التفكير الفلسفي وإعادة بناء الذاكرة الجماعية

التفكير الفلسفي وإعادة بناء الذاكرة الجماعية

يمتاز التفكير الفلسفي بخاصية التساؤل والحس النقدي، وهما وجهان لعملة واحدة، كل واحدة تستدعي الأخرى، وتحفزها من العمق. لكن لماذا أصبح هذا الحس وتداعياته، من منظور الفلسفة، أخطر الأسئلة في التاريخ؟ السبب يكمن في أن الممارسة النقدية تمتلك من الأدوات ما يكفي لهدم أعتى الأبنية والصروح الضخمة الفكرية والثقافية والاجتماعية. وهذه ممارسة خطرة بلا شك تفضي بصاحبها إلى التهلكة.

والفلسفة هي من مهدت الطريق لمثل هذا التقليد الفكري. فالسؤال عن معنى الوجود الذي افتتحت به الفلسفةُ تاريخها كان فريدًا من نوعه، لم يألفه اليونانيون، فإجاباتهم السائدة حول هذا السؤال كانت مستمدة من تراثهم الأسطوري المتعلق أساسًا بالآلهة وتعددها. وعدم الألفة تفضي إلى مواقف خطرة، وحادثة إعدام سقراط دليل على ذلك، وهي معروفة للجميع. وأناكساغوراس، أستاذ سقراط، سُجن وكاد يعدم بعد حادثة سقوط النيزك، فقد قام وتفحصه عن قرب، وقال قولته الشهيرة: «الشمس والنجوم إذن ليست آلهة». أرسطو أيضًا خرج من أثينا عندما اشتد الصراع بينه وبين التقليديين، وعندما سئل عن خروجه قال: «لا أريد لأثينا أن ترتكب جريمة ثانية في حق الفلسفة»(١).

أصل التفلسف

هذه الخاصية في التفكير الفلسفي، لا تقتصر على الفلاسفة وحدهم. هناك في التاريخ كثير من القصص لِسِيَر العظماء، كالأنبياء والعلماء والمتصوفة والمثقفين، الذين عانوا كثيرًا بسبب أسئلتهم الجذرية المزلزلة أمام سلطة الواقع؛ لذلك الخلاصة التي
نتوخاها هنا:

أولًا- إن فهم السؤال الفلسفي من جذوره التاريخية وفهمَ تحولاته، يحمي تفكيرنا من السقوط في السطحية والانفعالية التي لا تصمد أمام متطلبات الواقع الذي نعيشه وأمام سلطته.

ثانيًا- إن ابتكار مثل هذا الأسئلة لا يحتاج إلى جهد معرفي كبير، ما نحتاجه فقط هو ممارسة التأمل المركب من البراءة والدهشة معًا؛ ألم يقل أرسطو: «إن الدهشة هي أصل التفلسف»؟ وهذه الممارسة تناسب الوضع الحالي لمجتمعنا؛ لكونه يملك خزانًا من السلوك والتفكير القريب من روح الدهشة، ولكونه أيضًا مقطوع الصلة بالتفلسف تاريخيًّا.

وهذا ما يقودنا –ثالثًا– إلى القول بالطبيعة المزدوجة لوظيفة السؤال الفلسفي؛ إما أن يظل سؤالًا انفعاليًّا عابرًا بيد صاحبه، هادمًا للسائد، محكومًا بردود أفعال آنية ولحظية فقط، وإما أن يكون أساسًا لبناء معمار محكم بالرؤية الإستراتيجية والوعي الإبستمولوجي والمعرفة الشاملة.

بناء الذاكرة الجماعية

سأمهد له من خلال طرح السؤال التالي: من أين جاءت مقولة: إن الثقافة العربية الإسلامية ثقافةٌ ذكورية؟ السؤال ليس جديدًا. لقد نوقش في دوائر البحوث العربية، وضمن دوائر المشروعات الفكرية العربية والاستشراقية. بل لم تظهر الحركات النسوية في العالم إلا لكي تؤكد أن هذا المنحى من الثقافة، لا يخص مجتمعًا بعينه، وإنما المتحضر منه والنامي أيضًا.

ولم تكن الحركات المناهضة ضد العنصرية والمطالبة بحقوق المرأة كاملة سوى دليل على صحة تلك المقولة. بيد أن ما نطلبه هنا، لا يكمن في إثبات صحة أو خطأ تلك المقولة، فالشواهد تدل بلا شك على سلطة ذكورية واقعية أمام مقاومة شرسة من النساء والمنظمات الحقوقية. وإنما يكمن فيما نطلبه في الوسائط والأدوات والآليات التي جعلت من هذه المقولة مؤثرة في الأذهان والخطابات والمعارف؛ حتى أصبحت في فترة من الفترات، في تاريخنا الثقافي إحدى المسلمات التي اختزلنا من خلالها نظرتنا إلى تراثنا.

في كتابه «سير أعلام النبلاء» أشار أبو عبدالله الذهبي المتوفى (748 هـ) إلى الكاتبة (بلغة عصرنا: المشهورة بفن الخط) فاطمة بنت الحسن بن علي البغدادي، والمعروفة ببنت الأقرع، جَوَّد الناس على خطّها لبراعة حُسنه، وهي التي نُدبت لكتابة كتاب الهُدنة بين خليفة زمانها وملك الروم. وبكتابها كان يُضرب المثل. ​وفي كتابه: «نزهة الجلساء في أشعار النساء» قال جلال الدين عبدالرحمن السيوطي (849– 911هـ): ذكر ابن حيان عائشة القرطبية، فقال: «لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علمًا وفهمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة وعفة وجزالة وحصافة (…) وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف والدفاتر وتجمع الكتب وتعنى بالعلم ولها خزانة علم كبيرة»(٢). وفي كتاب ياقوت الحموي «معجم الأدباء» عدّد ابن عساكر من ضمن شيوخه، الألف والثلاث مئة، بضعًا وثمانين امرأةً(٣).

هذه الأمثلة غيض من فيض، تقصدت من ذكرها –أولًا- الابتعاد عن المشهور من النساء في التراث كالشاعرات والفقيهات والمحدثات والمتصوفات وغيرهن. أما ثانيًا: نحن نُصدم من كثرة المدونات والأدبيات التي يجري فيها ذكر جانب مضيء من حياة النساء العربيات المبدعات. بيد أن المفارقة تظل قائمة: صورة نمطية عن المرأة في الثقافة العربية بينما واقع حضورها تاريخيًّا في الاجتماع والثقافة يقول عكس ذلك.

لذلك لا يمكن البحث عن فهم لهذه المفارقة وبالتالي تفسيرها انطلاقًا من النظام الأبوي الذي يفسر مقولة الهيمنة عبر التاريخ، ولا انطلاقًا من تأثير مصطلح الذكورة المتأسس أصلًا داخل الأدبيات الغربية، والمرحل منها إلى الأدبيات التاريخية العربية، وإنما ينبغي البحث –وهنا مربط الفرس الذي يهمنا كثيرًا– انطلاقًا من دراسات الذاكرة، وهي دراسات «بين تخصصية» تسعى للتعامل مع الذاكرة الإنسانية في بعديها المجتمعي والجمعي، والبحث في علاقاتها بالظواهر البشرية المختلفة التي تهتم بها العلوم الإنسانية والاجتماعية حتى الطبيعية. وقد صارت موضوعًا مشتركًا لحقول معرفية متنوعة، وتمتاز أيضًا بصفتي الدينامية والإبداع على المستويين: التنظيري والمنهجي(٤). وقد كان رائد هذه الدراسات في سبعينيات القرن المنصرم هو عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس في كتابيه «الذاكرة الجمعية» «والأطر الاجتماعية للذاكرة». ثم توالت الدراسات ولم تتوقف.

التاريخ والذاكرة والماضي

إذن نحن –كما أدعي- أمام هيمنة ظاهرها ذكوري بينما عمقها تسيطر عليها آليات الذاكرة وسياساتها الاجتماعية الثقافية والدينية والأخلاقية. كيف تعمل هذه الآليات؟ وكيف تؤثر؟ ما وظائفها والأدوار التي تقوم بها في حياة الناس؟ سأجيب عنها. لكن ضمن إجابة أكبر تسعى فيها إلى أن توضح بعض النقاط المهمة التالية:

أولًا- في عصرنا الحاضر، أغلبية المجتمعات العربية لا تميز بين التاريخ والذاكرة والماضي، وأكاد أجزم أن الخلط بين وظائفهما وأهدافهما جعل علاقاتنا بأنفسنا وفيما بيننا طائفيًّا ومناطقيًّا، وتاريخيًّا محكومة بسوء الفهم والالتباس على أقل تقدير، وجعل علاقاتنا بالآخرين وبالعالم أكثر سوءًا وأكثر غموضًا.

ثانيًا- يهدف التاريخ، من بين ما يهدف إليه، إلى تقديم صورة شاملة ودقيقة وغير متحيزة للأحداث الماضية، عبر الوثائق والأرشيف والإركيولوجيا. بحيث تتسم هذه الصورة في الأغلب بوجهات نظر متعددة، بينما تركز الذاكرة (الجماعية أو الجمعية أو الاجتماعية) على منظور واحد مثل منظور مجموعة اجتماعية أو أمة أو مجتمع. وبالتالي فإن الذاكرة الاجتماعية تمثل الأحداث الماضية باعتبارها مرتبطة بالقيم والروايات والتحيزات الخاصة بتلك المجموعة. فهي لا تهتم بالوقائع التاريخية في حد ذاتها، فالإنسان يتذكر تاريخًا مؤولًا يضفي عليه عند الاقتضاء طابعًا سحريًّا وأسطوريًّا. ولما كانت الذاكرة تعبيرًا عن مصالح وجماعات بشرية واختبارًا لقوتها ونفوذها وقيمتها فإنها تغدو كحلبة لتنازع إرادات القوى.

إن الذاكرة وإن كانت غير قادرة على تغيير الوقائع التاريخية العنيدة، فإن لها القدرة على تغيير معنى ودلالات تلك الوقائع(٥). لكن ذلك مرهون كما بينا بالاستقلال الفكري الذي بدوره مرهون بالسؤال الفلسفي والحس النقدي والوعي التاريخي، وبخاصة أن كل ذاكرة اجتماعية ليست سوى تمثلات الناس عن عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم، بوجيز العبارة: وجدانهم الكامل.

ثالثًا- التاريخ يهتم بالزمن التاريخي للأحداث بينما الذاكرة لا زمنية، عابرة للزمن، تقدم الأحداث، تُؤخرها حسب مصلحة المجتمع أو الجماعة، وحسب المنفعة والقيم المتعلقة بالهوية. التاريخ عادة يرتبط بثقافة النخبة الرفيعة، بينما الذاكرة دائمًا ما تكون متصلة بالثقافة الشعبية وملتصقة بها وتأثيرها متبادل بينهما. أما الماضي فإنه ليس معطى جاهزًا تحت تصرف المجتمع. لكنه يُبنى انتقائيًّا وفق تموضع أفراد المجتمع وعلاقاتهم في واقعهم اليومي.

لذلك كثير منا يستخدم الماضي وهو يعني في الوقت نفسه الذاكرة، والعكس أيضًا صحيح، حتى الدراسات الأكاديمية لا تخلو من هذا الخلط، والسبب هو غياب الوعي الإبستمولوجي عن الدرس المعرفي، مع قلة المراكز والأبحاث والدوريات التي تركز على ثيمة الذاكرة في التخصصات الاجتماعية والإنسانية والتاريخية والدينية.

لكنّ الغريب في الأمر أن الدراسات الغربية حول الذاكرة أصبحت منذ سبعينيات القرن الماضي محط أنظار المفكرين وعلماء الاجتماع والنفس والنقاد الثقافيين والمؤرخين حتى أصبحت جزءًا، لا يمكن الاستغناء عنه، في كل تلك الحقول الإنسانية حتى إن المؤرخ الفرنسي الكبير جاك لوغوف في كتابه «التاريخ والذاكرة» قال: مفهوم الذاكرة مفهوم مفصلي مؤثر في الدراسات الراهنة.

بالمقابل الدراسات العربية تعد على الأصابع، وفاعليتها ونشاطها يكاد لا يذكر، على الرغم من أن المجتمعات العربية أكثر حاجة وضرورة من الغرب في فهم ذاكراتها الجماعية. فالتاريخ القريب للذاكرة العربية مثقل بالأحداث والوقائع الكبرى المتلاحقة، منذ غزو العراق إلى الربيع العربي، حدث نوع من الاستنهاض وإعادة بناء للذاكرة وفق هوية كل جماعة سواء كانت أقلية أو أكثرية أو إثنية أو جهوية، وأصبح بالتالي استحضار الرموز والطقوس التاريخية ضمن سياسة التذكر أمرًا مدروسًا بدقة.

لنأخذ على سبيل المثال موقفين يعبران بشكل صريح عن الطريقة التي تعمل بها الذاكرة وكيف تستخدم وتوظف بشكل موجّه.

عندما قتلت المخابرات الأميركية قائد فيلق القدس قاسم سليماني عند أطراف المطار في بغداد لم يترك الإيرانيون في مخزون ذاكرتهم من صور القداسة إلا وأظهروه، ضمن طقوس تبجيلية مؤثرة. توجيه الذاكرة سياسيًّا أمر يرتبط بالدولة في نهاية المطاف. لكن أمام تدفق الذاكرة وقوتها، من يجرؤ أن يسأل سؤالًا عقلانيًّا تاريخيًّا فلسفيًّا حول قضية التبجيل؟!

الموقف الثاني هو ​ظاهرة الصحوة في المملكة التي ظلت تعمل ثلاثين سنة على السيطرة والهيمنة على المجتمع، ليس بالعلم والتثاقف والانفتاح على الآخر، وإنما ما فعلوه هو فقط الهيمنة على ذاكرة الناس من خلال مخزونهم القيمي والعقائدي، وحاولوا مأسسة هذه الذاكرة. لكن بعد ظهور رؤية 2030 التي أطاحت بهم، اتضح فشل مشروعهم وهشاشته؛ لأن هاجسهم الوحيد كان هو بناء ذاكرة مفصلة على نظرتهم الضيقة؛ لذلك سرعان ما رأينا بعضهم قلب ظهر المجن على موقعه السابق.

ويمكن أن نضيف أمثلة أخرى، من واقعنا المحلي المعاصر إذا أردنا ذلك، فالمواقف والأحداث كثيرة ومهمة.


هوامش:

(١) الدكتور الطيب بوعزة، محاضرة على الوتيوب، «نحو بناء فكر نقدي».

(٢) كتاب الحكمة العربية، دليل التراث العربي إلى العالمية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2008م، ص22.

(٣) دراسة: «الذاكرة والهوية: إضاءة إبستمولوجية»، عبدالرحيم الحسناوي.

(٤) المصدر السابق.

(٥) مقال: الدكتور زهير سوكاح، نظرية الذاكرة الجمعية لموريس هالبفاكس.

النقد الثقافي وتحليل الثقافة

النقد الثقافي وتحليل الثقافة

المفكر البريطاني ريموند وليامز أحد المؤسسين للدراسات الثقافية البريطانية هو والآخر ريتشارد هوغارت يحددان -في إطار مدونة هذه الدراسات- مفهوم الثقافة في ثلاثة مستويات (راجع كتاب «غبش المرايا» إعداد وترجمة خالدة حامد،منشورات المتوسط 2016م)؛ إذ لا يمكن للباحث أن يغفل عن هذا التحديد إذا ما أراد أن يمتلك أدنى معرفة بالتأثيرات الثقافية على مجمل الحياة الاجتماعية للبشر.

أولى المستويات ما يسميها الثقافة المعيشة، وهي المرتبطة بفئة من الناس الذين يعيشون في زمان ومكان محددين؛ إذ يصعب استرجاع حياة تلك الثقافة المعيشة عند هؤلاء الناس بكامل تفاصيلها اليومية. أما ثانيها فيطلق عليه الثقافة المدونة، وتعني كل تلك الآثار المدونة في كتب متنوعة الاختصاصات، أو معالم روحية، أو فنية، أو طقوسية يومية،أي بما يشكل في مجمله ثقافة عصر من العصور، آخرها ما يسميه ثقافة التراث الانتقائي، وهو يعني القناة التي تصبح صلة الوصل بين ماضي الناس وحاضرهم،وهو بالضرورة انتقائي.

استحالة الإمساك باللحظة المعيشة

ويشرح ريموند وليامز عمل هذه المستويات، ومدى ارتباطها على مستوى التأثير وشكل العلاقات. باختصار تمتنع الثقافة المعيشة أن تكون مكشوفة وقابلة للدراسة في العصور اللاحقة؛ لكون الإمساك باللحظة المعيشة لكل فرد، ومن ثم توثيق أقوالها وأفعالها في مجرى الحياة اليومية هو من رابع المستحيلات،حتى لو فكرنا في أننا الآن في عصر تقني سمعي بصري، يستطيع توثيق كل لحظة في حياتنا. ما البديل إذن؟ الثقافة المدونة هي البديل هنا،وتكون نوعًا من الانتقاء أيضًا، لكنه انتقاء لا يخضع بالضرورة لسلطة مهيمنة، كما يفترض المستوى الثالث من التحديد،بل المدونات الثقافية للمجتمعات والشعوب ترتبط بجملة من الأسباب في شأن علاقتها بالمجتمع،فهي أولًا تمثل المنجز «الرفيع» لثقافة المجتمع؛ من فكر، وفن، ولغة، وأدب، وهي ثانيًا تمثل الفلكلور الشعبي القصصي المتوارث عبر مخيلة شعبية طقوسية، تنهض عليها شخصية الفرد داخل المجتمع،وهي ثالثًا تمثل له إحدى القيم الكبرى التي يتصور من خلالها نفسه وعلاقته بالآخرين والعالم.

كل هذه الأسباب من طبيعة اجتماعية تاريخية اقتصادية لا ترتبط بأسباب هيمنة القوة والسلطة على الثقافة –وإن كان هناك احتمالات ضعيفة حسب إمكانية القوة– بقدر ارتباطها بالمجتمع نفسه في علاقته الطبيعية بثقافته أي ما اصطلح عليه «الطبيعة والثقافة» من دون الأثر الذي تتركه السلطة على هذه العلاقة. صحيح أن هذا المنظور للثقافة لا ينفي هذا الأثر كليًّا. لكنه يضع في الحسبان أيضًا هامش الحرية التي تتركه الحياة (وأقصد الحياة هنا كل ما تحمله الكلمة من دلالة تتعلق بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي لا تستطيع القوى المهيمنة القبض عليها وتغيير مساراتها لمصلحتها)،وبالتالي وفرة المنجز الثقافي والمعرفي للشعوب والمجتمعات ترتبط بهذا الهامش سعةً وضيقًا.

الملاحظ هنا إذا كانت كل حقبة من العصور تشكل ثلاثة أجيال على الأقل، وكانت هناك في نفس الوقت الوفرة في المنجز الثقافي، فهل يمكن متابعة كل ما أنجزه الجيل الأول بالنسبة للجيل الثاني؟ يشكك ريموند وليامز في مثل هذه المتابعة، ويستعرض عدة أمثلة، لكني سأكتفي بمثالين من عندي؛ الأول معاصر، والثاني من التاريخ. هل يمكن لنا أن نتصور أن كل ما تم إنجازه إبداعًا شعرًا أو قصصًا أو مسرحًا في العقد الأول من القرن العشرين في العالم العربي قد تم قراءته، ناهيك عن تدوينه أولًا من طرف المعاصرين لهم،ولاحقًا من الذين عاشوا بعدهم في العقود اللاحقة؟ هذا ما لا يمكن التأكيد عليه؛ حيث الانتقاء والتلخيص يصبحان ضرورة في فهم السمات العامة للإبداع في تلك الحقبة،وعلى هذا يمكن قياس بقية المنجزات في ثقافة المجتمع.

لذلك نرى ريموند وليامز يعالج هذه الثغرة باستخدام مصطلح البنية الشعورية، ورغم النقد الذي طال المصطلح من أطراف عدة؛ أهمهم بالطبع المفكر تيري إيغلتون،الذي يرى الفكرة تجمع بين «لفظتين متناقضين حيث تنطوي على ما يفيد بأن الثقافة محددة وغير ملموسة في آنٍ». (موقع صوت الآخر،قراءة في كتاب: فكرة الثقافة للمفكر تيري إيغلتون،قراءة سعدون هيل)، إلا أن أهمية الفكرة تكمن من وجهة نظري في هذا التناقض تحديدًا. فإذا كانت الثقافة من بعض وجوهها عند وليامز هي طريقة حياة بأكملها فهي إذن نظام مترابط من العوامل ذات المرجعيات المختلفة؛ منها ما هو شعوري نفسي،وما هو علامات جسدية،وما هو لساني لغوي،وما هو تربوي سلوكي،وبناء عليه ينتج عن مثل هذا الترابط شعور لا وعي يؤثر في الاتصال الاجتماعي والقيم والتصورات، ويكتسب الفرد من خلالها الاستعداد التام للانتماء.

المشكلة هنا كيف يمكن القياس؟ عن طريق التجربة المعيشة- كما يؤكد وليامز- التي نعيشها الآن،ودائمًا ما يكون ثمة توافقات في الحياة البشرية بين سيرة حياة حقبة سابقة، وبين حياة حقبة لاحقة عليها.

أما المثال الآخر فيتعلق بالموسوعي، وكاتب السيرة ابن النديم الذي بدأ تأليف كتابه «الفهرست» سنة 377هـ؛ حيث حاول فيه أن يرصد ويتابع كل ما كتب في عصره من جميع أصناف العلوم؛ إذ أحصى أكثر من عشرة آلاف كتاب ومؤلف، لكن أغلب هذه الكتب لا أثر له،وبعض المؤلفين لا ذكر له حتى عند بعض معاصريه كمحمد الخوارزمي مثلًا في كتابه « مفتاح العلوم».

فك الارتباط بين الهيمنة والثقافة

حين نصل إلى المستوى الثالث للثقافة يكون الانتقاء للتراث ضرورة أكثر ما تتطلبها السلطة المهيمنة على المؤسسات الثقافية ومجمل القوى داخل المجتمع، بما يخدم وجهة نظرها حول التراث نفسه، بحيث يتم توجيهه حسب قيم السلطة ومصالحها. عند هذه النقطة يمكن الإشارة إلى أن نظرية النقد الثقافي كان الهدف من اشتغالات نقادها هو فك الارتباط بين الهيمنة من جهة والثقافة من جهة أخرى اعتمادًا على رؤية ثقافة المجتمع من خارج دوائر السيطرة الأكاديمية والتعليمية والتقاليد المنهجية المتبعة. وكون أغلب نقادها جاؤوا من اليسار الجديد للماركسية، فإن الفاعلية النقدية كما يرى أبرز نقادها البريطاني ستيوارت هيل هي أن تكون على قدر من الارتباط الوثيق بحياة الناس وقضاياهم التي تؤثر في مصيرهم،بحيث لا تكون هذه الفاعلية في الدوائر النظرية فقط،وإلا مارست النظرية النقدية ما حاولت أن تحاربه وتخرج عليه،هي سيرورة من النقد لا يجب أن تنغلق على نفسها،نقد يتحرك حسب ما تترسخ مظاهر الهيمنة والتهميش للناس الذين لا صوت لهم ولا تمثيل.

خلاصة ما نريد أن نقوله في هذه المقالة هو أن أغلب الذين اشتغلوا من المفكرين العرب على منجزات النظرية النقدية،وحاولوا أن يحللوا ثقافة مجتمعاتهم انطلاقًا منها غيّبوا تمامًا مفهوم جدلية الهيمنة والسلطة والثقافة،بل أحال بعضهم مفهوم السلطة على النسق فقط،وهذه إحدى «الهروبات» المعرفية للمثقف العربي من مواجهة استحقاقاته ضد السلطة.