النقد الثقافي وتحليل الثقافة

النقد الثقافي وتحليل الثقافة

المفكر البريطاني ريموند وليامز أحد المؤسسين للدراسات الثقافية البريطانية هو والآخر ريتشارد هوغارت يحددان -في إطار مدونة هذه الدراسات- مفهوم الثقافة في ثلاثة مستويات (راجع كتاب «غبش المرايا» إعداد وترجمة خالدة حامد،منشورات المتوسط 2016م)؛ إذ لا يمكن للباحث أن يغفل عن هذا التحديد إذا ما أراد أن يمتلك أدنى معرفة بالتأثيرات الثقافية على مجمل الحياة الاجتماعية للبشر.

أولى المستويات ما يسميها الثقافة المعيشة، وهي المرتبطة بفئة من الناس الذين يعيشون في زمان ومكان محددين؛ إذ يصعب استرجاع حياة تلك الثقافة المعيشة عند هؤلاء الناس بكامل تفاصيلها اليومية. أما ثانيها فيطلق عليه الثقافة المدونة، وتعني كل تلك الآثار المدونة في كتب متنوعة الاختصاصات، أو معالم روحية، أو فنية، أو طقوسية يومية،أي بما يشكل في مجمله ثقافة عصر من العصور، آخرها ما يسميه ثقافة التراث الانتقائي، وهو يعني القناة التي تصبح صلة الوصل بين ماضي الناس وحاضرهم،وهو بالضرورة انتقائي.

استحالة الإمساك باللحظة المعيشة

ويشرح ريموند وليامز عمل هذه المستويات، ومدى ارتباطها على مستوى التأثير وشكل العلاقات. باختصار تمتنع الثقافة المعيشة أن تكون مكشوفة وقابلة للدراسة في العصور اللاحقة؛ لكون الإمساك باللحظة المعيشة لكل فرد، ومن ثم توثيق أقوالها وأفعالها في مجرى الحياة اليومية هو من رابع المستحيلات،حتى لو فكرنا في أننا الآن في عصر تقني سمعي بصري، يستطيع توثيق كل لحظة في حياتنا. ما البديل إذن؟ الثقافة المدونة هي البديل هنا،وتكون نوعًا من الانتقاء أيضًا، لكنه انتقاء لا يخضع بالضرورة لسلطة مهيمنة، كما يفترض المستوى الثالث من التحديد،بل المدونات الثقافية للمجتمعات والشعوب ترتبط بجملة من الأسباب في شأن علاقتها بالمجتمع،فهي أولًا تمثل المنجز «الرفيع» لثقافة المجتمع؛ من فكر، وفن، ولغة، وأدب، وهي ثانيًا تمثل الفلكلور الشعبي القصصي المتوارث عبر مخيلة شعبية طقوسية، تنهض عليها شخصية الفرد داخل المجتمع،وهي ثالثًا تمثل له إحدى القيم الكبرى التي يتصور من خلالها نفسه وعلاقته بالآخرين والعالم.

كل هذه الأسباب من طبيعة اجتماعية تاريخية اقتصادية لا ترتبط بأسباب هيمنة القوة والسلطة على الثقافة –وإن كان هناك احتمالات ضعيفة حسب إمكانية القوة– بقدر ارتباطها بالمجتمع نفسه في علاقته الطبيعية بثقافته أي ما اصطلح عليه «الطبيعة والثقافة» من دون الأثر الذي تتركه السلطة على هذه العلاقة. صحيح أن هذا المنظور للثقافة لا ينفي هذا الأثر كليًّا. لكنه يضع في الحسبان أيضًا هامش الحرية التي تتركه الحياة (وأقصد الحياة هنا كل ما تحمله الكلمة من دلالة تتعلق بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي لا تستطيع القوى المهيمنة القبض عليها وتغيير مساراتها لمصلحتها)،وبالتالي وفرة المنجز الثقافي والمعرفي للشعوب والمجتمعات ترتبط بهذا الهامش سعةً وضيقًا.

الملاحظ هنا إذا كانت كل حقبة من العصور تشكل ثلاثة أجيال على الأقل، وكانت هناك في نفس الوقت الوفرة في المنجز الثقافي، فهل يمكن متابعة كل ما أنجزه الجيل الأول بالنسبة للجيل الثاني؟ يشكك ريموند وليامز في مثل هذه المتابعة، ويستعرض عدة أمثلة، لكني سأكتفي بمثالين من عندي؛ الأول معاصر، والثاني من التاريخ. هل يمكن لنا أن نتصور أن كل ما تم إنجازه إبداعًا شعرًا أو قصصًا أو مسرحًا في العقد الأول من القرن العشرين في العالم العربي قد تم قراءته، ناهيك عن تدوينه أولًا من طرف المعاصرين لهم،ولاحقًا من الذين عاشوا بعدهم في العقود اللاحقة؟ هذا ما لا يمكن التأكيد عليه؛ حيث الانتقاء والتلخيص يصبحان ضرورة في فهم السمات العامة للإبداع في تلك الحقبة،وعلى هذا يمكن قياس بقية المنجزات في ثقافة المجتمع.

لذلك نرى ريموند وليامز يعالج هذه الثغرة باستخدام مصطلح البنية الشعورية، ورغم النقد الذي طال المصطلح من أطراف عدة؛ أهمهم بالطبع المفكر تيري إيغلتون،الذي يرى الفكرة تجمع بين «لفظتين متناقضين حيث تنطوي على ما يفيد بأن الثقافة محددة وغير ملموسة في آنٍ». (موقع صوت الآخر،قراءة في كتاب: فكرة الثقافة للمفكر تيري إيغلتون،قراءة سعدون هيل)، إلا أن أهمية الفكرة تكمن من وجهة نظري في هذا التناقض تحديدًا. فإذا كانت الثقافة من بعض وجوهها عند وليامز هي طريقة حياة بأكملها فهي إذن نظام مترابط من العوامل ذات المرجعيات المختلفة؛ منها ما هو شعوري نفسي،وما هو علامات جسدية،وما هو لساني لغوي،وما هو تربوي سلوكي،وبناء عليه ينتج عن مثل هذا الترابط شعور لا وعي يؤثر في الاتصال الاجتماعي والقيم والتصورات، ويكتسب الفرد من خلالها الاستعداد التام للانتماء.

المشكلة هنا كيف يمكن القياس؟ عن طريق التجربة المعيشة- كما يؤكد وليامز- التي نعيشها الآن،ودائمًا ما يكون ثمة توافقات في الحياة البشرية بين سيرة حياة حقبة سابقة، وبين حياة حقبة لاحقة عليها.

أما المثال الآخر فيتعلق بالموسوعي، وكاتب السيرة ابن النديم الذي بدأ تأليف كتابه «الفهرست» سنة 377هـ؛ حيث حاول فيه أن يرصد ويتابع كل ما كتب في عصره من جميع أصناف العلوم؛ إذ أحصى أكثر من عشرة آلاف كتاب ومؤلف، لكن أغلب هذه الكتب لا أثر له،وبعض المؤلفين لا ذكر له حتى عند بعض معاصريه كمحمد الخوارزمي مثلًا في كتابه « مفتاح العلوم».

فك الارتباط بين الهيمنة والثقافة

حين نصل إلى المستوى الثالث للثقافة يكون الانتقاء للتراث ضرورة أكثر ما تتطلبها السلطة المهيمنة على المؤسسات الثقافية ومجمل القوى داخل المجتمع، بما يخدم وجهة نظرها حول التراث نفسه، بحيث يتم توجيهه حسب قيم السلطة ومصالحها. عند هذه النقطة يمكن الإشارة إلى أن نظرية النقد الثقافي كان الهدف من اشتغالات نقادها هو فك الارتباط بين الهيمنة من جهة والثقافة من جهة أخرى اعتمادًا على رؤية ثقافة المجتمع من خارج دوائر السيطرة الأكاديمية والتعليمية والتقاليد المنهجية المتبعة. وكون أغلب نقادها جاؤوا من اليسار الجديد للماركسية، فإن الفاعلية النقدية كما يرى أبرز نقادها البريطاني ستيوارت هيل هي أن تكون على قدر من الارتباط الوثيق بحياة الناس وقضاياهم التي تؤثر في مصيرهم،بحيث لا تكون هذه الفاعلية في الدوائر النظرية فقط،وإلا مارست النظرية النقدية ما حاولت أن تحاربه وتخرج عليه،هي سيرورة من النقد لا يجب أن تنغلق على نفسها،نقد يتحرك حسب ما تترسخ مظاهر الهيمنة والتهميش للناس الذين لا صوت لهم ولا تمثيل.

خلاصة ما نريد أن نقوله في هذه المقالة هو أن أغلب الذين اشتغلوا من المفكرين العرب على منجزات النظرية النقدية،وحاولوا أن يحللوا ثقافة مجتمعاتهم انطلاقًا منها غيّبوا تمامًا مفهوم جدلية الهيمنة والسلطة والثقافة،بل أحال بعضهم مفهوم السلطة على النسق فقط،وهذه إحدى «الهروبات» المعرفية للمثقف العربي من مواجهة استحقاقاته ضد السلطة.

الفلسفة بين السطور وخوف المعرفة

الفلسفة بين السطور وخوف المعرفة

baz1الفيلسوف الألماني ليو شتراوس معروف في الأوساط السياسية الغربية، سواء الدوائر الرسمية أو الأكاديمية المتصلة بالعلوم السياسية، بأنه منظّر ما عرف بتيار المحافظين الجدد؛ أي: السياسيون الذين اشتهروا في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بشكل خاص، وتولوا عدة مناصب مهمة ومؤثرة. وقد سمي أولئك بالمحافظين الجدد؛ لأنهم تبنوا أفكار شتراوس حول طبيعة النظام السياسي، وما ينبغي أن يكون عليه، وبشكل أكثر تحديدًا ضرورة أن يمارس النظام السياسي سياسات بعيدة عن أنظار الشارع فينأى عن اهتمامات الناس العاديين. أي أنه يجب أن تكون للساسة رؤيتهم وقراراتهم التي لا يستشيرون فيها العامة؛ لأن العامة لا تفهم في تلك الأمور، ولا ينبغي أن تستشار فيها. ومع أن هناك من ينفي عن شتراوس تبنيه لتلك الآراء، فإن المؤكد هو أن في كتاباته ما يشجع على ذلك النهج الذي اتبع فعلًا في أحداث كبرى شهدها العالم لعل أبرزها غزو العراق الذي تم بتضليل الرأي العام لتنفيذ «أجندة» رآها أولئك الساسة صحيحة وضرورية.

الاضطهاد وفن الكتابة

في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانضمام شرق أوربا إلى المعسكر الشيوعي نشر شتراوس كتابًا تأمل فيه أوضاع الكتاب الذين عاشوا تحت الحكم الشيوعي وما مارسه من اضطهاد معروف. لكن ذلك الكتاب عكس أيضًا معرفة شتراوس بالفلسفة في أوربا في العصور الوسطى وصلة تلك الفلسفة بمؤثراتها الإسلامية التي يعد شتراوس متخصصًا بها أيضًا. في كتاب «الاضطهاد وفن الكتابة» تناول شتراوس عددًا من الفلاسفة القدماء ومنهم الفارابي وابن ميمون، وتوقف طويلًا عند سبينوزًا موضحًا كيف واجه أولئك القيود المفروضة عليهم في التعبير عن آرائهم وقناعاتهم الفلسفية وحاجتهم من ثم لإخفاء الكثير من تلك الآراء والقناعات عن عامة القراء. فالفلاسفة من هذا المنظور طبقة مستقلة من المجتمع، بل ومن عامة المثقفين، وقادرة نتيجة لذلك على رؤية العالم من زاوية مستقلة أيضًا، زاوية لا تصلها العامة وقد ترفض العامة نتائجها. ومن هنا فإن الفلاسفة مضطرون للتعبير عن بعض آرائهم بالطريقة التي لا يستطيع العامة فهمها (ومن هنا نستطيع أن نفهم أحد أسباب الربط بين شتراوس وتيار المحافظين الجدد).

في كتاب «الاضطهاد وفن الكتابة» طرح شتراوس نظريته حول الأساليب التي اتبعها بعض الفلاسفة قديمًا؛ لتمرير بعض أفكارهم بحيث لا تكون مستمسكًا عليهم فيعاقبوا بسببها، فتحدث مثلًا عن كيفية توظيف الفارابي لأفلاطون في كتاب له حول ذلك الفيلسوف اليوناني. يقول شتراوس: إن الفارابي يقوّل أفلاطون كلامًا لم يقله وإنما هو كلام الفارابي نفسه لا أفلاطون، فيصبح الفيلسوف القديم مطية لأفكار الفيلسوف المحدث. ثم تترى الأمثلة في عصور مختلفة؛ منها العصر الحديث حيث سعى كتاب من أوربا الشرقية لتمرير أفكار ومعتقدات وآراء غير مسموح بها بأساليب ملتوية؛ لكي يفلتوا من عين الرقيب الحكومي الشرس في بلدانهم.

       نظرية شتراوس هذه انطلق منها باحث أميركي في كتاب أصدره مؤخرًا بعنوان «الفلسفة بين السطور» (2014م) مضيفًا عنوانًا جانبيًّا هو: «التاريخ المفقود للكتابة الإيزوتيريكية». المؤلف آرثر ميلتزر (Melzer) أستاذ فلسفة في قسم العلوم السياسية بجامعة ميتشغان ستيت الأميركية وكتابه إنجاز بحثي لافت يقع في 450 صفحة، ويبحر بالقارئ عبر عصور الفلسفة منذ العصر اليوناني حتى أواخر القرن الثامن عشر، وهذه حقبة طويلة اتسمت كما يقول ميلتزر بسيطرة نوع من الكتابة المزدوجة في التأليف الفلسفي يشير إليها بالكتابة الإيزوتيريكية (esoteric)، وكذلك بالفلسفة بين الأسطر. الإيزوتيريكية صفة لكل معرفة أو معتقدات مقتصرة على فئة محدودة من الناس؛ أي المعرفة المحاطة برموز أو دلالات لا يصل إليها إلا أهلها من الخاصة أو المختصين، وتقابلها المعرفة الإكزوتيريكية (exoteric) التي تشير إلى المعرفة المشاعة أو الواضحة. يقول ميلتزر ما سبق أن قاله شتراوس، وهو أن أهل الفلسفة ظلوا لقرون يكتبون بطريقتين؛ إحداهما إيزوتيريكية أو مقتصرة على القلة، أي ما سبق أن سماه بعض المؤلفين القدامى «المظنون به على غير أهله»، والأخرى إكزوتيريكية، أي مشاعة يفهمها الجميع. ويستشهد المؤلف في هذا السياق بعبارة للشاعر والكاتب الألماني المعروف غوته وردت في إحدى رسائله عام 1811م عبر فيها عن اعتقاده بأن شرًّا قد حل بالناس في النصف الأخير من القرن السابق، أي الثامن عشر، حين لم يعودوا يميزون بين المعرفة الإيزوتيريكية والإكزوتيريكية.

bazالغموض دفعًا للضرر

يميز ميلتزر بين أربعة أنواع من الكتابة الإيزوتيريكية. يتضمن النوع الأول الكتابة التي يختار فيها الكاتب – الفيلسوف الغموض دفعًا للضرر الشخصي نتيجة عدم تقبل أفكاره واحتمال الإضرار به نتيجة لذلك، أو لحماية المجتمع نفسه، أي دفع الضرر العام بإخفاء حقائق معينة. ويسمى هذا النوع الإيزوتيريكية الدفاعية أو الوقائية. أما النوع الثاني فيتضمن الكتابة الغامضة بقصد تحقيق مصلحة قد تكون إصلاحًا سياسيًّا، أو تعليم نخبة من طالبي المعرفة، ويسمى هذا إيزوتيريكية سياسية أو تربوية. هذه الأنواع يبسطها المؤلف في عدد ضخم من الأمثلة التي تحملها نصوص تتعرض لتحليل ينفذ بنا إلى مجاهل دلالية لا تبدو لأول وهلة، أو لا تبدو لقارئ اعتاد على القراءة فوق السطور أو على السطور وليس ما بينها؛ أي اعتاد على الدلالة الواضحة المباشرة بعد أن تربى في بيئة تعليمية وثقافية تقول له: إن ما يقوله النص هو ما يظهر للقارئ، ولا شيء في الخفاء.

كتاب ميلتزر لا صلة له بالآراء السياسية لليو شتراوس أو بالمحافظين الجدد، لكن معرفة الخاصة وتحويلها إلى سلطة تنأى بهم عن العامة هي الجسر الذي يربط بين الإستراتيجية السياسية والرؤية الفلسفية المعرفية، الجسر الذي تعبره الفلسفة أحيانًا لتؤثر في الشأن العام من خلال مفكرين مثل شتراوس حديثًا، ومثل أفلاطون والفارابي قديمًا.