المرأة السعودية والثقافة

المرأة السعودية والثقافة

لا تتطور المجتمعات وتنمو دونما خطة إستراتيجية تدرس الواقع وتخطط للمستقبل القريب والبعيد على حد سواء. ولعل أنجح الرؤى هي تلك التي تُبنَى على مكامن القوة في المجتمع، وعلى تخطيط دقيق واعٍ يشمل أفراد المجتمع وشرائحه كافة. وقد أدرك خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان أهمية هذا الأمر وحتميته في ظل التطورات السريعة التي يعيشها المجتمع المحلي ويعيشها العالم على حد سواء، فكانت رؤية 2030 التي تخطط لمستقبل الإنسان والبلاد. وتكمن أهمية هذه الرؤية في أنها تعمل على تفعيل الطاقات البشرية، تستثمر في الإنسان وترتكز على مضاعفة قدراته. إنها تبدأ من المجتمع وإليه تنتهي. ويتبدى ذلك في محاورها الأساسية: مجتمع حيوي (قيمه راسخة، وبيئته عامرة، وبنيانه متين)، واقتصاد مزدهر (فرصه مثمرة، واستثماره فاعل، وتنافسيته جاذبة، وموقعه مستقل)، وطن طموح (حكومته فاعلة، ومواطِنُه مسؤول). وتفاعُل تلك المحاور كلها ينتج مجتمعًا يعرف إمكانياته، ويفخر بإرثه الثقافي، كما يعمل بكل طاقاته وقدراته.

لقد كانت الثقافة والترفيه أحد أهم القطاعات التي التفتت إليها الرؤية، ولا سيما أنها تعد من مقومات جودة الحياة. وقد أدرك القائمون على الرؤية أن الفرص الترفيهية والثقافية الحالية لا ترتقي إلى تطلعات المواطنين والمقيمين، ولا تتواءم مع الوضع الاقتصادي المزدهر الذي تعيشه البلاد. من هنا وعدت الرؤية بدعم جهود المناطق والمحافظات والقطاعات الخاصة وغير الربحية في إقامة المهرجانات والفعاليات، وتفعيل دور الصناديق الحكومية في المساهمة في تأسيس المراكز الترفيهية وتطويرها، مع تشجيع المستثمرين من الداخل والخارج وعقد الشراكات مع شركات الترفيه العالمية. إضافة إلى ذلك تخصيص الأراضي المناسبة لإقامة المشروعات الترفيهية والثقافية كالمتاحف والمكتبات وغيرها. واهتمت الرؤية بدعم الموهوبين من الكتاب والمخرجين والمؤلفين، وإيجاد خيارات ثقافية وترفيهية متنوعة تتناسب مع الأذواق والفئات كافة.

إن المتابع للمشهد الثقافي المحلي داخل السعودية يستطيع أن يلمح حراكًا واضحًا وقفزات متسارعة تستفيد من الرؤية وتستند إليها، كما يمكنه أن يلاحظ زيادة الأنشطة الثقافية والترفيهية، وقد أسهمت الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون بدور بارز في ذلك. وقد كان للمرأة السعودية المثقفة مشاركات واضحة في ذلك الحراك. بل إن المشهد يتجه أكثر وأكثر صوب تفعيل دور المرأة. ولا يخفى أن المثقفة والكاتبة السعودية قد عاشت سنوات من المعاناة والتهميش والغياب، وقد كان حضور بعضهن حضورًا فرديًّا متبوعًا بتضحيات ومعاناة كثيرة. ويحفظ لنا التاريخ أسماء كاتبات رائدات حفرن في الصخر ليصل صوتهن وتصل كلماتهن كما فعلت خيرية السقاف وفوزية أبو خالد وصفية بنت زقر وغيرهن، بل إن بعضهن اضطر إلى الكتابة باسم مستعار هربًا من مواجهة المجتمع ومن الثقافة التي ترى عيبًا في ظهور المرأة وظهور اسمها، وتعتبر الكتابة جرمًا ينبغي العقاب عليه. ويحفظ التاريخ الأدبي والثقافي المعارك الأدبية والهجوم الذي تعرضت له مجموعة من المثقفات والكاتبات وأدى إلى صمت بعضهن وتوقفهن عن الكتابة. إضافة إلى ذلك يحفظ التاريخ الثقافي – حتى وقت قريب – غياب المرأة عن مراكز القيادة وغيابها بالتالي عن موضع القرار، وعن دعم القرارات التي يمكنها أن تسند حضور المرأة وتدعمه على الأصعدة كافة.

تفعيل أكبر لمشاركة المرأة

مع تنامي حضور المرأة على المستويات الإبداعية كافة، وزيادة عدد الكاتبات الروائيات والقاصات والشاعرات وكاتبات المقالة، ومع تنامي عدد المثقفات والفنانات وزيادة وعيهن وحرصهن على إثبات وجودهن، كان لا بد من وقفة لتفعيل مشاركة المرأة بشكل أكبر. وقد لوحظ هذا التنامي في تفعيل دور المرأة ولا سيما حين صدر القرار السامي بمشاركة المرأة في عضوية مجالس إدارة الأندية الأدبية، ورأينا كيف أصبحت المرأة شريكة في بعض المراكز القيادية في الأنشطة الثقافية، فهي عضو في مجلس إدارة جمعية الثقافة والفنون، وهي عضو في جمعيات الثقافة والفنون والأندية الأدبية واللجان المختلفة. هي حاضرة إعلاميًّا، وكاتبة مقالة ثابتة في الصحف اليومية، وهي أيضًا مقدمة ومعِدة برامج تليفزيونية وإذاعية، ومشاركة في معارض تشكيلية، وهي ناقدة وسينمائية ومسرحية. إن ذلك كله يسير صوب تمكين المرأة والاعتراف بأهليتها بأنها شريك فاعل للرجل في مختلف المجالات وهو ما نصت عليه الرؤية كما سبقت الإشارة.

إن الواقع السابق الذي أُشيرَ إليه يبشر بتطور مستمر وبمزيد من الفاعلية للمرأة، لكن النظرة العميقة تشي بأن ما هو متحقق لا يرقى إلى مستوى الطموح. لقد شاركت المرأة في عضوية مجالس إدارات الأندية الأدبية، لكنها لم تكن صانعة قرار، فلم نرَ رئيسة لنادٍ أدبي أو نائبة رئيس أو أمينة صندوق على سبيل المثال. لقد وضعت في مجالات عمل أخرى واكتفى القائمون على الأندية بجعلها رئيسة لبعض اللجان الفرعية. شاركت المرأة أيضًا في تعديل لوائح الأندية الأدبية لكن مشاركتها اقتصرت على العضوية فقط. أي أن مشاركتها في الأغلب كانت تنحصر في العضوية أو الإشراف على بعض اللجان الفرعية. ويحفظ لفرع جمعية الثقافة والفنون في الرياض تعيين رئيسة له وهي الجوهرة بنت فيصل آل سعود، وهو الأمر الذي يعتبر خطوة رائدة في مؤسساتنا الثقافية.

لا يمكن إنكار التغيرات الحقيقية التي يمر بها المشهد الثقافي في المملكة، فقد صعدت المرأة لأول مرة على المسرح لكن حضورها ما زال باهتًا وضعيفًا، وما زال النقاش مستمرًّا بين مؤيد ومنكر لهذا الأمر. وغني عن القول أن المسرح لا يمكنه أن يستمر في تغييب دور المرأة، والتاريخ يحفظ أن المسرح العالمي في بداياته كان يُقصي المرأة لكنه بتطور الوعي تجاوز ذلك وأصبحت المرأة ركنًا أساسيًّا وفاعلًا فيه. والمسرح السعودي يحتفظ برائدات وناقدات وكاتبات مسرح، لكنها جهود فردية وقليلة قياسًا إلى المسرحي الرجل. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن السينما، والسينما شيء مهم في أي مجتمع من المجتمعات ودورها ترفيهي ثقافي معروف. إن صناعة السينما السعودية تحتاج إلى مزيد من الدعم فمعظم ما يقوم به السينمائيون السعوديون هو جهود فردية كما هو الأمر في مهرجان السينما الذي بادرت إليه جمعية الثقافة والفنون في الدمام بجهد رئيسي من رئيسها آنذاك الشاعر أحمد الملا. وإذا كنا نتحدث عن غياب الدعم والتنظيم المؤسسي لصناعة السينما السعودية فإن الأمر يغدو مضاعفًا عند الحديث عن السينمائيات السعوديات رغم أن بعضهن قد فزن بجوائز عالمية ولهن حضور دولي كما هو الأمر مع هيفاء المنصور وريم البيات، فما زالت المخرجات السعوديات يقمن بجهد فردي غير مدعوم من مؤسسة ما، ولعل مشاركة المرأة في عضوية الهيئة العليا للترفيه يمكن أن تحقق المزيد من الدعم لهن.

مشهد يعاني إشكالات

إن المشهد الثقافي السعودي يعاني عددًا من الإشكالات، فما زالت المطالبات بتشكيل صندوق دعم للأدباء قائمة، وما زال الحديث عن منح تفرغ للكتاب موجودًا، وما زالت توصيات مؤتمرات الأدباء غير مفعَّلة في جزء منها إن لم يكن أكثرها، وما زالت المؤسسات الثقافية يعمل كل منها بمعزل عن الآخر، ويحفظ لجمعيات الثقافة والفنون وصولها إلى عدد أكبر من شرائح المجتمع وتفعيلها لجوانب مختلفة كالندوات والمسرح والموسيقا والتشكيل والحلقات الفلسفية والأمسيات الأدبية، وهو أمر تحاوله الأندية الأدبية على اختلاف في الدرجة بين منطقة وأخرى. إن الصعوبات التي يعانيها المشهد الثقافي في المملكة تعني الحديث عن صعوبات مضاعفة تواجهها المرأة، فإن كانت الصالونات الأدبية التي يعقدها عدد من المثقفين لا تحظى بالاهتمام الكافي وتعتمد على الجهود الفردية، فإن الأمر مع الصالونات النسائية أكثر تعقيدًا. وإذا كانت هناك معاناة في التفرغ للكتابة عند الكتاب الرجال فالأمر أكثر سوءًا مع الكاتبة وما زال بعضهن يجد معارضة ومنعًا من الأسرة والمجتمع المحيط، وهذا أمر يكاد ينسحب على الكثير من المجالات الثقافية.

إن الحديث عن الإشكاليات لا يعني الانتقاص من الجهود، ولا يعني التسرع في الحكم على ما هو قائم، لكنه يعني النقد الذاتي سعيًا إلى المزيد من التطوير، فما زال دور الهيئة العليا للثقافة بحاجة إلى المزيد من التفعيل، وما زال دورها غائمًا. وما زالت الحاجة ملحَّة إلى إقامة مراكز ثقافية كبرى تحتوي على متحف ودار سينما ومسرح وقاعة ندوات كبرى وصالة معارض. وفي ذلك ينبغي ألّا تغيب المرأة عن مركز صنع القرار ولا يكفي –فيما أرى– أن تكون مشرفة على بعض اللجان الفرعية. صحيح أن هناك تناميًا في تمكين المرأة وتفعيل دورها وتكريمها على مستويات مختلفة كما هي الحال بفوز ثلاث نساء في مهرجان الجنادرية بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، وفوزها ببعض الجوائز الأدبية، لكن الأمر ما زال بحاجة إلى المزيد من النظر. لقد نادت الرؤية بتفعيل الطاقات البشرية وبمجتمع حيوي ووطن طموح، ويصعب أن يتحقق ذلك وما زال نصف المجتمع يعمل بجزء من طاقاته الكامنة. المستقبل آتٍ وبشائر التغيير واضحة، لكن النقد الذاتي مهم وما زالت المرأة لم تحقق الطموح المرجو رغم فاعليتها وقدرتها على المزيد من العطاء.

باكرًا، اقتحمت «التابو»

باكرًا، اقتحمت «التابو»

خيرية السقاف إحدى الأديبات الرائدات في المشهد الثقافي السعودي، وقد كرمها مهرجان الجنادرية لعامه الثاني والثلاثين بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، وهي المرة الثالثة التي تكرَّم المرأة في هذا المهرجان. إن هذا التكريم ليس عشوائيًّا فهو في المقام الأول تعبير عن رؤية التحول الوطني «2030م» التي تحدثت عن تمكين المرأة ودعم مساهمتها في جميع مجالات الحياة. وهو في الوقت نفسه تكريم لنساء الوطن جميعهن وتقدير واعتراف بحق الرواد في الاعتراف، وبدور المرأة المثقفة في مسيرة الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية.

لم تكن مسيرة خيرية السقاف سهلة، فهي استطاعت أن تضع بصمتها في وقت كانت المرأة فيه لا تزال تبحث عن مكان لها. لقد بدأت مسيرتها الصحافية في ستينيات القرن الماضي، وكانت أول امرأة تكتب زاوية يومية في الصحافة اليومية، وأول امرأة تكتب مقالة أدبية إذاعية، كما كانت أول امرأة تشرف على ملحق نسائي يصدر عن صحيفة يومية، وفي منتصف الثمانينيات عينت مديرة تحرير في صحيفة الرياض لتكون أول امرأة تشغل هذا المنصب الصحافي في الجزيرة العربية. هي أيضًا أول وكيلة نسائية على مستوى الجامعات السعودية، وأول عميدة في مركز الدراسات الجامعية للبنات في جامعة الملك سعود. تلك المسيرة يمكن أن تلخص مسيرة امرأة كانت من الأوائل والرواد في المجالين الإبداعي والأكاديمي. وفي مجال الإبداع كانت رائدة في مجال القصة القصيرة الفنية في المملكة، وذلك من خلال مجموعتها القصصية «أن تبحر نحو الأبعاد» التي عالجت فيها قضايا المرأة وأدخلت الرجل إلى العالم القصصي، ودخلت في مناطق ما يعرف بـ«التابو» من دون هجوم أو مساس بالقيم، فتُرجم عدد من أعمالها إلى خارج الحدود بوصفها تمثل صوتًا نسائيًّا له حضوره في الساحة الثقافية، صوتًا يعكس واقعًا ثقافيًّا واجتماعيًّا ويمثل جزءًا من المجتمع العربي رغم خصوصيته المحلية.

لعل الدور الأبرز لخيرية قد ظهر من خلال فن المقالة ومن خلال مسيرتها الصحافية التي تمتد إلى عقود. تقول عن نفسها: «أسهمت في النقلة الأولى للعمل الصحافي النسائي من مجرد الكتابة الذاتية إلى مواقع الحدث، وحرفية المهنة. عندما أشرفت على العمل الصحافي النسائي، ثم غدوت أول مديرة للتحرير، أفرغت وقتي لإعداد أول جيل من الفتيات في العمل الصحافي الميداني». وبهذا تطرح الكاتبة قضية مهمة لا تقتصر على مجرد المساهمة في الكتابة بل في نقل الدور النسائي إلى موقع الحدث ومجال الفعل الصحافي الميداني معززة بذلك مساهمة المرأة ودورها في المجال الإعلامي.

جمال العبارة وأهمية الفكرة

في الوقت نفسه استطاعت أن تخط لنفسها مسارًا مختلفًا في كتابة المقالة الصحافية، يحاول المواءمة بين جمال العبارة وأهمية الفكرة، مؤكدة أن مقالتها ليست للقارئ السريع الذي يريد من المقالة أن تكون وجبة جاهزة تغريه بنكهتها المصطنعة، فتقول: «أنا لا أجيد صياغة الطبخة السريعة، ولا أطعمها بنكهة الوجبات. لذا أقف عند أبجديتي، أتأملها، أنسجها بميسم دقيق، أنحتها من منجم عميق، وأجتاز بها للذواقة وحدهم». والمطلع على مقالاتها يمكن أن يلحظ هذا الأمر بسهولة، فهي تختار الكتابة بلغة أدبية تتطلب من القارئ الوقوف والتأمل. وفي ذلك تراوح عناوين مقالاتها بين العناوين الشعرية والعناوين المباشرة التي تحيل إلى فكرة المقال وإلى موضوعه بصورة واضحة. ومن النوع الأول يمكن أن نرى عناوين نحو: في المرآة- الخانات الفارغة فيه- على سطور أبخرتها- العصا بين الوتد والجسر- بجوارك أيتها المليحة السوداء». ومن النوع الثاني يطالعنا: الإعلام- ماذا في حال غياب السائق الخاص- عذرًا فالمخالفات كثيرة- التعليم والصياغات البراقة، وغيرها.

تشير هذه الثنائية في طبيعة العناوين إلى طبيعة المقالة عند خيرية السقاف، فهي تقدم في مقالاتها خبرة تأملية في الحياة والبشر بلغة أدبية تجعل القارئ يعيد النظر ويتأمل في عدد من المفاهيم التي يؤمن بها ويمارسها في حياته اليومية. وتقدم في الوقت نفسه انتقادًا هادئًا لبعض الظواهر والقضايا المجتمعية كالفساد والتحرش وإشكاليات التعليم وغيرها. ويمكن ملاحظة هذا المنحى التأملي في بعض العبارات التي ترد في أثناء المقالة كما في مقالة «في عبوري عن الفساد» حيث يمكن التوقف عند بعض العبارات نحو: «فحيث يكون الإنسان تكون الأخطاء، وهي تتفاوت نادرة بمدى كفاءته، ودائمة بقدر قصوره وبحجم ارتكابه لها»، ففيها نوع من التأمل في الطبيعة البشرية دونما محاولة للهجوم أو الإدانة غير المبررة، وبذلك يتحمل الإنسان مسؤولية أفعاله، ويمكن للنظام وللتشريع بعدها أن يقوما بدورهما. وإذا كانت العبارة التأملية جزءًا من المقالة السابقة فإن مقالات أخرى تنحو منحى تأمليًّا شاملًا وتبنى على مقدمة تأملية واضحة، فعلى سبيل المثال تقول في مقالة «في الميزان»: «حيث لا قاعدة لا تقوم أعمدة/ ودون رواسي تميد الأرض/ وبلا ماء ينتفي البحر والنهر والعين والبئر/ وبدون ألفة يتفكك الكون/ وبلا شمس يتسرمد الليل/ وبدون لغة مشتركة لا تتعارف الشعوب». وتتوالى مثل هذه الجمل القصيرة، والمقدمات المنطقية لتأخذ الكاتبة بيد القارئ صوب فكرتها الأساس، ومن ثم يكون مهيأً للاقتناع بها، وبأن «النقيض لا يمكن أن يوجد دون نقيضه»، وكما توجد التناقضات في الحياة، وكما يحتاج أحدها إلى الآخر كي يوجد ويكون أيضًا يمكن أن يوجد الادعاء والتناقض بين البشر وفي طبيعتهم، ومن ثم لا بد من قبول الاختلاف وحقيقة ضعف الإنسان، وقبول مبدأ أنه لا يمكن أن يتماثل البشر، وأهمية عدم توقع تشابه البشر في سلوكهم وأخلاقهم. وأمثلة أخرى كثيرة تمارس فيها خيرية الكتابة للإنسان وعنه، وعن أصحاب القلوب الكبيرة، والمنافقين والمتطفلين والمخادعين والمتناقضين، وباختصار عن الحياة الإنسانية في كل ملامحها ونماذجها، في تأمل هادئ وعميق من دون محاكمة أو انتقاد مباشر، بل تأخذ القارئ بهدوء صوب فكرتها ومن ثم الاقتناع برؤيتها.

إلى جانب هذه الرؤية التأملية يمكن للقارئ أن يتوقف عند اللغة الأدبية التي تعطي نوعًا من الرمزية لبعض المقالات؛ إذ تبنى المقالات على فكرة غير مباشرة ورمز يعطي نوعًا من التكثيف ومزيدًا من الإيحاء، ومن ذلك ما يمكن أن نجده في مقالة «إنه الدرس»؛ إذ تُبنَى على رمز أساسي هو العصا التي يستخدمها الأب بصمت لمآرب أخرى، كما تقول الكاتبة في لغة تناصية مع القرآن الكريم، لتكون رمزًا للقيم التي يغرسها الأب في أبنائه ولطريقة في التربية تعلَّموا فيها من أخطائهم وأحسُّوا بقيمتها بعد أن أصبح لهم أبناء بدورهم. وبعد أن يدرك الأبناء رمزيتها تختفي ليحل مصباح محلها وليكون بدوره رمزًا لإنارة العقول واكتشاف الطريق. ويمكن أن نجد تلك الرمزية أيضًا في مقالة «بجوارك أيتها المليحة السوداء» حين يكتشف القارئ أن المليحة ما هي إلا الكعبة المشرفة التي يتوافد إليها البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم، وبجوارها يغسلون قلوبهم وأرواحهم. وتتجلى تلك الرمزية أيضًا في رمز أثير عند الكاتبة ويتكرر في عدد من مقالاتها وهو رمز «نوارة» التي تصير رمزًا لكل الأمهات، بما يحمله هذا الاسم من الإيحاءات بالنور والجمال، نور الشمس ونوار الزهر، ومن ثم يختصر الرمز كل الأمهات وتتكثف معه اللغة في شعرية عالية تتحول إلى نوع من البوح الشاعري الذي ترسل الكاتبة من خلاله رسالة حب إلى كل الأمهات اللاتي غادرن واللاتي لم يغادرن.

سمات قصصية

وتتجلى لغة خيرية السقاف الأدبية ونزعتها القصصية في مقالات أخرى تحمل سمات قصصية، نحو «على سطور أبخرتها»، ومنذ عتبة النص الأولى والعنوان الشعري الذي يحيل فيه الضمير إلى مجهول ينكشف لاحقًا في القراءة أنه يحيل إلى القهوة، منذ هذا العنوان تبدأ ملامح القصصية في العمل الذي يبدأ من لحظة تداعٍ عاطفي وفكري، وعبر تيار الوعي وتتالي الأفكار، واللغة الشعرية المكثفة يتهيأ المشهد بصريًّا ليعطي القارئ ملامح المكان «الشوارع المستطيلة بانحناءاتها تتلولب داخل المدينة الفارهة العتيقة/ قليل وتعبر الحافلات بأبواقها التي عهدها الواقفون على الرصيف/ الجالسون في الانتظار على المقاعد الخضراء المستطيلة..». وعبر هذا التداعي المشهدي تتكامل ملامح المكان وتنفتح على ملامح الحياة في مدينة ليست عربية، ويتابع القارئ تفصيلات صباح يوم عمل عادي في جو قاسٍ مغلف بالبرودة الشديدة، وعبر التقاط هذه التفاصيل تتداعى الذاكرة إلى مشهد مقابل لمدننا التي تزدحم بالعربات الخاصة، وجدية أبطال المشهد الأول في أعمالهم وحياتهم في مقابل الاستهتار وتضييع الوقت في مدننا؛ ليقف السؤال ويظل معلقًا في تداعيات امرأة تحتسي قهوتها بهدوء في جلسة صباحية.

من خلال ما سبق يمكن القول: إن خيرية السقاف ترسخ أساسًا لنوع من المقالة الأدبية الذي تتوازن فيه اللغة مع التأمل وتناول قضايا الحياة اليومية. وهكذا يمكن أن نلحظ بروزًا واضحًا للغة الشعرية المكثفة في عدد من المقالات ولا سيما تلك التي يغلب البوح عليها، وتميل فيها إلى التأمل، ومن ذلك ما نراه في مقالة «في غربتها» حين تقول: «لولا ذلك الطيف المتدلي من عريشة الحلم إليها/ لفض شتاء المدن عن نحيب يطول في غربة الشوارع/ ذلك الطيف المادّ كفيه يمسح وحشتها/…/ تلك المدن المطلة على سطور العتبات وقد بصمت دعسات العابرين بها/ وتشبثت/…/ ذلك الطيف الكبير الذي تدثرت بخطوطه كفاها…». وتتوالى اللغة التي تعتمد على التكثيف والانزياح اللغوي، وكثافة الصورة الشعرية التي تتلاءم كلها مع بوح امرأة تعيش حالة الغربة ومن ثم تكثيف الحنين، والتمسك بأمل بعيد أو طيف أكثر بعدًا ليعيد إليها الأمل بالحياة.

إن خيرية السقاف ليست مجرد أكاديمية وأستاذة جامعية وإدارية، وليست كاتبة صحافية ومديرة تحرير، وليست قاصة أو شاعرة، وليست كاتبة مقالة أدبية واجتماعية وتأملية، إنها ذلك كله مجتمعًا. إنها الريادة والإبداع الأدبي وروح المثابرة التي جعلت امرأة تشق مسارًا طويلًا منذ الستينيات حتى الآن لتحفر اسمها امرأة مبدعة ومثقفة سعودية كتبت وطنها كما كتبت نفسها والنساء معها. بذلك يأتي التكريم حلقة في سلسلة ريادتها ونموذجًا للاعتراف بمكانة المرأة وإبداعها وبأن الرواد يستحقون الاعتراف بهم في حياتهم، وبأن نموذج المرأة المبدعة هو نموذج مشرف تجلى في امرأة أرادت أن تكون فحفرت بصمتها وسجلت اسمها في سجل فخر وحكاية إبداع.

قراءة في الظواهر الجديدة لدى شعراء شباب من السعودية والخليج عندما يصغي الشعر إلى الكون ويعيد الحياة إلى الأشياء

قراءة في الظواهر الجديدة لدى شعراء شباب من السعودية والخليج عندما يصغي الشعر إلى الكون ويعيد الحياة إلى الأشياء

ميساء-الخواجة

ميساء الخواجة

لقد مرت القصيدة العربية الحديثة بعدد من التحولات التي مارس فيها الشعراء إبداعهم بدءًا من خلخلة نظام البيت التقليدي واستبدال السطر الشعري به، إلى اعتماد الانزياح وتوظيف الرموز وإعادة النظر في التراث، وصولًا إلى استمرار التجريب عبر التخلي عن الوزن واستبدال مفاهيم الإيقاع به، وتداخل الأجناس الأدبية وغير الأدبية تحت مسميات متعددة؛ كقصيدة النثر أو النص أو الكتابة، بحيث أضحت القصيدة معرضًا لتقنيات مختلفة، تتيح مداخل متنوعة للقراءة.

وبعيدًا من التحقيب الزمني المرتبط بتقسيم التجربة الشعرية إلى أجيال شعرية، يحمل كل جيل فيها سمات ترتبط به، فإن النظر في عدد من الإصدارات الشعرية الأولى لجيل من الشباب الذي مارس اختيارات كتابية خاصة به، يمكن أن يصل الملاحظ إلى وجود عدد من الملامح الهامة التي لا تكفي ورقة واحدة للإحاطة بها، من دون أن يعني ذلك استنساخ التجربة، أو تطابق ملامحها بين هؤلاء الشعراء، بقدر ما يعني خصوصية في الاختيارات الفنية والفكرية التي تحمل في طياتها مساءلات حول مفهوم القصيدة ودورها، وعلاقتها بالماضي والحاضر في آن معًا.

الانقطاع عن الآخر

انفتح عدد من الشعراء الشباب في إصداراتهم الأولى على التجريب بمختلف أشكاله، ولعل مما يلفت النظر في المقام الأول هو ما تطرحه هذه الإصدارات من ملامح للانقطاع عن الآخر، والغوص أكثر فأكثر في العوالم الذاتية للشاعر، بشكل يتهمش فيه العالم الخارجي، ويتضاءل فيه دور المثقف الفاعل، وذلك بالقياس إلى الدور الذي مارسته الأجيال الشعرية السابقة التي آمن عدد من شعرائها بدور الشعر في التغيير، ونادت بالقصيدة الرؤيا كما عرف عند شعراء الستينيات والسبعينيات ومن تلاهم. وهنا يرد تساؤل جوهري حول ما إذا كان غياب هذا الدور يرتبط بممارسة ترميزية للواقع، أو بفعل مثاقفة انفتح فيها هؤلاء الشعراء على تجارب شعرية غربية، ارتبطت بفكر ما بعد الحداثة على مستوييه التنظيري والتطبيقي؟

لقد انطلق فكر ما بعد الحداثة في الغرب في اللحظة التي تحول فيها العلم إلى مأساة حين فشل في تحقيق طموح الإنسان إلى السيطرة على الأشياء المحيطة به، ليجد نفسه وحيدًا في ظل هيمنة التكنولوجيا وانفتاح الفضاء المعرفي بلا نهاية.

وبقدر ما تعاظمت إمكانيات التقدم الصناعي والتكنولوجي، تحولت العلاقة بين الإنسان والإنسان إلى علاقة مباشرة مع الطبيعة المصطنعة، بعيدًا من «الآخر»، ومن ثم فإن جدلية الذات والموضوع اختزلت إلى ثنائية بين موضوع وموضوع ليعلن نعي الإنساني والحميمي، ولتتحول الحداثة إلى نقيضها، أي إلى «ما بعد الحداثة». (طيب تيزيني، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ص 33، 34). وبذلك تتحلل العلاقات الاجتماعية، ويفسح المجال للثقافات المهمشة التي تسعى إلى التعبير عن نفسها بالضرورة وبالقوة إن لزم الأمر، الأمر الذي يوجد تعددية ثقافية، يدعمه رفض ما بعد الحداثة للفصل بين الثقافة الراقية وثقافة الجماهير. إن الفكر ما بعد الحديث لا يقبل أبدًا وضع الإنسان إزاء العالم، يراه ويعيد إنتاجه في صور؛ ذلك لأنه -كما يرى آلان تورين- يضع الإنسان في العالم من دون مسافة. (آلان تورين، نقد الحداثة، ص 194، 196 ).

في مجتمع ما بعد الحداثة وفكره انحلت الثنائيات التقليدية بين الشعبي ـ النخبوي، والذات ـ الموضوع، كما انحلت الجدران التي تعزل الحقول المعرفية في ظل هيمنة الوسائل السمعية البصرية، ورفضت الأنساق الفكرية الكلية، وفكرة التقدم الذي تسيطر الأنساق على توجيهه، صار الوعي بلا مركز، وأعلنت نهاية سلطة العقل ومركزية الإنسان، كما أعلنت نهاية التاريخ، ونفيت الحقيقة المطلقة على اعتبار أنها من المفاهيم السلطوية التي توظف دائمًا لخدمة فئة بعينها، وكما يقول بوديار: «لم يعد بوسع الفرد أن يضع حدودًا لكيانه، ولم يعد بوسعه أن يلعب دوره، إنه الآن صفحة نقية ومعبر لكل شبكات التأثير». (بدر الدين مصطفى، فلسفة ما بعد الحداثة، ص 28، 29، 31 ) وبذلك يصير الإنسان شيئًا ضمن الموجودات الأخرى، وهو ما يفسر النزعة الفوضوية والعدمية وحالة القلق والاغتراب التي وصف بها مجتمع ما بعد الحداثة، كما يمكنه أن يفسر انحسار دور المثقف الفاعل وغياب التفاعل الإنساني الحميمي.

انهدام الحدود بين أشكال الإبداع

تطرح المفاهيم السابقة لما بعد الحداثة سؤالًا جوهريًّا يرتبط بتصورها للفن ومفهومه، فالفنان ليس ذاتًا تبدع أو تخلق «كائنات جميلة»، إنه «يدع» الكائنات تأخذ محلها من الكينونة، فهو «يحفظها» و«يشملها» بالرعاية. هو حافظها وليس مبدعها. إن الشعر -كما يقول هيدغر- «يخترق كل فن من الفنون، وكل فعالية تنكشف من خلالها ماهية الوجود في الجمال». (محمد الشيكر، هيدغر وسؤال الحداثة، ص 104، 105 ) وهو ما سيقود إلى انهدام الحدود والفواصل بين أشكال الإبداع، وبالضرورة إلى انمحاء الفواصل بين الشعر والنثر.

لقد تمرد جيل ما بعد الحداثة على مركزية الإنسان، وأنزلوه من عليائه، لم يعد هو مركز الوجود، كما لم يعد هو الذي يتحكم في الموجودات والطبيعة حوله. أيضًا لم يعد دور الفن تصوير الطبيعة بقدر ما صار يهدف إلى الامتزاج بالحياة، وبالتالي تساوى الإنسان بالموجودات الأخرى، وأصبح جزءًا من دورة الحياة اليومية. وقد ينتج عن ذلك كله أن الفن ينزل من عليائه، ولا يصير فعلًا معرفيًّا متساميًا بقدر ما هو نمط تعددي قابل للاستهلاك والتنوع، شأنه في ذلك شأن الأشياء الأخرى، كما يفتح المجال -في الوقت نفسه- لدخول الهامشي والعرضي وأصوات من لا صوت لهم. لم يعد الشعر مسخرًا لخدمة القضايا الكبرى، ولا للمشاركة في القضايا الجمعية، بل اقترب مما هو يومي وعادي، ولعل ذلك ينبثق من تلاشي دور اللوغوس والكلمة المركز القادرة على إعادة خلق العالم، وبالتالي تناقص دور الإنسان وقدرته على التغيير أو التحكم فيما حوله.

ومن هنا يمكن القول: إن المشهد الشعري قد أخذ يشهد تحولًا صوب الهامشي والعرضي، كما يمكن القول: إن ما يكتبه الشعراء الشباب في الخليج العربي يندرج في إطار التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، وفي إطار الانفتاح الثقافي وانتشار التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة التي جعلت العالم كينونة كبرى متصلة. ويمكن أن يكون في الوقت نفسه استجابة للتحولات السريعة التي تمر بها أوطانهم مع الاحتفاظ النسبي بالنمط الاجتماعي التقليدي والثقافة الشعبية التي تؤمن بالعشائري والحفاظ على التقاليد.

هكذا تتولد في القصيدة -لا سيما قصيدة النثر- شعرية جديدة هي شعرية نثر الحياة اليومية بتفاصيلها، في محاولة للدخول إلى جوهرها وأنسنتها كما لو كانت ذاتًا أخرى فاعلة، مؤثرة ومتأثرة. وقد بدا هذا واضحًا في العالم الشعري وفي المعجم اللغوي لعدد من الشعراء؛ إذ طغت مفردات الحياة اليومية، ومالت اللغة إلى البساطة، وابتعدت عن التكثيف الدلالي الذي قامت عليه قصيدة «الرؤيا» الحداثية، ليخرج الشعر من تعاليه، ويقترب من البسطاء بتفاصيلهم الحياتية وحكاياتهم اليومية. ويمكن أن نرى هذا المعجم اليومي في نصوص عدد من الشعراء؛ مثل: سميرة السليماني، وأحمد العلي، وصالح زمانان، وماجد الثبيتي، وفيصل الرحيل، وزاهر السالمي، وعبدالله المحسن، ورقية الفريد، ويحيى الناعبي، وزهران القاسمي، وصبا طاهر، وغيرهم.

بروز مفردات التكنولوجيا

تشترك معظم النصوص الشعرية في تناول اليومي والهامشي، وفي بروز مفردات التكنولوجيا التي باتت تهيمن على حياة الإنسان فتجعله موجودًا ضمن الموجودات الأخرى، بشكل يكاد يختفي فيه الإنساني والحميمي لتبقى الذات وحيدة لا يشاركها غير الموجودات التي تقصيه، وفي الوقت نفسه تشكل ملاذه وعالمه الخاص. وإذا كان الإنسان يتحول إلى مجرد «شيء» ضمن الأشياء الموجودة في ظل التغيرات الكونية المتسارعة التي جعلته يشعر بالحيرة والعجز أمامها، فإن الموجودات الأخرى تحمل وجودها الموازي الذي تتساوى كينونته مع الكينونة الإنسانية، وتتماهى معه أحيانًا، وبذلك يعيد الشاعر النظر في الأشياء الجامدة ويؤنسنها، ويتماهى معها حتى لتكاد تكون هو. لقد تعلم الشعر أن يصغي إلى الكون على طريقة هيدغر، ليعيد الحياة إلى الأشياء التي كانت مجرد وسيلة. واتسع الهامشي ليشمل الإنسان والجماد والحيوان على حد سواء. وعندما يكتب الشاعر عن الجماد أو الحيوان فإنه يكتب عنهما باعتبارهما منطقة للتبادل لا للتصوير، أو الاستعمال، أو الاستفادة.

إن الحديث عن تسلل قيم ما بعد الحداثة الغربية، وعن النص ما بعد الحداثي، لا يعني أن الشعراء الشباب يقومون بحركة نسخ آلية لما وصل إليه الفن في المجتمعات الغربية، بقدر ما يعني وجود امتداد معرفي، وتنوع ثقافي سمح بظهور ما سمي بـ «الثقافات المهمشة» التي حاولت التعبير عن نفسها، لا سيما مع الانفتاح الثقافي والتكنولوجي الذي سمح لوسائل الاتصال والإعلام الحديثة بنقل معطيات الحضارة الغربية إلى العالم العربي؛ مما عزز ثقافة الاستهلاك، وخلق نوعًا من الهوة بين الثقافي والاستهلاكي، وبالتالي بين الشاعر ـ الفرد وبين المجتمع. وقد تزداد هذه الهوة في ظل ما يعيشه الواقع العربي من تأزم وتمزق وصراعات تسير به صوب المجهول. وربما كان ذلك كله وراء بروز عدد من الثيمات التي لوحظت في إنتاج عدد من هؤلاء الشعراء على تفاوت وتنوع فيما بينهم.

تراجع الإيمان بقدرة الإنسان على التغيير

لقد هيمن على الكثير من النصوص غياب الصوت الإنساني الجمعي، وتراجعه إلى خلفية المشهد الشعري، مع تراجع دور المثقف الفاعل والإيمان بقدرة الإنسان على التغيير. لقد بدت النصوص وكأن أصحابها لا ينتمون إلى مكان أو زمان محددين، هي ذات تسبح في فضاء مطلق، تنكفئ فيه على نفسها، ولا تعيش لغير عالمها الفردي الخالي من التواصل أو حتى من القدرة عليه، ليختفي الإنساني والحميمي، وينعدم التواصل على المستويين الجمعي والفردي. تختفي الجماعة ويصبح عالم الشاعر مكونًا من أشيائه اليومية ودائرته الصغيرة التي يعيشها في يومياته.

ولعل هذا ما يفسر بروز اليومي والهامشي في الكثير من تلك النصوص، ونزول اللغة الشعرية إلى شكل بسيط من التعبير؛ لتبني النصوص شعريتها على محددات أخرى كالمفارقة ورصد التفصيلات. كما يفسر أيضًا ذلك التماهي مع الجماد والحيوان، والحديث بصوتهما في بعض الأحيان، وإذ يتشيأ الإنسان يتأنسن الجماد والحيوان، وتهيمن حاستا الرؤية والسمع من حيث هما الوسيلتان الأساسيتان لملاحظة الأشياء المحيطة. هكذا ينزل الشعر من عليائه، ويتخلى عن تعاليه المعرفي ليصير شيئًا يوميًّا حياتيًّا، ويستمع الشاعر إلى أصوات الموجودات التي تماهى معها، وأخذ موقفها، فسمع صراخها وألمها، ليقف معها في مقابل الآخر ـ البشر والمجتمع الذين اضطربت العلاقة بهم، وعززت صور الوحشة والعزلة التي تراجعت بدور الإنسان ودور المثقف إلى الهامش في عصر العولمة، والهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة.