أنف القديسة

أنف القديسة

بضفيرتين حريريتين تُلاعبني في مهدي، خصلاتها الكستنائية تدغدغ أرنبة أنفي، تتسرَّب إلى منخري رائحة الحناء المعطرة بماء الورد، تخدرني، وسرعان ما تنحبس أنفاسي، تحمر عيناي، كأنهما تستعدان للبكاء، تنتشلني من ضياعي، تصنع لي أرجوحة من ضفيرتيها، أتشبث بهما، تهدهدني لأنام، تتألم في صمت وكلما تألمتْ أمعنتُ في إحكام قبضتي على الشعيرات المنفلتة مني، وحينما تطرحني في مهدي أدخل في جدبة بكاء لا تنتهي، تلقمني ثديَها فأنام بعنف، بينما رائحة الحناء تداعب أحلامي البيضاء.

حينما صحوت من مهدي وجدتني طفلًا مشاكسًا بملامح غير بريئة، شريرًا كنت، ولا أقبل بأَنْصاف الحكايات، صارت أمي تطعمني خيالها لأنام، كلما حكتْ استنفرتُ أنفي لأفرّ من حلم يترصدني. لم تتعبْ من صفاقتي، ظلتْ ترسم عالمها كي أتملَّكه بلا حذر، تحدقُ في عيني وأنا أحدق في شفتيها وهما تطرزان الحكايات، تتجسَّسُ على جفوني، أتظاهر بالنوم، وحينما تصمتُ، أحتجُّ، فتعيد حكايتها إلى الصفر، وجهها يواجهني، يلعنني في سره، أمعن في الإنصات، تمعن في الوصف والثرثرة، تؤجل النهايات، أؤجل النوم، كأننا نتبارز، كأننا نتعارك في صمت، لكنها تنتصر على انتظاري، كبرتُ وأنا منهزم.

st-philomena2وحينما كبرتُ مرة أخرى صارت تطردني من مجالس النساء، ترميني بحثيات الثلج، وأنا كالملسوع أطعم رأسي بقايا الحروف الناقصة التي أقتنصها من وراء الباب، أتلصَّص بكل حواسي على حكايات النسوة، وبقايا الضحكات التي تلطم خدي، تحكي بمهارة بينما النسوة يضحكن بخبث، كم كرهت ضحكاتهن، كرهت الحكايات بروائحها التي تعكر مزاجي، كلما باغتتني أمي وأنا متلبس بجرمي، تطردني إلى شارع بارد كي أشارك أطفاله قتل الوقت، ولم يكن مزاجي يسمح بالبحث عن حكايات جديدة خارج الخدر. في الليل أتظاهر بالمرض، أتظاهر بالموت، كي ترافقني في رحلة الخداع، وكي أقتنص منها حكايتي الناقصة. أشمها، أتبين أي معين تنهل منه. وهي تمنحني ما ينقصني، أشرب من غيمها المدرار ولا أرتوي، ظمآنًا كنت، أتزود برذاذها وهو يتطاير في وجهي، يغسلني من جرح يسكنني، كذبتي لا تصلح إلا لليلة واحدة، لذلك أجهد عيني كي لا تنهزما. لكنهما تخذلان هوسي، فألعنهما في حلمي، أفركهما، ثم أبرحهما ضربًا، تدمعان بلا رحمة، أسخر منهما، وأعيش النهايات في حلمي مغمض العينين.

فقدت عيني في الحلم، صارت المنامات سوداء، لم أعد أتبين الوجوه، أشعر بحركاتها، وكلما صمتتْ أَتيهُ، كأن الصوت يرشدني في تيهي، وحينما تنطبق الشفاه أضيع، تبتلعني دوامة الرمل، تمتصني إلى باطنها، أقاوم بجسدي الضرير، أتشبث بحبات الرمل التي صارت جمرًا يحرق باطن كفي، ألتهب، يتسرب الحريق إلى عيني، تتفجر العيون مني، تطفئ حرائقي، فأنساب مع حركة الماء رقراقًا، أتنفس بعمق، أتحسس الماء المتدفق مني وحولي، أغرق فيه، كأن عيني تغرقان في عيوني، أستغيث، ينفجر من حلقي هديل أصوات مكدسة طالها النسيان، أستغيث بعماي عله يخلصني من غرقي، تمتد يدها لتنتشلني من مناماتي السوداء، تمسح جبيني، تلقمني حكاياها، أنام بعينين مطمئنتين يلفهما البياض.

لم أفقد عيني، ظلتا في جحرهما تشهدان على جرمي، تتواطآن في صمت، تباركان رجلي وهما تتوغلان في الأرض الخضراء، تشجعاني على قطف الفاكهة، أشمها ثم أقضمها، أطعم بقاياها لأرقي، عاقبني أنفي، أغلق خياشيمه، شدد الحراسة على منخاريه، منع الروائح من العبور إلى عقلي المشتت، تيقنت أن لعنةً أصابتني، أيقنتُ أن الأنف يعاقبني لأنه سئم حيلي. تنبهتْ إلى أنفي الحساس، عالجتْه بدموعها، عطرته، كأنها تطلب مغفرته، تمنَّعَ وانكمشَ، صار لا يستنشق سوى رائحتي، يهددني إن سعيتُ إلى الخلاص منه. دربتْ أذني بحكاياها على التقاط الروائح. أترصد روائح الحكاية، أسجلها في دفتري، صارت الكتابة شفائي من أنف يزين وجهي دون أن يدق نواقيسه، كما تدق قلبي.

أمي نضجتْ، أصبحتْ طفلة وديعة بضفيرتين اشتعل البياض فيهما، تمشطهما كما يليق بقدِّيسة، تزينهما بخيوط حريرية، تنتظرني كل مساء لأطعمها حكاياتي الباردة التي لا تشبه حكاياها الدافئة، كانت تنام كلما اقتربتُ من منتصف الحكاية، كأنها تصرُّ على إذلالي، أنا الذي لم يتعلم من حكاياها كيف أكون. أمي الآن تنام قريرة العين، تعلوها ابتسامة حنون، كما يليق بقديسة، وأنا كالمهبول أتطلع إلى أنفها وهو يعب حكاياتي، أتطلع إليها، وأتساءل إن كان يشبهني أم أشبهه؟

قصص قصيرة جدًّا جان لوي بلان

قصص قصيرة جدًّا جان لوي بلان

مسكينة هي فئران مختبر NRPB بمدينة سيدني الأسترالية؛ إذ أصبحت تتغوط بمعدل مرتين أكثر من الفئران المماثلة لها منذ أن تم إرغامها يوميًّا على سماع 45 دقيقة من الأصوات الصادرة عن الهواتف النقالة.

♦♦♦

الآنسة «ماري س» الواقفة على درابزين شيب كنال بريدج بسياتل، كانت تهدد بإلقاء نفسها من علٍ. رجال الشرطة، رجال الإطفاء، القنطرة المغلقة، عرقلة السير، قلة صبر سائقي السيارات انتهوا إلى حث اليائسة على القفز. وهو ما قامت به بالفعل.

♦♦♦

كان السيد «مرتان»، من ساكني غرونوبل، يتسكع على سكة الترامواي المهملة من طرف عمال الترام المضربين. نهاية مفاجئة للإضراب، مرت قاطرة غير منتظرة؛ لن يكون بمستطاع السيد «مرتان» المشي سوى برجل واحدة.

♦♦♦

وهو يترنح من الفرح بعد رأي جماعي لأطبائه أعلنوا فيه شفاءه التام من المرض المرعب الذي أصابه. غادر السيد «فيليكس» المستشفى وثبًا. لكن سرعان ما عاد إليه؛ لعدم انتباهه إلى القدوم المباغت للحافلة رقم 31.

«موت المؤلف» أم «تقويض الكوجيتو»؟

«موت المؤلف» أم «تقويض الكوجيتو»؟

ما ينيف على العقد والنصف من الزمن، قبل أن يعلن كل من رولان بارت (1968م) وميشيل فوكو (1969م) «موت المؤلف»، كان موريس بلانشو قد تحدث عن «غيابه». إذا كان ما حرّك «بارت» و«فوكو» لإعلان ذلك «الموت» هو محاولة القيام ضد مفهوم معيّن عن الأدب كان مهيمنًا على الدراسات الأدبية نقدًا وتأريخًا، فيبدو أن ما دفع «بلانشو» إلى إعلان «الغياب» فيما قبل، ربما كان أبعد من ذلك بكثير.

قبل أن نقف عند «الثورة الفكرية» التي بلورها بلانشو في كتابيه المؤسِّسين: الفضاء الأدبي (1955م)، وكتاب المستقبل (1959م)، لا بأس أن نقف عند الدعائم الأساسية التي كانت تقوم عليها الدراسات الأدبية خلال النصف الأول من القرن الماضي نقدًا وتأريخًا: معروف أن الشكل الرسمي الذي اتخذه «تأريخ الأدب» كتابةً وتدريسًا هو ذلك الذي أرسى دعائمه غوستاف لانسون عند نهاية القرن التاسع عشر، والذي ظل يهيمن على الجامعة الفرنسية خلال عقود، مكرّسًا تفسيرًا للأعمال الأدبية بوصفها تعبيرًا عن مؤلفيها؛ لذا كان يكفي الوقوف عند مقاصد المؤلفين، ومعرفة ما يجول بخواطرهم، وما يدور بخلدهم؛ كي تتضح معاني تلك الأعمال. بلوغ مقصد المؤلف وإدراك نواياه كفيل بأن يجعلنا نقف على معنى العمل. ولن يكون النقد الأدبي حينئذ إلا دراسة لـ«الرجل وأعماله».

لم يكن هدف بلانشو ليقتصر على إعادة النظر في هذه الكيفية التي يتم وفقها النقد ويُؤرخ بها للأدب، وإنما كان يرمي إلى الكشف عن الفلسفة الثاوية خلف الكتابة الأدبية بهدف إعادة النظر في الأسس الأنطلوجية التي تقوم عليها نظرية الكتابة. وقد أدى به ذلك إلى خلخلة النظرة السائدة عن العمل الأدبي، تلك النظرة التي كانت تُعلي من «ذاتية» المؤلف، وتؤكد سلطته على النص، مع ما يصاحب ذلك من إلحاح على الطابع التعبيري للكتابة. صحيح أن هناك من كان قد مهد الطريق لهذا النوع من إعادة النظر، فقام ضد المفهوم السيكولوجي الذي يرجع العمل الأدبي إلى الأحوال النفسية لصاحبه، ويكفي أن نذكّر هنا بما سبق لـ«ت.س. إليوت» أن أشار إليه عندما كتب أن «الأدب ليس تعبيرًا عن الشخص، بل هو هروب وانفلات»، إلا أن بلانشو لا يكتفي بالتأكيد على هذا الطابع اللاشخصي للكتابة، وإضفاء طابع «الحياد» عليها، وإنما يذهب أبعد من ذلك ليضع محلّ المؤلف، كمبدأ إبداع العمل الأدبي وتفسيره، اللغةَ بما تتسم به من طابع لا شخصي، ملبّيًا دعوة مالارميه إلى «انسحاب صوت الشاعر، لإفساح المجال للكلمات».

بلانشو وحصة النار

لا داعي إذًا لأن يولي النقد الأدبي عنايته لما يدور بخلد المؤلف، ما دام العمل سينحل إلى لغة، أي إلى منظومات من العلامات لا تكترث بالذات المتكلمة. كتب بلانشو في حصة النار: «نستخلص من الملاحظات السابقة حول اللغة نقطًا أساسية لعل أهمها هي الخاصية اللاشخصية للغة، ووجودها المستقل المطلق الذي تحدّث عنه مالارميه. فهذه اللغة، لا تفترض أي شخص يتكلمها، ولا أيّ شخص يسمعها: إنها تكلّم ذاتها وتكتب نفسَها. وذلك هو شرط سيادتها. والكتاب هو رمز هذا الوجود المستقل. إنه يتجاوزنا ولا حول لنا ولا قوة أمامه. وإذا كانت اللغة تنعزل عن الإنسان وتعزله عن الأشياء، إذا لم تعد فعل شخص يتكلم تجاه من يسمعه، فهِمنا لماذا غدت، بالنسبة لمن يتمثلها على هذا النحو، قوة سحرية. إنها نوع من الوعي من غير ذات، انفصل عن الكائن، وغدا هو نفسه انفصالًا ونفيًا وقدرةً لا متناهية على خلق الفراغ».

لن ندرك قيمة هذا الكلام وأهميته التاريخية إلا إذا وقفنا على ميزة السبق التي يتمتع بها والتي ستمكّنه من أن يكون تمهيدًا لكل المواقف البنيوية. وبالفعل، لن يعمل شيوخ البنيوية الفرنسية فيما بعد إلا على تأكيد هذا الموقف من اللغة. وهكذا فنحن نقرأ على سبيل المثال عند ليفي ستروس، محرفًا عبارة باسكال «للقلب من الحجج والأسباب ما لا يملكه العقل»: «إن اللغة عقل إنساني له حججه وقواعده التي لا يعرفها الإنسان».

يقوم هذا الموقف البنيوي من اللغة على دعائم ثلاث:

أولًا- اللغة منظومة من الاختلافات، بدون حدود مطلقة. والمسافة بين الوحدات الصوتية هي واقع اللسان الذي يغدو بفعل ذلك من غير مادة جوهرية، لا طبيعية ولا ذهنية.

ثانيًا- لا تتوقف الشفرة المتحكمة في المنظومات على الذات المتكلمة، وإنما هي بالأحرى اللاشعور المقولي الذي يسمح بممارسة الكلام من طرف أولئك الذين يستعملون اللسان.

ثالثًا- الدال نفسه يتكون من اختلافات، ولا يستدعي الدال أي علاقة خارجية.

لذا فإن اللغة، والحالة هذه، منظومة بلا «حدود» ولا «ذات» ولا «أشياء». والذات مفعول للغة، وليست فاعلًا متحكمًا فيها.

ستغدو الكتابة، كما سيقول بارت فيما بعد «هي ذلك المحايد، وتلك اللامباشرة التي تنفلت عبرها ذاتيتنا. إنها البياض والسواد اللذان تضيع فيهما هوياتنا، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب». سيخلي المؤلف إذًا المكان للكتابة و«النصّ»، وسيترك المجالَ للناسخ الذي لن تتعدى «ذاتيته» «الفاعل» بالمعنى النحوي واللغوي للكلمة، وليس مطلقًا بالمعنى الأنطلوجي من حيث هو الحامل المؤسس. بل إن هناك من سيقول فيما بعد: إن المؤلف ليس إلا كائنًا من ورق، وهو ليس مطلقًا ذلك الشخص الذي يتحكم في لعبة الكتابة؛ يهيمن على معانيها، ويتحكم في دلالاتها.

وهكذا سيتضح إلى أيّ مدى قد شكل الوقوف عند «تراجم الأدباء» عائقًا معرفيًّا في الدراسات الأدبية؛ لذا فبدلًا من أن تنكبّ تلك الدراسات على الأدباء والشعراء وما يقصدون إليه، سيتحول الاهتمام إلى دراسة الشعر والأدب، أو الأدبية على الأصح.

على هذا النحو سينتقل النقد من المرمى التفسيري الذي يسعى إلى بلوغ مقاصد المؤلف ونواياه إلى المرمى التأويلي الذي يروم قراءة النص لتقصي معانيه. نقرأ في كتاب الفضاء الأدبي: «كل قراءة هي نوع من الخصام الذي يقضي على المؤلف؛ كي يضع العمل الأدبي أمام حضوره النكرة، أمام ما هو عليه من إثبات للذات عنيف ولا شخصي». ولن تتوخى القراءة بلوغ المقاصد والنوايا، وإنما ستنغمس بين ثنايا النص بحثًا عن القوى المطموسة في غياهب النسيان، وسعيًا وراء تلك اللغة التي تسبق الذات وتفعل خارج كل رقابة شعورية. وهكذا سيغدو «غياب المؤلف» مجرد شكل من الأشكال التي يتخذها تقويض الكوجيتو في الفكر المعاصر.

لم يكتف م. بلانشو إذًا بإعادة النظر في مفهوم الكتابة، وإنما أسهم من زاوية الأدب في إقامة أسس «كوجيتو معاصر» يطرح على الفكر، وليس على نظرية الأدب وحدها، أسئلة من نوع جديد. ولعل أهمها تلك التي صاغها م. فوكو في عبارة مركزة عندما كتب: «ماذا يتعين علي أنا الذي أفكر وأشكل تفكيري، لكي أكون ذلك الذي لا أفكر فيه، ولكي يكون تفكيري غير ما أنا عليه».