نجد أمثاله في مجتمعاتنا، عبر اللجوء إلى القرآن الكريم وفتحه وقراءة الآية التي تقع عيننا عليها، كي نعرف ماذا تخبئ لنا الأقدار.

رسائل الموت

يشير جان جاك روسو- «الشفاهية والكتابية»- إلى أن هناك إشارة إلى الكتابة في إلياذة هوميروس، فقد حمل بيليرفيون غافلًا إلى ملك ليسيا كتابًا يتضمن علامات كتابية تدعو إلى إعدامه. يذكرنا حال بيليريفون بما جرى مع طَرفة وخاله المتلمّس، بعد أن حمّلهما الملك عمرو بن هند كتابي موتهما إلى عامله على البحرين. إن الفرق بين مصيري طَرفة وخاله كان بين قراءة الكتاب من عدمه. من الكتاب الذي حمله بيليرفيون إلى طَرفة وخاله المتلمّس، كان للمكتوب/ الكتاب سطوة القدر، تقف أمامه متحيرًا وخاضعًا.

يقتبس ألبرتو مانغويل عن رواية لإميل زولا عن سلطة الكتاب أن شخصًا كان متحمسًا لنابليون الثالث وقد عرض عليه كتابًا يذكر فيه أنّ الإمبراطور كان فاسقًا، لم يستطع الشخص المتحمِّس أن ينكر ما جاء في الكتاب، لأن: «كل شيء موجود في كتاب، لذا لا يمكن إنكاره». من جهتها أكدت الديانات السماوية هذه الفكرة، حيث يحدد مصير الإنسان يوم القيامة عبر كتابه، الذي يحمله في يمينه أو يساره، لا فكاك من المكتوب فيه. وفي لوحة جصّية من نهاية القرن الخامس عشر، لها شكل لفيفة ورقية تصور مشهد يوم الحساب، حيث تسير الأرواح عارية تحمل على صدورها كتبًا مفتوحة تحدّد مصايرها.

إن فكرة ظهور الكتب بعد الموت قديمة جدًّا، فدومًا كان الرومان يصوّرون الموتى وبيدهم كتب؛ وذلك لاعتقادهم أن مصير الإنسان يتقرّر بعد الموت. وفي بلاد الفراعنة كان كتاب الموتى (الكتالوج) الذي يساعد الميت في الوصول إلى الحياة الآخرة، ضرورة لا بد من وضعها مع الميت، كما جاء في كتاب ألكسندر ستيبتشفيتش؛ «تاريخ الكتاب».

الكتب القاتلة

قدّمت لنا شهرزاد في حكاية الملك يونان والحكيم رويان ثيمة القتل من خلال الكتاب. لا ريب أن الملك يونان الذي لم يحفظ عهدَه مع الحكيم رويان، وهو الذي شفاه من البرص، فأراد قطع رأسه، لظنه بأنه جاسوس، جاء يكشف عورة المملكة؛ وهو ما أدى إلى انتقام الحكيم رويان عبر تسميم صفحات الكتاب وإلصاق أطرافها، ممّا سيدفع، أي قارئ، لأن يفضّ الصفحات الملصقة بإصبعه، إن أراد الاطلاع على محتواها، وستأخذه العادة إلى أن يبلّل إصبعه بريقه، وعند ملامسة الإصبع للصفحات المسمومة، سينتقل السمّ إلى الفم مع تقليب القارئ كل صفحة. هذا بالضبط ما حدث مع الملك يونان الذي استعجب من فراغ الصفحات من الكتابة، فبدأ بتقليب الصفحات، صفحة إثر صفحة، حتى انتهى من الكتاب، لكنه لم يجد كلمة مكتوبة، إلا أن السمّ كان قد سرى في جسده. لقد رفض الملك يونان المعرفة المتمثلة بالحكيم رويان، فكان جزاؤه الموت، إلا أن دلالة أكثر غورًا تحملها الصفحات الخالية من الكتابة، فلو كان من مكتوب يُقرأ، لكان للملك جزاء آخر، فالموت هو كلمة (تمت)؛ الكلمة التي توضع في نهاية المكتوب إعلانًا عن النهاية الحتمية، التي ليس بعدها من كلمات مكتوبة ونبوءات.

والتر بنيامين

إن هذه الثيمة التي اعتمدت عليها شهرزاد، استند إليها أمبرتو إيكو في روايته « اسم الوردة»، فقد سمّم أحد الكهنة وريقات كتاب أرسطو «فن الشعر»؛ كي يمنع الرهبان من الاطلاع عليه، ومن يدفعه فضوله إلى ذلك سيكون الموت جزاءه. إن المعرفة نبوءة ومن يملكها سيكون بيده الحياة أو الموت.

إنّ الأقدار القطعية التي تحملها الكتابة من خلال أحرفها وكلماتها، نجدها في أصداء تجليد الكتب بالجلد البشري، فقد أورد موقع CNN بالعربي، بأن هذه الممارسة كانت شائعة منذ القرن السادس عشر عبر كتابة اعترافات المجرمين على جلودهم. وقد خلص خبراء جامعة هارفارد إلى أن النسخة الأصلية من كتاب «أقدار الروح» للكاتب الفرنسي أرسين هوسيه قد جرى تجليدها بجلد بشري بنسبة 99%. ووفقًا لمكتبة جامعة هارفارد، فإن الطبيب لودفيك بولاند، وهو طبيب في القرن التاسع عشر، قد غلّف الكتاب المذكور آنفًا بجلد مريضة عقلية توفيت إثر نوبة قلبية، وقد ترك بولاند ملحوظة يقول فيها: «كتابٌ حول روح الإنسان يستحق غلافًا بشريًّا».

كان الجاحظ يكتري حوانيت الكتب، ليطّلع على ما فيها. ويقال: إنه مات مدفونًا تحت كتبه بعد أن سقطت عليه. هذه الواقعية السحرية عن الجاحظ لها معادِلها الواقعي، فلقد ذكر ألبرتو مانغويل أن رجلًا يُدعى باتريس مور ظلّ مدفونًا أسفل كتبه التي سقطت عليه لمدة يومين، ولولا أنينه الذي سمعه الجيران، لقضى نحبه كالجاحظ.

وفي السياق ذاته يذكر موقع BBC، أنه في سجلات سجن بريستول يوجد كتاب صنع من جلد أول سجين قد أعدم في هذا السجن، الذي يعود لشاب مهووس بفتاة قتلها بحجر. وقد تضمّن الكتاب تفاصيل جريمته. يذكر الموقع العديد من الحالات الأخرى لتغليف الكتب بجلد إنسان.

سحر الكتابة

يؤصِّل والترج أونج كهانية الكتابة، فهو يقارنها بتنبؤات كاهنات دلفي التي لا يمكن معارضتها، أو مساءلة الكاهنات عنها، فلسانهن لسان الوحي. هذه النقطة دفعت المنظرين إلى القول: إن الكتابة تخلق لغة خارج السياق لا يمكن معارضتها كما يحدث مع الخطاب الشفوي، حيث يستطيع الشخص أن يعارض المتكلّم، لكن مع الكتابة فالأمر محتوم، فالكتابة تظل تقول ما هو مكتوب، سواء كان المؤلف موجودًا، أم لا. حتى إن كان ما هو مكتوب خاطئًا. ومن هنا، جاءت فكرة حرق الكتب لمنعها من القول، كما يُسجن الكاتب أو يقتل لمنعه من الكتابة. حتمية المكتوب هو ما يربطه بالنبوءات، لأن المكتوب هو تسجيل للنبوءة؛ وهذا ما نجده لدى الرومان الذين كانوا يعتمدون على إنياذة فرجيل في التنبؤ، ما دامت هي ذاتها تدوينًا للنبوءة، التي قادت إينياس من طروادة إلى تلال الكابيتول، حيث بنى مدينة روما.

إميل زولا

إن ارتباط الكلمة المكتوبة بالسحر والنبوءة موجود في كل المجتمعات؛ وما فكرة: (الكتيبة) في مجتمعاتنا، إلا نتيجة للاعتقاد بقدرة الكلمات على التأثير في الآخر، وكشف المستقبل. يذكر أونج أن كلمة: (grammar) التي كانت تعني في القرون الوسطى: (المعرفة المستقاة من الكتب) قد تطوّرت، لتصبح بمعنى (تراث غيبي سحري) ومن ثمّ تحوّرت فيما بعد لتصبح: (glammer/ القوة الساحرة). نظرت بعض المجتمعات التي تعرف قدرًا محدودًا من الكتابة إلى الكلمة المخطوطة على أنها خطر يهدد القارئ القليل الحيطة؛ لذلك كان لا بد من الغورو/ المعلم الروحي للتوسط بين القارئ والكلمة المكتوبة. هذا الغورو تقمصته الرقابة، ليس خوفًا من نبوءة، بل رعبًا من كتاب يعرّي الواقع البائس الذي تعيشه شعوب المنطقة العربية.

في زمننا الحديث بحثنا عن النبوءات، في شعر الشعراء وسرد الروائيين. ونحن إذ نفعل ذلك نتابع هاجسًا بشريًّا قديمًا، لا يتعلّق بمعرفة المستقبل، بل بالقدرة على السيطرة على مصيره. يعرّي فوكو فكرة موت الإله، وأن الميتافيزيق ظل كما هو، وكل ما حدث هو أن نُسِب إلى الإنسان، لكن، هيهات، أن يعني ذلك أن الإنسان الميتافيزيقي إنسانٌ سيّدٌ على مصيره، يطالعه متى يشاء.

الكاتب العربي إن لم يجد عدوًّا، اخترعه قلْ لي مَن عدوك، أقل لك: من أنت!

الكاتب العربي إن لم يجد عدوًّا، اخترعه

قلْ لي مَن عدوك، أقل لك: من أنت!

إنّ أفضل طريقة لمواجهة مخاوفنا تكمن في التحدّث عنها. وإنّ أهم مخاوفنا تظهر في اعتبار الآخر عدوًّا. وإنّ أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم! قال سارتر: الآخرون هم الجحيم. كأكثرية نقول: نعم، الآخر هو المعتدي! لكن هل دقّقنا في إجابتنا، وكم من تصرفات قصدنا بها أو لم نقصد عدوانًا، جعلتنا أعداء بطريقة أو بأخرى، وفي الحقيقة لقد جعلتنا المبادرين بالاعتداء من دون سببٍ ظاهر أو باطن، لمجرد أن الآخر مختلف عنا. العداء موجود في الواقع بشكلٍ كبير، على الرغم من كلمات المحبة والسلام والصداقة والتسامح.

وُجِّهَ السؤال التالي لعددٍ من المشتغلين في الحقل الأدبي؛ لنستطلع وجهة نظرهم،: لكل كائن حي عدو طبيعي، باستثناء الكائن البشري. الإنسان؛ هو الكائن الوحيد الذي لا يوجد له عدو طبيعي يفترسه؛ لذلك كان من الضروري إيجاده. كيف تخترعين/ تخترع أعداءك؟

ولكي لا أكسب أعداء أكثر، سترد أسماء المشاركين وفق تسلسل الأحرف الأبجدية. كما ستنقل إجابتهم كما هي بالحرف والفاصلة حرصًا على السلام الثقافي.

مثلث الرغبة

يعارض رينيه جيرار سيغموند فرويد في موضوعة اللاشعور التي تنتج الدوافع والرغبات. ويذهب إلى أن مثلث الرغبة المتكون بين: الراغب وموضوع الرغبة والوسيط؛ هم الأساس في الرغبات ومن ثم العنف البشري، ففي سعيك لأمر ما، تثير رغبات الآخرين في الأمر ذاته؛ ومن هنا تنشأ العداوات، وكأن العداء أمرٌ محتم. هذا ما يوضحه لنا الروائي السوداني أمير تاج السر: «ربما لا أكون فهمت السؤال جيدًا، هل هو سؤال عن عدو بيئي؟ أم عدو من جنس الإنسان نفسه؟ ذلك الذي يوجد أو لا يوجد، وقد نسعى لاختراعه؟ أظنني أختلف مع مسألة عدم وجود عدو طبيعي أو بيئي لافتراس الإنسان، فالعدو موجود وبشدة، والحيوان المفترِس هو بالضرورة عدو للكائن البشري. الزلازل والأعاصير والفيضانات والأمراض والأوبئة، أعداء شرسون.

سأترك هذا الشق، وأتحدث عن اختراع الأعداء البشريين، أو اختراع ما يمكن أن يزلزل استقرار شخص ما، وحتى استقرار شعب كامل كما شهدنا في الحروب، فأنت حين تعارض سلطة بلادك أو تدلي بوجهة نظرك في خلل ما، اخترعت ببساطة عدوًّا لن يتقبل آراءك، وسيسعى لسحقك، وطبعًا الأمثلة كثيرة ومرعبة، حتى وأنت حاكم لدولة ما، تخترع أعداء لك ولدولتك، حين تصنع جيشًا، وتحاول تقويته بالعتاد، أنت قد تصنعه لتدافع عن أرضك، لكن الجار يفهم أنك صنعته للهجوم عليه. الأب في البيت قد يكون عدوًّا لابنه حين يأبى الانصياع لطلباته، ويبدأ الابن في حشد العداء المعنوي تجاهه. الذكاء والموهبة عدوان لصاحبهما حين يوقعانه ضحية لعنف ما، وكنت قد كتبت مرة عن يوم إعلان النتائج في امتحانات المدرسة الابتدائية في أيامنا، حين كان الفاشلون يدفنون عصيهم في حوش المدرسة، وينبشونها ويطاردون بها الطلاب المتفوقين، وقد يؤذونهم كثيرًا. الطلاب المتفوقون لم يفعلوا شيئًا أو لم يؤذوا أحدًا، لكن الذكاء اخترع لهم أعداء.

لو طبقنا المسألة على النشاط الأدبي للمبدعين، في أي مجال مثل الكتابة والرسم وحتى التمثيل والغناء، نجد اختراع العدو قائمًا وبشدة، فالمبدع المتمكن النشيط، الذي ينتج باستمرار في مجاله، يحيط به آلاف الأعداء الذين اخترعهم، وصيرهم وقائع تتبعه، تحصي أخطاءه، إن أخطأ، وتقلل من شأن إبداعه، وتنتهز أقرب فرصة لإزاحته عن الطريق، الذي يطمح الفاشلون المعتدون، أن يستولوا عليه. إذن صناعة الأعداء، صناعة رائجة، وستظل رائجة، مهما حاولنا القضاء عليها، قد نبتكر هجومنا أيضًا، لكن لن يستطيع بكل تأكيد، أن يقينا من تكالب الأعداء الذين نخترعهم في كل خطوة».

اعرفْ نفسك أو عاديها

يستقرئ الصحافي السوري بديع صنيج مقولة سقراط “اعرفْ نفسك” وينطلق منها، عادًّا الإنسان عدو نفسه، وأن هذه العداوة لها نتائجها الإيجابية، فالانتصار على النفس والانتصار لها في الوقت نفسه، هو المحدد في خلق شخصية إنسانية راشدة.يقول صنيج: «أعتقد أن أفضل عدو اخترعه الإنسان هو نفسه، لا سيما مع الأزمات الوجودية التي يعيشها؛ إذ بات الكشف عن ذاته هو المحور الرئيس الذي تتمحور حوله حياته كلها. أصبح من الرفاهية بمكان أن يبحث الإنسان عن عدو لنفسه خارجها، وبخاصة أن افتراسه للآخر لا يُغذيه وإنما يُخفف من عدد خصومه، بينما افتراس ذاته يُقويها ويزيد معرفته عنها، لذا كنوع من اكتشاف الذات باتت النفس البشرية ساحة معركة ضارية بين مكوناتها الأساسية، بين واقعها والمأمول منها، ومن وجودها الهَش وتماثلاته في الآخر، بحيث إن العداوة للذات، وتاليًا معرفتها بطريقة أفضل، سهلَت بشكلٍ أو بآخر تصنيف البشر وقراءة الآخر بنظرة أقرب للصواب، وهو ما أتاح للإنسان مُصادقة «الناس أعداء أنفسهم»، أي: الساعون لمعرفة أنفسهم أكثر عبر العداء لها وافتراسها بأقصى ما تتيحه المعرفة البشرية من وسائل للسَّبْر.

بالطبع هذا الموضوع ينسحب على كل ما يُضمره الإنسان من مخاوف تجاه أي شيء وأي شخص، بمعنى سعي الإنسان لمُصادقة مخاوفه وكوابيسه وجحيماته المادية منها والروحية، وخَلْخَلَتِها من خلال معرفتها، والتعمق في سبر أغوارها، لا سيما أن العَداء مواجهةٌ، وليس هروبًا، وإشهارُهُ بحاجة إلى شجاعة العارِف، وعطاء الكريم، وهو ما لا ينسجم مع الجَهل أو البخل أو حتى الازدراء؛ إذ ينبغي الاعتراف والمعرفة والعرفان للذات وللآخر، في محاولة جادة لتحديد سَمْت العدو وملامحه ونقاط قوته وضعفه، وتاليًا المناورة واللعب ومُداورة الواقع من أجل السعي لتحقيق النصر، الذي ما إن يتحقق حتى يفرض الدخول في معركة جديدة، ضمن متوالية غير منتهية، ومعالِمُها مُتبدلة متغيرة باستمرار، لكن جوهرها واحد، هو الانتصار للذات في مواجهتها لنفسها، ومواجهة الآخر سواءٌ أكان يُشبِهُنا أو يختلف عنا».

الأنا والآخر

جان بول سارتر

يقول ميخائيل باختين: الوعي أشد خطورة من اللاوعي. وعندما يكتشف الأسد النباتي، أن الآخر الذي فيه ليس إلا مجموعة من الخراف المهضومة، كما يقول بول فاليري، فماذا يفعل في اختلال العلاقة بين النظرية والتطبيق؟ يقدم لنا أستاذ علم الجمال في جامعة حلب الدكتور سعد الدين كليب وجهة نظره في العداوة عبر الأنا والآخر: «يكتشف جوردان، في مسرحية البرجوازي النبيل لموليير، أنه كان يتحدث نثرًا طوال عمره السابق دون أن يدري، فيغتبط أيما اغتباط بهذا الاكتشاف العظيم. ولعلنا لا نختلف كثيرًا عن السيد جوردان، ونحن نكتشف هذه أو تلك من المسلمات والبدهيات الفلسفية والفكرية عامة. وقد يكون مفهوم الأنا والآخر واحدًا من تلك المسلمات، حيث يضرب في عمق التاريخ الإنساني بقدر ما يتجول في الشوارع الآن!

فلم يحدث أن نجا المجتمع الإنساني، ولا أعتقد أنه سوف ينجو يومًا، من التبعات السلبية لذلك المفهوم بشتى أشكاله ومستوياته الثقافية، سواء أكان ذلك عبر التمييز العنصري أم عبر الاستعلاء والإذلال والتهميش أم عبر الحروب المدمرة. وليس هذا فحسب، وإنما أيضًا عبر الأذواق التي كثيرًا ما تكون تعبيرًا جماليًّا عن مفهوم الأنا والآخر الثقافي. فتبدو العيون السود مثلًا، بالنسبة إلى ذوي العيون الزرق، دليلًا على التوحش والبربرية، وتبدو العيون الزرق، بالنسبة إلى ذوي العيون السود، دليلًا على اللؤم والبخل والخسة، وكذا هي الحال في لون البشرة ولون الشعر وشكل الأنف، وفي الألبسة والأطعمة والفنون والطقوس أيضًا. نلحظ هذا في الحضارة اليونانية وفي الحضارة العربية وفي القرون الوسطى وعصر العولمة أيضًا؛ ونلحظه كذلك في الاستشراق وفي الاستغراب على السواء. وعلى الرغم من الانعكاسات السلبية الطاغية لذلك المفهوم فإنه لا أنا من دون الآخر، ولا آخر من دون الأنا؛ سواء أكان ذلك بالمعنى النفسي الخاص أم الثقافي العام. فلا تتحدد ملامح الأنا من دون ملامح الآخر، وهو ما يعني أن الآخر ذو فاعلية في تكوين الأنا، مثلما أن الأنا ذات فاعلية في تكوين الآخر أيضًا. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن الأنا هي آخر في أي علاقة مجتمعية من أي مستوى كان.

وبهذا المنظور لا يمكن لصورة الآخر أن تنجو من طبيعة الأنا وتصوراتها، غير أن صورة الآخر ليست كلها من صناعة الأنا. صحيح أننا نصنع صورًا للآخر مرذولة وقبيحة، في حال الخصومة أو العداوة، ولكن أصل تلك الصور يكمن في طبيعة الخصومة أو العداوة نفسها أولًا. أما كيف نخترع أعداءنا ثقافيًّا فهذا يرتبط بأسئلة أخرى كثيرة، وهي كيف نبني ذاتنا الثقافية، وما المنظور الذي نرى من خلاله العالم، وما المشروع الذي نسعى إلى إنجازه، وما العقبات التي نواجهها أو يضعها الآخر أمامنا. أسئلة لا تكاد تنتهي، ولكن بالتأكيد كلما اتسعت رؤيتنا الثقافية للعالم اتسعت مساحة الأنا ومساحة الأصدقاء الذين هم الآخر
بمعناه الإيجابي».

ألعاب العداوة

ميخائيل باختين

يقول أفلاطون: «إننا دمى الإله، ويجب أن نلعب حياتنا بطريقة جيدة»، فهل العداوة نوع من اللعب؟ هذا ما سنعرفه مع الشاعرة المغربية عائشة بلحاج: «يخلق الشاعر أعداءه من باب الانشغال الوجودي الصرف، وليس لدافع الميل العدواني المجاني؛ فيعادي نفسه أولًا لاستفزازها، وعندما لا يكون مشغولًا بالاقتيات من لحمه، يحاربُ مثل «دون كيشوت» طواحين الهواء، بسيفٍ خشبي؛ وكأن الطواحين سبب تعاسة الكون. تارةً ينصب الحياة عدوًّا، محملًا إياها مسؤولية خيباته الكثيرة، وأحيانًا يجعل الزمن وحده المذنب، في كل عثرة؛ وما أكثر عثرات الشاعر. للمرأة، قد يكون الرجل العدو، إذا فشل في أن يكون حبيبًا جيدًا. لا أعرف إن كانت المرأة عدوة الشاعر الخائب في الحب، لكن بالنسبة لها فجلد الحبيب الفاشل، واجبٌ أخلاقي؛ وفي ذلك تجلد نفسها؛ لأنها آمنت بالحب، بالرجل، بالحياة، بالزمن، بنفسها. ومقابل ذلك، ستُحمله صخرة سيزيف، وتقفُ أعلى القصيدة، تتشفى في ألمه.

الآخر كيفما كان، بالنسبة للشاعر، قد يُصبح في حالات متطرفة العدو؛ حينها يكون الأمر قد تجاوز العداوة السطحية، لكل ما هو خارج الذات، إلى عداوة مدمرة، يتخذ فيها الشاعر موقفًا نهائيًّا بإقصاء الآخر من جزيرته المعزولة؛ ليصبح روبنسون كروزو آخر، ويضرب الحجر ليلًا من أجل القليل من الدفء. الخوف، عدو كبير للشاعر، إنه ما يجعله صغيرًا، وضئيلًا، أمام نفسه؛ ما يكشفه أمامها؛ لذا يجلد الخوف، محاولًا الانتقام من جهة، والثأر لنفسه من كل المواقف المهينة، التي وقع فيها بسببه. ومن جهة أخرى، يحاولُ ترويضه؛ يفككه، قطعة قطعة ليبتلعه. ومن دون شك، لا ينتصر الشاعر أبدًا في معاركه، بل تصبح قصائده تسجيلًا للهزائم، واعترافًا أو محاولة اعتراف في صيغ مختلفة».

الجانب المظلم للقمر

عندما كتب الروائي ر. ل. ستيفنسون روايته «دكتور جيكل ومستر هايد» كان يريد أن يكشف أغوار النفس البشرية وأن الخير والشر توأمان وعلى ما يبدو أن الروائي الجزائري محمد جعفر أحب أن يشاركنا بقصة من سيرة حياته، تكشف لنا أن العداوة والانتقام تلعب دورًا مهمًّا في بناء الشخصية: «لست طيبًا كما أعتقد، يرد ذلك على بالي في أكثر من مناسبة، وحينها لا بد أن أستدعي من الذاكرة تلك اللحظات أو المواقف التي كنت فيها شخصًا آخر حيث مارست توحشي وتلبسني شيطان العداء والبغض، ويمكن لقصة حصلت معي منذ أكثر من عشرين سنة أن تعبر عن حالي تلك. حال لا يمكنها أن تعجبني كما لا يمكنني أن أنكرها.

كأي فتى يعيش شبابه الأول وقد فتن بإحداهن، وكان يعجبني أن أرافقها في الذهاب والعودة من مدرستها. كنت حينها في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية، وعقب أحد اللقاءات سمعت صديقة تقول لها دون أن تنتبه: إنني أسير خلفهما، دعك منه، إنه غير مناسب، وليس من مقامك. اخترقت هذه الكلمات سمعي وأصابتني بتعاسة تضاعفت حين تخلت عني فتاتي. ولا أظنني نسيت هذه الحادثة بسهولة، فقد استعدتها بعد أقل من عام، وكنت حينها قد تخرجت، وعينت في المدرسة نفسها معلِّمًا، لأكتشف أني سأدرس تلك الصديقة النمامة التي لم أنسَ ملامحها يومًا.

بصراحة حتى أكون منصفًا، فلقد كانت فتاة شديدة الجمال ومن بيئة اجتماعية مرموقة، مع ذلك، وبصفتي معلمًا لها، كان من السهل عليَّ لفت انتباهها؛ وسريعًا تلقفت إشارتي مع إشعار بحماستها. وعن طريق صديقة من خارج المؤسسة استطعت أن أفوز بموعد معها. لأجدها تنتظرني في المكان الذي اتفقنا عليه. توجهت صوبها وسألتها بمكر، هل أنت هنا بانتظاري. وحين أجابت بنعم، رددت أقول لها متأسفًا، وشعور غريب، هو مزيج من القسوة والتشفي والاستطاعة يغمرني، كان الأجدر بك أن تلتفتي لدروسك، لا أن تسعي خلف مدرسك. لأقوم بتجاوزها في الحين، ثم إمعانًا في الانتقام عمدت إلى التقرب من أقرب زميلاتها، وأما النشوة البالغة فجسدتها تلك الحسرة التي راحت تشي بها عيناها. ولا أفهم اليوم أي حقد ذاك الذي راح يغشاني حينها، وسول لي أن أتغافل عن جمالها المشرق والطاغي؟ وأي عمى أصابني حتى أفرطت في السعي خلف الانتقام؟ وهل حقًّا كنت أحتاج كل ذلك لأعتدَّ وأثق بنفسي، اعتداد وثقة أنقذاني من مهازل كثيرة مماثلة، وجعلا مني هذا الشخص الذي يشبهني؟».

إذا لم يجد الشخص من يعاديه، يخترع له عدوًّا

الأعدقاء، مصطلح نُحت من كلمتي: الأعداء والأصدقاء، كما نحت إميل حبيبي مصطلح «المتشائل» من المتفائل والمتشائم. ومن هذه الكلمة، سندخل إلى ما أمدنا به الناقد المصري محمود الغيطاني الذي سلط الضوء على العداوات المجملة بأقنعة الصداقات في الوسط الأدبي والثقافي، وكأن لسان حاله يقول ما قاله المتنبي:

«ومن نَكَدِ الدنْيا على الحُر أنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ!» الكائن البشري فعليًّا ليس له عدو من الطبيعة، لكنه يحيا على اختراع عدوه، كأنه لا يستطيع الاستمرار في الحياة من دون عداءات متكررة وكثيرة. في مجالنا الإبداعي على سبيل المثال نرى الكثيرين ممن يعادي بعضهم بعضًا من دون أي أسباب: كأن ترى من يعادي غيره لمجرد أن الآخر مميز في مجال ما، أو لأنه ناجح، أو لأنه منتج وله العديد من الإصدارات. هنا تجد أن الآخر قد نصَّب من نفسه عدوًّا له لمجرد نجاحه، رغم أن هذا العدو لو تخلى عن كسله، واهتم بكتابته ربما يكون أفضل ممن يعاديه، لكنه يصر على الكسل والفشل، ويكن العداء لمن لا يفعل مثله. أحدهم قال ذات مرة لآخر: ما هذا الغيطاني؟! يظن نفسه يفهم في كل شيء. هذا شكل من أشكال العداء، ولو كان صاحب الجملة قد عمل على نفسه بجدية؛ لكان أفضل مني.

ثمة عداءات أخرى نراها من جانب المبدعين تجاه النقاد الذين يقولون رأيهم بجدية حينما يتناولون أعمالهم؛ فالمبدع لا يمكنه تقبل إظهار النقد لمساوئ العمل، وباتوا يظنون أن النقد لا يعني سوى المدح، رغم البون الشاسع بين المفردتين؛ لذلك ترى عددًا لا يستهان به من المبدعين يقاطعون ناقدًا ما، ويكنُّون له العداء لمجرد أنه أبدى رأيه النقدي فيما يكتبونه، ورغم أن بعض المبدعين يرون أن فلانًا/ الناقد؛ لا يوجد ناقد يفهم في النقد مثله إلا أن هذا الرأي ينقلب تمامًا للضد من المبدع نفسه حينما يتعرض الناقد نفسه الذي كان يفهم في النقد لعمل هذا المبدع، ويرى فيه قصورًا، حينها يصبح هذا الناقد جاهلًا، وحاقدًا، ويبدأ العداء.

أظن أن الطبيعة البشرية قائمة على صناعة العدو، وإذا لم يجد الشخص من يعاديه، فهو يخترع له عدوًّا؛ كي يكون مشحونًا دائمًا، سواء كان هذا الشحن يؤدي إلى معنى إيجابي أو سلبي، ولعلنا رأينا أن أميركا حينما انتهى عداؤها الضخم مع روسيا بعد الحرب الباردة اخترعت لها ولمواطنيها عدوًّا جديدًا وهو الإسلام السياسي. للأسف ثمة كائنات لا يمكنها الحياة من دون عداءات».

حبوب السعادة

قال جبران: حينئذٍ قالت المطرة: حدثنا عن المحبة، فقال المصطفى: إذا المحبة أومت إليكم، فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة. إذا المحبة خاطبتكم، فصدقوها؛ وإن عطل صوتها أحلامكم وبددها، كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعًا صفصفًا. هي المحبة التي سيعادي بها الروائي المصري وحيد الطويلة أعداء الحياة ويفضحهم: «لا أريد أن أخترع شيئًا أكثر من حبوب السعادة، التي تجعل الناس كلها في حالة من البهجة. أتخيل لو حدث ذلك وفعلتها! سأجد جرابيع وقساة قلوب لا ينامون دون إفساد هذا الموضوع. لا بأس إذًا، فلأخترع ما يمكن أن يقضي على الأمراض والفقر، لن أنسى ما حييت يوم أمرني أبي أن أذهب إلى القصاب؛ سيعطيك الكوارع، عدْ بها وأعطِها إلى أمك. طبختها أمي وجلسنا للعشاء. قبل أن يمد ملعقته قلت له: إن فلانًا طلب من القصاب زوج الكوارع، لكنه أعطاها لي. كانت هناك في عينه نظرة، احترتُ في وصف تلك النظرة، ولم تسعفني اللغة، قلتُ: نظرة الفقر والانكسار.

صمت الرجل، وبعد ربع ساعة كنتُ في قلب دار الرجل المسكين أعطيه الطنجرة بطبختها. كانت وصية أبي، إن جلس بين أولاده لحظة العشاء: لا تمنحهم بل شاركهم. نعم، يجب أن نخترع أدوية للأسى، للقلوب الكسيرة. وحتى لا أكون مثاليًّا، فإنني أودُّ أن اخترع دواءً للنذالة والحقارة. أن تقسم مصروفك بينك وبين آخر لسنين. لن تعطيه قلبك قبل نقودك وتقول: إنك سوف تغني لأطفالك. من الممكن أن ينتظروا أما هذا النذل، فلا يستطيع. وحين تمر بضائقة ككل البشر الذين تعرفهم، ينهشك بقسوة. هو لا ينهش أعداءه بقدر ما يقطع أوصالك علانية. قد يحب أعداءه، لكن أنت، لا يحبك بل يكرهك؛ لأنك تأخرت عن ميعاد فاتورة الكهرباء.

لا بأس من اختراع دواء لنخاسة الجوائز والكتابة الرديئة التي يروجون لها.  نعم، نعم، لا بد من اختراع دواء يشفي شيخ النقاد من مرض توزيع الجوائز على الأحبة؛ من تعيين الجهلة حراسًا على قلب الثقافة.لا بد من اختراع دواءً لهؤلاء الذين لا يملكون أدنى درجات الاحترام لأنفسهم، ليخرجوا من أماكنهم بعد أن عسكروا فيها لِما يقرب من عشر سنوات.

من يخترع لنا دواءً للخجل، كي يخجل كل هؤلاء من سيرتهم. من يخترع لنا دواءً نشفى به من التفكير به. لعله دواء الفن والكتابة الحلوة، التي ستعيش على الرغم من أنف الجميع، التي يجب أن نسعد أن تكون متعتنا القصوى لحظة تميل بخدها وحاجبها ناحيتنا».

بعد الاطلاع على آراء المشاركين معنا، نكتشف أن كلمة العدو كلمة خداعة، فليست بهذا السوء، فكما تُعرف الأشياء بأضدادها، تصبح كلمة العداوة مسبارًا لكشف ذواتنا وذوات الآخرين، ونصل من خلالها إلى أعماق النفس البشرية، فرفض العدو والآخر لن يقود إلا إلى الإلغاء، فالحياة البشرية مبنية على ثنائيات ضدية، والعداوة التي من نتائجها الحتمية العنف الذي قال عنه القدماء ووثقه رينيه جيرار بــ«أن السلام هبة العنف» أو لنقل: السلام هبة العداوة.