المجلات الثقافية السعودية ومواجهات التحديات!

المجلات الثقافية السعودية ومواجهات التحديات!

يحمل‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬من‭ ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬الرقم‭ ‬500‭ ‬ويتزامن‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬أربعين‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬انطلاقة‭ ‬المجلة،‭ ‬شهدت‭ ‬خلالها‭ ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬تحولات‭ ‬مفصلية‭ ‬وخاضت‭ ‬تجارب‭ ‬مهمة‭ ‬وواجهت‭ ‬تحديات‭ ‬صعبة‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬ننشر‭ ‬مقالًا‭ ‬للدكتور‭ ‬خالد‭ ‬الرفاعي،‭ ‬عن‭ ‬أحوال‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية،‭ ‬عربيًّا‭ ‬وسعوديًّا‭.‬

تعدّ‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬غذّت‭ ‬العقل‭ ‬والوجدان‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وواحدة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الوسائل‭ ‬استخدامًا‭ ‬في‭ ‬المشروعات‭ ‬النخبوية‭ ‬الرائدة،‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬‮«‬مواجهة‭ ‬الاستعمار‮»‬،‭ ‬و«تحرير‭ ‬الهوية‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬و«إحياء‭ ‬التراث‮»‬،‭ ‬و«إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للأدب‭ ‬والفنّ‮»‬،‭ ‬و«تجديد‭ ‬الفكر‮»‬‭. ‬وما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬القيمة‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬خلّفتها‭ ‬مجلات‭ ‬عربية‭ ‬رائدة‭ ‬كالمقتطف‭ ‬1876م،‭ ‬والأستاذ‭ ‬1892م،‭ ‬والمشرق‭ ‬1898م،‭ ‬والهلال‭ ‬1892م،‭ ‬والمجلة‭ ‬الجديدة‭ ‬1929م،‭ ‬والرسالة‭ ‬1933م،‭ ‬والفكر‭ ‬المعاصر‭ ‬1965م،‭ ‬ومواقف‭ ‬1969م،‭ ‬والناقد‭ ‬1988‭ ‬وغيرها؛‭ ‬فقد‭ ‬مثلت‭ ‬–بتنوّعها‭ ‬واختلاف‭ ‬منطلقاتها‭ ‬وأدواتها‭ ‬وغاياتها‭- ‬توق‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬التجديد‭ ‬والتواصل‭ ‬الحضاري،‭ ‬وصراعه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الهوية‭ ‬العربية،‭ ‬ورؤيته‭ ‬الجديدة‭ ‬للذات‭ ‬والآخر‭. ‬كما‭ ‬قدمت‭ ‬صورة‭ ‬واسعة‭ ‬للاختلاف‭ ‬الفكري‭ ‬بين‭ ‬النخب‭ ‬تجاه‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعات‭ ‬وغيرها،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬هذه‭ ‬المجلات،‭ ‬والمسارات‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬اجترحتها‭ ‬تجذب‭ ‬انتباه‭ ‬المؤرخين‭ ‬والراصدين‭ ‬والمعنيين‭ ‬بقراءة‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬فاتحة‭ ‬لأسئلة‭ ‬ومراجعات‭ ‬جديدة‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬السعودي‭ ‬استثناءً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬فقد‭ ‬حظي‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بمبادرات‭ ‬متعدّدة‭ (‬لمؤسسات‭ ‬وأفراد‭) ‬أفضت‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬صدور‭ ‬مجلات‭ ‬ثقافية‭ ‬مهمة،‭ ‬من‭ ‬مثل‭: ‬مجلة‭ ‬المنهل‭ ‬1937م،‭ ‬والقافلة‭ ‬1952م،‭ ‬والعرب‭ ‬1966م،‭ ‬والمجلة‭ ‬العربية‭ ‬1975م،‭ ‬والفيصل‭ ‬1977م،‭ ‬وعالم‭ ‬الكتب‭ ‬1980م،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬لاحقًا‭ ‬عن‭ ‬مؤسسات‭ ‬أكاديمية‭ ‬وإعلامية‭ ‬وثقافية،‭ ‬وتعثّرت‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تغالب‭ ‬التحديات‭. ‬وجميع‭ ‬هذه‭ ‬المجلات‭ ‬كانت‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬خدمة‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب‭ ‬والفنّ،‭ ‬والانطلاق‭ ‬منها‭ ‬لإغناء‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ (‬النشاط‭ ‬الثقافي‭ ‬التنويري‭) ‬بالقياس‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭. ‬وقد‭ ‬احتضنت‭ ‬هذه‭ ‬المجلات‭ ‬أصواتًا‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والأدبية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬ومهّدت‭ ‬لولادة‭ ‬ظواهر‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬السعودي،‭ ‬ومدّت‭ ‬مسارًا‭ ‬واسعًا‭ ‬مكّن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬قدْرِ‭ ‬جيد‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬المثقف‭ ‬السعودي‭ ‬والمثقف‭ ‬العربي،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬بين‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬السعودي‭ ‬والمشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭. ‬ومع‭ ‬أهمية‭ ‬الالتفاتة‭ ‬الجادة‭ ‬إلى‭ ‬الموقف‭ ‬النقدي‭ ‬الذي‭ ‬يقلّل‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬أو‭ ‬تقدمه‭ ‬هذه‭ ‬المجلات‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬محدودية‭ (‬الجدلي‭) ‬أو‭ (‬المغاير‭) ‬في‭ ‬طرحها،‭ ‬فإنّ‭ ‬ثمة‭ ‬راصدين‭ ‬يؤكدون‭ ‬قيمتها،‭ ‬ويذهبون‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬جوانب‭ ‬الثراء‭ ‬فيها،‭ ‬لذلك‭ ‬ما‭ ‬فتئوا‭ ‬يطالبون‭ ‬بتعاهدها،‭ ‬بل‭ ‬بتدخل‭ ‬الدولة‭ ‬لحمايتها‭ ‬بصفتها‭ ‬مكتسبًا‭ ‬ثقافيًّا‭ ‬مهمًّا،‭ ‬وأداة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬قابلة‭ ‬للاستثمار‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬العطاء‭. ‬ولأنني‭ ‬أحد‭ ‬المؤمنين‭ ‬بأهمية‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬نهضت‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬المجلات‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبأهمية‭ ‬المنعطف‭ ‬التحديثي‭ ‬الذي‭ ‬تمرّ‭ ‬به‭ ‬بلادنا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬ولأنني‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬بصفتها‭ ‬وعاءً‭ ‬له‭ ‬خصوصية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤمّنها‭ ‬لنا‭ ‬أوعية‭ ‬أخرى‭ ‬كالصحافة‭ ‬اليومية‭ ‬والمؤلفات‭ ‬واللقاءات‭ ‬المنبرية،‭ ‬فإنني‭ ‬أرى‭ ‬أهمية‭ ‬إثارة‭ ‬الحوار‭ ‬حول‭ ‬واقع‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬السعودية‭ ‬واحتمالاتها،‭ ‬والبحث‭ ‬الموضوعي‭ ‬في‭ ‬أسباب‭ ‬نجاح‭ ‬بعضها‭ ‬وإخفاق‭ ‬بعضها‭ ‬الآخر،‭ ‬واستعراض‭ ‬جميع‭ ‬الآراء‭ ‬التي‭ ‬استهدفتها،‭ ‬وبخاصة‭ ‬بعد‭ ‬التوقّف‭ ‬المفاجئ‭ ‬مؤخرًا‭ ‬لبعض‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية،‭ ‬واتساع‭ ‬دائرة‭ ‬الشائعات‭ ‬حول‭ ‬إمكانية‭ ‬توقف‭ ‬مجلات‭ ‬أخرى‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬أكبر‭ ‬كمجلة‭ ‬العربي‭ ‬الكويتية‭!‬

ويبدو‭ ‬لي‭ ‬أنّ‭ ‬تعجيل‭ ‬الحوار‭ ‬حول‭ ‬واقع‭ ‬ومستقبل‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬يتأكد‭ ‬اليوم‭ ‬بسبب‭ ‬تشكّل‭ ‬صوتٍ‭ ‬يحاول‭ ‬الإقناع‭ ‬بعبثية‭ ‬استمرار‭ ‬هذه‭ ‬المجلات،‭ ‬ويجتهد‭ ‬في‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬عجزها‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬بأي‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التفاعل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬المثقلة‭ ‬بالمتغيرات‭. ‬ويتجاهل‭ ‬أصحاب‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬أنّ‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬ليست‭ ‬وليدة‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬ومتغيراتها‭ ‬وإن‭ ‬تفاقمت‭ ‬بسببها،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬قديمة‭ ‬قدم‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬نفسها،‭ ‬وهنا‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬نقطتين‭ ‬مهمتين‭: ‬أولاهما‭: ‬أنّ‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬العربية‭ ‬تشبه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬صناعة‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كلّه،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تتضخم‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بسبب‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬يعانيها‭ ‬السياق‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬حرية‭ ‬التفكير‭ ‬والتعبير،‭ ‬وطغيان‭ ‬الطرح‭ ‬المتشدّد،‭ ‬وضعف‭ ‬المؤسسات‭ ‬الثقافية،‭ ‬وغياب‭ ‬ثقافة‭ ‬الملكية‭ ‬الفكرية،‭ ‬والحماية‭ ‬القانونية‭. ‬وثانيتهما‭: ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬التحديات‭ ‬ليست‭ ‬خارجية‭ ‬وحسب‭ ‬كما‭ ‬تلحّ‭ ‬أكثر‭ ‬المقاربات‭ ‬حين‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬أزمة‭ (‬الورقي‭) ‬في‭ ‬مقابل‭ (‬الإلكتروني‭)‬،‭ ‬والعجز‭ ‬المالي،‭ ‬وضعف‭ ‬التوزيع،‭ ‬وعزوف‭ ‬القراء،‭ ‬بل‭ ‬داخلية‭ ‬أيضًا،‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬أولًا‭ ‬بقناعة‭ ‬القائمين‭ ‬على‭ ‬المجلة‭ ‬بأهمية‭ ‬الوظيفة‭ ‬التي‭ ‬تنهض‭ ‬بها،‭ ‬وبقدرتهم‭ ‬على‭ ‬تأمين‭ ‬متطلباتها‭ ‬الرئيسة‭ ‬وتطويرها‭. ‬ومجرد‭ ‬استحضار‭ ‬هاتين‭ ‬الجزئيتين‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬بقدر‭ ‬كافٍ‭ ‬من‭ ‬الهدوء،‭ ‬وبموضوعية‭ ‬تباعد‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬الطرح‭ ‬الإقصائي،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬معالجة‭ ‬المريض‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬تسريع‭ ‬عملية‭ ‬موته‭!‬

إنّ‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نستحضر‭ ‬أن‭ ‬ثمّة‭ ‬مجلات‭ ‬ثقافية‭ ‬محلية‭ ‬وعربية‭ ‬تراجعت‭ ‬أو‭ ‬تعثرت‭ ‬أو‭ ‬توقفت‭ ‬في‭ ‬بداياتها‭ ‬قبل‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬المناخ‭ ‬الثقافي‭ ‬المناسب،‭ ‬وتوفر‭ ‬الدعم‭ ‬المالي،‭ ‬وذلك‭ ‬لمشكلات‭ ‬داخلية،‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭. ‬ومن‭ ‬الخطورة‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬نجهل‭ ‬أو‭ ‬نتجاهل‭ ‬دور‭ ‬العوامل‭ ‬الداخلية‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬أو‭ ‬فشلها،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭: ‬الصيغة‭ ‬الإدارية‭ (‬فرد‭- ‬مؤسسة‭ ‬حكومية‭- ‬مؤسسة‭ ‬خاصة‭- ‬مؤسسة‭ ‬ثقافية‭- ‬مؤسسة‭ ‬غير‭ ‬ثقافية‭).  ‬خبرة‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصحافة،‭ ‬والتزامه‭ ‬بشرطها‭. ‬الوعي‭ ‬بأسئلة‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬السعودي‭ ‬وهواجسه‭. ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬المنافسة‭ ‬والإثارة‭ ‬والتطوير‭ ‬والتجديد‭. ‬

وربما‭ ‬كانت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬مثالًا‭ ‬مناسبًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق؛‭ ‬لكونها‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالعوامل‭ ‬الداخلية،‭ ‬والاعتماد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬أبرز‭ ‬العقبات‭ ‬التي‭ ‬تتعرض‭ ‬لها‭ ‬الصحافة‭ ‬اليوم،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬عوامل‭ (‬داخلية‭) ‬رئيسة‭:‬

أولًا‭- ‬تشكلها‭ ‬في‭ ‬رحم‭ ‬مؤسسي،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬أحد‭ ‬منتجات‭ ‬دار‭ ‬الفيصل‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬الأمير‭ ‬خالد‭ ‬الفيصل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1977م،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬ملكيتها‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬للبحوث‭ ‬والدراسات‭ ‬الإسلامية‭ ‬التابع‭ ‬لمؤسسة‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬الخيرية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1412هـ‭ / ‬1991م‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المظلة‭ ‬بمنزلة‭ ‬المغذي‭ ‬الرئيس‭ ‬للمجلة،‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬‮«‬المجلة‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬التابعة‭ ‬لوزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬والإعلام،‭ ‬ومجلة‭ ‬‮«‬القافلة‮»‬‭ ‬التابعة‭ ‬لأرامكو،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬المنتمية‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسات‭ ‬تتمتع‭ ‬بالقوة‭ ‬المادية‭ ‬والمعنوية‭. ‬

ثانيًا‭- ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬وإثراء‭ ‬جوانب‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬والأدب،‭ ‬وحين‭ ‬عادت‭ ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الاحتفال‭ ‬بمرور‭ ‬أربعين‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬صدورها‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬أمام‭ ‬مادة‭ ‬ثرية‭ ‬في‭ ‬الكم،‭ ‬ومتنوّعة‭ ‬في‭ ‬موضوعاتها‭ ‬وقضاياها،‭ ‬ومتميزة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬تناولها،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬القيمة‭ ‬النوعية‭ ‬لكتّابها‭.‬

ثالثًا‭- ‬إسناد‭ ‬رئاسة‭ ‬التحرير‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬إلى‭ ‬شخصيات‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي،‭ ‬أو‭ ‬مسكونة‭ ‬بالهمّ‭ ‬الثقافي‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال،‭ ‬‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬أستحضر‭ ‬هنا‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالله‭ ‬الغذامي‭ ‬للتميز‭ ‬الذي‭ ‬حققته‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬أنصار‭ ‬الحداثة‭ ‬وخصومها،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لعبت‭ ‬مجلة‭ ‬الفيصل‭ ‬دور‭ ‬المحايد‭ ‬الذي‭ ‬يعطي‭ ‬كل‭ ‬الأطراف‭ ‬حقها‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬ولا‭ ‬يمنع‭ ‬طرفًا‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طرف،‭ ‬أي‭: ‬إنه‭ ‬ينشر‭ ‬لك‭ ‬وضدك‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد،‭ ‬ويترك‭ ‬القراء‭ ‬يرون‭ ‬بعينهم‭ ‬كامل‭ ‬الصورة‭…‬‮»‬‭ ‬‭(‬المجلة‭ ‬الثقافية‭: ‬صحيفة‭ ‬الجزيرة،‭ ‬ع473،‭ ‬في‭: ‬6‭ ‬يوليو‭ ‬2015م‭). ‬وتأخذ‭ ‬هذه‭ ‬الشهادة‭ ‬أهميتها‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬طرف‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬الحداثة،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬قدرة‭ ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬إقناع‭ ‬الأطراف‭ ‬الفاعلة‭ ‬بأهمية‭ ‬ظهور‭ ‬الصوت‭ ‬الذي‭ ‬يخالفها‭! ‬وقد‭ ‬حافظت‭ (‬الفيصل‭) ‬طويلًا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المكتسب،‭ ‬فلم‭ ‬تسند‭ ‬منصب‭ ‬رئاسة‭ ‬التحرير‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬أسماء‭ ‬تملك‭ ‬حضورًا‭ ‬جيدًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي،‭ ‬ولديها‭ ‬المعرفة‭ ‬أو‭ ‬الخبرة‭ ‬الكافية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصحافة؛‭ ‬لذلك‭ ‬كانوا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬إثراء‭ ‬مسيرتها‭ ‬بموازنتهم‭ ‬بين‭ ‬العوامل‭ ‬الخارجية‭ ‬والعوامل‭ ‬الداخلية،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬–‭ ‬مجتمعة‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬أي‭ ‬مجلة‭ ‬وإخفاقها‭.‬

وأخيرًا‭: ‬إن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الفيصل‮»‬‭ ‬والمجلات‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬بالعوامل‭ ‬نفسها،‭ ‬يجعل‭ ‬السؤال‭ ‬ملحًّا‭ ‬عن‭ ‬قدرة‭ ‬مجلات‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬ظل‭ (‬انشغالها‭) ‬بالعوامل‭ ‬الخارجية‭ ‬عن‭ ‬العوامل‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬أشرت‭ ‬إلى‭ ‬أهمها‭ ‬–بإيجاز–‭ ‬في‭ ‬الجزئيتين‭ ‬السابقتين‭.‬

ومع‭ ‬اتفاقنا‭ ‬جميعًا‭ ‬على‭ ‬صعوبة‭ ‬التحديات‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬المجلات‭ ‬الثقافية،‭ ‬فإنني‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭ ‬بقدرة‭ ‬العوامل‭ ‬الداخلية‭ ‬على‭ ‬تجاوزها،‭ ‬متى‭ ‬وعينا‭ ‬بأهميتها،‭ ‬وأخضعناها‭ ‬للمراجعة‭ ‬والتطوير‭.