تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)

تراثنا ليس لنا (نذير الماجد)

نذير-الماجد

نذير الماجد

كم من الشعر مدفون تحت ركام اللغات؟ العطش قدر الكائن الجمالي، كأن عليه لكي يقبض على الجوهر الشعري أن يتقن لغات العالم. في كل لغة يختبئ جوهر شعري، والمهمة الأساسية تكمن في اكتشافه. اكتشف هيدغر جوهرًا شعريًّا في لغة غير لغته، فعمل على استدعاء الشعرية الإغريقية لتدشين فلسفة حديثة. الإغريق هم الأسلاف الطبيعيون للفلسفة المعاصرة. التراث الإغريقي هو تراث الغرب الذي كان وراء نهوضه من سباته الطويل. في كل تراث ثمة مادة لا تنفد ولا تشيخ، من يعمل على اكتشافها في تراثنا العربي؟ من يتجشم عناء هذه المهمة الشاقة التي تراوح مكانها مشكّلةً صداعًا ثقافيًّا مزمنًا؟ سؤال إشكالي له مذاق الهزيمة وتبجح الآخر، فتراثنا ليس لنا. لم نحسن القراءة. مهمة اكتشاف الذات لم تستكمل. تشوه التراث باختزال مزدوج: اختزال الذات واختزال المركزية الغربية. استبطنت الذات العربية الصورة الدونية التي رسمتها المركزية الغربية فصارت تمتهن ذاتها التراثية، ينبغي هنا استحضار إدوارد سعيد.. كل صيحة تحديثية موشومة بالغرب. أصبحت الدعوة إلى الموسيقا والشعر وحرية القول والفلسفة وفن الحياة دعوة تغريبية. قصائد النثر والسرد منتجات غربية، الغرب علمنا ذلك ولا بد من الاعتراف بتفوقه أو باغترابنا. الغرب! ذلك النعت الذي يجلب البركة أو اللعنة.

ثمة استعادة للتراث لكن على نحو أحادي وبنكهة دينية، أصبح التراث رديفًا للتراث الديني، ابتلع الجزء الكل. شُطِب مكونه الشعري الأعم من القصائد وأغراض المديح أو الهجاء أو المهاترات القبلية، اختفت هرطقات الفلسفة وضلالاتها، وسُحق وجه الثقافة الشعبي ليظل الوجه الرسمي المعتمد كجوهر أزلي أو شاهدة قبر. إنه تراث ممزق عانى كثيرًا من خطايا أبنائه، تراث لم يعد تراثًا بصيغة الجمع.

لولا هذا الاستشراق

مارسيل بروست

مارسيل بروست

غارسيا ماركيز

غارسيا ماركيز

أليس من السخرية أن تحقيق النصوص الأكثر نبوغًا قام به الاستشراق نفسه الذي أدانه محقًّا إدوارد سعيد؟ غيبوبة الذات من جهة والتثبيت الغربي لشرق رومانسي حالم حينًا، وديني أصولي حينًا آخر جعل من التراث الحي جثة هامدة. لم نكن نعرف -مع ذلك- التصوف و«ألف ليلة وليلة» وكل النصوص المهمشة لولا هذا الاستشراق. كان يحفر ويستخرج الكنوز فيما نحن غارقون في تفاهات الماضي وتمثلاته الثيولوجية، في سذاجات الحقيقة الأحادية ونرجسية الطائفة. هذا الانشغال أجهز على تعددية التراث. «ألف ليلة وليلة» الذي تشكل واستقر قرونًا هو نص محرم ومحكوم بالإدانة. تخدش الليالي نقاء الصورة المتخيلة للذات. الليالي محض هراء وتفاهة. تحاط الليالي بنظرة ازدرائية. كل نتاج ذاتي محتقر. لا تليق بنا الليالي، شغلتنا عنها مماحكات المِلَل والنِّحل. ليس بمقدورنا اكتشاف الشعرية في ألف ليلة وليلة. هي غريبة في بيتها، عليها انتظار عبقرية أجنبية لكي تعود. قرأ ماركيز «ألف ليلة وليلة» فكانت قراءة العمر. اكتشف حكايات شهرزاد فاكتشف ذاته. القراءة كانت لها «قوة الحدث». ما بعد الكتاب ليس كما قبله. يقال: إن الشيء نفسه حصل مع بروست صاحب «البحث عن الزمن المفقود». الليالي ألهمت كثيرين قبل عودتها. بالمناسبة هل ما زالت مدانة في محاكم مصر؟ كم ماركيز وكم بروست نحتاج لكي تكرم الليالي في بيتها ويعود السندباد البحري من سفره الطويل؟

العودة تعني الاحتفاء مجددًا وإعادة الاكتشاف. العودة ليست نستولوجيا إنما خروج من وضعية الاغتراب. ليست المسألة حنينًا لهوية مفقودة. تكمن المسألة في وعي الذات بضرورة المشاركة في بناء الكوني، يبنى الكوني في الوقت الذي تتقوم فيه الخصوصيات. لا يتعلق الأمر بقطيعة مع الكوني أو الدخيل أو الآخر. على العكس، يتعلق الأمر بحوار داخل الكوني ومعه. ينبغي الحوار مع الآخر، لكن أيضًا مع الذات نفسها. مع الذات في ماضيها عبر إعادة الاكتشاف الدائم لعبقريتها الماثلة في الشعر. تبيت الكينونة في الشعر. والشعر هو الكنز المنثور والمخبوء في التراث. ينبغي البحث عنه واكتشافه عبر إقامة الحوار ليس مع الثقافة الرسمية بل عبر المقموع فيها. الحوار مع المهمش في هذه الثقافة، مع الشعبي، الضاحك، الخرافي، مع المقامة التي احتقرها محمد عبده وشطبها وهو الإصلاحي الكبير. المطلوب إعادة استنتطاق هذا الموروث، استنتطاقًا أبديًّا ودائمًا ومستمرًّا. تتحول الذات ويتحول معها الموروث. تعريف الموروث هو نفسه عمل متحول ومفتوح. تهرب التعريفات وتنسحب، وليس النقد بصفته فنًّا ضد الفن أو معه إلا محاولة دائبة للإمساك بالتعريفات الهاربة كما قال يوما كونديرا.

في هذا السياق تُفهم أعمال عبدالفتاح كيليطو الناقد الأدبي والقارئ الحداثي للتراث، وهو المقتفي خُطا باختين وتودوروف، وبخاصة في قراءة النص المهمش، لا ننسى أن روسيا المنحدر منها باختين كانت مهجوسة هي الأخرى بهويتها السلافية، كانت مسكونة برعب الآخر الغربي. من الواضح أن عبدالفتاح كيليطو مشغول بردم الهوة، تسكنه هواجس التجسير، ضرورة الحوار ليس مع الآخر، بل مع الذات نفسها قبل ذلك، مع الذات الكلاسيكية والتراثية. يلح كيليطو على إعادة قراءة التراث والحوار معه وترجمته ليكون معاصرًا وحديثًا. المطلوب قراءة معاصرة للتراث لإنجاز وعد مصالحته مع الحداثة.. والحداثة هي هكذا: «مادة تقليدية مستعملة في منظور جديد». لكن جهده النقدي تركز حول فن المقامة. عد المقامة سلف الرواية العربية والأب الشرعي للسرد العربي المعاصر تمامًا مثلما عد أدونيس نصوص النفري قصائد نثر مبكرة.

المقامة وانتهاك القاعدة

محمد عبده

محمد عبده

إنها والله مقامة!.. المقامة خطاب في مجلس، ما يعني وفرة الأصوات وتشابكها وتداخلها وتقاطعها، المقامة خطاب روائي بالمعنى الذي عناه باختين، هناك إذن تعددية في الأصوات: صوت العقل إلى جانب صوت الجنون.. لكن في المقامة ومن ناحية الشكل تحديدًا تحتشد وفرة من الأنواع أيضًا، الشعر إلى جانب النثر المسجوع غالبًا، المديح إلى جانب الهجاء. هي مثل الرواية شكل هجين بلا أب، كتابة حديثة تائهة في القرن الرابع الهجري. غير أنها شكل يقبل المحتوى ونقيضه. ففي المقامة يوجد الرسمي والشعبي، المعتمد والمهمش، الهزلي والجاد، القاعدة وانتهاكها. الجهد الشكلاني والبنيوي الثقافي الذي بذله كيليطو بحاجة إلى من يستكمله بترجمة معاصرة لمنطوق المقامة وجملتها التأويلية التي لا تختزل بحسب تعبير «بول ريكور». المقامة كالتراث متعددة، يمكن القول: إن المقامات تختصر التراث، وإن الأخير كله مقامة. تتنازع الكلمة استعمالات متشابكة، المقامة شكل أدبي لبنية سردية، لكننا نلحظ أيضًا أن مفردات كالقيامة والمقام تستمد أيضًا من الجذر نفسه، المقام عند المتصوفة رتبة وجودية في حين أن المقامة فسحة وجودية أو كرنفال، أما القيامة بمفهومها الخلاصي فتمثل أمامنا بمعنى العودة لكن في حلة جديدة. تعني قيامة المخلص عودته المكللة بالمجد. بهذا المعنى يمكننا استعادة التراث: أن يقرأ مجددًا، أن يخضع للنقد، والنقد تعليم فن القراءة كما يقول الإستطيقي الإيطالي كروشته.

كان أبو الفتح الإسكندراني يتنكر في كل مقامة تحت قناع، إلى أن يقوم الراوي «عيسى بن هشام» بفضحه بشيء من الدهشة والمرح. مع كل مقامة – وأنا هنا أخص مقامات الهمذاني- يتكرر هذا الاكتشاف المدهش في صورة لازمة: «إنه والله أبو الفتح الإسكندراني». الفضيحة تختتم المقامة، أما قراءة التراث فتبدأ بها. ثمة من ينتظر خلع أقنعته العديدة ليدهشنا نحن أيضًا بلازمة تتكرر: إنه والله تراث، إنها والله مقامة.

الرحيل

الرحيل

لم يبق لي مقام هنا.

أصبح التراب المطيع نثار بارود تحت قدمي. الأكف التي حملت جمرات «مداعتي»

تتمرد على حرقة الخزي ولسعة الهوان. أرى في عيونهم الشماتة تنطق بلغة مبينة. انزاحت سحابات الانكسار من الحدقات الذليلة.. الزنود التابعة التي  بخلت على الأرض بدوس قدمي استطالت فوق رأسي حتى أصبحتُ قزمًا أمامها. أنا الآن لا شيء بعد أن كنت كل شيء. أتذكر عندما دعيت… كانت الدعوة فاتحة تقزمي… خرجت من بحري الأليف. كانت الأمواج تعزف لحنًا متشفيًا، كانت تغني بحماس… كنت أسمعها رصاصات مدوية في أذني.  مت غريبًا مثلما غربتني. استمرت الأمواج  تصفع مركبي… أحس  صفعاتها على وجهي نارًا… أطعمها علقمًا في حلقي.

قلت لنفسي: في زمن الصراعات يجب أن تحسن الاختيار… مسكين أنا. اخترت… لكني سرت في درب أسلمني إلى زرب من الأسئلة. كانت العيون اللاهبة تحرق كبريائي فأتقشر أمامهم.  رائحة احتراق سطوتي أشمها نفاذة.. نفس رائحة الأكف التي كانت تحمل  جمر مداعتي.

قلت في نفسي « دارت الدائرة».

أسلمني السؤال إلى السؤال إلى السؤال إلى الحديد.. حتى صدئت.

صرت لا شيء بعد أن كنت كل شيء. وحين تيقنوا من حالتي تلك أطلقوني سجينًا في نفسي… مقيدًا بذلي. عدت منخورًا… كل من كان ترابيًّا صار وبائيًّا.. كل الوجوه التي تلذذت برؤية عذاباتها ها هي تنظر إليّ وعلى صفحاتها نضارة تعذبني. حتى الدار  التي أسكنها… الدار التي كانت حصني وعريني أصبحت شقوتي. زواياها التي شهدت نار عزي ها هي تروي حكايات ترمدي.

زوجتي الشامخة بي أعطت نفسها للصغار والصغيرات تغرسهم تحت شجرة التين الكبيرة في فناء الدار ترويهم بالآيات، وتنقش حناء الحروف الخضراء في أكف الذاكرات. زوجتي هي الأخرى أراها بلا بريق.. لا أدري هل طفئت أم انطفأت أنا؟

كل ما حولي باهت، بارد. شامت. الناس، حجارة المنزل، الأشجار في فناء الدار… تمرّ بها عيناي فلا أرى فيها شيئًا ما هذا؟ موت حي… أوه لم يعد لي مكان هنا. ابتلعت القرار الصعب. قدمت كأس قهوة الفراق لزوجتي… ذرفت دموعها في الكأس حتى فارت.

  قلت: اصبري إن أدهر النأي.

وسرت بلا زنود تحملني… كانت الطرقات تنبسط دهشة تحت قدمي حتى أسلمني استغرابها إلى الميناء.  وضعت فتات عزي في مركبي الكئيب وأبحرت… كانت الشواطئ تهتف بي بلغة  فصيحة: مت غريبًا مثلما غربتني.

من «جرأة الأمل» إلى خيبته: مقاربة ثقافية فيما آلت إليه «الأوبامية»

من «جرأة الأمل» إلى خيبته: مقاربة ثقافية فيما آلت إليه «الأوبامية»

hopeلمّا كتبت قبل ثمانية أعوام مقالة عن الظاهرة الأوبامية البازغة (نُشرتْ في كتابي: السيف والندى)، وهي في ذروة صعودها السياسي، كنت مفعمًا بالأمل حقًّا، وما أكتبه الآن عن الظاهرة في أفولها أجدني مفعمًا بالخيبة، خيبة الأمل ومرارته هي ما توسم به لا جرأته! فأوباما لم يكن متصفًا بالجرأة المأمولة طيلة أعوام حكمه الثمان، والجرأة التي أقصد: جرأة الفعل السياسي، وشجاعة قيادة العالم إلى ضفاف الأمل بالعيش الآمن والمستقر، والأكثر أهمية تأسيس براديغم جديد في الرؤية والمعرفة السياسية الكونية إزاء مشكلات وأزمات عالمنا المعاصر.

تأملنا منه أن يقترح هذه الرؤية الجديدة والإستراتيجية المغايرة، لكننا كما خبرنا من سنواته الثمان العجاف لم نكن أمام براديغم سياسي كوني جديد يضفي على التصور السياسي الأميركي العتيد أبعادًا إنسانية وأخلاقية مغايرة لما آلت إليه من توحش عولمي؛ بل كنّا أمام أوباما طائعًا وجبانًا خاضعًا لمواضعات الفكر الإستراتيجي المتجدد دومًا في صور تنكيله بمصائر الشعوب وثرواتها واستقرارها، ومستسلمًا تمامًا لخطوطه العريضة المرتبطة بالحفنة المالية والعسكرية المهيمنة وتحالفاتها.

ولا نعلم حتى الآن هل أحلام أوباما النبيلة المؤملة في عالم جديد خالٍ من القهر والتعسف وكبرياء القوة سحقت بلا إرادة منه؟

أم بإرادة رغبوية إدارية مشتركة ومتفق عليها تكتيكيًّا، أو أنها اصطدمت بقوة دفع التاريخ السياسي التقليدي الذي استوحش واستمرأ التوحش؟ هنا علينا ألا نبتعد عن حقيقة جذرية في المشهد السياسي الأميركي كما عبر عنه المفكر المصري المعروف سيد القمني في واحدة من تحليلاته بعد خطاب أوباما في القاهرة العام ٢٠٠9م، إذ قال ما معناه: «لا ننسى أن دور أوباما في المنظومة الإدارية الأميركية هو أحد الأدوار وليس كلها وأهمها؛ فهو لا يستطيع أن يخرج من قواعد التكتيك والإستراتيجية المؤسسية، ولا يكفي تأثيره بمفرده لتغيير قاعدة واحدة من قواعد اللعبة السياسية».

لكنني هنا أضيف أيضًا حقيقة أخرى عن هذه المنظومة الإستراتيجية العامة، فروح الفردية، وروح المغامرة والتحمّس للمبادرات الفردية المُضافة، والهوس بالتغيير ولو كان شكليًّا وإن كان مصدره فرديًّا يعد سمة أساسية في طبيعة ومكونات الثقافة الأمريكية، وعقلها السياسي القديم والمعاصر في آن.

pg

المزاج الأميركي

وهذه المعرفة التاريخية بالمزاج الأميركي هي ما جذبنا إلى هذه الظاهرة المغايرة: ظاهرة صعود زنجي إلى سدة الرئاسة لأول مرة. وهو ما جعلني أقول في السياق نفسه في مقالي السابق: «إن أوباما ليس إلا ابنًا للمؤسسة السياسية العتيدة، وليس ناقمًا عليها كما توهم بعضهم، وهو ليس منقذًا أو مخلّصًا مفترضًا للبشرية المعذبة جراء سياسات مؤسسته السياسية الخرقاء، بل هو ثمرة أنضجتها وأفرزتها ممارساتها المهيمنة عولميًّا من حيث لا تريد ولم تتوقع». إلى أن قلت في آخر السطر: «يخلق انتخاب أوباما جملةً من الحقائق والوقائع المستقبلية المتخيلة في تصوري، فهذا الانتخاب الاستثنائي ليس إلا حركة ضمير مستترة للمخيلة الأميركية الجامحة والجريحة، المتعبة والمبدعة في آن».

لنسأل الآن: ما الذي تكشّف لنا بعد هذه السنوات العجاف من حكم أوباما لأكبر دولة رأسمالية مؤثرة في العالم؟ في التحليل الثقافي يمكنني القول بدءًا: تكشفت زعامته ككاريزما خطابية مفوّهة ليس أبعد، على المستوى الشخصي للرجل، الرجل يمتلك ملكات الكلام الهادئ الرصين، وهي ميزة يحسد عليها، ولا يمتلك ملكات الأثر الكوني خلافًا لمن كان قبله الذي امتلك المؤثر الفاعل، وأقصد بوش الصغير الذي تميز بفعله التدميري الوحشي، ولم يتميز برصانة القول وذكاء الكلمة المهذبة.

بمعنى أن قوة خطاب أوباما لم توازها على الأرض قوة الفعل! من القول إلى الفعل كانت هناك فجوة هائلة من الاضطراب الذهني، والتشوش الإستراتيجي، صراع فردي نفسي وفكري واجتماعي عاشته الأوبامية من مستوى الخطاب إلى مستوى الضرورة الفعلية الممكنة، في وجُود طبقة سياسية وطغمة مالية حاكمة في الخفاء وغير رحيمة، تعمل من وراء كواليس المسرح السياسي، وتحيك التآمرات والأحابيل، وتضع العراقيل.

أوباما في نظري لم يُجِد استخدام ثقافته الإنسانية المرموقة كما انطوى عليه خطابه السياسي، أو هو لم يُرِد الاصطدام بثقافة الواقعية السياسية الرائجة تاريخيًّا التي اصطبغت بالاستعلاء العولمي، وتفشت فيها روح الهيمنة وشهوة الاحتواء، وفعلًا تكشّف الرجل جزءًا أصيلًا من منظومة ونسيج الطبقة السياسية المسيطرة، فاستسلم خياله السياسي الخلاق المغاير لأحابيلها، وأعطبه الأفق المحاصِر للرؤية قصيرة النظر والمترددة التي اتّبعها في معالجاته السياسية لأزمات المنطقة العربية ومشكلات العالم.

الوجه التطهري

مجيء أوباما من قلب الأقلية السوداء المقهورة تاريخيًّا في أرض أميركا، إنما كان يمثل الوجه الآخر المختفي في السياسة الأميركية، الوجه التطهري المبدئي، وجه التسامح والحريّة والمساواة، فكما هو معروف فللسياسة الأميركية وجهان: وجه يمثل القوة الطاغية المتفردة ماليًّا وطبقيًّا، ووجه آخر يمثل القوة / الظل.. أقليات وأعراق مظلومة، وحركات تحررٍ عرقية، وحسب ما يرى المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد فإن للمجتمع الأميركي أيضًا وجهًا آخر مغايرًا لما هو ظاهر في سياسات الطبقة الحاكمة، ولمعرفة هذا الوجه في حقيقته الوجودية يصبح من الملحّ معرفة الديناميات الداخلية لتشكل هذه السمات الأخرى الفاعلة في حركيّة المجتمع الأمريكي المعاصر، الذي هو بوتقة انصهارٍ لمتناقضاتٍ عدة، مجتمع عجيب بتعقيداته البنيوية، ومفعم بتياراته الاجتماعية والسياسية المعاكسة والبديلة والمنتظرة (هناك خزان من خياراتٍ وتنوعاتٍ حاكمة ولا تحكم)، تفرضها البنية المتجددة لمنظومة الفكر الإستراتيجي، ويلجأ إليها الوعي الجمعي المأزوم في لحظة تاريخية طارئة، غير أن الطبقة السياسية الطاغية والمعاندة كثيرًا ما تختزل هذه التيارات لمصلحتها ووفق سياقات أهدافها الآنية، وكثيرًا ما تحولها إلى شعاراتٍ تبسيطية مسطحة، مفرغةً إياها من وعودها ومضموناتها الاجتماعية النقيضة.

فالدينامية الداخلية التي حدثنا عنها إدوارد سعيد في بعض أفكاره النيرة عنى بها معرفة طبيعة مواقف الإنسان الأميركي اليومية والمتحولة؛ فهو معزول جغرافيًّا، ومهموم بالأساس بحاجاته الشخصية الصغيرة وقضاياه الشديدة في محليتها. هذه الدينامية النفسية العجيبة هي في ظني التي وقع أوباما في أحابيلها، ولم يستطع خروجًا من حصارها، فكان بالنسبة له هذا الخروج المغامر من هذا الطوق الاجتماعي بمثابة قفزة في الفراغ التاريخي!

فعندما بشّر بنموذج أميركي ذي نزعة إنسانية حال ترشحه في ٢٠٠٨م، فقد مصداقيته القولية بعد سنواتٍ قليلة، فاستعاد هذا النموذج المتخيّل والمقترح وجهه الحقيقي، وجهه الأصيل القبيح بقوة دفع هيمنة الطبقة السياسية المتكونة من ملاك المال، وملاك المآل الكوني، وأقصد الطبقة الحاكمة المأزومة التي كان همها الخروج من مأزقها الاقتصادي الطارئ الذي كاد يودي بأسس إمبراطوريتها الكونية، فلجأت إلى صورتها الأخرى، وقد وجدتها ناضجة في ملامح الظاهرة الأوبامية المغرية!

الضرورة التاريخية الضاحكة كانت ترى في صعود هذه الظاهرة البديلة ليس دلالة تحولٍ بنيوي؛ بل مخرجًا افتراضيًّا من مرحلة البوشية المتوحشة وما قبلها، البوشية التي أغرقت صورة الإمبراطورية المضمحلة في وحل المشكلات العالمية التي صارت عبئًا أكثر تهديدًا للنموذج الأميركي – المثال التاريخي الرأسمالي الكوني للهيمنة.

ركوب التاريخ الجريح

وهكذا تم اكتشاف أن انتخاب أوباما ممثلًا للطبقة الوسطى الطامحة للوجود السياسي، الطبقة المتعلمة والمتحررة، سليلة الفكر التحرري والإنساني، ليس في نهاية المطاف إلا إحدى المغامرات السياسية الأميركية المعروفة بقدرتها الجموح على ركوب التاريخ الجريح، والقفز منه إلى تاريخٍ متجددٍ يعاود السيطرة، ويجدد الهيمنة من بعد المأزق التركيبي السياسي الاقتصادي الذي اجتاح صورة الحلم السياسي الأمريكي في أقسى استبداديته ومحوريته الكونية.

إن بزوغ الظاهرة الترامبية الجديدة الآن بما تنطوي عليه من شوفينية وعنصرية وتمركز مالي طبقي، ليس إلا دليلًا على صلف منطق القوة والاستعلاء الفردي. وهو دليل على منطق المغامرة ذاته، ومعاودة منطق المقامرة في الدينامية الداخلية المضطربة في الفكر السياسي الأميركي المعاصر. ما سبق قوله عن الدينامية الداخلية المستترة يقودني للقول بشكلٍ غير ظني، إن التفكير المزدوج لأوباما هو الذي أوقعه طيلة سنوات حلمه السياسي المتعثر في إخفاقات جمة على المستوى السياسي الخارجي، وإخفاقات اقتصادية نسبية على المستوى الاجتماعي الداخلي.

وعوده السياسية المتركزة في ثيمته الشعارية المغوية: «التغيير» التي سيطرت على حملته الانتخابية لم تصمد طويلًا أمام حقائق وبنيات هذا التفكير والوعي المزدوج، معانيًا منه بين شدٍ وجذب في مدى رؤيته الكونية في حل المشكلات والأزمات المتراكمة. نكرر القول بأن أوباما كان مشدودًا إلى تاريخه القهري الأسود إذا جاز التعبير، غير أنه لم يكن منفلتًا بشكلٍ لا ينكره حصيف إلى رؤية الحلول من خلال منظور ذات الطبقة السياسية العتيدة.

‮«‬الأسود‮»‬‭ ‬والعقدة‭ ‬الثقافية

f-obamasiaرؤية الأسود عبر رؤية الأبيض لم تكن إلا عقدة ثقافية، ومشكلة نفسية تكرّست عبر السياق التاريخي للهيمنة الطبقية على الأقليات المظلومة، فالنغمة الأخلاقية الجهيرة التي طربنا لها نحن في عالمنا العربي في خطاباته السياسية اختلطت بنغماتٍ نشاز سيطر عليها قرع طبول الطبقة السياسية العتيدة والمتربصة. تلك الطبول الصاخبة كانت تصم أذنيه، وتشوّش وجدانه النقي المزدوج، وفكره ذا الملمح الإنساني الفردي المنكسر، دفنت تيارًا سياسيًّا ناهضًا كان بمكنته أن يحفر عميقًا في المجرى التاريخي للتفكير السياسي الإستراتيجي برمته، ويؤسس لرؤية سياسية جديدة.

وهكذا أيضًا تلمسنا أثر هذه النغمات الأخلاقية الخافتة في مواقف سياسية متذبذبة، وجدناها جلية واضحة في تراجعه وتقاعسه في الانحياز التاريخي الضدي لأحداث منطقتنا العربية، انحيازه الضدي لمنطق الثورة السورية، والثورة المصرية، ففي حالة الأولى تركها لمصيرها لتأخذ مداها في تأجيج الصراع الأهلي الداخلي، وإحداث التفكيك والتمزيق الجغرافي للدولة السورية امتثالًا لأهدافٍ مشتركة بعيدة في الإستراتيجية الأميركية وربيبتها إسرائيل، كبادئة لتمزيق الشرق العربي كله وتفكيكه، ومن ثمّ إعادة تشكيله.

أما في حالة الثورة المصرية فانتصر لها زيفًا في انحيازه المشبوه لصعود تيار الإسلام السياسي المتمثّل في الإخوان المسلمين، فيما كان يبدو له متسقًا مع الرؤية الإستراتيجية الأميركية المهيمنة، ومتسقًا مع منطقها الجديد في النأي عن خوض الحروب الخارجية المباشرة التي اقترفها كل من بوش الابن، ومن قبله بوش الأب. أما منطقه الاقتصادي الاجتماعي فقد تماسك وتماهى إلى حد كبير ونسبي مع رؤيته في جملة من الإصلاحات السطحية التي امتثلت لها الطبقة السياسية العتيدة على مضض، وهي الآن ما تؤول إليه، ونرى ملامح تراجعها إلى منطق التنكيل فيما لو فازت الترامبية البديلة!

لقد كان الخطاب السياسي لأوباما مهترئًا وغير ذي اتساق مع ما جاء به من تضمينات للبعد الإنساني الأخلاقي، وتم تفريغه من محتواه الثقافي، ومن هنا جاء حسمه لكثيرٍ من الأزمات الكونية باهتًا وزائفًا ومنتميًا بامتياز لأهداف النموذج الأميركي المهيمن ذي الطبيعة الإمبراطورية التي تروم خضوع الجغرافيا الأرضية لشهواتها.

فكرة تعارف الحضارات.. وكيف تطورت؟

فكرة تعارف الحضارات.. وكيف تطورت؟

في صيف 1997م نشرت مقالة موسعة في مجلة الكلمة بعنوان: «تعارف الحضارات»، وكان هذا أول إعلان عن هذه الفكرة بهذا النحت البياني، وبهذا الصك الاصطلاحي، وجاء انبثاق هذه الفكرة من حصيلة تأملات مستفيضة من جهة، ومن جهة أخرى من حصيلة متابعات متصلة ومتجددة لحقل الدراسات الحضارية.

واستندت في تكوين هذه الفكرة إلى أصل من القرآن الكريم، الذي هو الأصل الأول وأصل الأصول حسب قول علماء الأصول، وتحدد ذلك في الآية الكريمة التي سميتها آية التعارف الواردة في سورة الحجرات في قوله تعالى: }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا{ [الحجرات: 13].

وبعد الفحص والنظر في هذه الآية، وجدت أنها تضمنت الإشارة إلى مبادئ كلية وأبعاد إنسانية عامة، تضعنا أمام الأفق الإنساني الكلي الذي يتوجه فيه الخطاب إلى الناس كافة، والتعارف هو المفهوم الذي حاولت هذه الآية تحديده وتأكيده والنص عليه، من خلال سياق وخطاب يبرز قيمته بوصفه مفهومًا إنسانيًّا عامًّا يتصل بالناس كافة. وبمنطق التحليل، يمكن الكشف عن هذه المبادئ الإنسانية الكلية والعامة في الآية المذكورة على هذا النحو:

أولًا: خطاب إلى الناس كافة «يا أيها الناس»، سورة الحجرات هي من السور المدنية، الخطاب فيها متوجه من البداية إلى النهاية للمؤمنين بلسان «يا أيها الذين آمنوا»، لكنه تغير في هذه الآية وتحول الخطاب إلى الناس بلسان «يا أيها الناس»، وهذا تحول من الخاص إلى العام في مورد يقتضي تقديم العام على الخاص، بما يوحي إلى أن الآية بصدد الإشارة لمبادئ إنسانية كلية وعامة. ولو اتصل الخطاب في هذه الآية، واتجه حصرًا وتحديدًا إلى المؤمنين، لتغير سياق الآية وموردها، ولكان لها مورد غير المورد الذي نتحدث عنه، ونعني به مورد تعارف الحضارات.

وعند التوقف تجاه كلمة الناس لغةً وبلاغةً، نجد أن هذه الكلمة فيها عموم استغراقي لجنس الإنسان بغض النظر عن جميع صفاته العارضة، وهي من الكلمات التي لا تقبل التجزئة ولا التقابل ولا الإضافة ولا الحصر النوعي، فمن جهة التجزئة فإن كلمة الناس لا تتجزأ إلى مفرد وتثنية، بخلاف الحال مثلًا مع كلمة الشعب التي تقبل التجزئة، فيقال: شعب للمفرد، وشعبان للتثنية، وشعوب للجمع. ومن جهة التقابل، فكلمة الناس من الكلمات التي لا تقابل لها، بخلاف الحال مثلًا مع كلمة الجماهير التي تقابلها كلمة النخبة. ومن جهة الإضافة، فكلمة الناس كذلك لا تقبل الإضافة، بخلاف الحال مثلًا مع كلمة الأمة التي تقبل الإضافة، فيقال: الأمة العربية، والأمة الإسلامية، والأمة المصرية، والأمة الفرنسية، وهكذا.

ومن جهة الحصر النوعي، فكلمة الناس لا تنصرف إلى جانب الذكورة فحسب، ولا إلى جانب الأنوثة فحسب، فهي لا تتحدد بنوع معين. الأمر الذي يعني أن خطاب «يا أيها الناس»، هو خطاب متوجه إلى الناس كافة مستغرقًا عموم جنس الإنسان، ناظرًا لهم على تعدد وتنوع أعراقهم وألوانهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، ذكورهم وإناثهم، إلى غير ذلك من تمايزات أخرى.

لهذا كله يمكن اعتبار كلمة الناس، من المصطلحات القرآنية التي وردت وتواترت وتكررت في 53 سورة مكية ومدنية، طويلة وقصيرة، وتسمّت بها آخر سورة، وجاءت في موضع آخر كلمة في القرآن «من الجنة والناس»، حتى قيل: إن القرآن يبدأ بـ: بسم الله، وينتهي بكلمة الناس.

ثانيًا: تذكير بوحدة الأصل الإنساني «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى»، أراد القرآن بهذا القول أن يقرر أعظم حقيقة في مجال الاجتماع الإنساني، هي حقيقة وحدة الأصل الإنساني، وتعني أن الناس مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وأجناسهم، لغاتهم وألسنتهم، ألوانهم وأشكالهم، بيئاتهم وأمكنتهم إلى غير ذلك من اختلافات أخرى، مع ذلك فإنهم يرجعون إلى أصل إنساني واحد.

والقصد من هذا الأمر، ضرورة أن يدرك الناس هذه الحقيقة، ويتعاملوا معها كقاعدة إنسانية وأخلاقية في نظرتهم لأنفسهم، وفي نظرة كل أمة وحضارة إلى غيرها، كما لو أنهم ينتمون إلى أسرة إنسانية واحدة ممتدة على مساحة هذه الأرض، ويمثل هذا الأمر أقوى سبيل أخلاقي للتخلص من نزعات التعالي والعنصرية والطبقية والكراهية والتراتب بين البشر.

ماضي السلالات البشرية

وطالما شغلت قضية وحدة الأصل الإنساني اهتمامات العلماء قديمًا وحديثًا، واختلفوا حولها، وتعددت آراؤهم ونظرياتهم وتباينت، وذهبوا يفتشون عنها ويتحققون بدراسة تاريخ الأجناس والأعراق، وماضي السلالات البشرية، ووجدوا فرصتهم للتحقق منها بالعودة إلى ما عرف في أدبياتهم بالمجتمعات البدائية.

مع ذلك ظلت هذه القضية موضع جدل وشك في ساحة الفكر الإنساني، يصعب التسليم بها عند البعض، وهذا ما كشف عنه بوضوح كبير عالم الأنثربولوجيا الفرنسي كلود ليفي شترواس (1908-2009م) في كتابه الوجيز «العرق والتاريخ» الصادر سنة 1952م، بقوله: «نحن نعلم أن فكرة الإنسانية التي تشمل دون تمييز في العرق أو الحضارة كل أشكال النوع البشري، لم تظهر سوى متأخرة جدًّا، ولم تعرف إلا انتشارًا محدودًا، وحيث إنها وصلت إلى أعلى درجات تطورها، ليس مؤكدًا على الإطلاق والتاريخ القريب يثبت ذلك، أنها ترسخت بمنأى عن الالتباس والتقهقر، ولكن كان يبدو بالنسبة لقطاعات واسعة من الجنس البشري وطوال عشرات الألوف من السنين، أن هذه الفكرة كانت غائبة غيابًا كليًّا».

لهذا فإن ما قرره القرآن الكريم، يمثل شيئًا كبيرًا بالنسبة إلى علماء الأجناس والأعراق والسلالات البشرية وعلماء الاجتماع والتاريخ والأنثربولوجيا، وهؤلاء هم الأقدر من غيرهم على تقدير حقيقة وحدة الأصل الإنساني بين الناس كافة.

ثالثًا: إقرار بالتنوع الإنساني «وجعلناكم شعوبًا وقبائل»، بعد التأكيد على وحدة الأصل الإنساني، جاء الإقرار بمبدأ التنوع الإنساني، بمعنى أن وحدة الأصل الإنساني لا تقتضي أن يجتمع الناس كافة ويعيشوا في مجتمع واحد ومكان واحد، وحينما توزعوا شعوبًا وقبائلَ، وتعددت وتنوعت أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وألوانهم فهذا لا يعني أبدًا أن لا رابط بينهم، فوحدة الأصل الإنساني لا تنفي حقيقة التنوع الإنساني، كما أن التنوع الإنساني لا ينفي حقيقة وحدة الأصل الإنساني.

والتنوع الإنساني الذي قررته هذه الآية، هو ما ظهر إلى الوجود وتجلى في تاريخ الاجتماع الإنساني بمختلف مراحله وأطواره، وثبت كحقيقة اجتماعية وتاريخية لا خلاف عليها ولا نزاع في جميع حقول الدراسات الاجتماعية والتاريخية والحضارية والأنثربولوجية وغيرها.

رابعًا: خطاب إلى الناس كافة، وتذكير بوحدة الأصل الإنساني، وإقرار بالتنوع بين الإنساني، فما هو شكل العلاقة بين الناس؟ من بين كل المفاهيم المحتملة في هذا الشأن، يتقدم مفهوم التعارف «لتعارفوا». الأمر الذي يعني أن تنوع الناس إلى شعوب وقبائل وتكاثرهم وتوزعهم في أرجاء الأرض، لا يعني أن يتفرقوا، وتتقطع بهم السبل، ويعيش كل شعب وأمة وحضارة في عزلة وانقطاع. كما لا يعني هذا التنوع أن يتصادم الناس، ويتنازعوا فيما بينهم من أجل الثروة والقوة والسيادة، إنما ليتعارفوا.

ولا يكفي أن يدرك الناس أنهم من أصل إنساني واحد فلا يحتاجون إلى التعارف، أو أن يتوزعوا إلى شعوب وقبائل ويتفرقوا في الأرض فلا يحتاجون إلى التعارف. ولأن التعارف بين شعوب وقبائل؛ أي بين مجتمعات وجماعات، وليس بين أفراد، فهو يصدق على جميع أشكال الجماعات الصغيرة والكبيرة، ومنها الشعوب والمجتمعات والأمم حتى الحضارات؛ لذلك جاز لنا استعماله في مجال الحضارات، الاستعمال الذي نتوصل منه إلى مفهوم واصطلاح «تعارف الحضارات».

خامسًا: إذا انطلقنا من زاوية التفاضل والمقارنة، لنتساءل: لماذا لم تستخدم الآية كلمة لتحاوروا، أو لتوحدوا، أو لتعاونوا، إلى غير ذلك من كلمات ترتبط بهذا النسق، ويأتي التفضيل لكلمة «لتعارفوا»؟ وهذا هو مصدر القيمة والفاعلية في مفهوم التعارف، فهو المفهوم الذي يؤسس لتلك المفاهيم المذكورة (الحوار، الوحدة، التعاون)، ويحدد لها شكلها ودرجتها وصورتها، وهو الذي يحافظ على فاعليتها وتطورها واستمرارها، هذا من جهة الإيجاب. أما من جهة السلب فإن التعارف هو الذي يزيل مسببات النزاع والصدام والصراع.

وحينما توصلت لهذا المفهوم وجدت أنه أكثر دقة وضبطًا وإحكامًا من مفهوم حوار الحضارات، وهذا ما وجده كذلك بعض الذين تعرفوا لاحقًا على هذا المفهوم، وعبروا عن ذلك في كتابات نشروها، فهل الحضارات تتحاور؟ وبأية صورة تتحاور؟

وتأكد عندي هذا الأمر، حينما عدت إلى بعض أهل الاختصاص في مجال الحضارات، فوجدت أنهم في دراساتهم حول الحضارة والحضارات، قد تحدثوا عن مفاهيم أخرى عند الحديث عن العلاقات بين الحضارات، ولم يتحدثوا عن مفهوم حوار الحضارات، فبعضهم تحدث عن تعاون الثقافات مثل: كلود ليفي شترواس في كتابه «العرق والتاريخ»، وبعضهم تحدث عن تفاعل الحضارات مثل: قسطنطين زريق (1909-2000م) في كتابه «في معركة الحضارة»، وبعضهم تحدث عن تباين الحضارات مثل: رولان بريتون في كتابه «جغرافيا الحضارات»، وبعضهم تحدث عن صراع الحضارات مثل: حسين مؤنس (1911-1996م) في كتابه «الحضارة»، وهكذا غيرهم.

وما إن عرف مفهوم تعارف الحضارات، حتى أخذ طريقه سريعًا إلى المجال التداولي، ونال شهرة واسعة، واكتسب اهتمامًا كبيرًا، وتطورًا متراكمًا، وما زال محافظًا على هذه الوتيرة الصاعدة، وقد تجاوز مرحلة بناء المفهوم، وبات معروفًا ومتحركًا في حقل الدراسات الحضارية.

مفهوم تعارف الحضارات

ومن جهة التطور، فقد شهد مفهوم تعارف الحضارات تطورات مهمة وعلى أكثر من صعيد، فعلى صعيد التأليف هناك حتى هذه اللحظة –حسب ما رصدت- خمسة عشر كتابًا تحدث عن هذا المفهوم وتطرق له بصور متعددة، تارة بصورة الحديث الكامل عن المفهوم، مثل الكتابين اللذين قمت بإعدادهما وتحريرهما، وهما: كتاب «تعارف الحضارات»، الصادر عن دار الفكر بدمشق سنة 2006م، وكتاب «تعارف الحضارات.. رؤية جديدة لمستقبل العلاقات بين الحضارات» الذي حررته بالاشتراك مع الدكتور صلاح الدين الجوهري، الصادر عن مكتبة الإسكندرية سنة 2014م.

وتارة بتخصيص فصل كامل، كما في كتاب الباحث العراقي الدكتور علي عبود المحمداوي «الإسلام والغرب من صراع الحضارات إلى تعارفها» الصادر في بغداد سنة 2010م، الذي احتوى على فصل بعنوان: «تعارف الحضارات».

وتارة بتخصيص مقالة كاملة، كما في كتاب الباحث المصري أسامة الألفي «عوامل قيام الحضارات وانهيارها في القرآن الكريم» الصادر في القاهرة 2006م، الذي احتوى على مقالة بعنوان: «تعارف الحضارات لا تصادمها»، وكذا في كتاب الباحث العراقي الدكتور رسول محمد رسول «نقد العقل التعارفي.. جدل التواصل في عالم متغير» الصادر في بيروت سنة 2005م، الذي احتوى على مقالة بعنوان: «التعارف الحضاري في ضوء متغيرات العالم الجديد».

إلى جانب الحديث النقدي حول المفهوم، كما في كتاب الباحث الجزائري الدكتور محمد بوالروايح «نظريات حوار وصدام الحضارات» الصادر في قسنطينة سنة 2010م، الذي خصص قسمًا حمل عنوان: «أفكار زكي الميلاد على محك النقد». وهذه المؤلفات الخمسة عشر التي توصلت إليها، صدرت في السعودية ومصر ولبنان وسوريا والعراق والأردن وقطر والجزائر. وعلى صعيد المقالات، فقد وجدت بعد الرصد والمتابعة أن هناك ما يزيد على خمسين مقالة حملت في عناوينها تسمية تعارف الحضارات، نشرت في صحف ومجلات ودوريات يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية، وبعضها نُشر في مجلات جامعية محكمة، صدرت هذه المقالات في معظم الدول العربية تقريبًا.

وعلى صعيد الرسائل الجامعية، فقد نوقشت هذه الفكرة في عدد من الرسائل الجامعية، بعض هذه الرسائل حمل في عناوينه تسمية تعارف الحضارات، وهذه الرسائل هي: «تعارف الحضارات.. الأطروحة البديل في التعامل مع الآخر»، رسالة ماجستير في الفلسفة من إعداد الباحث العراقي علي المحمداوي، كلية الآداب، جامعة بغداد، إشراف: الدكتور نبيل رشاد سعيد، نوقشت بتاريخ 7 أكتوبر 2007م.

و«البعد الإنساني لفكرة تعارف الحضارات عند زكي الميلاد»، رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة، من إعداد الطالبتين الجزائريتين: سمية غريب وحنان بن صغير، إشراف: الدكتور قويدري الأخضر، جامعة عمار ثليجي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، مدينة الأغواط جنوب الجزائر، نوقشت بتاريخ الأربعاء 18 شعبان 1436هـ/3 يونيو 2015م. و«الخلفية الدينية لنظرية تعارف الحضارات عند زكي الميلاد»، رسالة تخرج في الفلسفة، من إعداد الطالبتين: صحراوي نادية وطاهري الزهرة، إشراف الدكتور قويدري الأخضر، المدرسة العليا للأساتذة، قسم الفلسفة، الأغواط – الجزائر، نوقشت بتاريخ الأحد 15 شعبان 1437هـ الموافق 22 مايو 2016م.

مستقبل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحضارات

هناك رسائل ناقشت الفكرة باهتمام كبير وخصصت لها فصلًا واحدًا أو أكثر، وهذه الرسائل هي: «إشكالية مستقبل العلاقة بين الحضارات.. زكي الميلاد نموذجًا»، رسالة ماجستير في فلسفة الحضارة، من إعداد الباحثة الجزائرية: شبلي هجيرة، إشراف: الدكتور عمراني عبدالمجيد، جامعة الحاج لخضر، مدينة باتنة – الجزائر، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية، قسم العلوم الإنسانية، شعبة الفلسفة، نوقشت بتاريخ 13 يونيو 2013م.

و«الحداثة والاجتهاد عند زكي الميلاد»، رسالة ماجستير في الفلسفة، من إعداد الطالبة: بزخامي زوليخة، إشراف: الدكتور براهيم أحمد، تخصص فكر عربي معاصر، جامعة عبدالحميد بن باديس، كلية العلوم الاجتماعية، مدينة مستغانم- الجزائر، نوقشت بتاريخ 10 ربيع الأول 1437هـ / 20 يناير 2016م. و«صدام الحضارات وموقف المفكرين منه زكي الميلاد أنموذجًا»، رسالة ماجستير في الفلسفة الإسلامية والحضارة المعاصرة، من إعداد الطالب: اسضاعي عيسى، إشراف: الدكتورة رشيدة صاري، جامعة وهران2 محمد بن أحمد، كلية العلوم الاجتماعية، وهران- الجزائر، نوقشت بتاريخ الأحد 29 شعبان 1437هـ / 5 يونيو 2016م.

وعلى صعيد الندوات والمؤتمرات، فهناك حتى هذه اللحظة ثلاث ندوات وطنية ودولية، عقدت حول هذه الفكرة، وبحسب تعاقبها الزمني هي: ندوة «تعارف الحضارات في ظل الأسرة الإنسانية الواحدة»، نظمها: معهد جمعية الفتح الإسلامي بدمشق بالتعاون مع جامعة هاتفورد سيمزي الأميركية، عقدت بدمشق في يناير 2008م. ومؤتمر «تعارف الحضارات»، نظمته: مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع مركز الحوار في الأزهر الشريف ومركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بجامعة القاهرة، عقد بالإسكندرية في المدة 14 – 15 جمادى الآخرة 1432هـ الموافق 18 – 19 مايو 2011م. وندوة «الحضارات بين الحوار والتصادم والتعارف» نظمتها: جامعة وهران، وجاءت ضمن مشروع قيم السلم في الفلسفة المعاصرة، عقدت بوهران غرب الجزائر في 26 يونيو 2014م. وعلى صعيد مناهج التعليم، فقد أدرجت هذه الفكرة ضمن المقرر الدراسي لكتاب التاريخ للصف الحادي عشر في دولة الإمارات العربية المتحدة، المقرر الجديد والمطور الذي وضع سنة 1430هـ 2009م، وتدرس هذه الفكرة ضمن وحدة نظريات التفاعل الحضاري، وأشار الكتاب إلى أربع نظريات هي بحسب ترتيبها وبيانها في الكتاب: أولًا: نظرية صراع الحضارات من وجهة نظر صمويل هنتينغتون. ثانيًا: نظرية حوار الحضارات من وجهة نظر روجيه غارودي. ثالثًا: نظرية نهاية التاريخ من وجهة نظر فرانسيس فوكوياما. رابعًا: نظرية تعارف الحضارات من وجهة نظر زكي الميلاد.

هذه لمحة عن بعض التطورات المهمة، وما زالت هذه الفكرة تشق طريقها نحو التجدد والتطور. وما تحتاج إليه الحضارات في عالم اليوم هو التعارف الذي يرفع الجهل بصوره كافة، الجهل المسبب للصدام بين الحضارات، في المقابل أن التعارف هو الذي حافظ على تعاقب الحضارات في التاريخ الإنساني.

اختناق التنوير نتيجة حتمية

اختناق التنوير نتيجة حتمية

يقف بعض المهتمين حائرًا أمام عقم وعجز جهود التنوير منذ أكثر من قرنين عن التأثير في الواقع العربي البائس، ولكن الحيرة تزول حين ندرك الطبيعة التلقائية للإنسان، ونعرف الكيفية التي تتكون بها عقول الناس تلقائيًّا، ونتعقَّل أن الإنسان كائن ثقافي، ونستوعب حقيقة أن كل جيل يرث بشكل تلقائي ثقافة الجيل الذي قبله بانتظام تلقائي صلب، وأن الثقافات كيانات متمايزة نوعيًّا، وأن المجتمعات محكومة بحتمية ثقافية حاسمة، وأن كل القوى المهيمنة في المجتمع ترعى هذه الحتمية وتحميها، وتملأ نفوس الأجيال بإجلال السائد وتقديسه والولاء له والبراء، مما يُظَن أو يُتَوَهَّم أنه يتعارض معه، وأن لكل فرد بنية ذهنية ووجدانية تختلف عن كل الآخرين، فمن السهل أن يتبادلوا المعلومات والأخبار والمعارف، لكن لا يمكن أن تتطابق تصوراتهم وأفكارهم ورؤاهم تطابقًا تامًّا حتى وإن ساروا متحدين.

frans_hals

رينيه ديكارت

فالمواقف تقوم على محاولات التوافق وليس التطابق. إن كل هذه العوامل وغيرها تجعل رفض التغيير حتميًّا وتلقائيًّا، لأن التنوير يستهدف تغيير الواقع؛ فهو يتحرك باتجاه مضاد لما هو أثير ومخالط للنفوس، ومتجدد التأكيد، وكثيف التغذية، وعميق في الوجدان، ومستقر في العقول، ومتجذر في التاريخ، وراسخ في الواقع، ومألوف ومتوارث وسائد ومستحكم. إن التنوير يحمله أفراد عُزَّل لا يملكون سوى الفكر النيِّر، مقابل مجتمعات فخورة بثقافاتها المتجذرة، وقوية بكياناتها المتماسكة، لذلك لم يكن غريبًا أن تختنق كل جهود التنوير في العالم العربي خلال القرنين الماضيين.

 إن الأصل في كل الثقافات أنها ترفض وتقاوم بشكل تلقائي أيَّ فكر طارئ مغاير، حتى أوربا لم يؤثر فيها التنوير ويتحقق التغيير النسبي إلا بعد حروب طويلة دامية، فقد انقسمت المجتمعات الأوربية معه وضده، فانحازت فئاتٌ مهمة وفاعلة إلى صف التنوير، وبقيت فئات أخرى تقاومه بشراسة؛ فالانتصار النسبي للتنوير لم يتحقق إلا بعد مقاومات عنيفة، فلو لم تصادف ثورة مارتن لوثر هوى الأمراء الألمان كذريعة للتحرر من الإمبراطورية المقدسة، ومن  سلطة الكنيسة الكاثوليكية وقرارات البابا التعسفية لما كان لها أن تنتصر، ليس هذا فقط، إذ لم يكن ذلك وحده هو العامل الذي جعل أوربا تتقبل التنوير حتى وإن جاء التقبل ببطء وتلكؤ، وإنما تضافرت عوامل كثيرة انتهت بأوربا والغرب عمومًا إلى هذا التحرر النسبي من أغلال التاريخ، والانفكاك من بعض القوالب الثقافية الموروثة. وأهم هذه العوامل الإيجابية أن الثقافات الأوربية هي في الأساس تفريعات للثقافة اليونانية بفكرها الفلسفي وعقلها النقدي، كما أنها قد ورثت الثقافة الرومانية بتراثها القانوني العريق، وإرثها السياسي الفريد، ولكن على رغم كل هذا، وعلى رغم مرور القرون على التحرر النسبي للغرب، فإن الشعوب الغربية ما زالت كغيرها من الشعوب تقاد فتنقاد، فالكتل البشرية في كل الأمم ما زالت تعيش بوعي زائف، وسيبقى أكثر الناس في كل الأمم إمَّعات مهما نالوا من تعليم مهني، فالناس في كل المجتمعات هم مجرد ركاب في سفينة التغيُّر والازدهار، أو في سفينة التحجر والانحدار.

      مفارقة صارخة

إن الواقع البشري ينطوي على مفارقة صارخة بين ما يملكه من إمكانيات عظيمة وقدرات هائلة في كثير من  جوانب الحياة، وبين عجزه الفاضح عن معالجة مشكلاته، فنحن غالبًا تخدعنا الإنجازات الحضارية الهائلة في المجالات العملية والمهنية، وفي مجالات الوسائل والأدوات والتنظيم والمؤسسات والنُّظُم، فنتوَهَّم أن البشرية أفرادًا ومجتمعاتٍ وأممًا، قد قطعت مراحل متقدمة جدًّا من سلامة التفكير وعُمْق الإدراك،  وأنها قد تجاوزت التفكير البدائي التلقائي، وأنها قد بلغت مستوى الرُّشد القائم على التحقُّق الموضوعي في كل أمورها، ولكن بقراءةٍ فاحصةٍ للتاريخ الإنساني، وبالتأمل العميق في ما يجري في العالم تنجلي الحقيقةُ المفزعة، وهي أن البشرية في شكل عام ما زالت من الناحية الفكرية والأخلاقية تعيش في مستوى بدائيّ سحيق غارق في التخلف والبؤس.

وأمام هذه المفارقة الصارخة بين التطور الحضاري المذهل في وسائل وأدوات الحياة وفي القدرات العملية، مقابل التخلف الشديد لعموم الناس ولأكثر القيادات الثقافية والسياسية في العالم في الجوانب الفكرية والأخلاقية والحكمة، قياسًا بما تحقق من إنجازات عظيمة، إن فهم هذه المفارقة الصارخة لا يتحقق إلا بقراءة تاريخ الحضارة قراءة فاحصة، حيث نجده يجيب عن هذه المفارقة بأن يؤكد الحقائق الآتية:

الأصل في المجتمعات أنها تبقى منتظمة في ما وجدتْ نفسها عليه، فالاستمرار تلقائي، أما التغيير فهو ضد هذا الانتظام التلقائي الحتمي، أما التطورات الحضارية المتحققة في كل المجالات فقد تمخَّضَتْ عنها عقولُ عدد محدود جدًّا من الرواد الخارقين الذين تحرَّكوا عكس التيارات السائدة خلال التاريخ البشري كله، إنهم منذ طاليس وديمقراطيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وإقليدس  وأرخميدس ودافنشي وكوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن ومونتاني ومارتن لوثر وديكارت وكانْت وفراداي ودالتون وباستور وآينشتاين وأمثالهم من الأفراد الرواد  الاستثنائيين، وكلهم لو اجتمعوا لن يتجاوز عددُهم عدَدَ ركَّاب طائرة كبيرة، أو عدد ركاب قطار كبير، إنهم يمثلون نشازًا في الكثرة الهائلة من البشرية العمياء، لكننا نغفل عن هذه الحقيقة الكبرى الصادمة، ونتحدث عن أن الإنسان بطبيعته طَلْعةٌ يَقِظٌ، وأنه متشوِّفٌ تلقائيًّا إلى أن يعرف، والتاريخ البشري والواقع كلاهما يؤكد العكس تمامًا، فالمندفعون خلال التاريخ البشري كله للاكتشاف، والمشغوفون بالمعرفة، والمستغرقون في محاولة الفهم الموضوعي العميق، هم أفرادٌ معدودون يمكن إحصاؤهم بأسمائهم، وهم في نصاعة تفكيرهم، ورفيع اهتمامهم، وعُمق تركيزهم، وفي النتائج التي يتوصلون إليها يكونون مغايرين تمامًا للأنساق الثقافية السائدة في كل العالم.

pen-1إن الأفكار الريادية الخارقة في كل مراحل التاريخ قد جاءت كومضات خاطفة وسط ظلمات حالكة، وكلها من دون أي استثناء قد قوبلتْ بالرفض والمقاومة، وهو رفضٌ قد يمتد قرونًا، كما هي حالة اكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون، فقد بقي هذا الاكتشاف مطمورًا أكثر من ثمانية عشر قرنًا حتى أعاد الاكتشاف كوبرنيكوس، ومع أن معظم الاكتشافات لا يمتد رفضها كل هذا الامتداد؛ إذ  تجد من يستقبلها بالقبول بعد تلكؤ قد يطول أو يقْصُر حسب الحالة الثقافية السائدة، ولكن المؤكد أن الرفض يحصل دائمًا بشكل تلقائي، أما القبول فلا يأتي إلا متأخرًا، وقد لا يأتي أبدًا كما في الثقافات الشديدة الانغلاق. وفي الكتاب الذي لم أنشره بعدُ بعنوان «الريادة والاستجابة» قَدَّمتُ شواهد متنوعة على ذلك من التاريخ والواقع، ستكون كافية لمن يرغب في الاستبصار.

حين تَدخُل فكرةٌ رائدة، أو حقيقةٌ علمية فارقة، أو تنظيمٌ اجتماعي جديد متطور إلى ثقافة أي مجتمع، فإنها لا تدخل عن طريق الفهم العام، وإنما تصير جزءًا من ثقافة المجتمع بواسطة الممارسة والمعايشة والتكيف والتعود، فعموم الناس في المجتمعات المزدهرة لا يدركون سبب أو أسباب ازدهارهم، فهم محمولون في مرْكبة التحضُّر أو مركبة التحجُّر من غير أن يعرفوا كيف تكوَّنت هذه المركبة الاجتماعية العامة،  فقد تبرمجوا بما هم عليه تبرمُجًا تلقائيًّا بواسطة التكيف والتعود، وليس بواسطة التفهُّم والإدراك، فالأفراد في المجتمع كقطرات الماء في النهر الزاخر، فلولا هذه القطرات لما كان النهر لكن لا أهمية لأية قطرة إلا بكونها ضمن النهر.

التعلّم بمختلف مراحله، والتخرُّج من الجامعات، أو حتى إنهاء دراسات عليا في أي مجال، هدفه تكوين المهنيين من الممرض إلى جراح القلب، أو أستاذ الجامعة أو الباحث العلمي، فكل هذه المسارات لا تدل على تطور نوعي للوعي الفردي، فالوعي النقدي الفاحص المنفصل عن تفكير القطيع لا علاقة له بالتعليم الجمعي بمختلف تخصصاته ومستوياته، بل التعليم المقنَّن يكرس الوعي السائد.

تجسيد الأفكار الريادية الخارقة يرتبط باتجاه حركة المجتمع، فإذا كانت حركة المجتمع باتجاه الازدهار، فإن الأفواج الذين تخرجهم الجامعات والمعاهد يتولون تجسيد الرؤى والأفكار الريادية التي تقبَّلها المجتمع، إذ يعمل كلُّ فرد في مجال اختصاصه. إن إنتاجهم يمثل قطرات الماء التي يتكوَّن منها نهر الازدهار، ولكن الأفراد أنفسهم الذين أسهموا في تشييد الازدهار في مجتمع تتجه حركته في اتجاه النمو، لو عملوا في مجتمعات متخلفة فسوف يكون عملهم محكومًا باتجاه حركة المجتمع، وبذلك فقد يكون إسهامهم في تكريس الواقع وليس تغييره، أي في تكريس التخلف واستحكام أركانه وإغلاق منافذ الرؤية فيه.

الثقافة السائدة

إن استيعاب هذه الحقائق يجعلنا ندرك أن التعليم في أي مجتمع محكومٌ بالثقافة السائدة وليس حاكمًا لها، وأن أفراد كل بيئة يتبرمجون بثقافتها تلقائيًّا فيبقون محكومين بها، وتظل تتحكم بهم وتهيمن على اتجاههم وتفكيرهم ووجدانهم، وتحدد قيمهم واهتماماتهم، فالبرمجة التلقائية هي التي تحدد هوية الفرد حسب البيئة التي ينشأ فيها، فالإنسان لا يولد بماهية أو هُوية محددة، وإنما يتقولب تلقائيًّا في طفولته قبل بزوغ وعيه.

إن كل إنسان يولد بقابليات فارغة مفتوحة مطواعة، فيتشكل عقله ووجدانه بالأسبق إلى قابلياته، ثم يظل هذا الأسبق يتحَكَّم به مهما نال من تعليم، فهذا الأسبق يصير هو الذات عينُها، وهو المعيار المهيمن لتقييم كل ما هو مغايرٌ له. إن الفرد لا يفكر إلا من خلال هذا الأسبق، فهو لا يرى أيَّ شيء إلا بواسطته، فمن المحال أن يفكر المرء بتغيير ذاته إلا بهزة فكرية مزلزلة توقظه من سباته، وتخرجه من غبطته الغافلة، وتفصله عن التيار السائد، وهي حالة لا تحصل إلا نادرًا، أما عموم الناس فيبقون مأسورين بما تبرمجوا به في طفولتهم، فلا يرون الحياة والدنيا إلا من خلال هذا التبرمُج التلقائي.

أما التعليم الذي يضطرون لقضاء ربع قرن وهم يكابدونه فيبقى محصورًا في المجال المهني والعملي فقط، وكما يقول الدكتور فاخر عاقل في كتابه (سيكولوجية الإدراك): «إن المعلومات المبدئية تكون إطارًا ومفتاحًا للمعلومات التالية، وإذا كانت المعلومات التالية مخالفةً للمعلومات الأولى فإنها تُلوى لتناسب المعلومات المبدئية». إن الناس يجهلون عن أنفسهم هذه الحقيقة الأساسية، مع أنها أهَمُّ من ركام الحقائق الجزئية التي تمتلئ بها أذهانهم ويهتم بها التعليم.

leonardo

ليوناردو دافنشي

إن هذه الحقيقة المحورية التي أكدها الدكتور فاخر عاقل قد باتت من الحقائق التي يكررها العلماء والباحثون، فهذا الطبيب المشهور العالم إدوارد دي بونو يقول بوضوح في كتابه (تعليم التفكير): «تقوم المعلومةُ الأولى بتغيير حالة العقل بشكل يجعل المعلومةَ الثانية ترتبط بها أو توافقها، وبهذه الطريقة يتم بناء الأنماط». ولأن الدماغ البشري لا يملك آلية للتحقُّق فإنه يعتمد المعلومات الأسبق كمعيار للحكم على المعلومات التالية مهما كانت الأولى خاطئة، ولأن مسائل العلوم التي يتلقاها الدارسون في التعليم لا تأتي ولا يمكن أن تأتي إلا متأخرة أي بعد أن تكون البنيات الذهنية والوجدانية قد تَشَكَّلَتْ في مرحلة الطفولة المبكرة، فإنه لا يكون لها أي تأثير إيجابي في تصحيح ما تبرمجت به القابليات بشكل تلقائي من دون أي تمحيص.

التعليم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتخلفة

إن التعليم في المجتمعات المتخلفة يكرس التخلف، ويعمق أسبابه، ويزكي البيئة الحاضنة له. إن التعليم محكومٌ بالأوضاع القائمة؛ فإذا جاء ضمن ثقافة حرة ومنفتحة ونامية، فإنه يُمدُّ المجتمع بالطاقات الإنتاجية والإبداعية التي تدفعه للمزيد من التقدم والازدهار، فكل تقدم هو تمهيدٌ لتقدم أعظم، أما إذا جاء التعليم ضمن ثقافة مغلقة ومتخلفة ومرعوبة من الأفكار المغايرة، فإنه يكرس الانغلاق، ويرسخ التخلف، ويوصد العقول، ويشحن العواطف بالرفض العنيد الأعمى لمقومات التقدم الطارئة.

إننا نتوهَّم أن تعميم التعليم، ونشر المدارس، والإكثار من الجامعات، وإغداق الإنفاق عليه، وتوفير فرص التعليم للجميع يؤدي تلقائيًّا إلى تهيئة المجتمعات لتحقيق التقدم والازدهار، لكننا نغفل عن أن التعليم محكومٌ بالثقافة السائدة، وليس بالعلوم الطارئة، ونتجاهل بأن المجتمعات محكومة بثقافاتها التلقائية المتوارثة، وليست محكومة بطلاءات مجلوبة من خارجها.

إن المجتمعات تتناسل ثقافيًّا بشكل تلقائي، وترفض ما يغاير تصوراتها وقيمها ومألوفاتها، فالأطفال يتبرمجون تلقائيًّا بالثقافة السائدة قبل أن يلتحقوا بالتعليم، فتنغلق قابلياتهم عن قبول ما لا يتفق اتفاقًا كاملًا مع البرمجة التلقائية، لذلك ينبغي أن يدرك رجال التربية والتعليم والمسؤولون عن التنمية هذه الحقيقة الأساسية، وأن يتفهموا التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة البشرية.