الهوية في زمن العولمة

الهوية في زمن العولمة

الحركة العامة الرامية إلى إزالة الحواجز بين المجتمعات «العولمة» مصحوبة باحتدام وتأجيج الهويات الخاصة سواء كانت عقائدية أو قومية أو إثنية… وتتطلب تباينات تلك الظواهر العقلانية الاستيهامية في الوقت نفسه أن نتفهم بقدر أكبر دوافع العولمة ونقيضها المتمثل في الاحتماء بالهوية من كتاب جان فرانسوا بايار «أوهام الهوية».

الهوية هي وجود وماهية غير أنها لا تمثل جوهرًا ثابتًا ومتعاليًا على الزمان والمكان، بل حال متحركة ومتداخلة، إنها «صيرورة» بالمعنى المجازي والتاريخي الذي يتيح تضمينها إشكاليات وأزمات هي لازمة لها، والهوية من حيث هي كذلك، هو ذلك الكل من العلاقات والصلات (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والثقافية) وهي ترتبط باللغة والتاريخ والمصير الواحد والمصالح المشتركة، والمحددة بأبعادها وعلاقاتها التي تتمثل في علاقة الأنا (الذات) بالأنا، وعلاقة الأنا بالواقع (العمل، المعرفة، الأفكار) في سيرورته، وعلاقة الأنا بالآخر، غير أن هذه الأبعاد ليست انشطارات منعزلة بل تحكمها علاقة جدلية مترابطة ومتحركة.

الاحتكاك الأول أو الصدمة الحضارية التي مثلها الغرب (في عصوره الحديثة) إزاء الهوية العربية المنكسرة تمثل في احتلال نابليون لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، وبداية الاتصال بالغرب عن طريق البعثات التعليمية والإرساليات التبشيرية المسيحية، ثم السيطرة الاستعمارية (الكولينيالية) الغربية على تركة الرجل المريض المتمثل في الخلافة العثمانية، بعد إفشال وإجهاض إقامة الدولة العربية الكبرى، وهو ما شكل عامل تحدٍّ خطير، وحفز الهوية العربية– الإسلامية المنهكة والسقيمة والمتوترة بفعل قرون من الجمود والتخلف الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية، في ذات الوقت الذي استيقظت فيه أوربا من سباتها، وولجت عصر النهضة (القرن السادس عشر) وفكر الأنوار والثورات وخصوصًا الثورة الفرنسية (القرن الثامن عشر) والثورة الصناعية في بريطانيا (القرن التاسع عشر) وما أعقبها من تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، إزاء هذا الوفد الجديد والقوي والمتحكم الذي هو الغرب فإن الهوية العربية– الإسلامية المرتبكة والحائرة اتخذت ثلاثة توجهات وَسَمَتْ ما سُمِّيَ بعصر النهضة العربية.

الاتجاه الأول هو الممانعة والرفض عبر الانكفاء على مفهوم محدد وثابت لهوية (القومية والدين) قائمة تستحضر الماضي التليد باعتباره المستقبل المنشود حيث يكون الحاضر هو المستقبل الماضي كردِّ فِعلٍ استيهاميٍّ دفاعيٍّ وارتكاسيٍّ إزاء الانتهاكات والسيطرة والاستلاب الذي مارسه الآخر المتمثل في الأجنبي، المستعمر الأوربي، المسيحي الملحد، المنتصر، المتفوق، المتعالي، المدنِّس، هذه الصور المتداخلة والمتناقضة للآخر تمثلت في أعمال وكتابات وأطروحات العديد من رجالات عصر النهضة. وقد عبر جمال الدين الأفغاني رغم كتاباته التنويرية عن هذه الهواجس حيث نادى بضرورة قيام «الجامعة الإسلامية» كردٍّ على محاولات السيطرة والهيمنة الاستعمارية الغربية التي عَدَّها الخطر الرئيس والمباشر.

الاتجاه الثاني تمثل في السعي للمواءمة ما بين الأنا والآخر وقد عبر عنها رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وذلك من خلال المصالحة بين الدين (الأنا- نحن) والعلم (الآخر) ونادى محمد عبده بالدولة المدنية في كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية»، في حين رفض علي عبدالرازق الدعوة إلى إحياء الخلافة وأكَّدَ على مدنية الدولة في الإسلام وذلك في كتابه «أصول الحكم في الإسلام»، وناهض عبدالرحمن الكواكبي انطلاقًا من «الأنا» العروبية «أي عمومية إسلامية» استبدادية، والجدير بالذكر أن من ذكرت كلهم رجال دين (أزهريون) كبار.

الاندماج في الآخر

الاتجاه الثالث دعا إلى الاندماج الكلي أو الجزئي في الآخر وتمثل ثقافته وحضارته باعتبارها ظاهرة إنسانية شاملة (فرح أنطوان وسلامة موسى) أو من خلال الاحتكام إلى العقل والعقلانية وتوطينها ضمن مكونات الهوية الوطنية باعتبارها ظاهرة محايدة توجد في الحضارات والمجتمعات الحية كافة (طه حسين). إذًا إزاء الآخر نشطت هويات مفترضة مشرقية وعربية وإسلامية ووطنية تعايشت وتساكنت مع هويات فرعية (ثاوية) قوية تمثلت في الهويات الإثنية والقبلية والدينية والطائفية والمذهبية، وتصدرت ثنائية العروبة والإسلام في تحديد هوية السكان العرب، حيث أخذ القوميون العرب والإسلاميون يسبغون مواصفات ثابتة هي أصل وجوهر مثل العروبة أولًا، وأن العرب مادة الإسلام، أو الإسلام أولًا وأن الإسلام روح العروبة، وفي الواقع إن الصراع حول الماضي في حقيقته هو صراع حول الحاضر والمستقبل، أي حاضر ومستقبل نريد؟

وأخذت تتصدر الثنائيات والمقابلات المصطنعة ما بين الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الخصوصية والكونية، النقل والعقل، وبين هذا وذاك عُدَّ الغرب (الاستعماري) مصدرَ كل الشرور التي عاينها الشرق والعرب والمسلمون، وهذا صحيح جزئيًّا، غير أنه لم يجر في المقابل الالتفات إلى الواقع المزري (التخلف والجهل والأمية والفقر والاستبداد) الذي ساد المجتمعات العربية– الإسلامية قرونًا عدة، كما غاب أو غُيِّبَ الجوهري والأساسي في الحضارة الغربية وهو تقديمها للهوية السياسية على ما عداها من هويات فرعية، حيث أقامت رابطة وهوية جديدة على أساس مفهوم الدولة – الأمة المستند إلى المبادئ الدستورية والقانونية (العقد الاجتماعي) والتميز والفصل بين المجالين الديني والمدني، والتأكيد على مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وترسيخ منظمات ومؤسسات المجتمع المدني التي تستوعب وتحترم المكونات (الهويات) الفرعية الأُخَر كافة.

إننا في سياق زمن يتسم بكونية الثقافة وعالميتها، ومع أن هذه العملية منجز إنساني حقيقي لا يمكن تجاهله فضلًا عن العجز عن مواجهته، فلا بد هنا من الإشارة إلى الجوانب المتناقضة لهذه العملية خصوصًا في عصر العولمة حيث يتم ذلك على حساب تهجين وتطويع واستتباع الهويات والثقافات الوطنية الأخرى، وتمييع خصائصها ومقوماتها لصالح ثقافة استهلاكية سائدة يجري استنباتها عن طريق استخدام معطيات الثورة العلمية- التكنولوجية خصوصًا في مجال الاتصال والتوصيل، وتجري عملية تجنيس وإعادة صياغة للتفكير والسلوك والمفاهيم والذائقة ونمط الحياة والمعيشة بما يتناسب مع مصالح مراكز التحكم والسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب وتهميش للهويات المختلفة.

تشظي الهوية

واجه المشروع النهضوي العربي (منذ بداياته في منتصف القرن التاسع عشر) بتياراته وروافده المختلفة رغم الجهود والإسهامات المميزة لرجال النهضة وفكر التنوير طريقًا مسدودًا، وأُجْهِضَ، وبالتالي لم يتسنَّ لمشاريع الإصلاح (الفكري– السياسي) ولقيم الحرية والعقلانية والتنوير والتقدم أن ترسخ وجودها، في ظل عوائق وعقبات موضوعية وذاتية تمثلت في بنية اجتماعية أبوية (بطريركية) متخلفة، وفي الهيمنة الاستعمارية، وطبيعة الأنظمة العربية التابعة لها، ومحدودية مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو ما وسم تلك المشاريع بالعجز عن توليد نسق من المفاهيم والمقولات الجديدة التي تستجيب لخصائص وظروف تشكل وتطور المجتمعات العربية.

موقف العرب من الغرب كان ملتبسًا ومتناقضًا منذ البداية فهو من جهة الغرب القوي والمتطور صناعيًّا وعلميًّا وحضاريًّا وتسود مجتمعاته قيم الحرية والديمقراطية ومن جهة أخرى فهو الغرب الاستعماري المتعالي الذي مارس سيطرته واستبداده بحق الشعوب العربية ونهب واستباح خيراتها وحدَّ وعرقل من تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، كما أجهض تطلعاتها في التوحد القومي في إطار دولة عربية واحدة في أعقاب تفكك السلطة العثمانية، ووقوع معظم البلدان العربية تحت السيطرة والهيمنة (الغربية) الاستعمارية، وهو الأمر الذي حفز المزاج الشعبي الرافض لا للحالة الاستعمارية فحسب بل لنظمه وقيمه، وبخاصة أن الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت من خلالها البرجوازية والفئات الوسطى في المجتمعات العربية طبعتها بطابع المحافظة والازدواجية والانتقائية، أضف إلى ذلك مستوى وعي وإدراك الناس ونفسيتهم الاجتماعية وتراثهم والأسطورة والترميز المتحكم في وجودهم وذاكرتهم التاريخية الممتدة إلى تفاصيل حياتهم وتفكيرهم وسلوكهم.

مما تقدم تبين لنا كيف أن المشروع النهضوي واجَهَ منذ بداياته أزمته البنيوية التي هي جزءًا من أزمة الواقع العربي بمستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد أدى كفاح الشعوب وحركة التحرر في البلدان العربية لنيل استقلالها وتحقيق سيادتها الوطنية إلى بروز ومن ثم ترسيخ الدولة (القطرية) الوطنية، ومع موضوعية وضرورة هذه العملية تاريخيًّا فإنها شكلت بداية الانتكاس للمشروع القومي العربي؛ إذ أصبحت العلاقة الملتبسة ما بين الهويات الوطنية المتشكلة والهوية القومية (العروبة) المحور الرئيسي الذي تتمفصل حوله مشاريع العمل العربي المشترك كافة، والصراعات والتناقضات أيضًا كافة، وبذا تحققت عملية قطع تاريخي منعت وعاقت قيام وتبلور الهوية (الأمة) العربية في أطار دولة واحدة خلافًا لما تم في مناطق عديدة من العالم قديمًا وحديثًا، فالأمة العربية هي من الأمم القليلة التي لم تحقق وحدتها القومية بعد، غير أن هناك تجربة تاريخية متميزة وناجحة تمثلت في عملية توحيد معظم شبه الجزيرة العربية (منبع العرب والعروبة والإسلام) التي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.

لقد توطدت وترسخت مواقع الدولة الوطنية في موازاة ضمور المشروع القومي، وبخاصة بعد إخفاق المحاولات الوحدوية لأسباب عديدة أبرزها إغفال وتجاهل التمايزات والتباينات القطرية والقفز عليها، وفرض وتحقيق المشاريع الوحدوية بأساليب فوقية (تسلطية) واستعراضية، وتجاهل المبادئ الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأقليات الإثنية والدينية والمذهبية، ولا ننسى بالطبع تدخلات الاستعمار والقوى الغربية والصهيونية وإسرائيل لإجهاض وإفشال تلك التجارب. كما أن التجمعات القومية (الجامعة العربية) والإقليمية للتعاون العربي فشلت هي الأخرى في تحقيق الحد الأدنى من التنسيق والتكامل وهو ما أصاب مجمل النظام العربي بالترهل والوهن والعطب، وليس أدل على ذلك من إقدام النظام العراقي السابق على احتلال دولة الكويت (2 أغسطس 1990م) وإرهاب وتشريد شعبها تحت شعار عودة الفرع إلى الأصل وتطبيقًا لمفهوم الإقليم– القاعدة، إلى جانب تهديد دول الخليج العربي الأخرى، وهو ما شكل حالة فريدة وشاذة ضمن معطيات العصر الراهن من حيث التوسل بالعامل القومي للتغطية على سياسات قطرية بل ممارسات (ذات منحى عشائري– طائفي) متطرفة تتسم بالفردية والتسلط والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان والإرهاب إزاء شعبه وجيرانه في آنٍ واحد.

مثل هذه المواقف والسياسات المتهورة وجهت ضربة قاصمة لمفهوم الأمة العربية وللنظام العربي، وعمَّقت ظاهرة الاستقطاب والانقسام ليس بين الأنظمة العربية فقط، بل على مستوى الشعوب ونخبها وتياراتها المختلفة، وهو ما أخلّ وأضرّ بالعلاقة الجدلية المفترضة ما بين الوطني والقومي، وأضعف الموقف العربي برمته إزاء التحديات الإقليمية والدولية، وتعمق الارتهان والتبعية للخارج وعلى جميع المستويات، وانعكس ذلك في ضمور وتآكل شرعية الدولة العربية التي فاقمها الفشل في تحقيق أي من الشعارات والأهداف الوطنية والقومية الكبرى التي رفعتها.

كل ذلك أدى إلى تشظي الهوية الوطنية والقومية، وتصدر الهويات (الإثنية والمناطقية والقبلية والدينية والمذهبية) الثانوية القاتلة، في حرب الجميع ضد الجميع، أو المأكلة الكبرى وفقًا للفيلسوف البريطاني توماس هوبز.

حداثة أم تحديث؟

حداثة أم تحديث؟

الصراع الأزلي، والتوتر الدائم في العلاقة بين المطلق والنسبي، وبين الكينونة والوجود، وبين العقل والنقل، هو ما يميز الإنسان المعنِيّ بعمارة الأرض والمجتمع والفكر، وبما أن المعرفية والممارسة الإنسانية، هي على الدوام ناقصة ونسبية في مطلقها، تبقى الأسئلة الوجودية المقلقة قائمة ومشرعة، تستبطن الاحتمالات، وتعاني وعورة الطريق، وغياب العلامات الدالة، والذي يأتي أو لا يأتي. ليس هناك أخطر على الحياة، والمجتمع، والوجود، والفكر، والعلم، والعقل الذي وصفه الأستاذ الإمام محمد عبده «العقل إمام» من الجمود والتكلس، والتصلب الأيديولوجي والعقائدي والمذهبي.

إننا لا ننزل إلى ماء النهر مرتين، إنه يتدفق ويجري ويتجدد باستمرار، ومع ذلك هناك من يصرّ على البقاء والعيش في المياه الراكدة. مفاهيمنا عن الحياة، والوجود، والمعرفة، معقدة ومتداخلة، بل متناقضة ومتضاربة، وتستمد حيويتها وبقاءها في غالب الأحيان، بفعل المصالح، والأهواء، والتعصب، والجمود الاجتماعي، والتكلس والخمول العقلي، الذي يتناسل باستمرار، بصور وأشكال مختلفة قديمة ومحدثة، وهذه الحقيقة لا يمكن القفز عليها وتجاهلها.

غير أنه في موازاة ذلك تكمن الحاجة المُلحّة والأزلية، في التمرد والكفاح من أجل الخلاص والتحرر، بما في ذلك تجاوز المفاهيم والتصورات والممارسات البالية، وتصويب وتجاوز المقولات المزيفة للوعي والواقع، في سيرورة دائمة نحو فهم واستيعاب شروط وقوانين الحياة والوجود (وما يعتريهما من تشوهات) والواقع وآليات تغييره، للانتقال من الضرورة، إلى الحرية.

الوجود والواقع المتجدد دومًا، بأسئلته، وعلامات استفهامه، وإبهامه، وغموضه، لا يمكن أن نختزله ونقولبه، وفق تصورات تجريدية وتنظيرية، أو رؤية عقائدية إرادوية مسبقة جامدة ونهائية. الجمود (الدوغما) بهذا المعنى، يخترق المنظومات كافة، والمناهج الفكرية، التي تتحول إلى أيقونات أو أبقار مقدسة نجد تعبيراتها في مقولات الحتمية التاريخية، على غرار ما كانت تطرحه الكنيسة «الحكم الإلهي أو المطلق». ولدى الاشتراكيين «حتمية سقوط الرأسمالية وانتصار الاشتراكية على الصعيد العالمي «أما الرأسمالية الليبرالية الجديدة فشعارها» موت الأيديولوجيا والانتصار النهائي لقيم الليبرالية وقوانين السوق «فيما أصحاب الأيديولوجية القومية يؤمنون بـ«الخلود النهائي للدولة القومية» التي ترجمها بعض القوميين العرب بشعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، في حين تطرح جماعات الإسلام السياسي شعار «الإسلام هو الحل»

إذا اقتربنا إلى الواقع العربي/ الإسلامي نرى التخندق، والتقابل الديني، والمذهبي، والقبلي، والإثني (تحت الوطني) الفئوي الضيق، وما يصاحب ذلك كله (من الأطراف كافة) من هيجان وتسعير للعواطف، واحتقان في النفوس، وتعصب وتمترس عقائدي، وتسطيح في العقول، وصولًا إلى حد الاحتراب، والتدمير، والقتل المتبادل على الهوية، التي أخذت تطفح على السطح، وتهدد الأوطان والمجتمعات (والمكتسبات القليلة) بالتفكك والاندثار.

مع أن كلًّا يدعي وصلًا بليلى (غير أن ليلى مريضة بل مقتولة ومستباحة في العراق، وسوريا واليمن وليبيا وفلسطين والسودان والصومال وفي غيرها من دنيا العرب والمسلمين) وأنه وحده يمثل الحق والحقيقة والفرقة الناجية.

هذه التساؤلات الوجودية والمصيرية، تظل مؤرقة وحاضرة ولا يمكن بل لا نمتلك ترف تجاهلها والتعامي عنها أو القفز عليها. من هنا يتعين أن تعكس الفعاليات الوطنية والثقافية إلى حد كبير التنوع والثراء التاريخي والحضاري والثقافي الذي تزخر به بلادنا الغالية من خلال احترام الآخر، وتقبل تعدد قراءات الواقع بوصفه ضرورة الحاضر.

كتاب القرني والتخندق العقائدي

كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» الذي صدر في عام 1988م لمؤلفه عوض القرني، الذي يعد أحد كبار دعاة «الصحوة» آنذاك، هو مثال فاقع على التخندق العقائدي والتكلس والجمود الفكري، الذي يندرج ضمن الأجندة السياسية والاجتماعية والفكرية الخفية لتيار الإسلام السياسي المتصدر للمشهد العام في بلادنا على مدى عقود؛ إذ يرفض ويشوه، بل يسعى لتبخيس وإقصاء الآخر والرؤى المغايرة، وصولًا إلى التكفير والتفسيق بحق ما اعتبر بدعة الحداثة في داخل المملكة وعلى الصعيدين العربي والغربي.

واقع الحال أن الموقف العدائي من الحداثة بمختلف تجلياتها لا يعبر عن الجمود (الدوغما) الفكري والأيديولوجي فقط لتلك الجماعات التي ترى نفسها تمثل الفرقة الناجية والآخرون على ضلال، بل يصبّ في خدمة مشروعها المعلن ( تطويع واختطاف المجتمع ) والخفي (اختطاف الدولة).

الواقع ومجرى الحياة والتجربة العيانية يشي بأن الصراع لم يكن في حقيقته دفاعًا عن صحيح الدين ومرتكزاته الثابتة (المقدس)، بل يصب من أجل استهدافات الهيمنة والسيطرة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية (المدنس).

جاء في كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام»: «لأن كثيرًا من العلماء والأدباء الغيورين، يظنون أن الخلاف مع الحداثة، خلاف بين جديد الأدب وقديمه، وأن المسألة لا تستحق كل هذا الاهتمام، وهذا ما يحاول الحداثيون أيضًا أن يرفعوه في وجه كل متصدّ لهم، لكنني أؤكد أن الصراع مع الحداثة -أولًا وأخيرًا- صراع عقائدي بحت؛ إذ إنني لا أنطلق في كتابي هذا في الحوار مع الحداثة منطلقًا أدبيًّا، يتحدث فيه المتحاورون عن عمود الشعر، ووزنه وقافيته، وأسلوب القصة، إننا نختلف معهم في المنطلقات الفكرية العقائدية، ونعترض عليهم في مضامينهم ومعانيهم التي يدعون إليها، وينافحون عنها، وعن هذه فقط سيكون حديثنا.. إن كل من يصدق أن الحداثة مدرسة أدبية في الكتابة والشعر والقصة واهم أو جاهل بواقع الحال، أطالبه بأن يقرأ هذا الكتاب، ثم يحتكم إلى كتاب ربه وما يمليه عليه إيمانه فقط».

أزرا باوند

كما جاء في الكتاب «أننا تعودنا من الحداثيين أن يرفعوا عقيرتهم بالصياح عندما نريد أن نحاكمهم إلى دين الله، ويقولون: ما علاقة هذا بالأدب والفكر؟ بل يقولون: إن التستر وراء الدين والالتجاء له في الخصومة الفكرية علامة الضعف والهزيمة، ومع ذلك فإننا نؤكد مرة أخرى أننا سنحاسبهم إلى الدين، وإلى الدين فقط».

في حقيقة الأمر لم يتضمن كتاب الحداثة مناقشة عميقة لمفهوم الحداثة بشكل عام والحداثة (الغربية) المعاصرة بشكل خاص؛ إذ كان التركيز على «نقد» الحداثة الأدبية وبالتحديد الحداثة الشعرية، من خلال الشتم والقذع والعبارات الهابطة دون امتلاك العدة النقدية العلمية اللازمة.

جاء في موضع آخر في الكتاب «ولا شك أن الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل، أن يجدوا لحداثتهم جذورًا في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم إلا من كان على شاكلتهم، من كل ملحد أو فاسق أو ماجن مثل: الحلاج، وابن عربي، وبشار، وأبي نواس، وابن الراوندي، والمعري، والقرامطة، وثورة الزنج… وبذلك فهم مجرد نقلة لفكر أعمدة الغرب مثل: إليوت وباوند وريلكه ولوركا ونيرودا، وبارت وماركيز، وغيرهم إلى آخر القائمة الخبيثة التي اضطرنا حداثيونا إلى قراءة سير أهلها الفاسدة، وإنتاجها الذي حوى حثالة ما وصل إليه فكر البشر».

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هو ما مفهوم الحداثة؟

يرتبط مصطلح الحداثة بعصر النهضة والأنوار الأوربية (القرن الثامن عشر) ومفهوم الحداثة في محتواها وجوهرها عملية سيرورة يُنتَقل من خلالها من نمط معرفي إلى نمط آخر مغاير له، وهي بهذه الصفة تشكل عملية قطع وتجاوز للرؤية والتصورات التقليدية السابقة في فهم وتحليل وتفسير الواقع وصولًا لتغييره، وذلك باستخدام منهج نقدي علمي جديد، حيث تتبلور الحداثة من خلال تطور متصل ومتسارع في المعارف بأسئلتها ودلالاتها وأدواتها وأنماط الإنتاج ومجمل العلاقات الاجتماعية، وتغير سلم القيم والمعايير والسلوك والممارسة، وتؤكد الحداثة وجودها وحضورها من خلال استثارة وتفعيل الجوانب العقلية والعلمية والنقدية والتحليلية وقبول الآخر. وتجري هذه العملية في سياق تشكل اجتماعي (طبقي) وعلاقات أفقية ديمقراطية وتعددية سياسية وثقافية، وانبثاق مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني.

الحداثة إذًا هي عملية متكاملة تقطع وتتجاوز الطرح المجازي والأسطوري والبياني والسلطوي والخطابي والعلاقات العامودية والتكوينات التقليدية، وفي الواقع فإن الدعوة في الغرب إلى تفكيك وتجاوز الحداثة (ما بعد الحداثة) وتبيان حدودها ومحدوديتها وتناقضاتها إنما تتم على أرضية الحداثة وباستخدام منهجها وآلياتها. يتحدد الفارق الرئيس بين حداثة الرأسمالية والبرجوازية الغربية من جهة، وحداثة البرجوازية التابعة الرثة في بلدان الجنوب ومن بينها البلدان العربية من جهة أخرى، في كون الأولى اعتمدت في نشوئها على مكوناتها ومقوماتها ومواردها الذاتية في المقام الأول، شكلت بمجملها قطيعة مع المجتمع الأبوي القديم، في حين أن الحداثة في المجتمعات العربية على سبيل المثال اتخذت شكلًا هامشيًّا وهجينًا وهشًّا ضمن انفصام حضاري وتبعية وتخلف واغتراب عام، يتمثل في التقابل والتعارض المفتعَل ما بين القديم (الأصالة) والجديد (المعاصرة)، الخصوصية والكونية، النقل والعقل، النص والاجتهاد، ويتم ذلك من خلال الهروب والانسحاب إلى الماضي وإسقاطه على الحاضر بصورة تعسفية أو الهروب إلى الآخر والتماهي معه.

مشروع نهضوي مجهض

بابلو نيرودا

السؤال المركزي هنا: لماذا لم تستطع المجتمعات العربية تمثل حداثتها وإنتاجها، وظلت أسيرة التخلف والإعاقة الحضارية، ليس قياسًا بالمراكز المتقدمة، وإنما مقارنة بتجارب وأوضاع مجتمعات كانت تُعَدُّ حتى أمد قريب من البلدان المتخلفة؟
في الواقع، إن المشروع النهضوي العربي المجهض يعود في بداياته إلى منتصف القرن التاسع عشر، من بينها (إصلاحات محمد علي في مصر) وقد سعت اليابان آنذاك للاستفادة من تلك التجربة عبر وفد أرسله الإمبراطور ميجي لمصر للاطلاع والاحتكاك ونقل الخبرة المصرية، والمفارقة هنا هي انطلاقة اليابان ويقظتها من سباتها الطويل وانفتاحها وتملكها لمنجزات الحضارة والحداثة المعاصرة من دون عُقَد الماضي أو قيود الوعي والتقاليد البالية، بل إن هناك تجارب تنموية لاحقة، قد سبقت البلدان العربية بأشواط عديدة مثل الصين والهند وبلدان شرق آسيا وجنوب إفريقيا، وفي المحيط العربي تحضر إسرائيل بإمكانياتها الصناعية والتكنولوجية والعلمية والعسكرية التي تفوق البلدان العربية مجتمعة. ووفقًا لتقارير التنمية العربية الصادرة من الأمم المتحدة فإن المنطقة العربية تحتل الدرجات الدنيا إلى جانب الدول الإفريقية وبعض دول أميركا اللاتينية من حيث معدلات التنمية السياسية والاقتصادية، ونوعية الحياة وتطور الموارد البشرية من قوى منتجة، وإنتاجية عمل وتعليم وصحة وتوظيف، وفي مستويات توطين التكنولوجيا والعلوم ووسائل الاتصال ومراكز الأبحاث، إلى جانب ارتفاع معدلات المديونية والفقر والأمية والبطالة والفساد، ناهيك عن الوضع المتدني للمرأة وتهميش الأقليات، وهو ما جعلها مرتعًا للحروب (الداخلية وفيما بينها) والعنف والتطرف والإرهاب.

يعزو بعضٌ سببَ ذلك إلى عوامل خارجية (نظرية المؤامرة) فيما يعزو آخرون السبب إلى عوامل داخلية تتمثل في البنى الفكرية والنفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة التي تتسم بالتخلف والانقسام والانفصام وهيمنة الفكر الأسطوري التأملي ورسوخ العادات والتقاليد وقيم القبيلة والعشيرة والطائفة، وشيوع اقتصاديات ريعية ونشاطات طفيلية وهامشية غير منتجة، وهذا التخلف لا يتخذ مظهرًا اقتصاديًّا أو تنمويًّا في المقام الأول بل إنه يقبع في أعماق بنية المجتمع الأبوي أو الأبوي المستحدث (وفقًا لهشام شرابي) ويشمل المجتمع والفرد معًا، ويتميز هذا التخلف بخاصيتين متميزتين هما: غياب العقلانية في الرؤية والممارسة، والشلل وعدم القدرة على الفعل وتحقيق الأهداف المستقبلية الموضوعية لدى التطرق إلى ما هية التخلف وأسبابه وسبل مواجهته وتجاوزه لا بد من استنبات رؤية وطريقة تفكير ولغة جديدة تقارب الواقع وتكون أداة كاشفة له مما يفترض بالضرورة الابتعاد من طرق التفكير واللغة المجازية والضبابية والمخاتلة التي تحجب وتغطي الواقع وتعمل على تعتيمه.

مع أنه حدثت تغيرات مهمة في بنية المجتمع العربي خلال القرن المنصرم على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى استبدال نظام سياسي واجتماعي جديد بالنظام القديم، بل أدى إلى إضفاء نوع من التحديث المظهري (الشكلي) على ذلك النظام بتحويله إلى شكل نظام أبوي «مستحدث» يزعم أنه استطاع مواكبة الحديث من دون انزواء أو قطع عن الماضي والتراث (الخصوصية)، وفي الواقع فإن ما نراه هو واقع تلفيقي وهجين، بعيد من جوهر وحقيقة التحديث والحداثة، أو التراث والأصالة.

المثقف بين التنميط والتجديد

المثقف بين التنميط والتجديد

تبلوُرُ مصطلحَيِ الثقافة والمثقف في الغرب ناهيك عن العالم العربي لا يعود إلى حقبة زمنية طويلة، وتعود بدايات تشكلهما إلى عصر الأنوار في أوربا وإرهاصات الثورة الفرنسية منذ سبعينيات القرن الثامن عشر حيث تراجعت وانكفأت سلطة الكنيسة، وجرى التمايز ما بين الديني والمدني، أما في العالم العربي ارتبط ظهورهما مع بدايات مشروع النهضة في أواسط القرن التاسع عشر.

تباينت وتعددت تعريفات الثقافة والمثقف التي تصل إلى العشرات من التوصيفات المتضاربة، ويعد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي من أبرز من نظر لمفهومي الثقافة والمثقف في عشرينيات القرن (العشرين) المنصرم ويقول في هذا الصدد: «إن المثقف الفعال تتوهج أفكاره تحت رماد التخلف ويشعر بمسؤوليته في تغيير الواقع؛ يدرس التأريخ وتعقيداته بعيون فاحصة، ويقول كلمته ببسالة، ويشارك في إثراء الواقع بلا حدود، من دون أن يستسلم لماضٍ لم يعد في أكثر جوانبه يجدي المجتمع في مسيرته، ولا يستسلم إلى الآخر، يجعلنا –هذا المثقف- نأخذ من ماضينا من دون أن نسمح له أن يستعبدنا، ونأخذ من غيرنا من دون أن ندعهم يستلبون عقولنا أو يخيفونا».

في سياق آخر يؤكد غرامشي أنه لا يوجد أي نشاط إنساني يمكنه أن يكون خاليًا من النشاط الذهني (حتى المهام الأقل إبداعية). وبالمقدار نفسه، فإنه لا يوجد أي نشاط ثقافي يمكن أن يتم إلى نهايته من دون عمل يدوي (مثلًا: كتابة الكلمات أو عزف الموسيقا)؛ لذا، فإن ما يميز المثقفين عن غيرهم هو أنه في نشاطهم يميل التوازن بين العمل الذهني واليدوي ناحية العمل الذهني.

لدى تناولنا للخطاب الثقافي والمسألة الثقافية العربية بمكوناتها وعناصرها ومسارها لا بد من الإشارة إلى خاصيتين متلازمتين لأية ثقافة وهما؛ أولًا: الاستقلالية النسبية للثقافة وصقل الأفكار والمعرفة، ومع أن المجال الثقافي يدرج في العادة ضمن البناء الفوقي الذي يشمل الدولة والقانون والحقوق والأخلاق… إلخ، فإن تموضعه الخاص يتجاوز علاقات الاستتباع الميكانيكي «الانعكاسي» للبناء التحتي بعلاقاته الاقتصادية/ الاجتماعية، وهو ما يعطي الثقافة بُعدها الخاص المؤثر والمميز ضمن التشكيل والنسق السياسي/ الاجتماعي القائم.

ثانيًا: تاريخية الثقافة أو البعد التاريخي للثقافة العربية بمكوناتها وعناصرها ومسار تطورها مرتبطة إلى حد بعيد بالمسار والنسق الاجتماعي العربي العام؛ إذ لا ثقافة خارج المجتمع في تحولاته وتبدلاته البنيوية بفضل العوامل الداخلية «الخاصة» والخارجية «العامة» الموضوعية. وضمن هذه العلاقة الجدلية المترابطة والمتبادلة يتحدد موقع البنية الثقافية ودورها خصوصًا في مرحلة الانعطافات والانقطاعات الجادة فإن مساءلة الخطاب الثقافي العربي بأسئلته وتساؤلاته القديمة/ الجديدة وتحديد جذور أزمته لا بد أن يقودنا بالضرورة إلى الكشف عن جوهر الأزمة البنيوية العميقة للدولة القطرية والواقع العربي بمستوياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الذي أفرز ثقافته وفكره المأزوم، فهنالك تداخل بين أزمة الثقافة وثقافة الأزمة. أمام الثقافة العربية مهمة صعبة وتحدٍّ خطير خصوصًا في مرحلة العولمة وتجلياتها الثقافية والمعرفية والمعلوماتية، وما يطرح من مقولات حول صراع الحضارات والثقافات وتصوير قوى نافذة ومتحكمة في النظام العالمي بأن الصراع الرئيسي في العالم أصبح يتحدد بعوامل ثقافية وحضارية ودينية وبأنه يتمثل أو يدور في هذه المرحلة التاريخية بين الإسلام بوصفه دينًا وثقافةً وحضارةً وبين الغرب الذي يمثل النقيض تمامًا.

والإشكالية هنا لا تكمن في تأزم الواقع العربي فقط بل إن البديل أو البدائل المقترحة مأزومة أيضًا، وهو ما يعطل القدرة على الفعل والتأثير ومجابهة التحديات الداخلية والخارجية. الثقافة العربية السائدة هي أسيرة نمطيْنِ وشكليْنِ من الثقافة وإن بدا أنهما متعارضان من حيث المنطلقات والمقدمات إلا أنهما في التحليل النهائي يلتقيان عند جذر واحد، ويمثلان وجهَيْ عملة نقد واحدة من شأنها الإبقاء على ديمومة التخلف والجمود وتعطيل القدرة على التغيير والتجاوز. فالثقافة المستمدة عناصرها من التراث فقط تعيد إنتاج ثقافة ماضوية سلفية متزمتة تستند إلى النقل والتلقين والتقليد، وتعادي العقل وترفض الأخذ بمستلزمات التطوير والتغيير الذي يتطلب الانفتاح والاجتهاد والإقرار بالتعددية. وفي موازاة ثقافة الهروب إلى الماضي هنالك ثقافة الهروب إلى الآخر وهي الثقافة التي تتخذ عناصرها من المراكز الثقافية «الغربية» العالمية وتبني ومحاولة فرض أو إسقاط المفاهيم والنظريات الغربية بغض النظر عن مدى صحتها وعلميتها بصورة آلية ومن دون الأخذ في الحسبان الظروف والخصائص المختلفة، لتطور البلدان والمجتمعات العربية، وهو ما فرض عليها حالة من العزلة والاغتراب وهامشية العقل والتأثير في الواقع العربي.

ففي الحالتين تسود ثقافة التقليد والنقل والمحاكاة والاستهلاك ثقافة إعادة إنتاج التخلف والتبعية. بطبيعة الحال لا يمكن عزل المثقف والمسألة الثقافية في بلادنا عن التحولات البنيوية على الصعيدين الاجتماعي والثقافي.

الهوية الثقافية وتحديات العولمة

في الفلسفة والفكر عمومًا الأسئلة دائمًا أهم من الأجوبة، الأسئلة التي تحمل إمكانية أجوبة أخرى، فدهشة السؤال تبقى منطلق كل معرفة، فأدوات الاستفهام ودلالات الأسئلة هي التعبير المكثف لمعاناة الإنسان في بحثه عن الماهية والوجود والمصير الفردي والجمعي والسؤال المركزي المثار هنا: ما موقع ودور الخطاب الثقافي والمسألة الثقافية بمكوناتها وعناصرها ومسارها ضمن النسق الاجتماعي العربي العام؟ إذ لا ثقافة خارج المجتمع في تحولاته وتبدلاته البنيوية بفعل العوامل والتطورات الداخلية والخارجية، فهنالك دائمًا علاقة جدلية مترابطة ومتبادلة يتحدد من خلالها موقع ودور البنية الثقافية وتفاعلها مع المكونات والعوامل الاجتماعية الأخرى، فالحديث عن أزمة الثقافة العربية يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الأزمة البنيوية العميقة للدولة القطرية (الوطنية) والواقع العربي العام بمستوياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الذي أفرز ثقافته وفكره المأزوم، فهنالك تداخل بين أزمة الثقافة وثقافة الأزمة، فالإشكالية هنا ليس في تأزم الواقع العربي فقط بل إن البديل أو البدائل المختلفة المطروحة مأزومة أيضًا.

الثقافة العربية السائدة هي أسيرة نمطين وشكلين من الثقافة وإن بدا أنهما متعارضان من حيث المنطلقات إلا أنهما يلتقيان عند جذر واحد هو تعطيل وتجميد الإبداع والمعرفة والفكر وشل القدرة على التغيير والتجاوز والتجديد.

فالثقافة المستمدة عناصرها من إعادة إنتاج ثقافة ماضوية (تقليدية) فقط مطبوعة بطابع التقليد والنقل والتلقين هي ثقافة ترى النموذج في إعادة استحضار الماضي المزدهر، التليد في الحاضر البائس والتعس بغض النظر عن الفاصلة الزمنية الممتدة وظروف هذا الحاضر ومتغيراته وتناقضاته والعوامل التي تحكم تطوره. وهنالك الثقافة التي تستمد عناصرها من المراكز الثقافية العالمية (الغربية) وسعت إلى فرض وإسقاط المفاهيم والنظريات الغربية (بغض النظر عن علميتها وصحتها) بصورة تعسفية ومن دون أن تأخذ في الحسبان الظروف والمسار المختلف لتطور البلدان والمجتمعات العربية، وبالتالي ظلت أسيرة العزلة والاغتراب وهامشية التأثير في الواقع الموصوف بالتخلف والأمية والفقر والتبعية والاستبداد.

في الحالتين تسود ثقافة التقليد والنقل والمحاكاة، ثقافة إعادة إنتاج التخلف والتبعية، وتحويل التراث الثقافي العربي إلى مجرد (فُلكلور) ثقافي ينحصر في المناسبات. الخطاب الثقافي لا يقنع بالسؤال عما كان فقط وإلا اقتصر على نقل ما كان في الماضي، فالتطلع دائمًا هو لما يجب أن يكون، ووصل الحي بالحي وليس إحياء الميت لإماتة الحي فينا.

لا بديل عن نظرة نقدية وعلمية وموضوعية لمجمل تراثنا الثقافي والحضاري، فليس الماضي مقدسًا ومنزهًا بكُلِّيَّتِهِ وليس الحاضر كافرًا وموبوءًا برُمَّتِهِ أيضًا. باستثناء العقيدة والأصول والشريعة الإسلامية ليس هنالك شيء مقدس ومتعال وأبدي وخالد، وهو ما يتطلب التفريق بين جوهر وأصول الدين السماوي وبين الفكر الديني (الأرضي) الذي هو اجتهاد بشري قابل للصواب والخطأ والتجاوز. وهو ما أجمع عليه العديد من كبار العلماء والفقهاء المسلمين القدماء منهم والمعاصرين على حد سواء، وتفسّر رحابة الإسلام وانفتاحه (في عصوره الزاهية من خلال تعدد القراءات والاجتهادات وتنوع المذاهب والتفسيرات والفتاوى الفقهية ولم يستنكف العلماء المسلمون الأقدمون من التفاعل مع ثقافات وحضارات وعلوم عصرهم والعصور التي سبقتهم كالحضارة الإغريقية والفارسية والرومانية تأسيسيًّا بالقول المأثور: «اطلبوا العلم ولو في الصين» من خلال النقل والترجمة ثم عبر الإضافة والتجديد والابتكار والتجاوز التي تمثلت في الحضارة العربية الإسلامية التي وصل تأثيرها معظم أرجاء العالم القديم. هذا التفاعل والتلاقح من منطلق الندية الحضارية والخصوصية الثقافية استمر وأثمر ذلك المجد الزاهر قبل أن تسود عصور الانحطاط والظلام والجهل وهيمنة ثقافة القمع والاستبداد وتصدر فقهاء السلاطين لتفسير وتأويل الدين والشريعة وفقًا للأهواء والمصالح.

هنالك حاجة مُلحّة إلى إحداث قطيعة معرفية مع تلك الجوانب والمفاهيم والأفكار التي لم تعد تتواءم وتستجيب (بل تعوق) لمتطلبات وتحديات الحاضر والمستقبل. غير أنه في المقابل لا بد من امتلاك نظرة نقدية وعلمية لمجمل النظريات والأفكار والثقافات والمناهج السائدة في المراكز الثقافية (الغربية) العالمية وإحداث قطيعة معرفية مع النظرة الاستشراقية وعملية النقل الحرفي والترجمة لنظريات ومناهج وممارسات الغرب بصورة فوقية وتعسفية قبل أن يجري امتحانها على أرض الواقع العملي ومن خلال الممارسة الحية الملموسة، فالحوار والتفاعل بين الحضارات والثقافات المختلفة يحتاج إلى ندية وتكافؤ حضاري ولن يتحقق ذلك من دون فصم علاقة التبعية البنيوية الشاملة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المعتمدة والمتمحورة على الذات في المقام الأول، وهو ما استطاعت تجارب تنموية ناجحة من تحقيقه كالتجربة اليابانية والتجربة الصينية.

وفي هذا الإطار من الضروري الإشارة إلى زيف اصطناع التعارضات والانقسامات والمقابلات الثنائية العقيمة على غرار القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، والوافد والمحلي، الوطني والقومي، الأنا والآخر، فهي مواجهات ملتبسة وخاسرة من شأنها إحداث مزيد من البلبلة والتشويش والتعويق، ولن تعمق رؤيتنا لجذر الأزمة الطاحنة والشاملة، التي يعيشها العالم العربي والتي تعود في جانب منها إلى الفشل الذريع في التوليف والتركيب الإبداعي للعناصر المكونة للثقافة العربية المعاصرة بإرثها وتراثها وإنجازاتها وميراث وإنجازات الثقافة والحضارة الإنسانية ككل. ومن الواضح أن ذلك يرتبط بالعمق بالمعضلات الحقيقية التي تواجهها الدولة العربية «الحديثة» والشعوب العربية قاطبة، خصوصًا في ظل العولمة التي تتسم بكونية الثقافة التي هي منجز إنساني مشترك لا يمكن تجاهله أو القفز عليه مع التأكيد على الجوانب المتناقضة لهذه العملية الموضوعية، التي تتسم بميزتين أساسيتين هما عملية التركيب والهيمنة الثقافية التي تمارسها دول المركز «الشمال» من جهة، وعملية التفكيك والتهميش الثقافي التي تعانيها دول الأطراف (الجنوب) من جهة أخرى.

حيث تستهدف مراكز الهيمنة والسيطرة العالمية وبالتحديد الولايات المتحدة فرض ثقافتها (الاستهلاكية) من خلال تهجين وطمس وإلغاء مقومات الثقافات الوطنية الأخرى، مستندة في ذلك إلى تفوقها وهيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية، وتحكمها في مجال التكنولوجيا الرفيعة والاتصال والتوصيل، احتكارها لأجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ولشركات الدعاية والإعلام والفنون (أفلام، موسيقا، أزياء). وتجرى عملية تجنيس (أَمْرَكة) للعالم بأسره على المستوى الثقافي وأسلوب الحياة والمعيشة والذائقة، بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب.

ليس مستغربًا أن تثير هذه النزعة الثقافية (الأمركة) للهيمنة ردود أفعال لدى النخب وجماعات متزايدة من الرأي العام في البلدان والمراكز العالمية الأخرى مثل اليابان وأوربا. غير أنه يجب ألّا نكتفي بالنظر إلى نصف الكأس الفارغة فقط، بل يجب أن ننظر إلى النصف الآخر الممتلئ، فالحضارة والثقافة الغربية عمومًا أضافت إلى البشرية منجزات حضارية تمثل ذروة ما توصلت إليه الإنسانية على امتداد تاريخها الطويل. فالمنجزات العلمية والصناعية والثقافية وبلورة مفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية تشكل جوهرًا وملمحًا أساسيًّا للحضارة الغربية، من دون أن نغفل بالطبع وجهها القبيح المتمثل في عهود السيطرة الاستعمارية والإمبريالية ونهب مصالح وخبرات الشعوب والمجتمعات في العالم (بما في ذلك مجتمعاتها) وخصوصًا في بلدان العالم الثالث التي تأخذ الآن أشكالًا جديدة في زمن العولمة.

بغض النظر عما إذا كان هناك وجود لهوية ثقافية عربية مشتركة أو لثقافات عربية لازمة لتكون وترسخ الدولة الوطنية (القطرية) المعاصرة إلا أن هناك بالتأكيد قواسم ومناخًا ثقافيًّا مشتركًا يستند إلى الدين واللغة والميراث الثقافي والتاريخي والهموم والتطلعات المستقبلية، فإزاء فشل الثقافة والأيديولوجية «القومية» التقليدية وكل الأيديولوجيات الشمولية المُعَلَّبة، فإننا بحاجة إلى البحث عن عوامل استنهاض ثقافي قومي جديد تشكل رافعة لانتشال الوضع العربي من أزمته وترديه، لا بد من ثقافة عربية تتسم بالعقلانية والعلمية والتسامح واحترام الآخر وتقبل الاختلاف والتنوع، والانفتاح على الثقافة العالمية المعاصرة بما يحافظ على الخصائص والسمات الثقافية والقومية والحضارية الخاصة.

والسؤال هنا هل للعرب مكان في التاريخ وبالتالي دور في صنع زمنهم، أم أن عليهم أن يبقوا متفرجين ومنفصلين وخارج التاريخ والزمن الحقيقي الذي يصنعه الفاعلون في الحياة والواقع في الحاضر والمستقبل؟

تجديد بنية الأمم المتحدة.. ضرورة الراهن

تجديد بنية الأمم المتحدة.. ضرورة الراهن

«إن النظام الدولي الذي أنشأه ميثاق الأمم المتحدة في حاجة إلى تجديد ولا بد من التغلب على ما في المؤسسات الحالية من عيوب وعدم ملاءمة. كما تدعو الحاجة إلى نسيج متماسك من القواعد الدولية، بحيث يمتد حكم القانون إلى نطاق العالم كله، ويُمكِّن المواطنين من أن يمارسوا تأثيرهم الديمقراطي في العملية العالمية، ونعتقد أيضًا أن الترتيبات التي يتبعها العالم في تصريف أموره ينبغي أن تقوم دعائمها على قيم مشتركة معينة وفي نهاية الأمر لن تنجح أي منظمة في إنجازاتها، ولن يحترم أي قانون ما لم يقم على أساس يكتسب قوته من القيم المشتركة ويجب أن تستنير هذه القيم بالإحساس بالمسؤولية المشتركة تجاه كل من الأجيال الحالية والأجيال القادم». من مقدمة تقرير: لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي في 22 أكتوبر 1995م احتفل في مقر الأمم المتحدة بذكرى مرور خمسين عامًا على تدشين قيام منظمة الأمم المتحدة، الذي سبقه انعقاد مؤتمر سان فرانسيسكو في المدة من 25 إبريل إلى 26 يونيو من سنة 1945م الذي صادق وأقرّ فيه مندوبو 51 دولة على ميثاق المنظمة، وقد شارك في تلك الاحتفالات رؤساء دول وحكومات وممثلو 185 دولة وهم الأعضاء المنتسبون (آنذاك) إلى الأمم المتحدة.

وقد جاء الإعلان عن قيام منظمة الأمم المتحدة بمنزلة تتويج لسلسلة اجتماعات وفعاليات ابتداءً من تصريح رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في 14 أغسطس سنة 1941م، وجاء فيه ذِكْر إنشاء هيئة عالمية لحفظ السلام العالمي وتحقيق التعاون الدولي، إلى تصريح الرئيس الأميركي روزفلت في أول ديسمبر سنة 1942م، الذي صدر بعد مؤتمر اشتركت فيه 26 دولة وعُقد في واشنطن بهدف تشكيل جبهة عالمية ضد دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان).

في مؤتمر يالطا في المدة من 3 إلى 11 فبراير سنة 1945م، الذي اشتركت فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا، تقرر الدعوة إلى مؤتمر سان فرانسيسكو لوضع ميثاق لهيئة دولية جديدة، وقد جاء تشكيل هذه المنظمة وتركيب قوامها لتعكس التغيرات في ميزان القوى والظروف الدولية التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية سواء من خروج دول المحور مهزومة، وإضعاف وتقهقر مكانة كل من فرنسا وبريطانيا، وبروز وصعود الدور والمكانة العالمية لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وكان أهم ثمرة لذلك هو تمتع الدول الكبرى المنتصرة في الحرب وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا والصين (التي أدخلت لتحقيق نوع من التوازن الشكلي وللتستر على الهيمنة الأوربية الأميركية الفعلية على هيئة الأمم المتحدة بالرغم من الحرب الأهلية الدائرة في الصين آنذاك) بحق العضوية الدائمة في مجلس الأمن وتمتعها بحق النقض «الفيتو»، وتحت تأثير ظروف الحروب العالمية والإقليمية ونتائجها التي شهدتها أوربا والعالم خلال العقود الأولى من القرن العشرين فقد أكد وشدد ميثاق الأمم المتحدة على «حفظ السلم والأمن الدولي وذلك باتخاذ التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم وتقمع أعمال العدوان وتعمل بالوسائل السلمية وفقًا لمبادئ العدل والقانون الدولي لحل المنازعات الدولية» مع أنه لم تقع أية حرب عالمية أخرى على امتداد العقود الماضية، إثر قيام الأمم المتحدة، إلا أن العالم لم يصبح أكثر أمنًا واستقرارًا؛ إذ شهد وعانى كثيرًا من الحروب والعنف والظلم وما زالت الأخطار المحدقة تهدد مصير الحضارة ومستقبل البشرية على الرغم من التغيرات والتبدلات الجذرية التي شهدها العالم في العقود الماضية، ففي المدة ما بين 1945- 1989م شهد العالم 138 حربًا أسفرت عن مقتل 23 مليونًا من البشر وهو ما يقترب من ضحايا الحرب العالمية الأولى، وفي المدة ما بين عامي 1989- 1994 فقط اندلع 83 نزاعًا مسلحًا في العالم، ليس منها سوى ثلاثة نزاعات دولية، أما بقية النزاعات فهي تندرج تحت إطار الحروب الأهلية ذات الامتدادات القبلية والعرقية أو الطائفية، التي يفاقمها الفشل الذريع في إحراز وتحقيق التنمية الشاملة المستديمة، وإلى انعدام المساواة والتكافؤ بين المجموعات داخل كل بلد.. وفي معظم هذه النزاعات كان دور وموقف الأمم المتحدة ضعيفًا وباهتًا، كما لا نغفل هنا الأثر السلبي للاستقطاب الدولي بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق واندلاع الحرب الباردة بينهما، على نشاط ومدى فعالية الأمم المتحدة.

تشجيع الكفاح الوطني

غير أنه من ناحية أخرى فإن الأمم المتحدة وأجهزتها ووكالاتها المتعددة الأغراض والمهام حققت إنجازات تاريخية مهمة خصوصًا على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. وعلى صعيد المنازعات وحفظ السلام في مناطق التوتر في العديد من البلدان، وقد واكبت الأمم المتحدة وشجعت الكفاح الوطني ضد نظام السيطرة الاستعمارية، ونظام الفصل العنصري خصوصًا بعد عام 1953م، عندما تسلم الأمين العام همر شولد (سويدي) منصب الأمين العام للأمم المتحدة، فقد تدخلت الأمم المتحدة آنذاك وساندت بقوة استقلال الكونغو بقيادة زعيمها باتريس لومومبا ضد التدخل العسكري البلجيكي، وقد دفع همر شولد حياته ثمنًا لتصديه لنظام السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري.. وقد دفعت تلك التوجهات للأمم المتحدة في لعب دور مستقل عن الهيمنة الغربية، العديد من القوى والفعاليات السياسية الأميركية وأعضاء متنفذين في الكونغرس الأميركي إلى الدعوة والانسحاب من الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها، بل العمل على نقل مقرها إلى خارج الولايات المتحدة الأميركية، تحت حجة ومزاعم وقوعها تحت تأثير نفوذ الاتحاد السوفييتي ودول العالم الثالث.

هذا المشهد سرعان ما تغير بفعل التطورات السلبية والخطيرة في العديد من البلدان المتحررة حديثًا من السيطرة الاستعمارية؛ إذ أدّت سلسلة الانقلابات العسكرية التي تمت في العديد من بلدان العالم، بإيحاء ودعم مباشر من الدوائر الغربية والشركات الاحتكارية، التي تضررت مصالحها كثيرًا من جراء إحراز تلك البلدان لمظاهر السيادة والاستقلال، وشروعها في بناء اقتصادها الوطني المستقل وتنمية مواردها الذاتية، ولكن لأسباب موضوعية وذاتية، وعوامل خارجية وداخلية مختلفة سرعان ما أدى إلى فشل خطط التنمية للعديد من تلك الدول، ووقوعها في مصيدة الديون وانكشاف اقتصادياتها، وتفاقم حالات الفساد والرشوة، والبيروقراطية والتعسف، ورفض المشاركة الشعبية، أو تقنينها، وبالتالي انجرار هذه البلدان من جديد إلى هيمنة ونفوذ القوى المتنفذة في العالم، والشركات متعددة الجنسية، وهو الأمر الذي انعكس في تغير موازين القوى داخل الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها المختلفة، الذي بلغ ذروته باختفاء آخر مظاهر ونتائج الحرب العالمية الأخيرة التي يشكل وجود الأمم المتحدة خير تعبير عنها، مثل انتهاء الحرب الباردة، وزوال الثنائية القطبية التي طبعت العالم طيلة العقود الماضية، وانحسار مخاطر اندلاع المواجهة النووية، وقد واكب ذلك جملة من التغيرات والتبدلات العميقة التي طرأت على عالمنا المعاصر ومجمل النظام الدولي، ومن أهمها ثورة الاتصالات والمعلومات التي حولت العالم إلى قرية، وبفضلها طويت وتقلصت المسافات الزمنية والمكانية والبصرية بين كل أرجاء المعمورة، يضاف إلى ذلك عولمة الاقتصاد والسياسة والعلم والثقافة، ودخلت البشرية مرحلة جديدة من الثورة الصناعية/ التكنولوجية (الجيل الرابع) ثم الجيل الخامس، وما هو لافت للنظر هو الدور المتنامي في جميع المجالات الذي باتت تلعبه كل من اليابان وألمانيا اللتين هزمتا في الحرب العالمية الثانية، مقارنة بتراجع دور ونفوذ بريطانيا وفرنسا، بل حتى الولايات المتحدة، التي وإن ظلت محافظة على دورها القيادي في العالم بفضل قوتها العسكرية، ونفوذها السياسي، وتحكمها الاقتصادي الطاغي، خصوصًا في بلدان العالم الثالث.. إلا أن مكانتها أخذت بالتراجع لأسباب متنوعة.

وفي المقابل حدثت في العقد الأخير تطورات مهمة على الصعيد السيو-إستراتيجي، من أبرزها العودة والحضور القوي لروسيا- بوتين على المسرح الدولي، كما نشير إلى بروز الصين كعملاق اقتصادي (ثاني أكبر اقتصاد عالمي) وتزايد مكانتها الدولية على الصعيدين السياسي والعسكري وهو ما سيسهم حتمًا في إنهاء وحدانية القطبية الأميركية، والعمل على صياغة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.

من جهة أخرى، اختفت أو بهتت مفاهيم وشعارات وقيم، مثل المساواة والعدالة والاشتراكية وحق تقرير المصير، وحلت محلها مفاهيم وقيم أخرى مثل اقتصاديات السوق، والخصخصة، وإعادة الهيكلة، وإنهاء دور وتدخلات الدولة وبخاصة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب التأكيد على قضايا جوهرية، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والالتزام بالقانون والشرعية الدولية وغيرها من القضايا، غير أن هذه القضايا إلى جانب آليات عمل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد لم تختبر جديتها وصدقيتها وفاعليتها على أرض الواقع.

تأكيد الاستقلالية عن مراكز النفوذ

نقف هنا عند فشل الأمم المتحدة إزاء ما يحدث في العديد من البلدان والمجتمعات التي تمزقها الصراعات والحروب الداخلية ذات الطابع العرقي أو القبلي أو الطائفي، مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن وأفغانستان والصومال، ناهيك عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وهو الأمر الذي شكك في مدى جدية ومصداقية ومكانة الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة، وهو ما يستوجب ضرورة التصدي والعمل على تقويم جوانب نشاط عمل المنظمة الدولية كافة، وتطوير مفاهيمها وآليات عملها، وتنشيط هيئاتها ووكالاتها المختلفة وتفعيلها، وتأكيد استقلاليتها عن مراكز نفوذ الدول الكبرى، والكف عن استخدام المعايير والمقاييس المزدوجة وفقًا لرغبات أو تمشيًا مع ضغوطات تلك البلدان.

الأمم المتحدة تواجه تحديات ومشكلات متنوعة ليس على صعيد تحقيق الأمن والسلام، وبناء نظام من العلاقات الدولية قائم على أساس من الشرعية والقانون والعدالة، واحترام حقوق جميع البلدان والشعوب والجماعات والأفراد فقط، بل هي معنية أيضًا وبنفس الدرجة من الأهمية بمشاكل وقضايا الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، ومكافحة الفقر والمرض والتخلف والبطالة في العالم، والتصدي للمخاطر الجدية التي تهدد أمن واستقرار مختلف البلدان والمجتمعات (وبخاصة بلدان الجنوب) في حاضرها ومستقبلها على حد سواء مثل أزمة اللاجئين والمهجرين نتيجة الصراعات والحروب الأهلية، وتفاقم حالات اللجوء والهجرة القسرية لأسباب متنوعة، اقتصادية وأمنية وسياسية، وما يتصل بها من جرائم الاتجار بالبشر، وهناك أزمة الدين (العام والخاص) وازدياد نفقات التسلح، والتدهور البيئي، وانتشار رقعة الفقر والبطالة في العالم بوجه عام وفي بلدان الجنوب بشكل خاص، وعولمة النشاطات الإجرامية مثل: تجارة المخدرات والإرهاب والاتجار بالمواد النووية وأسلحة الدمار الشامل، ناهيك عن تفشي العنف وثقافة العنف وما تولده من حروب إقليمية أو حدودية، وحروب داخلية على أرضية الانقسامات الاجتماعية ذات الطابع والمظهر الإثني أو العرقي أو الديني، التي غالبًا ما يكون العالم الثالث ومن بينها الدول العربية مسرحًا لها، وهو الأمر الذي يستدعي إجراء تقييم وتقويم وإصلاح شامل لأساليب وخطط وبرامج وآليات عمل المنظمة الدولية، وبالتالي فإنه من الضروري العمل على إيجاد حلول جادة وفعالة لمختلف تلك القضايا والتحديات.

ليس من المعقول أو المقبول ونحن نشهد هذا التشابك والتجاور العالمي وهذا الترابط والعولمة على الأصعدة الاقتصادية والأمنية والسياسية والإعلامية والثقافية والبيئية كافة، وفي الوقت نفسه نرى العالم منقسمًا على نفسه بين دول قليلة قوية وغنية تتمتع بكل مقومات القوة والجبروت والتسلط من جهة، وبين جُلّ بلدان وشعوب العالم التي تحيا حياة التبعية والإلحاق والاستغلال والفقر والبطالة والتخلف من جهة أخرى.

دول الشمال تحتكر 80% من الإنتاج العالمي وتسيطر على 80% من التجارة الدولية وتستهلك 80% من موارد الكرة الأرضية في الوقت الذي يشكل سكانها نسبة 20% من مجمل سكان العالم، فيما بلغت حصة دول الجنوب 20% من الإنتاج العالمي و20% من التجارة العالمية وتستهلك 20% من موارد الأرض في حين إنها تمثل 80% من سكان العالم.

لقد أُنفِقتْ تريليونات الدولارات في غضون الحرب الباردة، على سباق التسلح وأسلحة مدمرة وتقنيات عقيمة وعديمة الجدوى، وكان بالإمكان لو قُدِّر لهذه الأموال المهدورة أن تغير صورة العالم ونوعية الحياة فيه، لو جرى صرفها وتحويلها واستثمارها في الإنتاج المدني، وللقضاء على الفقر والمرض والتخلف والأمية، غير أن ذلك لم يكن ممكنًا نتيجة للاستقطاب الدولي الحاد آنذاك، ولتداخل مصالح المجمع العسكري الصناعي الاحتكاري في الغرب الرأسمالي، والمجمع العسكري الصناعي البيروقراطي في الشرق السوفييتي، وقد ازدادت وتيرة تجارة السلاح وخصوصًا السلاح المُصدَّر إلى بلدان العالم الثالث وذلك على حساب خطط التنمية، فقيمة الأسلحة المُصدَّرة في المدة ما بين 1970م وانتهاء الحرب الباردة عام 1989م بلغت إلى الشرق الأوسط 168 مليار دولار، وما قيمته 65 مليار دولار إلى إفريقيا، وما قيمته 61 مليار دولار إلى الشرق الأقصى، وما قيمته 50 مليار دولار إلى جنوب آسيا، وما قيمته 44 مليار دولار إلى أميركا اللاتينية، وكانت حصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي 69% من الإجمالي البالغ 388 مليار دولار، وفي عام 1992م بلغ نصيب الولايات المتحدة وحدها 46% من توريدات الأسلحة إلى هذه الدول، وهذه الأرقام تدل ليس فقط على المخاطر الناجمة عن تكدس السلاح واحتمالات استعماله في حلّ الخلافات والتناقضات بين تلك الدول، وإنما يكمن أيضًا في احتمال تسرب أنواع أشد فتكًا وهو ما يتمثل في أسلحة الدمار الشامل من نووية أو بيولوجية أو كيميائية التي ثبت أن العديد من الدول تمتلكها أو تمتلك تقنيات إنتاجها، وهو الأمر الذي من شأنه تعريض الأمن والاستقرار في تلك المناطق والعالم لخطر استخدامها.

تواجه البشرية تحديات مصيرية مشتركة، تتعلق بالتدهور البيئي الخطير على الصعيد الإيكولوجي، الذي من مظاهره اتساع فجوة طبقة الأوزون، والتصحر وتقلص رقعة الغابات، واندثار كائنات حيوانية ونباتية عدة، وتقلص الرقعة الزراعية ونضوب الموارد من الغذاء والمياه، ويعود اختلال هذا التوازن البيئي بدرجة أساسية إلى طبيعة أنماط الإنتاج السائدة التي لا تعطي أهمية لمبدأ التوازن ما بين السكان والموارد، والاستهلاك وأنماط التنمية، وحيث يسود مبدأ الربحية وقوانين السوق ويطبق شعار الإنتاج من أجل الإنتاج، ويجعل من النمو (وليس التنمية) هدفًا له، ويحفز على الدوام إنتاج مزيد من السلع بغض النظر عن مدى الحاجة لها، فما هو مهم هو إنتاج السلع والبضائع، ومن ثَم حَفْز الطلب عليها عن طريق استخدام تكنولوجيا الإعلان والإعلام والدعاية.

هذا النمط من التنمية إذا كان يتماشى نسبيًّا مع أنماط وظروف وحياة المجتمعات الأكثر غنى ورفاهية، فإنه يؤدي إلى مزيد من اليأس والتهميش والإحباط وفقدان الأمل وغياب اليقين لدى الأغلبية الساحقة من شعوب بلدان العالم الثالث، التي تعيش هذا المناخ الاستهلاكي الترفي من دون أن تتمكن من التمتع بثماره.

المقاومة الفلسطينية وتغيير المعادلة

المقاومة الفلسطينية وتغيير المعادلة

على مدى السنوات الماضية لم يحافظ اليمين الإسرائيلي على سلطته فقط، بل عمل على تعزيزها بالرغم من التحديات الداخلية، بما في ذلك الاتهامات الموجهة لرئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بنيامين نتنياهو بالضلوع في قضايا فساد، وهو ما يعبر عن الاتجاه العام للمجتمع الإسرائيلي، ونزوعه نحو تبني شعارات وأطروحات اليمين العنصري الداعي إلى تصعيد هستيريا العداء للعرب والفلسطينيين وتوسيع نطاق المستوطنات، ورفض الانسحاب عما يعدُّه أراضيَ إسرائيلية (يهودا والسامرة)، الذي يعطي الأولية للأمن بغض النظر عن تعارضه مع متطلبات الحل السلمي والعادل، الذي يأتي في مقدمته جلاء إسرائيل عن الأراضي العربية كافة المحتلة في عدوان 1967م والإقرار بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
إذًا نحن أمام حالتين وأيديولوجيتين على طرفي نقيض، فالمشروع الصهيوني هو مشروع توسع وهيمنة بامتياز منذ البداية، قد تتغير الأساليب والتكتيكات بحكم الظروف وميزان القوى الإقليمي والدولي، لكن الهدف الإستراتيجي يظل ثابتًا من حيث الجوهر وبغض النظر عمّن هو الذي يتربع على دفة الحكم في إسرائيل.

فهل ننسى أن حزب العمل «اليساري» هو من أرسى دعائم قيام دولة إسرائيل، وتحت قيادته شنت الحروب العدوانية المتتالية ضد العرب، وهو من رفع شعار تكسير عظام شيوخ الانتفاضة ورجالها ونسائها وأطفالها (إسحاق رابين) وفي ظل حكمه شنت عملية عناقيد الغضب (شمعون بيريز) وما رافقها من مجازر (قانا) الرهيبة.

تبرير منطق الهزيمة

الواقع الراهن هو في مصلحة إسرائيل على جميع المستويات والأصعدة خصوصًا في ظل الدعم والمساندة غير المحدودة التي تتلقاها من الولايات المتحدة الأميركية، وحالة التداعي والضعف والانقسام والاختراق للجسم العربي، واستفراد إسرائيل في تحديد مستوى وطبيعة التفاوض مع الأطراف العربية كلًّا على حدة، ومحاولة فرضها للتنازلات المجحفة على العرب، وفي ظل غياب إرادة دولية (وأميركية بالتحديد) فاعلة لإعادة تنشيط خيار التسوية الذي ارتضاه العرب بوصفها خيارًا إستراتيجيًّا يقوم على أسس واضحة من الحق والعدل (في حده الأدنى المقبول).
هنالك من يحاول التنظير والتبرير لمنطق الهزيمة سواء من داخل الدائرة الفلسطينية، أو من داخل الدائرة العربية (حكومات ونخب) من منطلق الواقعية السياسية، ويرى أن التسوية والحلول المطروحة يجب القبول بها لأنها نتاج موازين القوى التي تصب في صالح المنتصر، ومن ثم ليس أمام المهزوم سوى الانصياع لإرادة الغالب.
وهذا المنطق المتهافت يدحضه التاريخ والواقع الحي لنضال الشعوب من أجل الحرية والعدالة والاستقلال الوطني، ونستحضر هنا انتصار نضال شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري الذي استمر عشرات السنين.
إن تجميد عملية السلام التي لا تستند إلى مقومات الحق والعدالة، أفضل ألف مرة من رهن حاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني والأمة العربية للمجهول، غير أن ذلك لا يعني بأي حال القبول بشعار كل شيء أو لا شيء، فهذا منطق قديم تجاوزه الواقع الموضوعي. من الواضح أن الشعارين والخيارين المتعارضين وهما شعار وخيار إسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات الذي وضعته الصهيونية وسعت إلى تحقيقه من جهة، وخيار استرداد كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر الذي رفعه العرب قد وصلا إلى طريق مسدود.

علمًا أن الصهيونية استطاعت تحقيق الجزء الأكبر من مشروعها في إقامة دولة إسرائيل على القسم الأكبر من فلسطين (72 من المئة) وسيطرتها على باقي الأراضي الفلسطينية وعلى أراضٍ عربية أخرى، في حين ترفض إسرائيل أن يحلم الفلسطينيون بقيام دولتهم المستقلة يومًا. حددت إسرائيل خطوطها الحمراء، أو لاءاتها التي تمثل جوهر السياسة والموقف الإسرائيلي إزاء عملية التسوية، وهي لا للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة في عام 1967م، ولا للتفريط في القدس الموحدة بوصفها العاصمة الأبدية لإسرائيل. وفي هذا الصدد فإنها «إسرائيل» لا تمانع في ضم بعض القرى والأحياء الملاصقة للقدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية).

ولا لتفكيك، المستوطنات الإسرائيلية ( تعهدت حكومة نتنياهو بأن 80% من المستوطنات ستظل تحت السيادة الإسرائيلية المباشرة)، ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين (5 ملايين لاجئ) باستثناء أعداد محدودة تحت اسم لمّ الشمل للأسر.

جاءت الانتفاضات والهبات الفلسطينية ردًّا واضحًا وقويًّا إزاء محاولة إسرائيل المدعومة من الإدارة الأميركية لفرض تصورها وخططها وشروطها النهائية؛ إذ تعرّض الجانب الفلسطيني إلى ضغوط وتهديدات مباشرة إلى جانب بعض الإغراءات من جانب الإدارة الأميركية وإسرائيل على حد سواء من أجل انتزاع تنازلات رئيسية في القضايا التي تشكل جوهر الصراع ( العربي – الإسرائيلي) في المنطقة حيث تمثل القضية الفلسطينية حلقتها المركزية.

فهل يعي العرب من تجاربهم وهزائمهم ويستخلصون العبر لإعادة استنهاض مقومات التضامن والوحدة والتنسيق واستخدام إمكانياتهم ومقدراتهم (وهي ليست قليلة) من أجل أن يمسكوا قضيتهم بأيديهم وألّا يركنوا أو يسمحوا للآخرين بالتلاعب بمصيرهم ومستقبلهم.

وكما أنه لا يجوز تغييب الواقع بحجة تحقيق الحلم والأهداف الكبرى، فإنه لا يجوز أيضًا إهدار وإلغاء الشعور والحلم والأمل والضمير الأخلاقي بحجة الامتثال للواقع، فكما قال أحد مفكري القرن التاسع عشر: إذا كانت الظروف أو الواقع من يحدد وضع ومصير الإنسان فعلينا أن نغير ونعيد تشكيل الظروف والواقع من أجل شروط إنسانية حقة تستجيب إلى متطلبات البشر وأحلام الشعوب.

جذوة الكفاح الفلسطيني

من هنا المراهنة على استمرار جذوة الكفاح الفلسطيني على الرغم من كل الخسائر البشرية والمادية والتضحيات الهائلة التي يقدمها الشعب الفلسطيني، في ظل محدودية الدعم العربي الرسمي، ومع حقيقة الاختلال الكبير في موازين القوى بين قوات الاحتلال الغاشم التي تستخدم أحدث التقنيات العسكرية المدمرة بما في ذلك الطائرات الحربية والبوارج والمدرعات والمدفعية ( كما حصل في قطاع غزة ) وبين الجماهير الفلسطينية العزلاء إلا من الحجارة وبعض الأسلحة الخفيفة لكن المسلحة بالإرادة والعزيمة الفولاذية. لا شك أن استمرار المقاومة الفلسطينية بأشكالها كافة خصوصًا المقاومة المدنية وتصاعدها من شأنه تغيير المعادلة وشروط الصراع، كما ستلحق بمفهوم الأمن الإسرائيلي المستند إلى غطرسة القوة والعدوان الوهن والضعف، كما من شأنه تعميق الأزمة الداخلية للمجتمع الإسرائيلي على كل الأصعدة السياسية والأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية، وستعيد بالتالي الصراع العربي الإسرائيلي وفي الجوهر منه الصراع الفلسطيني – الصهيوني إلى المربع الأول، خصوصًا بعد وصول مسارات التسوية كافة إلى طريق مسدود في ظل المراوغة الإسرائيلية.

التحركات والفعاليات الفلسطينية الجماهيرية المتواصلة، في ضوء قرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن موضوع القدس خط أحمر للفلسطينيين والعرب والمسلمين، وأنه لن تكون هناك تسوية وسلام في المنطقة في ظل الاحتلال وزرع المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتوسيعها، ورفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وفقًا للقرار الدولي 181، وتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وجلاء إسرائيل عن الأراضي العربية المحتلة كافة؛ في سوريا (الجولان) ولبنان (مزارع شبعا)، وتنفيذ القرارات الدولية 242، 338، 425 في هذا الخصوص، وهو ما يتطلب إنهاء الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وتوحيد وتصليب وتقوية الجبهة الفلسطينية الداخلية عبر برنامج للتحرر الوطني يستند إلى الثوابت والحقوق الفلسطينية والعربية العادلة، كما يتطلب العمل على تصليب الموقف العربي العام على كل الأصعدة والمستويات، وتقديم كل أشكال الدعم والمساندة الملموسة والحقيقية للشعب الفلسطيني، وإفساح المجال للشعوب العربية في التحرك وإطلاق مبادراتها وتحرير إرادتها من أي ضغوط وخوف أو إملاء أو وصاية. ففي عالم اليوم الذي تسوده علاقات القوة والسيطرة والهيمنة، ليست هنالك صداقات دائمة إنما هنالك مصالح دائمة.

مصلحة العرب (شعوبًا وأنظمة) اليوم وهم يواجهون مرحلة دقيقة وحرجة ومفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك خطر الانفجار الشامل تكمن في وحدة الموقف والمصير المشترك، فالتحدي اليوم هو أن نكون أو لا نكون ليس إزاء قضايا الصراع وتحديات التسوية فقط إنما إزاء كل ما يمس حاضر الأمة ومستقبلها.