شعر بلا أسوار

شعر بلا أسوار

ليس الشِّعْرُ رِوَايَةً، ولا الروَايَةُ شِعْرًا. بل فِي الشِّعْرِ سَرْدٌ، وَوَقائِع وأحْداث، كَما فِي الرِّوَايَةِ تَصْوِير، ولُغَةٌ تَسْعَى لإضْفَاءِ بَعْضِ مَاءِ الشِّعْر، على ما تَرْوِيه من أحداثٍ ووقائع، وما تَبْتَنِيه من عَوالِم تَخْيِيلِية، أو حَتَّى واقِعِية، حين تذهبُ الرِّوايَةُ إلى الواقِع، أو تَمْتَح. بِقَدْرِ ما فِي الشِّعْر من تَكْثِيفٍ، ومَيْلٍ إلى التَّخْييلِ، والتَّصْوِير، وإلى الإيقاعِ، وما في الشِّعْرِ من بِناءٍ، هو بالطَّبِيعَة، غير بِناء الرِّوايَة، فَهُو كَان، مُنْذُ بداياتِه المُؤَسِّسَةِ الأُولى، يَرْوِي، ويَحْكِي، ويَلْتَقِط نَبْضَ المُشْكِلاتِ والأفْكَار الَّتِي واجَهَتِ الإنْسانَ في تَفْكِيرِه، رغم بدائِيتِها، واخْتَارَ تَوْقِيعَ الكَلامِ، أو ما أحْدَثَهُ فِيه من مُوسِيقَا، ومِنْ نَغَمٍ، رُبَّما، لأنَّ النَّغَم، كما سيَحْدُثُ لاحِقًا، كَان نَوْعًا من الطَّقْس الَّذِي سَمَح للإنسان أن يَسْتَدْرِجَ بَعْضَ أسْرار الطَّبِيعَة، ويَلْتَقِط نَبْضَها، وما كان يَراهُ فيها من شَجًى، أو مِنْ فَرَحٍ وَتَرَحٍ. فـ«ملحمة غلغامش»، كانت المِثال الصَّارِخَ الَّذِي سارَ في هذا الاتِّجاه.

فَهِيَ شِعْرٌ، بَنَى شِعْرِيتَه عَلَى سؤال وُجودِيّ كبير وعميق، هو سؤال الموت، والرَّغْبَة في البَقاء، أو في الخُلودِ، واللُّغَةُ، في يَدِ «الشَّاعِر»، أو «الشُّعراء» الَّذِين تَنَاوَبُوا على رواية هذا «النَّصّ»، وَتداوُلِه، كَانتْ لُغَةَ نَبْصٍ، وخَفْقٍ، وارْتِعاشٍ، وكَان الحَكْيُ فِيها، شَهادَة على زَمن النَّصّ، وَعَلَى ما اسْتَشْعَرَهُ الإنسان، فِي حِينِه، من مأْساةٍ، كانتْ مُقَدِّمَتُها مَوْت «أنْكِيدو»، وجَزَع «غلغامش»، وهو يَرَى الدُّودَ يسقُطُ من أنْفِ صديقِهِ، لِيُدْرِكَ، بعد انْتِظارٍ، رَغْم مَا كَانَ فِيهِ مِنْ دَمِ الآلِهَةِ، مِنْ أَنْفَاسٍ؛ أنَّ هذا التَّحلُّلَ، هو المَوْتُ عَيْنُهُ، وأَنَّ الجِسْمَ القَوِيَّ الجَرِيءَ، الَّذِي تَجَشَّم الأهْوالَ والمَشَقَّاتِ، صارَ، بِفِعْلِ هذا الذَّوَبانِ والتَّحَلُّل، مَحْضَ تُرابٍ.

مَا أَمَرَّ الغِيَابَ، مَا أَقْسَاهُ، ومَا أشَدَّ وَطْأَهُ عَلَى النَّفْسِ حِينَ تُبْتَلَى بِهِ، أوْ يَحْدِقُ بِها. هَكَذَا وَجَدَ «غلغامش»، نَفْسَه مُطَوَّقًا بالحُزْنِ والأسَى، وهُو المَلِك البَطَلُ، سَمِيُّ الآلِهَةِ، أو ابْن نِنْسُونَ الَّتِي، كَانتْ، بَارَكَتْ لَهُ «أَنْكِيدُو» أخًا، لِيُرافِقَهُ فى مُغامَراتِهِ الخَارِقَةِ. فأجواء نص «غلغامش»، هِي أجْواءُ وَقَائعَ وأحْداث، وحِكَايَة مَأْسَاةٍ كَبِيرَةٍ تُرْوَى وتُقَالُ، حتَّى لا يَبْقَى الوُجُودُ، فِي عَيْن الإنسانِ، وفي وَعَيْهِ، خُلودًا وأبَدًا. ولعلَّ في نهايَةِ مَطَبِّ «غلغامش»، حِينَ وَقَف عَلَى أسْوار «أوروك» المَنِيعَةَ، بعد عَوْدَتِه مُتْعَبًا، مَهْزُومًا ومُحْبَطًا، حِينَ سَرَقَتْ مِنْهُ الحَيَّةُ نَبْتَةَ الخُلُود، ما يُفِيدُ إدْراكَهُ أنَّ الخُلُودَ، هو ما يَتْرُكُه الإنْسان من بِناء وعُمَرانٍ، وفِكْرٍ وشِعْرٍ، والملحمةُ في ذَاتِها، هي تأكِيدٌ لِهذا المَعْنَى، وهِي شِعْرٌ، مُنْذُ بداياتِه الأولَى، اخْتَارَ أن يَحْكِي ويَرْوي ويَقُولَ، ويُقْلِقَ، ويُزْعِجَ، ويَقْتَسِمَ الفِكْرَ والنَّظَرَ. وهذا ما سنجده لاحِقًا في الملاحِم الإغريقِية مثل: «الإلياذة» و «الأودِيسَّا» و «الإنْياذة»، كما سَنَجِدُهُ عند حضاراتِ وثقافَاتِ الفُرْس، والهُنودِ، بِما خَلَّفُوهُ لَنَا مِنْ أَعْمَال كُبْرَى، مثل: «الشَّهْنَامَة» و «المَهابَّاتاه». أعمالٌ هي أمثلة حَيَّةٌ عَلَى هذا الزَّواج الأبَدِيّ بين الشِّعْر والحَكْيِ، وهو ما سنَجِدُهُ في الشِّعْر العربي، في مُخْتَلِفِ أزْمِنَتِه وحِقَبِه، عِنْدَ امْرِئِ القَيْسِ، كَمَا عِنْدَ طَرَفَةَ، وعِنْدَ عَمْرو بْن رَبِيعَة، كَمَا عِنْدَ المُتَنَبِّي… فلا مَعْنَى اليوم، أَنْ نَدَّعِي أنَّ الشِّعْر لا يَرْوِي، أو أنَّ الشِّعْرَ دَخَلَتْ عَلَيْه الرِّوايَة، أو اسْتَقَى مِنْها سُرُودَهُ وَمَحْكِياتِهِ، نَظَرًا لِما تعرفُه من انتشارٍ وحُضور، أو لِأَنَّ الزَّمَنَ، هو «زَمَن الرِّوَايَة»، لا «زَمَن الشِّعْر»، كما باتَ يُقالُ من دون انْتِباهٍ لِما فِي الحُكْمِ من تَعْمِيم وإجْمَالٍ، واسْتِبْدَالِ نَوْعٍ بِآخَر، وَفْقَ نَظَرية التَّجنِيس.

لا أقُولُ: إنَّ الرِّوايَة خَرَجَتْ من الشِّعْر، أو هُوَ مَنْ أمَدَّهَا بِدَمِهَا، بل أُرِيدُ، هُنَا، أنْ أُثِيرَ مُشْكِلَةً، أعتبرُها، من بين المُشْكِلاتِ الَّتِي لا نُفَكِّرُ فِيها بِما يَنْبَغِي من اهْتِمامٍ، أَعْنِي مُشْكِلة التَّقْسِيمات الأجْناسِية الَّتِي اسْتَقَيْناها من الفِكْر اليوناني، ومن أرِسْطُو تحديدًا، لِنَجْعَل من الكِتابَة مَنازِل، وطَوابِقَ، وغُرَفًا، من دون أن نَرَى أنَّ هذه القِطَع، هِيَ قِطَعُ عِمارَةٍ واحِدَةٍ، وشَكْل فِي البناء والتَّشْييدِ، لا طَرَفَ فِيه، كَانَ، أو وُجِدَ من دُون غَيْرِهِ. مِثل قِطَع الشِّطْرَنْج، التي إذا ما اخْتَلَّتْ قِطْعَةٌ ما، أو تَحرَّكَتْ في اتِّجاه ما، فَهِيَ تُحْدِث ارْتِجَاجًا وقَلْبًا فِي البَاقِي.

رَأَيْتُ الكِتابَةَ، دَائِمًا، بِهَذَا المَعْنَى، رَغم ضَرُوراتِ التَّفْرِيقِ والتَّمْييزِ، وما يَقْتَضِيه التَّصْنِيف الأجْناسِي من حُدُودٍ وقواعِد. فالشِّعْر، في مُقابَلَتِه بالرِّواية، هو الرَّقْمُ العَصِيُّ في مُعادَلة التَّجْنِيسِ هَذِه؛ لأنَّ الشِّعْرَ، خُصُوصًا، اليوم، هو أرْضٌ لا سِياجات فِيها، وَلَا شَيْءَ يَمْنَعُ توسيعها والدُّخول إلَيْهَا، أو زَرْعهَا بِغَيْرِ ما كَان مأْلُوفًا فِيها من زَرْعٍ ونَبَاتٍ. فَهُوَ عِمارَةٌ بِنَاؤُها لا يَكْتَمِل، وهو بِناءٌ مفتوحٌ على المَجْهُولِ، وعلى الأُفُق، ويقبل بالهَدْمِ، كما يَقْبَل بالإضافَةِ والاخْتِراقِ، وهو ما يَعْنِي أنَّ الشِّعْرَ فِيهِ جُرْأَةٌ، وهو تَجْرِيبٌ لا يَفْتَأُ يُعِيد رُؤْيَة الأشياء، بغَيْر المِنْظار، أو العَيْنِ الَّتِي كَان «السَّابِقُ» يَرَى بِها هذه الأشياء. فـ«اللَّاحِقُ»، ليس بالضَّرُورَة، هو «السَّابِق»، أو عليه أَنْ يَسِير بخَطَواتِه نفسها، وفي طَرِيقِه نَفْسِه، فَالزَّمَنُ هُوَ غير الزَّمَن، والمَكَانُ هو غير المَكان، واللُّغَة، أعْنِي الأسلوبَ، هي غير اللُّغَة، وأيْضًا، ما يَطْرَأُ عَلَى العَصْر من ثقافاتٍ وفُنُونٍ، وَما يَجْرِي فِيها من شَمْسٍ، لَيْسَتْ بالضَّرُورَةِ هِيَ الشَّمْس نَفْسُها، بِتَعْبِير هِيراقليط، فَيْلَسُوف الصَّيْرُورَةِ.

فِي الرِّوَايَةِ، مَهْما ادَّعَيْنا مِنْ تَجْرِيبٍ، ومَهْما بَرَّرْنا ما أقْدَمَ عَلَيْهِ بعض الكُتَّاب من اخْتِراقاتٍ، فَهِيَ تَبْقَى، لا في حَكْيِها، ولا في أحْداثِها ووقائِعِها، ولا في بِنائِها، تَمِيل إلى الثَّوابِت، إلى التَّشْيِيد والبِناء، أو إلى الإقامَةِ، بالمَعْنَى الهايدغِرِيّ، التي تُفِيد الاسْتِقْرَارَ، والثَّبَات، وهذا يُفِيدُ أَنَّ الرِّوايَة، هي كتابَةٌ على أرْضٍ راسِخَةٍ، الثَّابِتُ فِيهَا أكْثَر من المُتَغَيِّر، بِعَكْسِ الشِّعْر، تَمَامًا، الَّذِي هو بِناء فِيهِ التَّرَحُّل، أو البِناء على أراضٍ مُتَحَرِّكَةٍ، لا اسْتِقْرارَ فِيها بالمُطْلَقِ، هُوَ القَاعِدَة والقَانُون. هُنا يَبْدُو لَنَا، أنَّ الشِّعْر في راهِنِهِ، هو «جامع أَنْواعٍ»، وهو تَقاطُعٌ بَيْنَ أنواعٍ، كانتْ، دَائِمًا، فِي صُلْبِ الشِّعْرِ، ومِنْهُ انْحَدَرَتْ، رغم العَمَاء الَّذِي ابْتُلِينَا بِهِ، فيما جرَى من تَصْنيفاتٍ، ومَا عَمِلَتْ النَّظَرِيات النَّقْدِية عَلَى تَكْرِيسِه من حُدُودٍ وأَسْوارٍ.

أَلَيْسَ الحِوَارُ من صُلْبِ الشِّعْر، والحَكْي، وسرْد الوقائع والأحداث، والزَّمَان، والمَكَان، والشُّخُوص، وغيرها من مُكَوِّنات الرِّواية، كما نعرفُها اليوم، هِي بَيْن ما بِهِ ابْتُنِيتْ «ملحَمَة غلغامش»، وغيرها من المَلاحِم الكُبْرى، التي لا نزالُ ننظُرُ إلَيْهَا بتقدير، ودَهْشَةٍ، وإِعْجَابٍ، ومَا زَالَتْ تُقْرَأُ إلى اليَوْم، من دُون أنْ نَسْتَطِيعَ اسْتِنْفَادَ مَعانِيها، ومَا تَحْفَلُ بِهِ مِنْ أسْرارٍ؟

أَلا يُفِيدُ هَذَا، أنَّ الحَكْيَ فِي الشِّعْر هُو حَكْيٌ يَخُصُّ الشِّعْرَ، وفَصْلُه عن الشِّعْر، بوضْعِه فِي غَيْرِ مائِه، إنَّما هو نوعٌ من ابْتِسار الشِّعْر، والنَّظَر إلَيْهِ بِغَيْر تارِيخِه، وبِغَيْر مَعْرِفَتِه، أعْنِي المعرفة الشِّعْرِية، وبِغَيْرِ بنائهِ، هذا البِناء المفتوح على مَجْهُولاتِ اللُّغَةِ، والإيقاع، والخَيَال، أعْنِي على ما يُحْدِثُهُ الشِّعْر من دَوَالَّ، هي توسيع للبِناء، وإعادَة تَفْكِيرِه، حتَّى لا يَصِير بِناءً قابِلًا للتَّلاشِي بِفِعْلِ الزَّمَنِ، خُصُوصًا حين يكون بِنَاءً مُغْلَقًا، لا نَوافِذَ، ولا أبْوابَ لَهُ، أو لا تَدْخُلُهُ الشَّمْسُ مِنْ أيِّ مَكانٍ.

تَسْمِيَة الشِّعْرِ بـ«القَصِيدَةِ»، أو اخْتِزالُهُ فِيها، بَاتَ، بِدَوْرِهِ، أمْرًا يَخْضَع للمُراجَعَةِ والتَّفْكِيكِ، بِنَاءً عَلَى مَا صَارَ عَلَيْهِ النَّصّ من أشْكَالٍ ومُقْتَرَحاتِ، هَزَّتْ مَفَاهِيمَ، كَانتْ راسِخَةً، مثل مفهوم البَيْت، والوزن، والقافية، وصارَتْ دَوَالّ أخْرَى تَدْخُل إلى الشِّعْر، لِتُخَلِّصَه مِنَ «زَمَنِ القَصِيدة»، وَتَنْقُلَه، إلَى مَا كُنَّا اقْتَرَحْنَا تَسْمِيَتَه بِـ«حَدَاثَة الكِتابَة»، فِي أُطْرُوحَتِنا «حَداثَة الكِتَابَة فِي الشِّعْر العربي المُعاصر»، الَّذي ستصدُر طَبْعَتُه الثَّانية، بَعْد أيَّامٍ.

«كـان هـذا سهــوًا» فصوص غير منشورة لأُنسي الحاج

«كـان هـذا سهــوًا» فصوص غير منشورة لأُنسي الحاج

في كتابه الصّادر بعد رحيله «كان هذا سهوًا»، بقدر ما كان أُنسي الحاج، شاعرًا، بقدر ما كان مُتأمّلًا، وناقدًا، وصاحب رأيٍ وموقفٍ، في كُلّ ما يتعلّق بشؤون الوُجُود، وعلاقة البشر بالسّماء، أو بالميتافيزيقا والدين، والموت والحياة، والحب، والفن والأدب، وكأنّ الكتاب كان نوعًا من تقييد الخواطر، أو ما يمُرُّ بذاكرة الشّاعر وبخياله، أو بفكره بالأحرى، من أُمُورٍ، بدا لهُ في بعض لحظات الإشراق، أن يكتُبها، أو يُخرجها من العتمة إلى النُّور، رغم أنّ الحاج، لم يرغب في نشرها في حياته، وتركها وديعةً في ذمّة ابنته، بعد أن ألحّت في نشرها، أو في أن يقرأها النّاس.

يقول أُنسي الحاج، في [ص 186] من الكتاب، وكأنّهُ يُسمّي ما كتبه: إنّ هذه «الكتابات التأمُّل والشذرات»، هي نوعٌ من التّفلسُف، كما يرى بعض المختصين، لكنّها، في عُمقها وجوهرها، هي «استنطاق البدايات بحثًا عن نُور، وهي تجُوس الحواس في العتمة». فما كان يردُ في خاطر الحاج، أو ما يمُرُّ أمام عينيه من لحظات ضوءٍ، رغم ما كان ألمّ به من تعبٍ، كان يحرصُ على تقييدها وتدوينها، دُون أن يكُون ما يكتُبُه، شعرًا بالضّرورة، فالخواطر تتّسم بالحُرّية في التّجنيس، أو هي كتابةٌ تتصادى مع كُلّ أجناس الكتابة، فيما هي كتابة حُرّةٌ، مُنطلقةٌ، لا تتقيّدُ بقواعد، أو بقوانين مُعيّنة.

فأُنسي الحاج، إضافةً إلى كونه، هُنا، في هذا العمل، كما في غيره من خواتمه السّابقة، يكتُبُ، كما يشاء، وفق فهمه الخاصّ للشّذرة، أو الكتابة التّأمُّليّة ذات الطّابع الفلسفي، فهو أحد شُعراء الحداثة العربية المُعاصرة، الذين خرجُوا عن «عمود الشّعر» العربي القديم، إضافةً إلى كونه شاعر ما كان سمّاهُ هو نفسُه في مُقدّمة كتابه «لن» بـ«قصيدة النثر»، التي لم تكُن معنيّة قط، لا بأوزان الشّعر، ولا بقوافيه، أو بطبيعة الصُّور البلاغية القديمة التي كانت تتواتر حتّى في بعض «الشّعر الحر»، عند نازك الملائكة، وبدر شاكر السّياب، من «الرُّواد»، مثلًا.

تقعُ هذه الخواطر، في «المابين»، ويعني الحاج، ما بين الشّعر والنّثر، أي في منطقة البرزخ، بالتّعبير الصُّوفي، الذي هو اللّحظةُ التي عندها يلتقي النّهر بالبحر، فيما هُما ينفصلان.

وضع ملتبس

onsyوفق هذا الوضع الملتبس، حيثُ لا ظُلمة ولا نُور، كتب الحاج، أو اختار هذه الأرض المُحايدة التي هي نوعٌ من «النّومنسلاند». ومن يقرأ فُصُول الكتاب، أو فُصُوصه بالأحرى، سيجدُ نفسه يتأرجح بين كتابةٍ تشُدُّه إلى الشّعر، وكتابة بقدر ما هي نثر صرفٌ، بقدر ما يأخُذُها الشّعر، أو هي تنكتبُ مأخُوذة بماء الشّعر وبهوائه، أو بما تعوّدت عليه يدُ الشّاعر من بلل اللُّغة، وانشراحها.

إنّ ما يُثيرُ في كتاب أُنسي الحاج، هذا، هو تلك الشّذرات الحكميّة، التي تُشبه حكم لاوتسُو، أو حكم فلاسفة ما قبل سُقراط، الذين قرأهُم نيتشه بعنايةٍ نقدية خاصّةٍ. وهي حكمٌ، لم يكُن الحاج يتوخّى من خلالها أن يبدُو نبيًّا يُدلي بوصاياه لتابعيه، بل إنّها كانت نوعًا من النُّبُوّة الدُّنيويّة التي يبدُو فيها «الحكيم» خبيرًا بشُؤُون الأرض، وخبيرًا بشُؤُون الخلق، ممّن يعيشُ ويحيا بينهُم، وأنّ العلاقة باللّه، مثلًا، هي علاقة ذات طبيعة ميتافيزيقية، فيها كثير من الغُموض والالتباس، وكثير من الشّدّ والجذب، تارةً لجهة «اليقين» وتارةً لجهة «الشّك»، أو حتّى الجُحود، إن شئنا.

فهذه الحكم، هي تأمُّلاتٌ، أو هي حصيلة تأمُّلاتٌ، فيها خبرةٌ، ومعرفةٌ، بما اختار الحاج أن يتكلّم، أو يكتُب فيه، وفيها كان يستجمع سهوهُ، كما كان يستجمع قواهُ كاملةً، ليكرز بما بلغه من خميرة فكره، ومن خميرة تجربته، كشاعر، وكإنسانٍ، عاش عُمُرًا مليئًا بكثير من المُفارقات والجراح، كان الشّعر فيها، بالنّسبة لهُ، هو البلسم، الذي به كان نكأ الكثير من هذه الجراح.

وما يبدُو من غُمُوضٍ في بعض هذه الشّذرات، أو الفُصُوص، كما أودُّ أن أُسمّيها، هُنا، فهو ناتجٌ عن طبيعة الغُموض، أو الضّبابيّة التي لا تزالُ تلُفُّ بعض ما لم يحسم الحاج نفسه، في فهمه، أو استيعابه، خُصوصًا ما يتعلّقُ بـ«ميتافيزيك الدّين». لا يتعلّقُ الأمرُ بدينٍ بعينه، بل بالدّين، بوصفه، فكرةً، وكتابًا، وأيضًا اعتقادًا. لا يحصُر أُنسي هذه التّأمُّلات فيما يجري اليوم بشأن الدّين، فهو يعُودُ إلى بعض مُشكلاته المُؤسّسة التي لها امتداداتُها في الرّاهن. لا تحليل في الأمر، فالشذرةُ، أو الفصُّ، هو انتقاءٌ، واشتغالٌ على الجوهر. الأمر نفسه نجدُهُ في الأبواب الأخرى من الكتاب، ما تعلّق منها، بالحُبّ، أو ما تعلّق منها بالفنّ.

إنّ اللُّغة التي يكتُبُ بها أُنسي الحاج، هي لُغة أُنسي الحاج، هي أُنسي الحاج، اعتبارًا لما جاء في المثل الفرنسي المعرُوف «الأسلُوب هو الرّجُل»، أي هُو هُو، لا غيرُه. هو الأسلُوب نفسه الذي به كتب شعره، وكان يكتُبُ به حتّى في الصّحافة. ولعلّ أهمّ ما ميّز بعض الشُّعراء، وبعض الكُتّاب الذين يكتُبُون في الصُّحُف، أو عملُوا في الصحافة، هو أنّهُم لم يتنازلُوا عن دمهمُ الشّخصيّ، أعني عن أسلوبهم، وظلُّوا يكتُبُون، حتّى فيما يجري خارج الأدب، أو الشّعر، بنفس الدم الذين تتميّز به فصيلتُهُم.

مرارة الرحيل

الكتاب، مُمتعٌ في قراءته، ومُؤلمٌ في الآن ذاته. فمن يقرأ الكتاب، يجد في كثير من فُصوصه بعض الألم الذي كان الحاج يبُوحُ به، وأيضًا إدراكُهُ لمرارة الرّحيل، رغم ما يُبديه من جلدٍ في مواجهة هذا الرّحيل، والاستعداد لهُ.

أليس الكتابُ، بهذا المعنى، هو كلام أُنسي الحاج معنا، من هُناك، أو هكذا تصوّر أن يكُون كتابُه، الذي لا يخلُو من مُباغتاتٍ، لبعض من عرفُوا الحاج، وعرفُوا طباعه، وعُزُوفه عن أن يكُون شاعرًا خارج رُؤيته هو لمفهُوم الشّاعر، الذي لا يستجدي الكون، بل إنّ الكون هو من عليه أن يستجدي الشّاعر، ويذهب إليه؟