حكايات طبيعية

حكايات طبيعية

إلى شيماء بن خدة

في «حكايات طبيعية» (Histoires naturelles)، يتحول الكاتب «جيل رونار» Jules Renard إلى «صائد صور»: صور طبيعية، صور جديدة؛ في شباك عينيه المفتوحتين تنحبس الحيوانات (عنزة، فراشة، فأرة، عظاية، إلخ…) في حركاتها، في ذبذباتها البراقة.

إن الأسلوب الذي تصور به هذه الحيوانات يصغر أحيانًا، يتقلص من ورقة سردية إلى مجرد جملة…، (مثال: هذه الورقة الناعمة المطوية بتناسق تبحث عن عنوان زهرة)، وهو ما دفع بعض الدارسين كـ«فرانك بوير» Frank Bauer و«مايومي أوزيكي» Mayumi Ozeki إلى التساؤل عن علاقة «جيل رونار» في حكاياته الطبيعية بالتأثيرات اليابانية (الهايكو خاصة) ولم يسبق أن نشرت هذه النصوص القصيرة في منبر آخر (ورقيًّا أو إلكترونيًّا).

النـمـل

كل نملة تشبه الرقم 3.

!الكثير منها! وهناك الكثير منها

العدد منها 33333333333333333 (…) إلى ما لا نهاية.

الفراشة

هذه الورقة الناعمة المطوية بتناسق تبحث عن عنوان زهرة.

العظاية

تنسحب بمرونة من على الصخرة المشقوقة التي أستند إليها. تتسلق كتفي. تعتقد أنني امتداد للجدار لأنني جامد في مكاني، ولأنني ألبس سترة رمادية اللون.

مع ذلك الأمر يدغدغني.

-لا أدري ما الارتعاش الذي عبر ظهري؟ (سأل الحائط).

-أنا العظاية. (أجابت).

القط

(1)

قطي لا يقتات على الفئران؛ إنه لا يحبها. وإن حدث أن أمسك بواحدة، فلمجرد اللهو بها. وما أن يتم لعبه حتى يعفو عنها، وينسحب، البريء، إلى ركن ما ليحلم. وجالسًا مكومًا على ذيله، تبدو رأسه المدورة كقبضة اليد.

لكن بسبب مخالبه، ماتت الفأرة.

(2)

كم من مرة قلنا له: «خذ الفئران، واترك العصافير».

إنها مسألة مهارة، والقط الأكثر براعة يخطئ أحيانًا.

الصرار

أسود ولزج كثقب قفل.

العظاية الخضراء

احذروا الصباغة!

العنزة

لا أحد يقرأ ورقة السجل الرسمي الملصقة على حائط البلدية.

العـــنزة، نعم.

تنتصب على قائمتيها الخلفيتين، تضع الأماميتين على أسفل الملصق، تهز قرنيها ولحيتها، وتنقل رأسها ذات اليمين وذات الشمال، كما تفعل سيدة عجوز في أثناء المطالعة.

وهي تنهي قراءتها، رائحة اللصاق الطرية تدغدغ أنفها، فتلتهم الورقة.

لا شيء يتخلى عنه في البلدية.

    

الدودة المضيئة

(1)

ماذا يجري؟ إنها التاسعة ليلًا وما زالت تضيء؟

(2)

إنها قطــرة من القمر فوق العشب.

    

الفأرة

فيما كنت أكتب كالمعتاد، على ضوء المصباح، سمعت صوتًا خفيفًا. ما أن أتوقف حتى يختفي. ثم يعاود، بمجرد أن أكشط الورق. إنها فأرة تتنشط. كلما وضعت ريشتي، يزعجها هذا الهدوء. وكلما عاودت الكتابة، تعتقد -ربما- بوجود فأرة أخرى في مكان ما، وتعاود الاطمئنان. بعد ذلك لم أعد أراها. هي الآن تحت طاولتي، بين ساقي. تنتقل من ركيزة الكرسي إلى أخرى. تلامس قبقابي، تعضعض الخشب، أو بجسارة، تتقافز فوقه. يجب علي ألا أحرك ساقي، أو أتنفس زيادة، وإلا انسلت هاربة. لكن عليَّ مواصلة الكتابة، وخوفًا من أن تتركني لهموحدتي، انغمست في خط علامات، وخربشات دقيقة جدًّا، كما صوت القضم الذي تمارسه.

صائد الصور

ينهض باكرًا، ولا يغادر منزله إلا وهو صافي الذهن، سليم الطوية، خفيف الجسد كقميص صيفي. لا يأخذ معه زادًا. في طريقه، يتنسم الهواء العليل، ويتشمم الروائح الزكية. يترك أسلحته في منزله ويكتفي بعينيه المفتوحتين. عيناه شِبَاك تنحبس فيهما الصور من تلقاء نفسها. أولى سجيناته صورة طريق تكشف عظامه عن أحجار صقيلة، وأخاديده عن عروق مغروزة بين سياجيْنِ من أغصان أشجار البرقوق الشائكة والتوت البري. من بعد يمسك بصورة نهر، الذي يبيض حتى عقفاته، وينام تحت مداعبة أغصان السُّوحَر المتدلِّية. النهر يلمع ماؤه كلما انقلبت سمكة على بطنها، كمن يلقي قطعة فضية، وما Bن يتساقط الرذاذ، حتى يرتجف مسطحه المائي. يأخذ صورة حقول القمح المتموجة، والبرسيم الشهي والمراعي المكتنفة بالجداول. وفي طريقه، يحجز تحليق قُبَّرَة أو حسُّون.  بعد ذلك يدخل الغابة. لم يكن يدري أنه بمثل هذه الحواس الرهيفة. بمجرد تشبعه بالعطور، لم يفوِّت أية ضجة مخنوقة، وليتواصل مع الأشجار، توحدت أعصابه بتعاريق الأوراق. سريعًا، ومتأثرًا إلى حد الانزعاج بما قد جباه بإفراط، بدأت خواطره تغلي، ويتملكه الخوف، فغادر الغابة، وتابع، من بعيد، عودة مجموعة من العمال إلى قريتهم في الخارج، حدَّق برهة وبصعوبة في الشمس وهي تغيب، وتخلع على الأفق ثيابها المضيئة، وسحبها المنتشرة هنا وهناك.

أخيرًا، وهو في منزله، الرأس مترعة، أطفأ المصباح، وطويلًا، قبل أن يداعب الكرى جفنيه، لذَّ له أن يُعدِّد صوره. وديعة، تنبثق ثانيةً تحت رحمة الذكرى. كل واحدة منها تنشط الأخرى، وبلا فتور، يتسع سربها المومض بقادمات جديدة كحجلات مطاردة ومقسَّمة طيلة النهار، وليلًا، وفي مأمن من الخطر، تشدو وتتذكر في مقعرات الأخاديد.

– «جيل رونار» كاتب ومسرحي من فرنسا ( 1868-1910م). ألَّف العديد من الروايات والمسرحيات واليوميات والقصص القصيرة. خالط الأوساط الثقافية الفرنسية، وساهم بكتاباته في العديد من الصحف الباريسية الكبرى. أهَّلته أعماله المتميزة لدخول أكاديمية غونكور عام 1907م.

– من أعماله الأدبية: «المتطفل» (1891م)، و«يوميات» (1887-1910م)، و«حكايات طبيعية» (1894م)، و«محادثات» (1910م). النصوص المترجمة هي جزء من كتاب «حكايات طبيعية» (1894م).  للاطلاع على الأصل الفرنسي لهذه النصوص:

http://beq.ebooksgratuits.com

قصص قصيرة جدًّا جان لوي بلان

قصص قصيرة جدًّا جان لوي بلان

مسكينة هي فئران مختبر NRPB بمدينة سيدني الأسترالية؛ إذ أصبحت تتغوط بمعدل مرتين أكثر من الفئران المماثلة لها منذ أن تم إرغامها يوميًّا على سماع 45 دقيقة من الأصوات الصادرة عن الهواتف النقالة.

♦♦♦

الآنسة «ماري س» الواقفة على درابزين شيب كنال بريدج بسياتل، كانت تهدد بإلقاء نفسها من علٍ. رجال الشرطة، رجال الإطفاء، القنطرة المغلقة، عرقلة السير، قلة صبر سائقي السيارات انتهوا إلى حث اليائسة على القفز. وهو ما قامت به بالفعل.

♦♦♦

كان السيد «مرتان»، من ساكني غرونوبل، يتسكع على سكة الترامواي المهملة من طرف عمال الترام المضربين. نهاية مفاجئة للإضراب، مرت قاطرة غير منتظرة؛ لن يكون بمستطاع السيد «مرتان» المشي سوى برجل واحدة.

♦♦♦

وهو يترنح من الفرح بعد رأي جماعي لأطبائه أعلنوا فيه شفاءه التام من المرض المرعب الذي أصابه. غادر السيد «فيليكس» المستشفى وثبًا. لكن سرعان ما عاد إليه؛ لعدم انتباهه إلى القدوم المباغت للحافلة رقم 31.