كتاب فلسطينيون: إسرائيل حصان ميت والتسلل إلى المحيط العربي لن ينجح

كتاب فلسطينيون: إسرائيل حصان ميت والتسلل إلى المحيط العربي لن ينجح

منذ ما قبل النكبة الفلسطينية في عام 1948م، وتحديدًا منذ بدايات الهجرات اليهودية إلى فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر، التي تعاظمت بعد وعد بلفور المشؤوم عام 1917م، يناضل الفلسطيني عامة، والمثقف على وجه الخصوص، سعيًا للتحرر من الاحتلال البريطاني، وقبله العثماني، وبعده الإسرائيلي المستمر بإجراءاته العنصرية، التي تتكاثف يومًا بعد يوم في أكثر من شكل مع حكومة متطرفة، فيها وزراء مستوطنون، أي يقطنون في مستوطنات تقام على أراضٍ فلسطينية محتلة في عام 1967م، وهو ما يعده العالم بأسره غير شرعي.

ولطالما كان لحضور المثقف الفلسطيني في المشهد النضالي الأثر الكبير، سواء بالمزاوجة بين البندقية والقلم أو الريشة، فاغتيل غسان كنفاني، وماجد أبو شرار، وناجي العلي، وغيرهم، أو عبر الإبداع المتواصل على مختلف المستويات، لقناعة الفلسطيني بأن الثقافة فعل مقاومة، والاستمرار بالإنتاج الإبداعي جزء من تحدي سياسات الاحتلال، وتعزيز صمود الفلسطيني على أرضه، وهو ما يتجسد يوميًّا في الميدان بحجارة شبان وفتيات يواجهون بصدورهم العارية الأسلحة القاتلة، منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب القدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما وصف بوعد بلفور الجديد. وبات الحضور الإبداعي الفلسطيني على مستوى الأدب، والسينما، والمسرح، وغيرها من صنوف التعبير، حضورًا طاغيًا على المستوى العالمي، وهو ما ينقل القضية الفلسطينية التي تتسلل إلى الإبداع ومنه، كما يراها أصحابها إلى العالم، بلغة عصرية وبعيدًا من الشعاراتية، عبر مزاوجة بين المضمون والشكل الفني الإبداعي الذي يتماهى مع تطور الشكل الإبداعي عالميًّا، ليكون صرخة لا صراخًا. «الفيصل»، في هذا الملف، تستطلع آراء روائيين وشعراء فلسطينيين مقيمين في الأرض المحتلة حول الصراع بشكله الحالي، والتوقعات بما هو قادم:

يحيى‭ ‬يخلف‭:‬‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة

قد يبدو محور الملف شديد الغرابة، خصوصًا في هذه الظروف التي ينشغل فيها معظم البلدان العربية بأزمات وحروب، فضلًا عن متغيرات وتحديات دولية وإقليمية أخرى تغيرت فيها الأولويات، وهذا ما جعل المصطلح يتغير في وسائل الإعلام من الصراع العربي الإسرائيلي إلى مصطلح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. في دول الطوق المحيط بفلسطين لم يعد هناك جبهات تهدد إسرائيل، لا جبهة مصرية بعد اتفاقية كامب ديفيد، ولا جبهة شرقية للجيشين السوري والعراقي، فالجيش السوري منشغل في حربه الداخلية، والجيش العراقي بعد طرد داعش لن يقاتل خارج حدود بلده. في هذا المناخ لا تهديد ذا مغزى يهدد إسرائيل، بل إن إسرائيل تزعم على لسان نتنياهو الذي صرّح مؤخرًا قائلًا: هناك عدة دول عربية لم تعد ترى في إسرائيل عدوها، لكن حليفها الذي لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة التطرف!! لا شكّ أن العامل العربي يبقى ذا شأن مؤثر في دعم القضية الفلسطينية، وأن نجاح القضية الفلسطينية أو إخفاقها ينعكس إيجابًا أو سلبًا بلغة المصالح وليس فقط من منطلق التضامن والمصير العربي المشترك على الدول المحيطة أو الدول البعيدة، بوصف أن فلسطين هي حدود الأمن القومي العربي.

لذا فإن مصطلح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ليس صائبًا، فقد يعني أنّ الأمة العربية تترك الفلسطينيين يواجهون قدرهم ومصيرهم وحدهم من دون قوّة مساندة من الأشقاء، وهذا ما لم تفعله الجماهير العربية التي ساندت وما زالت تساند الحراك الشعبي والمقاومة الشعبية في هبة نصرة القدس بعد قرار إدارة الرئيس الأميركي دولاند ترمب، هذا الحراك الذي يمكن أن يفضي إلى انتفاضة ثالثة.. ولا نغفل الموقف العربي الرسمي الذي أدان القرار الأميركي، لذلك فإنّ التأكيد على أنّ الصراع العربي ضد إسرائيل يتعين أن يعود إلى الواجهة بمضمونه الملتزم والعملي لا بمضمون شكلي للاستهلاك. (…) الفلسطينيون الذين وقّعوا اتفاقية المبادئ فيما عرف باتفاقية أوسلو ولم تلتزم إسرائيل بتنفيذها وأوغلت في سياسة العدوان وبناء المستوطنات وبناء جدار الفصل العنصري ومصادرة الأراضي وتجريفها وشن الاجتياحات والحروب، وخصوصًا على قطاع غزة، وتجريد السلطة الفلسطينية من كل مظاهر السيادة، ووصول ما يسمى بالعملية السلمية إلى طريق مسدود، وزاد من تفاقم التغوّل والعدوان التواطؤ الأميركي الإسرائيلي، ولعلّ الخطوة التالية ستكون ضم الضفة الغربية بأكملها لإسرائيل، فوجد الفلسطينيون ظهرهم إلى الحائط، وبدؤوا في معركة دبلوماسية وقانونية ضد إسرائيل في المحافل الدولية.

ولعلّ أهم رد قام به الفلسطينيون حتى الآن هو نزولهم إلى الميدان، وانخراطهم في مواجهات على نقاط التماس مع الجيش الإسرائيلي، وتقديمهم مئات الشهداء والجرحى وآلاف الأسرى، وإيصال صرختهم إلى عمق الرأي العام العربي والإنساني، وتضامن الشعوب العربية ومعظم شعوب العالم معهم. لا يبدو في الأفق أي بصيص أمل في حل سياسي عادل ينهي الصراع في الوقت الراهن، وبالطبع فإن الشعب الفلسطيني سيواصل النضال بكل الوسائل الممكنة، وفي مقدمتها المقاومة الشعبية.. بوصفنا فلسطينيين لن نفقد الأمل، ففلسطين في الوجدان الثقافي هي وطن الفلسطينيين من النهر إلى البحر، على الرغم من فكرة حل الدولتين التي تتبناها القيادة والمستوى السياسي الفلسطيني.

روائي.

——————————–

غسان‭ ‬زقطان‭: ‬يستحيل‭ ‬التكهن‭ ‬بزمن‭ ‬الصراع

الصراع سيستغرق زمنًا طويلًا يستحيل التكهن بمواعيده، قد يخفت أحيانًا ويشتعل، قد تتعدد أشكاله وأدواته، حسب توازنات القوى وتحولات المنطقة والعالم، ولكنه سيواصل حضوره وسيتغذى دائمًا من التفسيرات المختلفة للنص الديني.. تحت هذا «القناع»، الشعار الديني، وصلت الحملات الصليبية، التي امتدت في موجاتها إلى قرنين مريرين من الحروب والغزوات وتأسيس المستوطنات والممالك قبل أن تنكفئ عائدة إلى أوربا. المظهر الديني للصراع، وتحويله إلى «صراع ديني» بين اليهودية والإسلام هو ما يمنحه قوة البقاء.. هذا ما يدفع الأحزاب الصهيونية ومناطق نفوذها في أوساط بعض الطوائف المسيحية لاختزال «فلسطين» في مدة محدودة من التاريخ والخرافات، في عملية نفي وإقصاء كل ما هو خارج الرواية التوراتية، فيما تكمن قوة الفلسطينيين، في نظري، أنهم يتعاملون، تحديدًا منذ انطلاقة الثورة المعاصرة وتكريس منظمة التحرير كممثل وحيد لهم، مع فلسطين المتعددة على بعد آلاف السنوات. الفلسطينيون هم محصلة كل هذه الطبقات الحضارية من غزوات شعوب البحر إلى الآن، حيث يتراكم المنجز الإنساني ويتشكل من جديد، تلك هي هويتهم التي منحتهم إياها بلادهم، وتلك هي مسؤوليتهم أمام البشرية. يدافع الفلسطينيون عن فلسطين بعمقها التاريخي وتعدديتها في مواجهة اختزالها واختصارها إلى حقبة ملتبسة.. سيبدو الأمر، وهذا ليس مجازًا، على هذا الشكل؛ التاريخ كاملًا بطبقاته الحضارية ومنجزه الإنساني الذي تراكم على هذه الأرض، في مواجهة التفسيرات الضيقة للرواية التوراتية.

يرغب اليمين الصهيوني في أن يستدرج الصراع كاملًا إلى هذه النقطة، وقد منحته الحركات التكفيرية والظلامية والجهادية وانقسام العالم الإسلامي مجالًا للتحرك والمناورة. لقد أخفق الاستعمار الصهيوني في فرض رؤيته على الفلسطينيين، رغم وهنهم وانقساماتهم الداخلية، وهو يحاول عبر مظاهر القوة الهائلة التي يمتلكها وشبكة نفوذه الواسعة محاصرتهم عبر تسلله إلى محيطهم العربي، حاضنة صمودهم وعمق هويتهم، بحيث تتحول، هذه الحاضنة التي منحتهم القوة وأسندت مقاومتهم، إلى أداة حصار تحت شعارات من نوع «إنهاء الصراع» و«السلام الشامل» وأشياء من هذا القبيل.. هذا أيضًا لن ينجح.

شاعر.

غنام غنام يقدم مونودراما سأموت في المنفى في متحف محمود درويش

زكريا‭ ‬محمد‭:‬‭ ‬إسرائيل‭ ‬لن‭ ‬تكمل‭ ‬مئة‭ ‬سنة‭ ‬

بعض‭ ‬العرب‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬ينتهوا‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬العربي‭- ‬الإسرائيلي‭ ‬بأي‭ ‬شكل‭ ‬كي‭ ‬يتفرغوا‭ ‬لصراعاتهم‭ ‬الأخرى‭. ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬لإعلان‭ ‬الهزيمة‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ولا‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬الشارع‭ ‬العربي‭ ‬عمومًا‭. ‬فهم‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬يحسون‭ ‬أن‭ ‬آفاق‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬انسدت،‭ ‬وأن‭ ‬الدولة‭ ‬الإسبارطية‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬تتفكك‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬معاكسًا‭ ‬لهذا‭ ‬على‭ ‬السطح‭. ‬فمن‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬1973م‭ ‬لم‭ ‬ينتصر‭ ‬الإسرائليون‭ ‬انتصارًا‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬معركة‭ ‬خاضوها،‭ ‬رغم‭ ‬أنهم‭ ‬حاربوا‭ ‬ضد‭ ‬ميليشيات‭ ‬وقوى‭ ‬شعبية‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬كثيرًا‭. ‬والإسرائيليون‭ ‬يدركون‭ ‬ذلك‭ ‬تمامًا‭. ‬يدركونه‭ ‬بعمق‭. ‬يدركون‭ ‬أن‭ ‬معركة‭ ‬تنتهي‭ ‬بنتيجة‭ ‬مماثلة‭ ‬لنتيجة‭ ‬حرب‭ ‬2006م‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬ستنهي‭ ‬مشروعهم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬هزيمة‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬انتصار،‭ ‬بل‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تعادل‭ ‬فقط‭.. ‬تعادل‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬جدية‭ ‬سوف‭ ‬يطفئ‭ ‬الأضواء‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬بن‭ ‬غوريون‭ ‬نهائيًّا‭.‬

رهان‭ ‬إسرائيل‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬التناقضات‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬وحكوماتها‭ ‬لإنقاذ‭ ‬نفسها‭ ‬وتطويل‭ ‬عمرها‭. ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬يمكنهم‭ ‬التحالف‭ ‬مع‭ ‬طرف‭ ‬ضد‭ ‬طرف،‭ ‬والدخول‭ ‬إلى‭ ‬المنطقة‭ ‬كعنصر‭ ‬طبيعي‭. ‬هذه‭ ‬أوهام‭. ‬الصليبيون‭ ‬فكروا‭ ‬كذلك‭ ‬أيضًا‭. ‬وظنوا‭ ‬أنهم‭ ‬صاروا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬المنطقة،‭ ‬لكنهم‭ ‬دُحروا‭. ‬المنطقة‭ ‬العربية‭- ‬الإسلامية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقبل‭ ‬بوجود‭ ‬إسرائيل‭. ‬قد‭ ‬يتوهم‭ ‬أناس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬بأنهم‭ ‬يستطيعون‭ ‬إلغاء‭ ‬العداء‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لن‭ ‬يساعد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عزل‭ ‬هؤلاء‭ ‬أنفسهم‭. ‬وليتذكروا‭ ‬أين‭ ‬ذهب‭ ‬من‭ ‬تحالفوا‭ ‬مع‭ ‬الصليبيين‭. ‬كلهم‭ ‬ذهبوا‭ ‬وبقي‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭. ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬مستقبل‭ ‬المنطقة‭ ‬لا‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭. ‬الصراع‭ ‬العربي‭- ‬الإسرائيلي،‭ ‬وهو‭ ‬صراع‭ ‬عربي‭- ‬إسرائيلي‭ ‬وليس‭ ‬صراعًا‭ ‬فلسطينيًّا‭- ‬إسرائيليًّا،‭ ‬سينتهي‭ ‬خلال‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬أبعد‭ ‬تقدير‭. ‬وسوف‭ ‬ينتهي‭ ‬بهزيمة‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬وطي‭ ‬صفحته‭. ‬لن‭ ‬يكمل‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬سنته‭ ‬المئة‭. ‬الصليبيون‭ ‬أكلموا‭ ‬مئتي‭ ‬سنة‭. ‬إسرائيل‭ ‬لن‭ ‬تكمل‭ ‬المئة‭. ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ويراهنون‭ ‬على‭ ‬التحالف‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬سيخسرون‭. ‬إسرائيل‭ ‬حصان‭ ‬خاسر‭. ‬هذا‭ ‬الحصان‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬انتصار‭ ‬على‭ ‬غزة‭ ‬الفقيرة‭ ‬الجائعة‭ ‬المحاصرة‭ ‬المعدمة،‭ ‬فكيف‭ ‬لأحد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬العداء‭ ‬لإسرائيل‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬جذور‭ ‬الجذور،‭ ‬أن‭ ‬يراهن‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الحصان؟‭.. ‬إسرائيل‭ ‬حصان‭ ‬ميت‭.‬

شاعر‭ ‬وباحث‭.‬

——————————–

‭ ‬أسامة‭ ‬العيسة‭: ‬دولة‭ ‬الأبارتهايد‭ ‬إلى‭ ‬زوال‭ ‬

التاريخ هو الذي ينتصر دائمًا، عندما تفكر بقوة التاريخ ومساراته على هذه الأرض سيبدو هذا واضحًا وحتميًّا. تاريخ فلسطين، هو سلسلة من الاحتلالات، وتفككها، وبالنسبة لشعبٍ غيّر ديانته على الأقل ثلاث مرات خلال ألفي عام، ولم يتغيّر(.. نسبيًّا)، فإنه كان دائمًا لديه قدرة على نقل نسغ هوية متنامية وديناميكية، قادرة على أخذ ما يصمد من ثقافة المحتلّ وثقافته، والمضيّ إلى الأمام.. وفي كل منعطف، دينيّ أو تاريخيّ، يدخله الشعب الفلسطينيّ، رغم المعاناة بمكرٍ وتحايل، وهو ينتقل من مرحلة إلى أخرى، يأخذ معه أفضل ما كوّنه في المرحلة السابقة، وهكذا نرى الفلسطينيّ الآن، مزيجًا من ثقافات الشرق القديم، والديانات التوحيدية، وحسّه الخاص الذي طوره إزاء نفسه والعالم. لم يختلف حال فلسطين الآن، مع الاحتلالات السابقة، التي تميز حاملو راياتها برفع كتاب مقدس في يدٍ، والسيف (.. والرشاش الآن) بيدٍ أخرى، ومارست كل منها عمليات تهجير للسكان، وإحلال غيرهم مكانهم، ولكن كيف كانت تنتهي هذه الاحتلالات، التي لا يطول الواحد منها أكثر من قرن، في الأغلب؟ قبل محاولة الإجابة عن السؤال من المهم الإشارة إلى انحناء الاحتلالات، مع مرور السنوات، أمام الثقافة المحلية، وتبني بعضها، وإلى احتكام ما أسميه منطق البلاد، فلكل بلاد منطقها، لا ثقافات فوق التاريخ والجغرافيا.

في أثناء الاحتلال الصليبي، كل محتلّ كان يمضي عشرين عامًا في فلسطين، يتحول أكثر فأكثر إلى شرقي، وأصبح التمايز، بين المجتمع الاحتلالي الصليبي، واضحًا بين صليبي البلاد الشرقيين، وأولئك الذين يأتون من وراء البحار. نحن الآن شهود على تبني أوساط واسعة من المحتلين الإسرائيليين لمفردات ثقافية فلسطينية، فالمقامات الإسلامية، يحوّلها الإسرائيليون إلى مقامات يهودية، وبعض التقاليد التي طوّرها الفلسطينيّون القدماء حول شخصيات عربية ومحلية، تبناها أيضًا الإسرائيليون، فمن يصدق مثلًا أن الشخصية الشعبيّة المحلية في ريف القُدْس؛ الأمير بدر، يتحول مقامه المحتل، إلى مزار للعقيمات اليهوديات، اللواتي يطلبن شفاعته كي يُرزَقن بأولادٍ وبنات؟. ويستخدم الإسرائيليون أكثر فأكثر ما يفخر به الفلسطينيّون، كالكوفية، والثوب المطرز، والحمص، والفلافل، والأسماء والأساطير المتعلقة بالمواقع الجغرافية، كما استعار المستوطنون في الأراضي المحتلة عام 1967م، صورة «فتى الانتفاضة» التي أبهرت العالم في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فيخرج هؤلاء في احتجاجاتهم ضد سياسات إجرائية لحكومة الاحتلال وهم مقنّعون بالكوفيات، وحاملو الحجارة، وكذلك يفعلون في أثناء مهاجمتهم للفلسطينيين.

قد يطول الزمن أو يقصر، وتفكك دولة إسرائيل كدولة احتلال، وفي أي دولة فلسطينية ديمقراطية مقبلة، سيظل هناك وجود مؤثر لمواطنيها اليهود، وربما يمسكون بمفاصل الصحافة، والثقافة، والاقتصاد، لكن هذه هي فلسطين، التي لا تخرج من أي احتلال منتصرة بشكل حاسم، لكنها قادرة في كل مرة على فرض منطقها.. دولة الاحتلال الإسرائيلي تتحول أكثر فأكثر إلى دولة أبارتهايد، والجميع يعلم كيف انتهت دولة الأبارتهايد الكبرى في عصرنا؛ جنوب إفريقيا.

روائي.