تأثير الفكر والمفكرين

تأثير الفكر والمفكرين

لولا الفلسفة؛ وما تفرع عنها من أفكار وعلوم ومناهج ونُظُم لما تحققت هذه التطورات الحضارية المذهلة. ومع ذلك فإن تأثير الفلاسفة والمفكرين في الأوضاع لا يكون مباشرًا. وربما يأتي التأثير بعد قرون؛ بواسطة ظهور قادة حاسمين وأحداث غير متوقَّعة. أما التأثير المباشر فيكون محصورًا في عدد قليل من الأفراد الذين يقرؤون لهم؛ أما العموم فيأتي التأثير المباشر عكسيًّا كرد فعل تلقائي؛ فالأنساق الثقافية في كل العالم تقاوم الأفكار المغايرة؛ لذلك يشكو الفيلسوف برتراند راسل والمفكر كولن ولسون وغيرهما من أن الشعب البريطاني لا يهتم بالفكر، وأنه مجتمعٌ عملي لا يهتم إلا بالنفع المباشر. ولا تختلف استجابة الأمم الأخرى عن استجابة المجتمع البريطاني؛ فكل الأمم لا تزال في قبضة الماضي؛ إن المجتمعات المتقدمة؛ ككل المجتمعات؛ لا تزال أنساقها الثقافية المتوارَثة تتحكم بها تلقائيًّا؛ إنها تنساب إليها من أعماق التاريخ؛ بشكل تلقائي حتمي؛ إن كل جيل يتطبع تلقائيًّا بما تطبع به الجيل الذي قبله؛ فتتكوَّن البنية الذهنية لكل فرد؛ قبل أن يلتحق بالتعليم…

إن كل فرد يتعلم بواسطة ما تطبَّع به من تصورات، فتشتغل آليات التعزيز للأنماط القائمة، وآليات الطرد لما يتعارض مع الأنماط القاعدية، وتتغلَّف محاور الاتصال بين خلايا الدماغ بمادة المايلين، بمقدار التكرار، لضمان سرعة الاستجابة، فما يتطبع به الفرد ويعتاد عليه ويتآلف معه يكون انسيابه أو تدفُّقه تلقائيًّا، لذلك بقيتِ الأمم محكومة بأنساقها الثقافية المتوارثة. إن الواقع في كل مكان، يؤكد ذلك بوضوح لمن يتدبَّر، ويهمُّه أن يتعرَّف إلى عوامل الحركة والسكون في العالم بمختلف أممه. ولأن هذا التأكيد قد يصدم البعض فسوف أبادر بتقديم نماذج مما انتهى إليه أشهر دارسي تاريخ الحضارات؛ فعظماء المؤرخين تتبعوا أحداث التاريخ وتحولات الحضارات، وقد انتهوا إلى هذه النتيجة، فهذا السير جون همرتن، أشرف وحرر «تاريخ العالم» في ثمانية مجلدات ضخمة، تتبَّع فيه مسيرات كل الأمم، ومع أنه من الجزر البريطانية العجيبة الرائدة في الحضارة المعاصرة، فإنه قد انتهى بعد دراسة تاريخ العالم إلى أن: «الماضي يَقبِض على الحاضر بيد من حديد»، ولم يستثن أحدًا؛ فكل أمة يملكها نسقها الثقافي ولا تملكه. وانتهى إلى النتيجة ذاتها مؤرخ الحضارات الفيلسوف ويل ديورانت في كتابه الضخم «قصة الحضارة» وفي كتابه «دروس التاريخ» إن التاريخ والواقع كليهما يؤكدان هذه النتيجة المأساوية. يقول فيلسوف العلوم كارل بوبر: «إن أسوأ ما يفعله الإنسان هو الخضوع لمجرى التاريخ». لكن مجرى التاريخ يتحكم بشكل تلقائي، كما يتحكم بالنهر مجراه، ولولا بعض القيادات الحاسمة التي غيرت مسارات التاريخ، فتحولت الأفكار الفلسفية إلى واقع الحياة، لولا ذلك لما تطورت الحضارة…

يعتقد الكثيرون أن المجتمعات تستجيب للأفكار الخارقة، وأن هذه الاستجابة هي التي أدت إلى تقدم المجتمعات. أما الحقيقة فهي أن التطور يأتي ثمرة لما أسماه هيغل مكر التاريخ. أما الأمم فتبقى يتحكم بها نسقها الثقافي بشكل تلقائي، ففي فرنسا، مهْد التنوير في العصر الحديث، يقابلنا فوجيه، لا ليؤكد فقط أن النسق الثقافي المتوارَث ما زال يتحكم بعقل الشعب الفرنسي وإنما ليؤكد أنه حتى على مستوى النُّخَب، لا يزال الماضي هو المحرك لهم، فيقول في كتابه «الموتى يتكلمون»: «إذا شئتَ أن تفهم السر في المشاحنات السياسية، ضع في ذهنك هذه البديهية: نحن نعتقد أن الموتى قد ماتوا، ولكنهم في الحقيقة لم يموتوا، إنهم هم من حولنا يستبدون بنا، ويكتمون أنفاسنا بعبئهم الباهظ. إنهم في عظامنا، ودمائنا، وفي المادة التي يتكوَّن منها مخنا، فاستمع جيدًا إلى الأصوات التي تتكلم، إنهم الأموات يتكلمون». إننا ننخدع بالتقدم المادي ووفرة الوسائل وقدرات التمكين. لكن الواقع أنه على الرغم من كل ما تحقق في العالم من تطورات هائلة في مجالات العلوم، والأفكار، والمناهج والأدوات المعرفية والتقنيات، والنُّظُم، والمؤسسات، التي كان الفكر الفلسفي خلف ظهورها، فإن الأنساق الثقافية التي تتوارثها الأمم حتميًّا، وبشكل تلقائيّ في كل العالم، لا تزال تتحكم بالعقل البشري…

يظن الكثيرون أن تعميم التعليم في كل العالم، قد خلق وعيًا ألغى هيمنة الأنساق الثقافية. أما الحقيقة فهي أن التعليم كرس الأنساق، واستغرق حياة الأجيال بالتأهُّل للأعمال المهنية، فالاهتمام النفعي الاقتصادي هو المهيمن على التعليم في كل العالم ومثلما يقول آينشتاين في كتابه «كيف أرى العالم»: «الإنسان بالتخصص يصير آلة قابلة للاستعمال، إنه بمعارفه المهنية يُشْبِه كلبًا عارفًا». فقابلية التعلم ليست من خصائص الإنسان بل حتى الحيوانات تتعلم، فالعقل لا يكون عقلًا إلا إذا صار فاعلية نقدية. ويقول آينشتاين في موضع آخر: «إن إفراطات التخصص تقتل العقل وتلغي كل حياة ثقافية». ويرى أن التعليم في كل العالم قد يعطي الدارس وظيفة لكنه لا يعطيه عقلًا، فالتعليم في نظره لا يكون مجديًا إلا إذا انجذب إليه الدارسون برغبة وبهجة وليس إكراهًا أو اضطرارًا فيقول: «ينبغي أن يتمثل التعليم في كون من يتلقاه، يستقبله كهبةٍ ثمينة، وليس كإكراهٍ قاس». أما الحاصل في كل العالم فهو أن الدارسين ينخرطون في التعليم اضطرارًا من أجل الوظيفة والمعيشة والوجاهة الاجتماعية وليس شغفًا بالعلم ذاته، ولا اندفاعًا للبحث عن إجاباتٍ لتساؤلاتٍ ذاتية حائرة؛ لذلك فإن الأفكار الفلسفية، والمغزى العميق للعلوم، لم تصبح عناصر مندمجة في أي نسق ثقافي في العالم، بل لا تزال كل الأنساق الثقافية، معادية للفكر الفلسفي، وفي أحسن الأحوال لا تهتم به، حتى في أشد المجتمعات ازدهارًا. إن الفكر الفلسفي نظامُ تفكيرٍ فرديّ، منفصل عن كل الأنساق الثقافية في كل العالم، فلا يهتم به، أو يجيد التعاطي معه، أو يدرك دلالاته الحقيقية العميقة، سوى قِلَّةٍ من الأفراد. من أدق تعريفات الفلسفة: تعريف بول تيليش حيث يؤكد أن: «الفلسفة تبدأ كانقطاعٍ، كتوقُّفٍ، يَضَع كلَّ شيءٍ موضع التساؤل، إنها تَوَقُّفٌ عن التلقائية، وحالة الاعتياد». لذلك فإن الأقسام التي تُدَرِّس الفلسفة في المدارس، والجامعات، في كل العالم، تبقى في نطاق المعلومات الفلسفية، وليس في نطاق التفكير الفلسفي، فأغلب معلمي وأساتذة الفلسفة ليسوا فلاسفة، وإنما مهمتهم تقديم معلومات عن تاريخ الفلسفة ومجالاتها وحياة الفلاسفة، في حين أن الفلسفة ليست مسائل أو معلومات يجري حفظها وإنما هي منهجُ تفكيرٍ مغايرٍ ومنفصلٍ بل مضاد لكل الأنساق الثقافية التي كانت ولا تزال تتحكم في العقل البشري، فكل الأمم تتوارث أنساقًا ثقافية متضادة، تنساب تلقائيًّا من جيلٍ إلى الجيل الذي يليه، بحتمية تلقائية صارمة، فكل جيل يتطبَّع تلقائيًّا بما تَطبَّع به الجيل الذي قبله، إن كل جيل، يتلقى بشكلٍ تلقائيٍّ، النسقَ الثقافيَّ من الجيل الذي قبله، يتلقى القيمَ ومعايير القبول أو الرفض واللغة واللهجة والولاءات والعداوات والأوضاع والمؤسسات، إنه امتدادٌ تلقائي يتدفق أو ينساب عبر الأجيال كما تتدفق الأنهار مع مجاريها أو تنساب…

تفكير ضد النسقية

لو أُحصي كل الفلاسفة الكبار الحقيقيين، منذ طاليس قبل ستة وعشرين قرنًا، حتى اليوم لما وصلوا إلى عدد ركاب طائرة واحدة، ومع ذلك كانت أفكارهم خلف كل التطورات الحضارية، بشكل غير مباشر حيث تجد طريقًا إلى حياة الناس عبر الأحداث والتحولات وليس بالقبول المباشر للأفكار وقت ظهورها. إن تفكيرهم يكون مضادًّا للتيارات النسقية الجارية، إنهم ليسوا نتاج الثقافات التي تحيط بهم، وإنما يأتون بما هو مضادٌّ لها، لكنهم لا يولدون فلاسفة، غير أن ظروفًا معينة تُشعل فيهم تساؤلات حادة، فتتأجَّج قابلياتهم، ويندفعون للتأمل والبحث والاستقصاء والمقارنة، إن تفاعُل محتويات اللاوعي بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق، قد ينجلي عن ومضات إبداعية خارقة، إن هذه الإبداعات الفردية الخارقة هي التي فتحت أبواب التقدم الحضاري للإنسانية جمعاء، إن الفكر الفلسفي يأتي مضادًّا للبيئات التي يظهر فيها، فلا معلم لطاليس ولا لسقراط. ديكارت بزغ فكره الفلسفي بفاعلية تساؤلات حادة وحارقة اجتاحت كيانه، وكادت تحرقه. وكانط أمضى القسم الأكبر من عمره متوافقًا مع النسق الذي كان سائدًا في ألمانيا، ووليم جيمس تخرج طبيبًا ولكن اجتاحته أسئلةٌ وجودية حادة عميقة صَرَفَتْه عن مهنة الطب وغيَّرتْ مسار حياته فصار رائدًا فلسفيًّا فبات من أبرز الشواهد على وثبة الفكر المفاجئة حتى للشخص نفسه…

الإنسان في كل مكان ومن كل الأمم، لو فَكَّر بعمق، ودقَّق في لغته، ولهجته، وقيمه، وولاءاته ونسقه الثقافي الذي ينتمي إليه، وسلوكه، وأمعن النظر في اهتماماته، وتابَع نشاط نفسه، لوجد أنه يتحرك تلقائيًّا بمؤثرات ليست من صُنعه، فلقد تَطبَّع في طفولته باللغة، واللهجة، وبالتصورات، واكتسب من البيئة القيم والاهتمامات، ومعايير القبول أو الرفض، وكل سكناته، وكل حركاته، تأتي انبعاثًا تلقائيًّا من التفاعل بين مكوِّنات دماغه، أو استجابة تلقائية لمثير أو مؤثِّر، فهو لا يكون خامل النشاط بإرادته، وإنما يجد نفسه خاملًا، ولا يتحمَّس بإرادته، وإنما يجتاحه الحماس، ويسيطر عليه الاهتمام التلقائي القوي المستغرق، مثلما يجتاحه الغضب، أو الخوف، أو الفرح، أو الضحك. إن تلقائية الاهتمام القوي المستغرق تُكَوِّنها ظروفٌ غير محسوبة ولم تُخْلَقْ قصدًا وإنما هي شرارةٌ تنطلق فتقلب حياة فرد لديه قابلية الاشتعال. وعلى سبيل المثال فإنه لولا قراءة الفيلسوف الأكبر كانط لهيوم وروسو، وبخاصة هيوم، لبقي مجرد معلِّم عادي ولكن هذه القراءة التي جاءت متأخرة نسبيًّا، خلقتْ فيه روحًا جديدة وأشعلتْ أعماقَه باهتمام تلقائي قوي مستغرق، وبذلك صار واحدًا من أبرز أعلام الفلسفة، فقد كانت فلسفته النقدية منعطفًا مهمًّا في تاريخ الفكر الإنساني…

إن اليقظة المزلزلة المنتِجة التي اجتاحت كانط بعد قراءته فلسفة ديفيد هيوم وفلسفة جان جاك روسو، مثالٌ نموذجيٌّ على الكيفية التي ينتقل بها فجأةً عبقريٌّ من سباته التلقائي وغبطته بما تطبَّع به ليصير أبرز عظماء الفلسفة. إن حالةَ كانط ذاتُ دلالات عميقة يمكن أن نشير إلى بعضها كما يلي:

الدلالة الأولى: أن كانط رغم عبقريته، فإنه قد أمضى الشطر الأول من عمره وهو منتظمٌ على ما تَطبَّع به في طفولته، وتعزيزات البيئة لما هو سائد، واجتاز مراحل التعليم كلها حتى النهاية دون أن تهتز هذه البرمجة، أو يتحرك من هذه الغفلة، أو يحس بعدم عقلانية هذه الغبطة التلقائية بما وجد نفسه عليه. ثم فجأةً يقرأ فلسفة هيوم في نظرية المعرفة وطبيعة العقل فتجتاحه يقظةٌ عارمةٌ، غيَّرتْ حياته وأسهمت في تبديل مسيرة الفكر الفلسفي فصار بالغ الأثر في الفكر والعلم والأدب…

الدلالة الثانية: أن يقظة كانط لم تكن حتمية، فعلى الرغم من الأهمية العظيمة ليقظته، والقيمة الكبرى لإنتاجه بعد الفورة العقلية التي انتابته، فقد كان بالإمكان أنْ لا يصادف ما يوقظه فتستمر غبطته بما تطبع به تلقائيًّا كالملايين في كل الأمم من دون أن يخطر على باله ما يوقظه من سباته الأيديولوجي فقد جاءت يقظته في عمرٍ متأخِّرٍ نسبيًّا. ولكن صدفةً جميلة أوقعتْ أحد كتب هيوم وأحد كتب روسو في يده فقرأهما وتبدَّل بهذه القراءة، مسارُ تفكيره كما تغيَّر بذلك مسار الفكر الفلسفي. وبذلك تتضح هشاشة الوضع البشري وارتباط تحولاته بمصادفات واحتمالات وأحداث وظروف، سلبية أو إيجابية بلا نهاية وبمصادفات غير قابلة للتنبؤ…

الدلالة الثالثة: أن سر تفتُّق العبقرية، لم يكن في قابليات كانط الفريدة وحدها، بدليل أنه بقي محكومًا بالسُّبات الثقافي نصف عمره من دون أن يستيقظ من ذلك السُّبات. كما أن السر لم يكن يكمن في فلسفة ديفيد هيوم وحدها بدليل أن كثيرين قرؤوا هذه الفلسفة فلم تؤثر فيهم، وبهذا يتضح أنه لا بد من توافر القابليات العبقرية المتهيئة للاشتعال وتوافر المُشْعِل، وبهذا التكامل تحصل اليقظة التي تقلب أحد الأفراد من شخص منتظم في السائد إلى فردٍ ريادي خارق…

الدلالة الرابعة: أن الأصل في الناس؛ أنهم لا يتقبلون الفكر المغاير الخلاق؛ بل يرفضونه تلقائيًّا ويقاومونه عمومًا ومن دون تراجُع؛ بدليل أن الكثيرين قرؤوا كتب هيوم فلم يَحدث عندهم أيُّ تحول بل إن بعضهم سخر منها، وبعضهم كتب يرد عليها، وبعضهم لم يهتم بها، والعموم مَرُّوا عليها قبل كانط وبعد كانط حتى اليوم، من دون أن تترك فيهم أثرًا إيجابيًّا، ينتشل عقولهم من السبات الثقافي إلى اليقظة الفكرية التي يتأجَّج بها الاهتمامُ، ويتغير الاتجاه، وتتبدَّل المسارات، وتختلف النهايات…

الدلالة الخامسة: أن تبادل التأثير الإيجابي، لا يحصل إلا بين القلة المبدعة فقط، فعبقريةُ هيوم أيقظت عبقريةَ كانط ولا بد أن حَدَثًا مماثلًا أيقظ هيوم، فدائرة رواد الفكر تكاد تكون محصورة بذوي القابليات الريادية الإبداعية. أما عموم الناس فإن الأصل أنهم يستمرون مغتبطين بما تبرمجوا به ولا يتأثرون إيجابيًّا بأي فكر مغاير حيث يكون التجاهل أو الرفض تلقائيًّا. أما اليقظة فهي حالةٌ فردية نادرة ومع ندرتها فإن حصولها يتطلب صدمة لفرد لديه قابلية اليقظة الفكرية والانفتاح الوجداني كما حصل لكانط حين قرأ فلسفة ديفيد هيوم…

الدلالة السادسة: أن التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية والتغيُّر الحضاري لا يتحقق عن طريق الإقناع وإنما تتحقق بالأحدث، وبما تتمخض عنه من توازنات بين مختلف القُوى، وبالتكامل بين رواد الفكر وقادة الفعل، فالأحداث، وما تقتضيه توازنات القوى، والقرارات السياسية هي التي تحدد أوضاع المجتمعات إيجابًا أو سلبًا فإذا تَبنَّتِ السياسةُ أيَّ فكر أو أي اتجاه فإنها تستطيع أن تحيله إلى واقع، وإذا تبنت مذهبًا فإنها تفرضه ثم بمرور الزمن تتطبَّع به الأجيال تلقائيًّا بواسطة أسلوب الحياة الذي فُرِضَ فهي تستطيع أن تُبقي المجتمع منغلقًا ومتخلفًا، كما تستطيع أن تعمل على تحويل اتجاهه أو تعمل على القفز به في مجالات النمو والازدهار. هذا بشأن المجتمعات التي ما زالت تقليدية، أما المجتمعات الديمقراطية الحرة فلم تعد السياسة بتلك الفاعلية، بل إنها في الكثير من الحالات تكون معطِّلة؛ لعدم امتلاك أي طرف قرار الحسم، كما حصل في إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي. لكن لو انهارت المؤسسات التي تحفظ التوازن فسوف يعود المجتمع إلى الاضطراب أو الجمود، فانتظام المجتمعات الديمقراطية المزدهرة ليس بسبب الوعي العام إنما هو مشروطٌ بالمؤسسات التي يتحقق بها التوازن والضبط والانتظام…

شرارة العبقرية

ما حصل لكانط حصل ما يشبهه تقريبًا لديكارت، فقد التقى طبيبًا يُدعى إسحاق بكمان فحصل بينهما نقاشٌ مثير، أيقظ ديكارت من سباته التلقائي، لكن هذا الطبيب نفسه لا يذكره التاريخ إلا بتأثيره في ديكارت. ويبدو أنه كان صاحب تساؤلات عابرة وليس ممن يستحوذ عليهم الاهتمام التلقائي القوي المستغرق، فيندفعون للبحث والاستقصاء والتحقق. وربما أنه عاش ضمن التيار الجاري، فالتاريخ لا يَذْكره كرائد، وإنما يعود تأثيره، إلى القابلية الاستثنائية الخارقة التي يملكها ديكارت، فقد قَدَح شرارةَ العبقرية الديكارتية، فاشتعلتْ واستمرتْ مشتعلةً حتى خلقتْ من ديكارت رائدًا فريدًا عمَّ تأثيره وما زال وسيظل مؤثرًا، فتأثير فكره دخل كل المجالات وما زالت أفكاره تناقَش في أعلى مستويات الفكر والعلم. لا بد أن كثيرين التقوا الطبيب بكمان وعايشوه فلم يُحدث فيهم ما أحدثه في ديكارت. ويبدو أنه شخصٌ عادي، فالعظمة ليست في بكمان بل في ديكارت، فعَظَمةُ الفكر نادرة. لذلك فإنه على الرغم من مضي القرون منذ أنْ أعلن ديكارت منهجه ونَشَر أفكاره، فإن المستوعبين لفكره عددٌ قليل في كل العالم، فلم يتأثر به تأثُّرًا حقيقيًّا سوى عدد قليل من المثقفين. أما عامة المتعلمين فيسمعون عنه وربما قرأ له بعضهم من دون أن يدركوا التحول الجذري الذي أحدثه في حياة أوربا ثم في الحضارة الإنسانية عمومًا، ولم يكن تأثيره النوعي بواسطة الإقناع إنما عن طريق مجموعة متضافرة من الأحداث، فالأمم لا تتخلى عن ثقافاتها بالإقناع ولا عن أسلوب حياتها وعاداتها بواسطة الفكر الخلاق ولا العلم الممحص وإنما الأحداث وقادة السياسة هم الذين يحولون الأفكار إلى واقع يعيشه الناس ثم تتطبَّع بها الأجيال بالتطبُّع التلقائي من دون إدراكٍ للعمق الفلسفي الذي صاغ وجودهم…

وليست حالةُ كانط وديكارت سوى نموذجين ليقظة الرواد بسبب شرارة موقظة، فداروين قرأ مقالًا لتوماس مالتوس عن النمو السكاني مقارنةً بنمو الغذاء فألهمه المقالُ فكرةَ الصراع وبقاء الأصلح. ولكن كثيرين قرؤوا المقال فلم يلهمهم بشيء. نيتشه كان لغويًّا، تعليمًا ووظيفةً، لكنه كما يقول عن نفسه إنه حين قرأ كتاب «العالم إرادة وتمثُّلًا» لشوبنهاور: «شعر بالدوار العقلي لازَمه، وجعل صورةَ العالم تتبدل أمام ناظريه إلى الأبد وأنه وجد فيه: مرآة طالعتُ فيها العالم والحياة بل طبيعة نفسي مرسومةً في جلال عميق». ولكن كثيرين قرؤوا الكتاب، ثم نسوه، بل إن الكتاب بعد صدوره قوبل بالإهمال، لكنه كان فتحًا فلسفيًّا عظيمًا، فهو الذي ألهم إدوارد فون هارتمان «فلسفة اللاوعي» ثم جاء فرويد فحوَّلها إلى مجال العلم بابتكار التحليل النفسي، بناء على اكتشاف اللاوعي الذي كان شديد الوضوح في فلسفة شوبنهاور. حين أصدر شوبنهاور كتابه كان العلم والفلسفة تسيطر عليهما أوهام فاعلية العقل المحض وأنه قادر على الرؤية الموضوعية المحضة، ولكن الاكتشافات العلمية الأخيرة في علم الدماغ، حوَّلت علم النفس، بمختلف اتجاهاته ومنظومة العلوم المعرفية، وأُدرِكَ الدور الأساسي للانفعالات والمشاعر والعواطف، فهذه الاكتشافات قد بدَّدت تلك الأوهام عن متانة، وموضوعية العقل، فقد تبين أن الإنسان محكومٌ بالبيئة التي يتطبع بنسقها الثقافي، وبتداخل العواطف والمشاعر عضويًّا مع مراكز الدماغ العليا الخاصة بالتفكير والتذكر والتقييم واتخاذ القرارات…

لقد تكاثف بقوة الاهتمامُ العلمي، بالتطبع النسقي، وبالعواطف وتأثيرهما الهائل في حياة الأفراد والمجتمعات والإنسانية كلها، فقد بات مؤكَّدًا أن الأصل في الإنسان أنه ليس كائنًا عقلانيًّا، وإنما هو في العمق كائنٌ تلقائي، إنه كائنٌ ثقافي عاطفي، نفعي، كائنٌ مقلِّد ومتَّبِعٌ، وليس مبدعًا، إنه كائنٌ اجتماعي. أما النزعة الفردية والاستقلال في التفكير، فهي نادرة مكتسبة وليست طبيعية، يتطبّع كل مولود تلقائيًّا بنظام التفكير السائد في البيئة التي ينشأ فيها، كما يبقى يعتمد على جهازٍ ذهني يوهمه بأنه يعلم حتى لو كان لا يعلم. إن من أعمق النقاط العمياء في العقل البشري، أن الفرد يتوَهَّم المعرفة، إنه لا يعلم أنه لا يعلم، أي أنه يجهل جهلَه، فيتوهم المعرفة في مختلف المواقف، ولا يدرك جهله إلا إذا كان في موقف يمس حياته، فيضطر إلى البحث والتحقق. أما الأصل فهو تَوَهُّم المعرفة. لذلك فالملحوظ أن أي مجلس نقاش مفتوح، تجد الكل يتسابقون للحديث وتأكيد آرائهم، فكل شخص يؤكد رأيه دون أي بحث سابق، ولا يعترفون لمن أمضى عمره في البحث والتحقق، ويعود ذلك إلى طبيعة العقل، فالإنسان لا يولد بعقل جاهز، وإنما يولد بقابليات فارغة مفتوحة مطواعة، ومندفعة فطريًّا للتعرف بوصفه أبرز دوافع البقاء، ويبقى هذا النهم إلى التعرف، حتى تتكوَّن الأنماط الذهنية للفرد، فالدماغ يتلقى معلومات تلتقطها الحواس من البيئة، فيفرزها الدماغ ويعالجها ويكوِّن منها أنماطًا ذهنية تصير بمنزلة القاعدة الذهنية للفرد. لكن دماغ الطفل بعد ولادته لا يشتمل على معايير، فهو لا يميز بين الواقع والخيال، ولا بين الحقيقة والوهم، ولا بين الخطأ والصواب، إنما يكتسب معايير التقييم من البيئة، بأنماطٍ ذهنية يُكَوِّنها الدماغ نفسه، وعند عتبة معينة من عمر الفرد، تثبت هذه الأنماط، وتصير هي معياره للقبول أو الرفض، وللولاء أو البراء، والأسوأ من ذلك أن هذه الأنماط المتكوِّنة تلقائيًّا ومن دون أي تمحيص أو تحقق، توهمه بالاكتفاء…

من‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬يتعرف‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬التحولات‭ ‬الجذرية‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬الرؤية‭ ‬العلمية‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬البشري؛‭ ‬فالمكتبات‭ ‬تزخر‭ ‬بالمترجمات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اللغات؛‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال؛‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬التفكير‭: ‬السريع‭ ‬والبطيء‮»‬‭ ‬لعالم‭ ‬النفس‭ ‬دانيال‭ ‬كانمام،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬دور‭ ‬الجسد‭ ‬والعاطفة‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬الوعي‮»‬‭ ‬لعالم‭ ‬الأعصاب‭ ‬أنطونيو‭ ‬داماسيو،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬تداعيات‭ ‬الأحداث‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة‮»‬‭ ‬للمفكر‭ ‬الأميركي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬لبناني‭ ‬الدكتور‭ ‬نسيم‭ ‬طالب،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬الحيوات‭ ‬السرية‭ ‬للدماغ‮»‬‭ ‬للعالم‭ ‬ديفيد‭ ‬إيغلمان،‭ ‬والكتب‭ ‬المهمة‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتوافرة‭. ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬أشملها‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬النقطة‭ ‬العمياء‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬اشترك‭ ‬في‭ ‬تأليفه‭ ‬عالما‭ ‬النفس‭ ‬ماهزارين‭ ‬باناجي‭ ‬وأنتوني‭ ‬غرينولد،‭ ‬وهو‭ ‬ثمرة‭ ‬عمل‭ ‬مشترك‭ ‬امتد‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭ ‬ولم‭ ‬يكتفيا‭ ‬بما‭ ‬توصلا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬تجاربهما‭ ‬الممتدة‭ ‬وإنما‭ ‬قدَّما‭ ‬نتائج‭ ‬مئات‭ ‬الدراسات‭ ‬والاختبارات‭ ‬والتجارب‭ ‬التي‭ ‬نهض‭ ‬بها‭ ‬باحثون‭ ‬آخرون‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الجامعات‭ ‬والمراكز‭ ‬العلمية‭ ‬الأميركية‭ ‬والعالمية‭. ‬وفيه‭ ‬يؤكد‭ ‬العالمان‭: ‬حصول‭ ‬‮«‬ثورة‭ ‬علمية‭ ‬سببتها‭ ‬الطرق‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬إظهار‭ ‬المحتوى‭ ‬العقلي‭ ‬والعمليات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬إمكانية‭ ‬للوصول‭ ‬إليها‭ ‬بالفحص‭ ‬النفسي‮»‬‭ ‬ويضيف‭ ‬العالمان‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الزيادة‭ ‬المستمرة‭ ‬في‭ ‬الأبحاث‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالوظيفة‭ ‬العقلية‭ ‬اللاواعية؛‭ ‬غيَّرَتْ‭ ‬بالفعل‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬فهم‭ ‬السلوك‭ ‬البشري‭.‬

كان‭ ‬معظم‭ ‬علماء‭ ‬النفس‭ ‬منذ‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬السلوك‭ ‬البشري‭ ‬يُوَجَّهُ‭ ‬أساسًا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الأفكار‭ ‬الواعية‭. ‬أما‭ ‬حاليًّا؛‭ ‬فإن‭ ‬معظمهم‭ ‬سيوافق‭ ‬بسهولة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬قدرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬والسلوكيات‭ ‬البشرية؛‭ ‬تُنْتَجُ‭ ‬اعتمادًا‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬ضئيلٍ‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬الواعي‮»‬‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يتطبَّع‭ ‬به‭ ‬الفرد،‭ ‬أو‭ ‬يعتاده،‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬هيمنة‭ ‬تلقائية‭ ‬مطلقة؛‭ ‬ويتجاهل‭ ‬عقلُه‭ ‬المعرفةَ‭ ‬الطارئة‭ ‬المكتسبة؛‭ ‬فالشخص‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬قرأ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الآفات‭ ‬العقلية‭ ‬التلقائية‭ ‬لكن‭ ‬التطبع‭ ‬يطغى‭ ‬على‭ ‬المعلومات‭ ‬بطريقة‭ ‬تلقائية‭ ‬ومثلما‭ ‬يقول‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭ ‬روجر‭ ‬شيبرد‭: ‬‮«‬أيُّ‭ ‬معرفة‭ ‬أو‭ ‬فَهْمٍ‭ ‬للوهم‭ ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬الفكري؛‭ ‬يظل‭ ‬عمليًّا‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تقليل‭ ‬حجم‭ ‬الوهم‮»‬‭. ‬يوضح‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭ ‬جوردون‭ ‬ألبورت‭: ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬يفكر‭ ‬حسب‭ ‬الأنماط‭ ‬التي‭ ‬كَوَّنها‭ ‬الدماغ‭ ‬كقوالب‭ ‬ذهنية‭: ‬‮«‬وبمجرد‭ ‬تكوينها‭ ‬تصبح‭ ‬الأنماط‭ ‬هي‭ ‬الأساس‭ ‬لتكوين‭ ‬أحكامٍ‭ ‬مسبقة؛‭ ‬ولا‭ ‬يمكننا‭ ‬تجنُّب‭ ‬هذه‭ ‬العملية‮»‬‭. ‬إن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يُكَوِّن‭ ‬أفكاره‭ ‬وآراءه‭ ‬وتصوراته‭ ‬وأحكامه‭ ‬بشكل‭ ‬آني‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬ذات‭ ‬جاهزية‭ ‬في‭ ‬اللاوعي؛‭ ‬فتنساب‭ ‬أو‭ ‬تتدفق‭ ‬من‭ ‬القوالب‭ ‬النمطية‭ ‬التلقائية،‭ ‬إن‭ ‬القوالب‭ ‬النمطية‭ ‬تنفي‭ ‬أي‭ ‬نمط‭ ‬لا‭ ‬يتفق‭ ‬معها؛‭ ‬أما‭ ‬الإشراقات‭ ‬الفلسفية‭ ‬الفردية؛‭ ‬فهي‭ ‬حالات‭ ‬استثنائية‭ ‬نادرة؛‭ ‬لا‭ ‬تحصل‭ ‬بتخطيط‭ ‬وقصد‭ ‬إنما‭ ‬تنجلي‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭ ‬ظروفٌ‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬توقعها؛‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬لطاليس‭ ‬وسقراط‭ ‬وديكارت‭ ‬وكانط‭ ‬ووليم‭ ‬جيمس‭ ‬وعدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬الفكر‭…‬

اختناق التنوير نتيجة حتمية

اختناق التنوير نتيجة حتمية

يقف بعض المهتمين حائرًا أمام عقم وعجز جهود التنوير منذ أكثر من قرنين عن التأثير في الواقع العربي البائس، ولكن الحيرة تزول حين ندرك الطبيعة التلقائية للإنسان، ونعرف الكيفية التي تتكون بها عقول الناس تلقائيًّا، ونتعقَّل أن الإنسان كائن ثقافي، ونستوعب حقيقة أن كل جيل يرث بشكل تلقائي ثقافة الجيل الذي قبله بانتظام تلقائي صلب، وأن الثقافات كيانات متمايزة نوعيًّا، وأن المجتمعات محكومة بحتمية ثقافية حاسمة، وأن كل القوى المهيمنة في المجتمع ترعى هذه الحتمية وتحميها، وتملأ نفوس الأجيال بإجلال السائد وتقديسه والولاء له والبراء، مما يُظَن أو يُتَوَهَّم أنه يتعارض معه، وأن لكل فرد بنية ذهنية ووجدانية تختلف عن كل الآخرين، فمن السهل أن يتبادلوا المعلومات والأخبار والمعارف، لكن لا يمكن أن تتطابق تصوراتهم وأفكارهم ورؤاهم تطابقًا تامًّا حتى وإن ساروا متحدين.

frans_hals

رينيه ديكارت

فالمواقف تقوم على محاولات التوافق وليس التطابق. إن كل هذه العوامل وغيرها تجعل رفض التغيير حتميًّا وتلقائيًّا، لأن التنوير يستهدف تغيير الواقع؛ فهو يتحرك باتجاه مضاد لما هو أثير ومخالط للنفوس، ومتجدد التأكيد، وكثيف التغذية، وعميق في الوجدان، ومستقر في العقول، ومتجذر في التاريخ، وراسخ في الواقع، ومألوف ومتوارث وسائد ومستحكم. إن التنوير يحمله أفراد عُزَّل لا يملكون سوى الفكر النيِّر، مقابل مجتمعات فخورة بثقافاتها المتجذرة، وقوية بكياناتها المتماسكة، لذلك لم يكن غريبًا أن تختنق كل جهود التنوير في العالم العربي خلال القرنين الماضيين.

 إن الأصل في كل الثقافات أنها ترفض وتقاوم بشكل تلقائي أيَّ فكر طارئ مغاير، حتى أوربا لم يؤثر فيها التنوير ويتحقق التغيير النسبي إلا بعد حروب طويلة دامية، فقد انقسمت المجتمعات الأوربية معه وضده، فانحازت فئاتٌ مهمة وفاعلة إلى صف التنوير، وبقيت فئات أخرى تقاومه بشراسة؛ فالانتصار النسبي للتنوير لم يتحقق إلا بعد مقاومات عنيفة، فلو لم تصادف ثورة مارتن لوثر هوى الأمراء الألمان كذريعة للتحرر من الإمبراطورية المقدسة، ومن  سلطة الكنيسة الكاثوليكية وقرارات البابا التعسفية لما كان لها أن تنتصر، ليس هذا فقط، إذ لم يكن ذلك وحده هو العامل الذي جعل أوربا تتقبل التنوير حتى وإن جاء التقبل ببطء وتلكؤ، وإنما تضافرت عوامل كثيرة انتهت بأوربا والغرب عمومًا إلى هذا التحرر النسبي من أغلال التاريخ، والانفكاك من بعض القوالب الثقافية الموروثة. وأهم هذه العوامل الإيجابية أن الثقافات الأوربية هي في الأساس تفريعات للثقافة اليونانية بفكرها الفلسفي وعقلها النقدي، كما أنها قد ورثت الثقافة الرومانية بتراثها القانوني العريق، وإرثها السياسي الفريد، ولكن على رغم كل هذا، وعلى رغم مرور القرون على التحرر النسبي للغرب، فإن الشعوب الغربية ما زالت كغيرها من الشعوب تقاد فتنقاد، فالكتل البشرية في كل الأمم ما زالت تعيش بوعي زائف، وسيبقى أكثر الناس في كل الأمم إمَّعات مهما نالوا من تعليم مهني، فالناس في كل المجتمعات هم مجرد ركاب في سفينة التغيُّر والازدهار، أو في سفينة التحجر والانحدار.

      مفارقة صارخة

إن الواقع البشري ينطوي على مفارقة صارخة بين ما يملكه من إمكانيات عظيمة وقدرات هائلة في كثير من  جوانب الحياة، وبين عجزه الفاضح عن معالجة مشكلاته، فنحن غالبًا تخدعنا الإنجازات الحضارية الهائلة في المجالات العملية والمهنية، وفي مجالات الوسائل والأدوات والتنظيم والمؤسسات والنُّظُم، فنتوَهَّم أن البشرية أفرادًا ومجتمعاتٍ وأممًا، قد قطعت مراحل متقدمة جدًّا من سلامة التفكير وعُمْق الإدراك،  وأنها قد تجاوزت التفكير البدائي التلقائي، وأنها قد بلغت مستوى الرُّشد القائم على التحقُّق الموضوعي في كل أمورها، ولكن بقراءةٍ فاحصةٍ للتاريخ الإنساني، وبالتأمل العميق في ما يجري في العالم تنجلي الحقيقةُ المفزعة، وهي أن البشرية في شكل عام ما زالت من الناحية الفكرية والأخلاقية تعيش في مستوى بدائيّ سحيق غارق في التخلف والبؤس.

وأمام هذه المفارقة الصارخة بين التطور الحضاري المذهل في وسائل وأدوات الحياة وفي القدرات العملية، مقابل التخلف الشديد لعموم الناس ولأكثر القيادات الثقافية والسياسية في العالم في الجوانب الفكرية والأخلاقية والحكمة، قياسًا بما تحقق من إنجازات عظيمة، إن فهم هذه المفارقة الصارخة لا يتحقق إلا بقراءة تاريخ الحضارة قراءة فاحصة، حيث نجده يجيب عن هذه المفارقة بأن يؤكد الحقائق الآتية:

الأصل في المجتمعات أنها تبقى منتظمة في ما وجدتْ نفسها عليه، فالاستمرار تلقائي، أما التغيير فهو ضد هذا الانتظام التلقائي الحتمي، أما التطورات الحضارية المتحققة في كل المجالات فقد تمخَّضَتْ عنها عقولُ عدد محدود جدًّا من الرواد الخارقين الذين تحرَّكوا عكس التيارات السائدة خلال التاريخ البشري كله، إنهم منذ طاليس وديمقراطيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وإقليدس  وأرخميدس ودافنشي وكوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن ومونتاني ومارتن لوثر وديكارت وكانْت وفراداي ودالتون وباستور وآينشتاين وأمثالهم من الأفراد الرواد  الاستثنائيين، وكلهم لو اجتمعوا لن يتجاوز عددُهم عدَدَ ركَّاب طائرة كبيرة، أو عدد ركاب قطار كبير، إنهم يمثلون نشازًا في الكثرة الهائلة من البشرية العمياء، لكننا نغفل عن هذه الحقيقة الكبرى الصادمة، ونتحدث عن أن الإنسان بطبيعته طَلْعةٌ يَقِظٌ، وأنه متشوِّفٌ تلقائيًّا إلى أن يعرف، والتاريخ البشري والواقع كلاهما يؤكد العكس تمامًا، فالمندفعون خلال التاريخ البشري كله للاكتشاف، والمشغوفون بالمعرفة، والمستغرقون في محاولة الفهم الموضوعي العميق، هم أفرادٌ معدودون يمكن إحصاؤهم بأسمائهم، وهم في نصاعة تفكيرهم، ورفيع اهتمامهم، وعُمق تركيزهم، وفي النتائج التي يتوصلون إليها يكونون مغايرين تمامًا للأنساق الثقافية السائدة في كل العالم.

pen-1إن الأفكار الريادية الخارقة في كل مراحل التاريخ قد جاءت كومضات خاطفة وسط ظلمات حالكة، وكلها من دون أي استثناء قد قوبلتْ بالرفض والمقاومة، وهو رفضٌ قد يمتد قرونًا، كما هي حالة اكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون، فقد بقي هذا الاكتشاف مطمورًا أكثر من ثمانية عشر قرنًا حتى أعاد الاكتشاف كوبرنيكوس، ومع أن معظم الاكتشافات لا يمتد رفضها كل هذا الامتداد؛ إذ  تجد من يستقبلها بالقبول بعد تلكؤ قد يطول أو يقْصُر حسب الحالة الثقافية السائدة، ولكن المؤكد أن الرفض يحصل دائمًا بشكل تلقائي، أما القبول فلا يأتي إلا متأخرًا، وقد لا يأتي أبدًا كما في الثقافات الشديدة الانغلاق. وفي الكتاب الذي لم أنشره بعدُ بعنوان «الريادة والاستجابة» قَدَّمتُ شواهد متنوعة على ذلك من التاريخ والواقع، ستكون كافية لمن يرغب في الاستبصار.

حين تَدخُل فكرةٌ رائدة، أو حقيقةٌ علمية فارقة، أو تنظيمٌ اجتماعي جديد متطور إلى ثقافة أي مجتمع، فإنها لا تدخل عن طريق الفهم العام، وإنما تصير جزءًا من ثقافة المجتمع بواسطة الممارسة والمعايشة والتكيف والتعود، فعموم الناس في المجتمعات المزدهرة لا يدركون سبب أو أسباب ازدهارهم، فهم محمولون في مرْكبة التحضُّر أو مركبة التحجُّر من غير أن يعرفوا كيف تكوَّنت هذه المركبة الاجتماعية العامة،  فقد تبرمجوا بما هم عليه تبرمُجًا تلقائيًّا بواسطة التكيف والتعود، وليس بواسطة التفهُّم والإدراك، فالأفراد في المجتمع كقطرات الماء في النهر الزاخر، فلولا هذه القطرات لما كان النهر لكن لا أهمية لأية قطرة إلا بكونها ضمن النهر.

التعلّم بمختلف مراحله، والتخرُّج من الجامعات، أو حتى إنهاء دراسات عليا في أي مجال، هدفه تكوين المهنيين من الممرض إلى جراح القلب، أو أستاذ الجامعة أو الباحث العلمي، فكل هذه المسارات لا تدل على تطور نوعي للوعي الفردي، فالوعي النقدي الفاحص المنفصل عن تفكير القطيع لا علاقة له بالتعليم الجمعي بمختلف تخصصاته ومستوياته، بل التعليم المقنَّن يكرس الوعي السائد.

تجسيد الأفكار الريادية الخارقة يرتبط باتجاه حركة المجتمع، فإذا كانت حركة المجتمع باتجاه الازدهار، فإن الأفواج الذين تخرجهم الجامعات والمعاهد يتولون تجسيد الرؤى والأفكار الريادية التي تقبَّلها المجتمع، إذ يعمل كلُّ فرد في مجال اختصاصه. إن إنتاجهم يمثل قطرات الماء التي يتكوَّن منها نهر الازدهار، ولكن الأفراد أنفسهم الذين أسهموا في تشييد الازدهار في مجتمع تتجه حركته في اتجاه النمو، لو عملوا في مجتمعات متخلفة فسوف يكون عملهم محكومًا باتجاه حركة المجتمع، وبذلك فقد يكون إسهامهم في تكريس الواقع وليس تغييره، أي في تكريس التخلف واستحكام أركانه وإغلاق منافذ الرؤية فيه.

الثقافة السائدة

إن استيعاب هذه الحقائق يجعلنا ندرك أن التعليم في أي مجتمع محكومٌ بالثقافة السائدة وليس حاكمًا لها، وأن أفراد كل بيئة يتبرمجون بثقافتها تلقائيًّا فيبقون محكومين بها، وتظل تتحكم بهم وتهيمن على اتجاههم وتفكيرهم ووجدانهم، وتحدد قيمهم واهتماماتهم، فالبرمجة التلقائية هي التي تحدد هوية الفرد حسب البيئة التي ينشأ فيها، فالإنسان لا يولد بماهية أو هُوية محددة، وإنما يتقولب تلقائيًّا في طفولته قبل بزوغ وعيه.

إن كل إنسان يولد بقابليات فارغة مفتوحة مطواعة، فيتشكل عقله ووجدانه بالأسبق إلى قابلياته، ثم يظل هذا الأسبق يتحَكَّم به مهما نال من تعليم، فهذا الأسبق يصير هو الذات عينُها، وهو المعيار المهيمن لتقييم كل ما هو مغايرٌ له. إن الفرد لا يفكر إلا من خلال هذا الأسبق، فهو لا يرى أيَّ شيء إلا بواسطته، فمن المحال أن يفكر المرء بتغيير ذاته إلا بهزة فكرية مزلزلة توقظه من سباته، وتخرجه من غبطته الغافلة، وتفصله عن التيار السائد، وهي حالة لا تحصل إلا نادرًا، أما عموم الناس فيبقون مأسورين بما تبرمجوا به في طفولتهم، فلا يرون الحياة والدنيا إلا من خلال هذا التبرمُج التلقائي.

أما التعليم الذي يضطرون لقضاء ربع قرن وهم يكابدونه فيبقى محصورًا في المجال المهني والعملي فقط، وكما يقول الدكتور فاخر عاقل في كتابه (سيكولوجية الإدراك): «إن المعلومات المبدئية تكون إطارًا ومفتاحًا للمعلومات التالية، وإذا كانت المعلومات التالية مخالفةً للمعلومات الأولى فإنها تُلوى لتناسب المعلومات المبدئية». إن الناس يجهلون عن أنفسهم هذه الحقيقة الأساسية، مع أنها أهَمُّ من ركام الحقائق الجزئية التي تمتلئ بها أذهانهم ويهتم بها التعليم.

leonardo

ليوناردو دافنشي

إن هذه الحقيقة المحورية التي أكدها الدكتور فاخر عاقل قد باتت من الحقائق التي يكررها العلماء والباحثون، فهذا الطبيب المشهور العالم إدوارد دي بونو يقول بوضوح في كتابه (تعليم التفكير): «تقوم المعلومةُ الأولى بتغيير حالة العقل بشكل يجعل المعلومةَ الثانية ترتبط بها أو توافقها، وبهذه الطريقة يتم بناء الأنماط». ولأن الدماغ البشري لا يملك آلية للتحقُّق فإنه يعتمد المعلومات الأسبق كمعيار للحكم على المعلومات التالية مهما كانت الأولى خاطئة، ولأن مسائل العلوم التي يتلقاها الدارسون في التعليم لا تأتي ولا يمكن أن تأتي إلا متأخرة أي بعد أن تكون البنيات الذهنية والوجدانية قد تَشَكَّلَتْ في مرحلة الطفولة المبكرة، فإنه لا يكون لها أي تأثير إيجابي في تصحيح ما تبرمجت به القابليات بشكل تلقائي من دون أي تمحيص.

التعليم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتخلفة

إن التعليم في المجتمعات المتخلفة يكرس التخلف، ويعمق أسبابه، ويزكي البيئة الحاضنة له. إن التعليم محكومٌ بالأوضاع القائمة؛ فإذا جاء ضمن ثقافة حرة ومنفتحة ونامية، فإنه يُمدُّ المجتمع بالطاقات الإنتاجية والإبداعية التي تدفعه للمزيد من التقدم والازدهار، فكل تقدم هو تمهيدٌ لتقدم أعظم، أما إذا جاء التعليم ضمن ثقافة مغلقة ومتخلفة ومرعوبة من الأفكار المغايرة، فإنه يكرس الانغلاق، ويرسخ التخلف، ويوصد العقول، ويشحن العواطف بالرفض العنيد الأعمى لمقومات التقدم الطارئة.

إننا نتوهَّم أن تعميم التعليم، ونشر المدارس، والإكثار من الجامعات، وإغداق الإنفاق عليه، وتوفير فرص التعليم للجميع يؤدي تلقائيًّا إلى تهيئة المجتمعات لتحقيق التقدم والازدهار، لكننا نغفل عن أن التعليم محكومٌ بالثقافة السائدة، وليس بالعلوم الطارئة، ونتجاهل بأن المجتمعات محكومة بثقافاتها التلقائية المتوارثة، وليست محكومة بطلاءات مجلوبة من خارجها.

إن المجتمعات تتناسل ثقافيًّا بشكل تلقائي، وترفض ما يغاير تصوراتها وقيمها ومألوفاتها، فالأطفال يتبرمجون تلقائيًّا بالثقافة السائدة قبل أن يلتحقوا بالتعليم، فتنغلق قابلياتهم عن قبول ما لا يتفق اتفاقًا كاملًا مع البرمجة التلقائية، لذلك ينبغي أن يدرك رجال التربية والتعليم والمسؤولون عن التنمية هذه الحقيقة الأساسية، وأن يتفهموا التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة البشرية.