سؤال القطيعة بين البحث السياسي والاجتماعي وبين تحديات الواقع العربي

سؤال القطيعة بين البحث السياسي والاجتماعي وبين تحديات الواقع العربي

-1-

حقًّا، إن غياب البحث الاجتماعي والسياسي، وغياب حتى البحوث الاستكشافية والبحوث الوصفية المنهجية لرصد ما يحدث رصدًا علميًّا لا تعميه سرعة وفوضى تواليها، ناهيك عن غياب الدراسات التحليلية المعمقة المتسائلة والمفسرة، إن لم تكن مستشرفة أو متنبئة، يشكل سؤال اللحظة التاريخية الحارقة المؤرق.

في رأيي، إن هذا السؤال السافر الصامت في مساءلة غياب البحث الاجتماعي العلمي والكتابات النقدية الباحثة في غليان الواقع الميداني، يجب ألا يكون ولا يبقى سؤالًا منقطعًا في مجلة عربية تقدم فيه اجتهادات متفاوتة في مقاربته، ويطوى أو تُكتب فيه بعض المقالات كما فعلتُ وفعل غيري من الزملاء في مواقع إلكترونية وورقية أخرى وتبقى كتاباتهم فيه صرخة في وادٍ. وعليه فإن جزءًا من مواجهة مستحقات سؤال الفراغ البحثي في هذا الخضم السياسي والاجتماعي المشحون، هو أخذه مأخذًا جديًّا يخرجه من حيز الهاجس والمتخيل لحيز التجسد والفعل الميداني، وينقله من حيز الأسئلة المقطوعة ليكون سؤالًا من الأسئلة المستديمة المنتجة والمتجددة، نحو تنقيب علمي في الأرض الملتهبة.

وقد يسألني القارئ: إذا كنت أقول إن هذا السؤال ليس سؤالًا منقطعًا، وليس سؤالًا يُعالَج بمجرد استطلاع أو طرح آراء متفرقة حوله، وإن كان ذلك أضعف الإيمان بطبيعة الحال؛ إذن كيف يكون سؤالًا مستديمًا على وزن تنمية مستديمة؟ ومَن المعنيُّ به؟ أي لمن يُوَجَّه السؤال؟ هل يكفي توجيه للمشتغلين في الحقل العلمي كأفراد؟ أو يوجه لصُنّاع السياسات البحثية من المؤسسات البحثية؟ أو …، أو …، فلمن توجه الأسئلة ومن المعنيُّ بها؟ كل ذلك مفتاح من مفاتيح البحث عن إجابة بحسب عالم الاجتماع صاحب التفكير النقدي المبكر تشارلز رايت ملز.

-2-

وفي هذا أرى أن سؤال غياب البحوث الاجتماعية العلمية عن الواقع الصعب المَعِيش عربيًّا في تفجراته المتوالية أحداثًا وحروبًا وصراعات واختطافات وتحولات متلاحقة وتغيرات عميقة في مجرى التشكيل الجغرافي والسكاني والتاريخي للمنطقة، هو سؤال المؤسسات العلمية مثل الجامعات والمعاهد العلمية ودُور المعرفة ومراكز البحوث وبيوت الخبرات، وهو سؤال «الحرية»، وسؤال التمكن العلمي في المنهج والأدوات، وسؤال الإنتاجية الفكرية، وسؤال صنع السياسات.

وبهذا المعنى فإن سؤال غياب العمل البحثي على مستوى نظري وعلى مستوى تطبيقي، في تواشجهما لقراءة الواقع الميداني وفهمه وتبصره، هو سؤال ضميرنا الجمعي وضميرنا الفردي كباحثين ومتخصصين وطلاب علم وقراء ومواطنين وقيادات، وذلك ليس بدافع الفضول المعرفي فدواعيه العميقة لا تسمح بهذا الترف، ولكن بوصفه ضرورة مُلحّة لمحاولة استيعاب ما يجري والعثور إن أمكن على إجابات لهذا التحولات الجارفة، التي شهدتها وتشهدها المنطقة من بداية الألفية الميلادية الثالثة ولا تزال جارية على قدم وساق بالعنف حينًا، وبالنعومة حينًا إلى الآن، وربما إلى أجل لا يبصر منتهاه.

ونحن في هذه اللحظة التاريخية بحاجة لتضطلع العلوم الاجتماعية بدورها البحثي سواء الوصفي الرصدي أو التحليلي الاستقرائي والاثنين معًا، من أجل فهم الواقع ومن أجل معرفة وفهم أنفسنا وتقديمه للآخر بما فيه الأجيال اللاحقة، فما عوامل القطيعة إذا صح التعبير بين البحثيْنِ النظري والتطبيقي في علاقته بالواقع الميداني؟

من الأبجديات أن كل الأجيال التي عرفت عصر النهضة العربي على سبيل المثال لم تكن لتعرفه كبعد حضاري وكموقف فكري نقدي وكحالة ثقافية مستنيرة لولا تلك الكتابات التي قرأت الواقع قراءة وصفية تحليلية استنباطية، وجاء بعض منها متأثرًا بالمنهج العلمي للبعثات الدراسية الخارجية أو مجايليهم ومن بعدهم من رفاعة الطهطاوي لبطرس البستاني، ومن جمال الدين الأفغاني لفرح أنطون، ومن قاسم أمين لشبلي شميل، ومن نظيرة زين الدين لهند نوفل وزينب فواز.

وهذا ينطبق على مرجعية الأجيال في أعمال الرعيل الثاني والثالث من المنتجين العرب في مساءلة الواقع لمنتصف القرن العشرين وما قبله إلى ما بعده من منتجي المعرفة الفكرية والعلمية من داخل أو خارج الأكاديميا. وبعينة رمزية تلوح أعمالهم التنويرية في مقاربة الواقع بنزعة بحثية منهجية من طه حسين للوردي، ومن فؤاد زكريا إلى عائشة عبدالرحمن، ومن نوال السعداوي لأمل قرامي، ومن هشام الشرابي لإدوارد سعيد، ومن عبدالوهاب المسيري لمحمد الرميحي، ومن مالك بن نبي والجابري لطه عبدالرحمن والقائمة تطول، وكثير من تلك الأسماء وسواها عبر خارطة الوطن العربي قدَّم أعمالًا اتسم غير قليل منها بربط المعرفة الاجتماعية والفكرية والإنسانية بالواقع الميداني في جانب، واتسم بعضها الآخر بجانب فلسفي وفكري نقدي في جانب آخر.

-3-

ولهذا فإن سؤال مجلة «الفيصل» في حد ذاته هو سؤال جدير بالبحث العلمي السياسي والاجتماعي؛ لماذا لا تنشط بحوث العلوم الاجتماعية في مسائل الساعة المُلحّة؟ لماذا لم تتعمق منهجيًّا دراسة الواقع على أسس علمية مع اتساع وتعدد الجامعات والمراكز البحثية (نسبيًّا)، ومع تعدد أوعية النشر من الورقي للإلكتروني، وتعدد منافذ التواصل عربيًّا وعالميًّا، بل بين الباحثين والمبحوثين، ومع تعقد الواقع المعيش وتغيراته المتلاحقة التي تنحو لمحو المجتمعات بمعناها الواقر المعروف واستبدال واقع افتراضي بها، بجانب تغيرات جذرية أخرى لا تقلّ تحدّيًا للدارسين؟

والمؤلم أن القطيعة البحثية بين العلوم الإنسانية والواقع الميداني العربي نجدها تنطبق على العلاقة بأحوال الواقع في الشدة والرخاء معًا. أي أن تلك الفجوة موجودة سواء في التحولات الرخائية المتمثلة في قفزات تنموية واسعة بمنطقة الخليج وأهمها اتساع مساحة التعليم الجامعي الداخلي والخارجي والتغير النوعي في أنماط المعيشة ومستوياتها وتعايشها، جنبًا إلى جنب مع تحديات المنطقة الاقتصادية والسياسية على مستوى داخلي وعربي وإقليمي وعالمي، أو سواء في حالات الشدة المتمثلة في المواقف المريعة التي مر بها الوطن العربي ككل، وكثير من بلدانه من العراق لسوريا ومن اليمن للبنان ومن ليبيا لمصر، بل لم يسلم من قلقها وقلاقلها وتداعياتها والتداعيات المضادة بلد عربي واحد.

وربما مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي ومنها منصات اللقاءات الإلكترونية وبينار وزووم وتيمز… إلخ، يمكن لعلماء الاجتماع والعلوم الإنسانية والمشتغلين بالشأن الثقافي في بعده الاجتماعي والسياسي والتاريخي، التغلب على التشظي السياسي والتشرذم الجغرافي والحدود والسدود والتباعد الاجتماعي الكوروني وأخواته والحواجز النفسية ومتحوراتها، والتنادي بمبادرات فردية أو بمبادرة الأقسام المختصة في الجامعات أو الجمعيات المعنية لعلماء الاجتماع العرب أو ما شاكلها من مؤسسات بحثية وفكرية كالثنك تانك إلى سلسلة لقاءات تطرح السؤال وتغوص في الأسباب للخروج من عنق زجاجة لتلك الخيارات الضيقة بين «الفُرجة» أو مُراوَحة البحوث المدرسية أو الانسحاب.

-4-

وإذا كان هذا حال السؤال في الوطن العربي عامة، فإن ربطه بأرضية وآلية العمل بالسعودية والخليج تحديدًا لا يقل مساءلة، كما أن التصدي لمثل هذا السؤال وسلسلته عن غياب البحث الاجتماعي والسياسي وإحجام الباحث عن القيام بمهمته البحثية، القادرة على القراءة النظرية للواقع الميداني قراءة تحليلية، التي هي مهمة وأمانة معرفية ووطنية في جوهرها، لا يقل تساؤلًا عنه كاستحقاق مطلبي مُلِحّ.

ونؤكد هذا الاستحقاقَ في هذا السياق، وبخاصة أن السعودية تحديدًا بعد فتح باب الابتعاث واسعًا وبسخاء لكل أطياف المجتمع شابات وشبابًا منذ عام 2001م لديها اليوم ربما أكبر عدد على المستوى العربي من الدارسين والخريجين من جامعات عالمية في أوربا وأميركا الشمالية، الكثير منها عريق بحثيًّا، وفي مجملها هي جامعات مبنية على البحث العلمي ومؤهلة لتعليم طلابها تعليمًا غير بنكي قائم على التفكير وعلى الفكر النقدي، بما يمكن الطلاب ومنهم بطبيعة الحال طلاب العلوم الاجتماعية ومبتعثي الجامعات في تلك التخصصات من اكتساب معرفة نظرية ودربة منهجية متمكنة. ولهذا عندما نرى الفجوة البحثية في بلد كالسعودية والخليج الذي لم يمر بالصدامية العنفية الجارية في الجوار العربي بشكل يومي، وأُتِيحَ لمتخصصيه فرص تعليمية وتدريبية مؤصلة منهجيًّا، إلى جانب الدعم الرسمي السخي لجامعاته، فلا بد أن نتساءل، ما الذي يمنع العمل البحثي الاجتماعي والسياسي الجاد من دراسة الواقع والتحولات الانتقالية العريضة التي يمر بها المجتمع وتحدياتهما الداخلية والخارجية. ويمكن ربط السؤال بسؤال «الفيصل»، ما الذي يمنع التصدي بحثيًّا للأسئلة والقضايا الكبرى التي يواجهها الواقع العربي اليوم بما يشبه الصمت على فداحتها؟

-5-

لقد كنا تاريخيًّا وصرنا راهنًا بشكل متزايد مادة بحثية لشتى مراكز البحوث العالمية وبيوتات الفكر ومؤسسات صنع السياسات والتخطيط الخارجي في أميركا الشمالية والصين واليابان مرورًا بأوربا، وخرجت وتخرج مادة علمية بعضها أنثروبولوجي، وبعضها سوسيولوجي وسياسي واقتصادي، وبعضها استخباراتي عن مجتمعنا العربي بمختلف بلدانه.

توجد اليوم فروع لدراسة الشرق الأوسط والخليج والسعودية في مختلف أقسام الدراسات الاجتماعية، بل في فروع متخصصة منها. ومن تلك الأقسام للدراسات الشرقية الأوسطية ما يقوم في أعرق الجامعات الأميركية مثل: هارفارد، وبرينستون، وجورج تاون، ويل، وكورنيل وبيركلي… إلخ. كما أن بعضًا منها في تعاون علمي «باتفاق فردي على الأغلب»، يستضيف بعضنا في محاضرات أو كأساتذة زائرين أو ببرامج زمالة، وذلك للمزيد من محاولات التعرف إلى «واقعنا العربي» من قريب.

هذا بينما جامعاتنا ومراكز بحوثنا بالمقارنة بالكاد تنحو لدراسة واقعنا دراسة بحثية استكشافية تحليلية فيما يخص أسئلة المجتمع والدولة الكبرى، ولو فعلنا فلا نستغني عن المراجع الأجنبية في البحوث والكتب المكتوبة بأيدي غيرنا عنا. وإذا كانت الاستعانة بمراجع الآخرين أمر لا ضيرَ علميًّا فيه، بل قد يكون تنويع المصادر أمرًا ضروريًّا، فإن المشكلة لو بقيت تلك المراجع الأجنبية المكتوبة عنا مصدرًا رئيسًا ووحيدًا «لتعريفنا بحثيًّا» على واقعنا، على الرغم من التوسع العريض في دائرة الباحثين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية عندنا.

والأدهى هو أن تتجه دول المنطقة بما فيها الخليج والسعودية لبيوتات الخبرة البحثية ومراكز الدراسات الخارجية في أوربا وأميركا، التي طور بعضها قدرة نظرية ومنهجية وخبرة ميدانية في المنطقة العربية ومنطقة الخليج وتحول لشركات بحث وتخطيط رأسمالية عابرة للقارات، لطلب المشورة منهم ولتكليفهم بالبحوث والدراسات ولاقتراح السياسات التي تحتاجها المنطقة، سواء في مشروعاتها التنموية الوطنية أو في تحدياتها الداخلية والعربية والإقليمية.

فلماذا قد يكون ذلك؟

هل يكون لثقة بالغة في منهجية العمل البحثي لدى مراكز الاستشارات الغربية والأميركية مقارنة بالثقة في العمل البحثي المحلي، أو لفارق موضوعي حقيقي بين العمل البحثي المحلي وبين العمل البحثي الأجنبي، أو لأن الجامعات تُعَدّ (مدارس بأحجام كبيرة) وهي معنية بدراسة وبحث بعض إشكاليات السلوك الاجتماعي، التي يغلب عليها الطابع التحفظي في المحتوى والخفة المنهجية في تناول موضوعات مثل الطلاق والزواج وتعدد أشكال الزواج وإشكالات الطفولة، أو لأسباب أخرى يجب بحثها واستكناهها لمعالجتها إن أردنا للبحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية ببلادنا أن يزدهر، ويكون بوصلة لنا في التحولات وفي وضع السياسات، بل في مواجهة الأسئلة والتحديات الكبرى.

-6-

يمكن أن يطرح للإجابة عن السؤال الافتتاحي اجتهادًا، وإن كان مستمدًّا من معايشة قريبة، ولكنه ليس عن دراسات علمية موثقة أو مرجحة بمقاييس معيارية شديدة الموضوعية (وتبقى الأخيرة مهمة مطلوبة)، حزمة من العوامل المحتملة أو القائمة فعلًا أدت إلى غياب البحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية عن الواقع الاجتماعي ميدانيًّا سعوديًّا وخليجيًّا وفي لحمتهما وعمقهما العربي، ومن ذلك على سبيل المثال، وأرجو ألا يكون على سبيل التبرير:

1- أسباب تراكمية في الكيفية المحدودة التي دخلت بها العلوم الاجتماعية للجامعات في مثال عايشته وما زلتُ أعيش جدله بمجتمعنا السعودي، وهو مثال بينه وبين معظم أقسام ومراكز البحث للعلوم الاجتماعية بجامعات الوطن العربي قواسم مشتركة عدة.

2- أسباب تتعلق باللحظة التاريخية التي سادت فيها محاولة أَدْلَجَة أقسام العلوم الاجتماعية وعملها البحثي، ونجاح تلك المحاولة في فرض أحادية ضيقة ومتشددة في عمل أقسام العلوم الاجتماعية على مستوى التدريس ومستوى العمل البحثي. دون النجاح في تطوير بديل منهجي من صلب الحضارة العربية الإسلامية، تحت محاولات ما كان يسمى «أَسْلَمة العلوم الاجتماعية».

3- تدخل وتغليب الإداري على الأكاديمي في حسم الجدل الطبيعي في أقسام العلوم الاجتماعية، سواء على مستوى التدريس أو العمل البحثي. بتغليب الجمود المعرفي على التجديد، وبالانتصار لسلطة السائد على حساب السعي للمنشود.

4- الاعتماد إلى وقت قريب على الأسلوب البنكي في التدريس الجامعي، مقررات ومسارات ومنهجية، وعلى تفشي أساليب بحثية ميكانيكية وتجميع إحصائي غير مستثمر تحليليًّا بشكل يفتقد للحيوية ولدقة وموضوعية العمل البحثي.

5- الدوران في فلك الفروع التقليدية للعلوم الاجتماعية مما تجاوزها البحث والأكاديمية العالمية، مع انتقائية تتحيز لما يقتصر منها على دراسة أو بحث الجانب السلوكي للفرد والموضوعات الرائجة كغلاء المهور، وأضرار أو فوائد العمالة المنزلية، ومساوئ أو محاسن التقنية الحديثة،… إلخ. مع أنه من المتعارف عليه عالميًّا وجود عدة أبعاد ومستويات لفروع ووظائف العلوم الاجتماعية في العمل التعليمي والبحثي، فهناك جانب دراسات السلوك الفردي، وهناك جانب دراسة البنى السياسية والاجتماعية، والعلاقات، والأطر الثقافية والمعرفية للمجتمع وعلاقة الدولة بالمجتمع، والتوافق والصراع، والمستقر والمتموج والمتحرك في حياة المجتمعات.

6 – الاعتماد في البحث والتعليم خاصة على مراجع تتسم بالمحافظة والمدرسية، مستعارة من مدارس الجوار العربي أو مترجمات قديمة، وذلك نمط سائد ومقبول إلى وقت قريب.

7- على الرغم من التعدد البحثي والتعدد المنهجي في البحث، من ناحية أنواع البحوث وأدوات كل منها ومشتركاتها، وفي التعدد النظري وتداخل المجالات النظرية في تراكم العلم والجهود التطويرية فيه داخل المؤسسات الأكاديمية الأميركية والغربية عمومًا، فقد كان يغلب على العمل التعليمي والبحثي طابع الاكتفاء بالمنتج التأسيسي للعلوم الاجتماعية من دون متابعة تطوراته وتجلياته وجدلياته الجديدة.

-7-

هناك معاناة الباحث ليس فقط في مواجهة التحديات المشار إلى بعض منها آنفًا، بل أيضًا معاناته في معالجة أي نقص في إعداده النظري وفي تدريبه المنهجي مع معالجة نفسه من الخبرات الأحادية المفروضة، أو بالأحرى التي كانت مهيمنة مع عبء مواجهة الرقابة الذاتية التي ربته عليها خبرةُ ردحٍ من الزمن، فلم يكن يستطيع الباحث أن يشرع في موضوع إلا بعد رقابة قد تجيز أو لا تجيز موضوع بحثه. هذا عدا أشكال رقابية أخرى، تعاني قدرًا منها تلك المجتمعات التي لا تأخذ الحرية الأكاديمية والبحثية فيها المقام الأول. وهنا لم أعرج على الصعوبات البحثية التي يواجهها الباحث في مجتمعات رغم مضي خمسين عامًا على تأسيس الجامعات بمراكزها البحثية، كصعوبة تجاوب المجتمعات المبحوثة، وتحدي تحول البحوث إلى حاويات للغبار على رفوف لا يسأل صناع السياسة العرب عن محتواها ولا يأخذون توصياتها مأخذ الجد.

-8-

في ظني أنه إذا كان قد جرى في التاريخ التربوي استبعاد دراسة الفلسفة بشكل سافر من الأفق التعليمي العام والجامعي وما بعده، عربيًّا وخليجيًّا وسعوديًّا، إلى حد بعيد بتفاوت نسبي، فإنه قد جرى بشكل مستتر، ناعم مرة وخشن أخرى، استبعاد كل ذي طبيعة إشكالية على المستوى الفكري من معظم العلوم الاجتماعية التي أدخلت في مؤسسات التعليم الجامعي ومراكزه البحثية. وقد استبعد منها على وجه التحديد التفكير العلمي والتفكير النقدي الذي هو من الضرورات النظرية والمنهجية التأسيسية لدراسة العلوم الاجتماعية وتطبيقاتها الميدانية بحثيًّا. كما استبعدت أيضًا كل فروع العلوم الاجتماعية غير القابلة للتحول إلى «مادة مدرسية تلقينية». فقد شُيِّدَتْ أقسام لعلوم اجتماعية كاملة كعلم الاجتماع مثلًا، على ذلك الجزء المعرفي المقتصر على فروع العلوم الاجتماعية ذات الطبيعة الطيّعة في تدريسها وذات الطبيعة البراغماتية في مُخرجاتها.

وقد اتبعت السياسة نفسها للتطبيقات البحثية، فجرى نوع من الاجتزاء المنهجي الذي جعل العمل البحثي يقتصر على تنفيذ بحوث تعتمد على الهياكل الكمية بتفاوت في دقتها، مع استبعاد متعمد لأساليب العمل الكيفي والتحليلي. ولتقريب هذه النقطة يمكن الإشارة لأمثلة حية على أرض واقع التعليم الجامعي والعمل البحثي. ففي الدراسات الاجتماعية عُطِّلَ كثير من فروع علم الاجتماع ذات الطبيعة النقدية المتصدية عادة لقضايا المجتمع الكبرى مثل: علم اجتماع المعرفة، وعلم اجتماع السياسة، وعلم اجتماع الحقوق والقانون، وعلم اجتماع الثقافة، وعلوم نقدية أخرى متفرعة منه، ناهيك عن استبعاد كل ما له علاقة بعلم اجتماع الإنسان مثل الأنثروبولوجيا.

وفي المقابل فقد اقتصر توطين الدراسات الاجتماعية على مسارات لها اعتبارها العلمي بطبيعة الحال، ولكنها تقصر فضاء التعليم والبحث فيها على قضايا يسهل دراستها على مستوى «ميكرو» مصغر دون ضرورة لدراستها على مستوى «ماكرو» أشمل يتطلب البحث في الإطار الاجتماعي الأعمق والأبعد. فقدمت مسارات مثل: علم اجتماع الأسرة، علم اجتماع بدوي، ريفي، حضري، صناعي، علم اجتماع طفولة، علم اجتماع طبي، سكاني، انحراف، كأنها وحدها الممثلة لعلم الاجتماع ككل. مع ما اقتضاه ذلك من تعزيز لمنهجية بحثية أحادية تعتمد على أدوات محدودة كالاستمارة والاستبانة، التي على أهميتها فإنه يغلب على تطبيقها طابع تقليدي ميكانيكي في بحث إشكاليات جديدة وديناميكية.

وفي هذا لم يقتصر الأمر على خيارات محدودة في موضوعات البحث، كالبطالة وسوق العمل، والرضى الوظيفي، والعنف الأسري، ومخرجات التنمية في التعليم أو الصحة، بل إن تنفيذ بعض من تلك البحوث قد يتم بخفة تَخِلّ بالموضوعية العلمية، برفع الأرقام أو خفضها لصالح تضخيم المنجز حينًا، أو لتعذر الحصول على المعلومات والإحصائيات الدقيقة أحيانًا. ولا بد أن هذا النمط التعليمي والبحثي قد شكل سببًا ونتيجة لسياسات الابتعاد من تناول إشكاليات بحثية كبرى في التحولات، كالقبيلة والطبقة والمناطقية والهوية والانتماء والحراك المجتمعي الأفقي والرأسي، والإصلاح الاجتماعي، والنسق الثقافي والخطابات السياسية والإعلامية وبناها الاجتماعية وعلاقات القوى. ومنها كان العزوف المتعمد أو بحكم التربية المعرفية عن البحث في تلك الزلازل المتلاحقة التي تعرض لها المجتمع العربي وبلدانه في العقدين الماضيين ولا يزال.

-9-

على أن سؤال «الفيصل» وإن كان سؤالًا في غياب البحث العلمي عن الواقع الميداني في تحدياته الداخلية والخارجية الكبرى على مستوى عربي عام وعلى مستوى مختلف البلدان العربية، فإنه ينكأ جروحًا عميقة وطازجة في غياب الكتابة الفكرية النقدية ككل، لمواجهة أسئلة وتحديات الوطن العربي الكبرى، وإن لم يكن بهدف المعالجة بل بهدف أن نعرف وأن نفكر وأن نكتشف على مستوى معرفي محض جدل التحولات.