نداء عميق قادم من البدائية الأولى

نداء عميق قادم من البدائية الأولى

عرفت الطريق إلى الملعب البلدي، في الوقت نفسه الذي عرفت فيه الطريق إلى الكتاب القرآني وتصارعت بداخلي، وبلا هوادة، الأبجدية والكرة. نسير جماعة، نعبر السوق الأسبوعي، ونصعد عقبة المقبرة، ثم نخترق القصبة لنجد أنفسنا في الملعب حيث يتدرب فريق المدينة الرجاء الملالي ويجري مقابلاته. نصعد عقبة، ونجتاز أزقة ضيقة، ونمشي في الزحام، ونصل متعرقين لنتابع مشدوهين السحر الملغز للكرة بين أرجل أبطال صبانا. يعتصرنا الجوع، ونأكل الحشائش النابتة في أطراف السياج المحيط بالملعب.. ونرى الشمس تتدحرج نحو المغيب، والطريق طويل، ولا نغادر الملعب حتى ينتهي المران.

ومع صيحات الديكة نصحو ونذهب لملعب قريب من الحي ونقلد بشكل حرفي ما رأيناه بالأسس حتى أسماءنا ننساها ونتخذ لنا أسماء اللاعبين. هناك نبني يومًا يومًا انتمائي للمدينة التي كان الفريق روحها وموحّدها وفخرها الأوحد. وهناك كرهت الجدران المنيعة العالية المحاطة بالحراس منذ أن كنت أطوف حولها في المقابلات الرسمية كذئب جائع يبحث عن ثلمة في خم دجاج. لم أكن، من حياء وكبرياء، أقدر على أن أقف في الطريق المؤدي للملعب وأتسول الكبار الذين في أيديهم بطاقة لإدخالي معهم. أقنع بالوقوف اليائس المعذب بعيدًا من الباب منتظرًا فتحه في الشوط الثاني. وما إن صرت قادرًا على تدبر مبلغ الدخول حتى أبحث عن إبرة وخيط وأضع المبلغ في جيب داخلي لسترتي وأخيط عليه حتى يحين موعد المقابلة.

في تلك الأيام وأنا أسمع هتاف الجمهور الداخل واهتزاز الملعب أحصي بداخلي عدد الإصابات التي سجلها فريقنا، وكم أحس بخذلان فتاك حين أدخل الملعب وأعرف أن الصياح والاهتزاز كان في الغالب بفعل فرص ضائعة، وأن النتيجة أبعد بكثير من أوهام طفل تنتصب أمامه جدران هائلة. كم قال ذلك الطفل في نفسه: ليتني أعمى، وهو يرى سلسلة العميان تتقدم نحو الباب، يشد كل واحد فيها يد من يتقدمه، وحين يصلون يفسح لهم الحراس باب الدخول من دون بطائق. يا له من امتياز عظيم تهون أمامه الآفة! وأنا في الملعب كان مشهد العميان الذين يجلسون دومًا في نفس المكان يذهلني ويبلبلني. لماذا هم هنا؟ وكيف يحضرون مقابلة لا يرونها؟ لم أكن أعرف آنذاك قيمة فرح الإحساس بالانتماء للجماعة والمشاركة في انفعالات الحشد وترف الشعور بأنك جزء من سيل هادر حتى صرت أرى من يحركون الألتراس في عماهم الاختياري بمدرجات الملعب يديرون ظهورهم طيلة المقابلة للملعب واللاعبين. همهم الوحيد هو تنسيق شعارات الجمهور وضبط حركاته وتحريكه كلما خبا كجمر.

روح المدرجات وملح الهتاف

كان للفريق نجومه وللجمهور نجومه أيضًا الذين لا قيمة للجمهور من دونهم، إنهم من يتحكمون في درجة الحماس، يلهبونه متى شاؤوا. إنهم روح المدرجات وملح الهتاف والصياح وفرجة إضافية للمقابلة. وكم تكون المقابلات، ومهما يكن الخصم، باردة ومملة حين يغيبون: صامبا بثيابه المزركشة وطبله وأغنيته الأبدية «يا وطني…» و«ويلي يا ويلي جابها فالفيلي (الشبكة)»، ومعيطو الثمل دومًا الذي ينتظر الجمهور بوقار وصمت وقوفه في بداية المقابلة بمهابة قرصان ليعطي بإشارة حازمة من يده بدء الهجوم يقول بفرنسية راقية: هيا أيها الخُضر (لون الرجاء الملالي) هاجموا الحُمرَ « Allez les verts Attaquez les rouges »، وبزيكر ببنديره وأغنيته عن الفواكه، والمعلم بتعليقاته الساخرة التي تضحك الجمهور. في كل ركن من الملعب هناك من ينتظره الناس فالفرجة لا تكتمل إلا به.

لم نكن نقنع بأن نرى نجوم صبانا بل كنا نريد أيضًا أن تكون لدينا صورهم؛ لذا كنا نقلب مزابل المدينة تقليبًا بحثًا عن أطراف الصحف علّنا نجد فيها صورًا للفريق أو لأحد اللاعبين، تهون الرائحة والعفر بل النزول للجحيم نفسه من أجل ذلك، أو نستميت في تدبر بعض النقود لشراء علب صغيرة فيها صور لاعبي البطولة، أربع في كل علبة وأنت وحظك، عمومًا كان الأمر يتطلب شقاءً سيزيفيًّا في تدبر المبلغ الصغير في كل مرة وفي استدرار رحمة حظ…. أدين للكرة بتحرير خيالي وبقدرتي على الحلم، كنت وأنا أمام الجدران المنيعة للملعب أبني ما لا أراه، وأرتق ما انفصل. أدين لها بقدرتي على التحمل منذ أن كنا نمشي للدواوير المجاورة لنلعب مقابلات، نمشي على أرجلنا عشرة كيلومترات أو يزيد ونلعب مقابلة ونعود مشيًا، يوم كامل من الشقاء والجوع والعرق. أدين لها بنظرة للحياة مفتوحة على اللامتوقع، لا أحد بإمكانه مسبقًا أن يحدد مآل مقابلة، الكرة لا تبارك إلا الجهد والعرق، وداخل الملعب بإمكان الضعيف أن يبهذل القوي والماكر أن يتلاعب بالغبي، والسريع أن يفضح البطيء. هناك عدالة رفيعة في الكرة ومشاعية لم تصل لها أرقى التنظيمات الاجتماعية التي طورتها البشرية، فالأرض ملعب مشاع، وأطراف الغابات، والصحاري، المنبسطات الصغيرة في الجبال، وسطوح العمارات، وفي الأزقة وداخل الأسواق، وبإمكان الكل ارتجال ملعب بحجرين للمرمى أو عمودين ولف خرق وجعلها كرة أو استعمال ما اتفق والاستسلام لسحر اللعب. والكرة غير متطلبة؛ إنها لا تشترط شيئًا حتى الأجساد الضئيلة والأرجل المعوجة، حتى الأقزام بإمكانهم أن يكونوا نجومًا وأن يبهروا العالم.

توقظ الغرائز البدائية

الكرة نداء عميق للجميع قادم من الجماعات البدائية الأولى التي كانت تنصب شبكة في الغابة وتقود عن طريق الإحاشة الطريدة نحوها، كل عناصر المشهد البدائي تستعيدها اللعبة، فالفكرة هي الطريدة التي يدفعها كل فريق نحو شبكة الآخر، وكلما علقت بها عُدّ ذلك هدفًا والصخب المرافق لدفع الطريدة يؤمنه في الملعب الجمهور. تخاطب الكرة الغرائز البدائية داخل كل واحد منا وما الحماس الكوني الذي تخلقه من حولها إلا دليل على أنها أكثر من لعب وأكثر من فرجة، إنها الحياة وقد تكثفت في حيز مكاني وزماني معين. الحياة بما فيها من أمل وخيبات ومصادفات حظ واستعصاء.

بدأت حارس مرمى وبسبب نملة هجرت المرمى وصرت مدافعًا. ذاع صيت ارتماءاتي في حيِّنا وبرعت في صدّ ضربات الجزاء؛ لأنني ربيت بداخلي قدرة على توقع اتجاهات الكرة. كل هذه الميزات جعلت فريق كبار حيِّنا يلجأ لي لحراسة المرمى في مقابلة يجرونها مع فريق حيّ مجاور، وكان الرهان على قدر من المال. أبليت البلاء الحسن طيلة المقابلة، وقبيل نهايتها بالتعادل السلبي اندفع فريقنا نحو الهجوم وحاصر الخصم في منطقته ولأن الخطر بعيد ومن مللي تابعت مكابدات نملة وهي تنقل حبة قمح ونسيت المقابلة حتى سمعت صياحًا وكرة تمرّ بطيئة بالقرب مني. هربت نحو الدار مجللًا بالعار واللعنات ومن يومها تركت حراسة المرمى وصرت مدافعًا كبر شيئًا فشيئًا حتى عُرِض عليه، بعد دوري أحياء تألق فيه وفاز فريق الحي بالكأس بأن يلتحق بفريق المدينة الرجاء الملالي. لم أنم ليلتها من الفرح ومن الإحساس بالمرارة، فالأحلام تتحقق حين نتغير وتتغير الظروف من حولنا فتأتي في غير أوانها. كنت قد نجحت في سلك الباكالوريا وعليّ الالتحاق بكلية الآداب في مراكش وكان من المستحيل التوفيق بين الدراسة والكرة. لقد منحتني الحياة فرصة العمر في اللعب لفريق المدينة في الزمن الخطأ، كأنها أرادت تعذيبي فقط.. لم ألعب للفريق لكنني بعد عودتي للمدينة واشتغالي أستاذًا ثم مندوبًا ومديرًا جهويًّا لوزارة الثقافة دخلت دواليب تسيير الفريق وصرت رئيسه في البطولة الاحترافية. ولم يهجرني قط ذلك الطفل الصغير الذي كان يقف أمام الأسوار العالية للملعب حالمًا ومتخيلًا ما يجري من ورائها.

تلبس الفريق روح المدينة، يضعف حين تضعف، ويتقوى حين تكون في أيد أمينة، ويمكن قراءة تاريخ المدينة من خلال تاريخ الفريق. حاول مغامرون تأسيس فرق تنافس الرجاء الملالي بالمدينة لكنها تموت بعد سنوات قليلة، فهي تريد منافسة شجرة ضربت عميقًا في الأرض ومدت أغصانها في حاضر ومستقبل المدينة.