الثقافة في انزياحاتها المكانية

الثقافة في انزياحاتها المكانية

لم يغادر مثقفو المهجر أوطانهم إلا بعد أن فاض بهم كيل الحياة فيها، وأثقلتهم همومها المعيشية أو السياسية أو الاجتماعية، فوجدوا أن لا سبيل إلى تحقيق متطلبات الحياة الكريمة لهم ولأبنائهم، والتنفس بحرية إلا في بلاد أخرى، وضمن شروط مختلفة عن تلك التي كانت تكبلهم وتجهز على أحلامهم وطموحاتهم في أوطانهم أولًا بأول.

ومفهوم بالطبع، أن للمثقف قياسات حياتية مختلفة عن غيره، سواء من حيث مستوى الحرية أم نمط الحياة والمعايشة التي لا تعني منحه منزلة تفوق غيره من الناس، إنما هي قياسات تتطلب بيئات حيوية قادرة على إثراء معارفه، واحتمال اختلافه، وتفهم بنائه السيكولوجي بمنأى عن التفاصيل التي ينهمك الآخرون بها، فتستنفد أوقاتهم وتجرّهم إلى متاهاتها التي تطحن ما تبقى من أعمارهم من دون أن يحققوا شيئًا يذكر.

صحيح أن عددًا من مثقفي المهجر قدموا نماذج فريدة للنجاح والإبداع في مجالات شتى، كإدوارد سعيد وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وغيرهم كثيرون، لكن أولئك لا يمثلون سوى القليل من الواقع الثقافي الكمي والكيفي لمثقفي المهجر المنتشرين في أصقاع الأرض.

تفيد الإحصائيات أن أكبر عدد من المثقفين العرب الذين يعيشون في أميركا وأوربا يتحدرون من أصول مغاربية ومصرية ولبنانية وفلسطينية وسورية وعراقية على التوالي من حيث العدد، وأنهم تمكنوا من التداخل في النسيج الثقافي لتلك البلدان إلى حد أن بعضهم تسلَّم مراكز رفيعة في الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث وفي بنية النظام الثقافي العام. وبصرف النظر عن مدى هذا التداخل وحجمه الذي لم يبلغ حدود التأثير الملموس في المجريات الثقافية لتلك البلاد، فإن عددًا من أولئك المثقفين تحولوا إلى شخصيات اعتبارية تتردد أسماؤها في الجامعات ووسائل الإعلام والمنتديات، وفي الوقت ذاته، تحظى بالاحترام في بلدانها الأصلية التي تنكَّرت لهم في أثناء وجودهم فيها، وصارت تعتد بهم بعد أن غادروها.

الجاليات الثقافية

لكن ماذا يفعل المثقفون العرب في المهجر؟ ما دورهم إزاء القضايا العربية الساخنة والمستعصية التي تشغل الدنيا وتلازم يوميات رجال السياسة والثقافة والفكر في كل بقاع العالم؟ إن قراءة تكوينات «الجاليات الثقافية» العربية في كل من أميركا وأوربا، تفرض التمييز فيما بينها، وتقسيم أفرادها إلى أربعة أقسام من حيث السلوك الثقافي:

الأول يمثله ذلك الفصيل الذي استثارته الحضارة الغربية وأعادت تشكيل مفاهيمه ومنظوماته الفكرية والحياتية، فعاش على حلم تحققها في بلاده؛ كي يعود إليها ويرى في مدنها وأريافها وبواديها أبراجًا ومسارح ومصانع وتقنيات، وشعوبًا لا تكفّ عن التنقل بمرح وطلاقة في سهوب الحرية المفقودة وفراديس السعادة الضائعة.

وعلى الرغم من إخلاص هذا النوع من المثقفين لأوطانه وقضاياها، فإنه بات يدرك أن أحلامه تلك لن تتحقق في أثناء حياته أو حياة أبنائه؛ لذا لا أمل له في العودة إلى وطنه حتى لو كان مفروشًا بالسجاد الرسمي الأحمر.

النوع الثاني يحمل حنينًا جارفًا وإخلاصًا نادرًا لبلاده، ويحاول أن يفعل شيئًا، أي شيء، من أجل خدمة تلك البلاد، لكنه في الأغلب يصطدم بعراقيل صُنعت في معامل ثقافية عربية منكفئة على ذاتها، وفي ثكنات مكتظة بأناس على قدر كبير من الورع الوطني والقومي والاجتماعي والغيبي الذي يرفض التعامل مع كل ما تحمل الرياح الغربية، حتى لو أُنتِج بأيدٍ عربية خالصة؛ إذ إن «بذور الشيطان لا تأتي إلا من الغرب». هذا النوع من مثقفي المهجر أصيب مؤخرًا بالإنهاك رغم مثابرته وعناده، ويبدو أن اللعنات المنبعثة من معسكرات البؤس أصابته في مكان ما من بدنه المعافى، أو أن أورام اليأس امتصت عزائمه، كل شيء جائز.

حالات رفض حاد

النوع الثالث دهمته صدمة الثقافة الغربية وتطوراتها المتسارعة، فآثر الاحتماء بما لديه وما توارثه من مخزونات ثقافية، ثم الإمعان في تقديس ثقافته الأم إلى حد تحولت معه إلى مبعث للتطرف وردود أفعال عنيفة سواء على صعيد القول أو الفعل؛ لذا لم يكن غريبًا أن تشهد الأوساط الثقافية في المهجر حالات من الرفض الحاد المحتقن لكل المنتجات الثقافية السائدة في المجتمعات التي يعيشون فيها، كما لم يكن مستهجنًا أن تتساءل تلك المجتمعات عما إذا كان هذا الرفض ناجمًا عن فلسفات مغايرة، أم أنه محصلة أشكال من الكراهية غير المفهومة تجاهها، أو ربما ارتكاسات كانت أقوى من الاحتمال. هذا النوع أو الفصيل الثقافي، أسهم –ربما من دون أن يقصد– في تنمية نزعات التطرف والراديكالية لدى أفراد ومجموعات صغيرة متناثرة في جسد الجاليات العربية في المهجر.

أما الفريق الرابع، فقد انخرط في الثقافة الغربية وتمثل نموذجها الذي ينطوي أحيانًا على احتقار معلن للعرب والمسلمين، وعدّهم عرقًا متيبسًا غير قابل للاخضرار، هذا الفريق الذي يعتمر قبعات الشمال الأميركي القديم، تنصل تمامًا من كل ما يمت إلى جذوره ومنابت أجداده، وتجنب -ما أمكنه- التعريف بأصوله العربية أو حتى ذكرها أمام الآخرين، وخوَّضَ في مَعْمَعان الحياة الأميركية بكل ما تحمل من سمات وملامح وقيم ومسلَّمات، كأنه جزء أصيل من الحضارة التي شهدت إفناء الهنود الحمر، وشاركت في حرب الأميركتين، وأسست العالم الجديد الذي يقود عالمنا. وفوق كل هذا فهو يشعر بسعادة غامرة جراء « نجاحه» في التبرؤ من عروبته أو إسلاميته، تمشيًا مع متطلبات الانسلاخ الكامل عن الماضي والموروث.

غير أن الحكمة الأميركية الشهيرة «ما يود الأب أن ينساه، هو ما يريد الحفيد أن يتذكره» هذه الحكمة تظل تخدش حبور الفريق الأخير من مثقفي المهجر؛ إذ إنها تعيد إلى أذهانهم حقيقة المرارة المتخفية في قيعان أعماقهم التي لم تستطع مجاراة تنصلهم من هويتهم الأصيلة، وهو ما عبر عنه أحد المؤرخين الأميركيين «ماركوس لي هانسن» حين وصف فئات ليست قليلة من المهاجرين إلى أميركا من عرب ومسلمين ولاتينيين وأفارقة…، بأنهم يبدون اهتمامًا شحيحًا بثقافات العالم الذي جاؤوا منه، وبأن هذا الاهتمام يتلاشى تدريجيًّا من جيل إلى آخر ضمن متواليات مرعبة؛ بسبب تبني ما أطلق عليه «سياسة النسيان» إزاء تلك الثقافات الحية في بلدانها، والبائدة في أذهان أبنائها المهاجرين.

على أن «هانسن» المتخصص في شؤون المهاجرين والوافدين، خلص إلى نتيجة لاذعة بليغة في وصفه هذا الفريقَ حين ذكر في إحدى مقالاته أن «لا أحد أكثر تأمركًا في أميركا من شخص له أصول غير أميركية».