القضية الفلسطينية من منظور مغربي

القضية الفلسطينية من منظور مغربي

شكّلت بلاد المغرب أو المغارب عمقًا إستراتيجيًّا للقضية الفلسطينية، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي. كانت تداعيات هزيمة 1967م قوية على التيارات اليسارية والقومية المغاربية، وألهبت اتجاهات راديكالية (تنظيم إلى الأمام) في ركاب الحركة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان يرأسها جورج حبش، وتبنت رؤاها وخياراتها، مثلما أن الحركة الشعبية سعت أن تتأثر تجربة حرب التحرير الجزائرية. وتُعد معركة الكرامة لسنة 1968م مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، تحولًا ألهب حماس كثير من الشباب المغاربيين والنشطاء، والتحق أعداد من الشباب المغاربي جراء ذلك بالتنظيمات الفدائية، وحاربوا في صفوفها.

رسميًّا أُقِرَّت منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي في القمة العربية التي انعقدت بالرباط، سنة 1974م. وكان أول اللقاءات بين المسؤولين المصريين والإسرائيليين بمراكش، التي ستفضي بعدها لزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل سنة 1977م، وإبرام اتفاقية كامب ديفيد بين البلدين سنة 1978م، بوساطة من الملك الراحل الحسن الثاني، كما أسفر عن ذلك موشيه دايان قائد الأركان ووزير الدفاع الإسرائيلي في مذكراته.. وبمقتضى مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي أوكل للمغرب رئاسة لجنة القدس. وبالمغرب، وفي القمة العربية المنعقدة بفاس سنة 1982م تُبُنِّي أجرأ قرار يتضمن اعترافًا ضمنيًّا بحق إسرائيل في الوجود فيما عُرف بمخطط فاس، الذي تبنى مشروع الملك فهد من أجل تسوية النزاع العربي الإسرائيلي، على أساس قرار 242 الأممي. وفي الوقت ذاته احتضنت تونس منظمةَ التحرير الفلسطينية بعد خروجها من بيروت في أعقاب حرب إسرائيل على لبنان أو ما سمي بعملية السلام في الجليل. وتُعَدّ الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر 1988م تحولًا جذريًّا في أدبيات المنظمة التي أعلنت عن قيام الدولة الفلسطينية وتبنت ضمنيًّا الاعتراف بإسرائيل.

ظلت القضية الفلسطينية حاضرة على المستوى الرسمي أو الشعبي في وجدان الشعوب المغاربية. لم يتأثر هذا الحضور مع سقوط حائط برلين. وحين انعقد مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991م في أعقاب حرب الخليج الثانية، وعلى الرغم من عدم مشاركة منظمة التحرير في المؤتمر، فقد ظل الوفد الفلسطيني المكون من الثلاثي حيدر عبدالشافي وفيصل الحسيني وحنان عشرواي ينسق في جولات مكوكية مع قيادة منظمة التحرير، التي كانت مرابطة بالجزائر.

اتفاقية أوسلو مسلسل السلام

في متم شهر فبراير 1993م حضر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بالرباط درسًا من الدروس الرمضانية التي كان يرأسها الملك الحسن الثاني، وقد نقل له استعداده تحريك المفاوضات المنبثقة عن مؤتمر مدريد التي كانت متوقفة، إن اعترفت الولايات المتحدة بمنظمة التحرير. وقد نقل سفير الملك بواشنطن تلك الرسالة لنائب كاتب الدولة في شؤون جنوب آسيا والشرق الأوسط إدوارد جيرجيان، حضرها كاتب هذه السطور الذي كان يشغل منصب مستشار لسفارة بلده بواشنطن. وتطورت الأحداث في مسلسل موازٍ بعيد من القنوات الرسمية لكي تفضي لاتفاقية أوسلو التي اعترفت إسرائيل بمقتضاها بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأُرسِيَ مسلسل السلام، القائم على «الأرض مقابل السلام» بناءً على قراري الأمم المتحدة 242 و338، وعلى عدِّ القضية الفلسطينية محور الصراع العربي الفلسطيني أو عمقه. وقد حضر كاتب هذه السطور ممثلًا لسفارة بلاده، مراسم استقبال الرئيس الفلسطيني، في القاعدة العسكرية أندريوز بتاريخ 12 سبتمبر 1993م، قادمًا من تونس على متن طائرة مغربية، وكان اللافت هو حضور سفير المملكة العربية السعودية بندر بن سلطان مراسم الاستقبال، بعد وقت من الجفاء بين المملكة العربية السعودية ومنظمة التحرير الفلسطينية جراء موقف هذه الأخيرة من اجتياح الكويت وحرب الخليج. وبمقتضى مسلسل السلام المنبثق عن اتفاقية أوسلو بدأت إرهاصات تطبيع الدولة العربية المعتدلة مع إسرائيل، وهكذا أقيمت علاقات دبلوماسية مع الأردن، وفُتح مكتب اتصال بالرباط، وكذا بتونس، واحتضن المغرب ثاني مؤتمر اقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الدار البيضاء في ديسمبر 1994م، ورعت الولايات المتحدة مسلسل السلام، وانتصبت حسب التعبير المصطلح كوسيط نزيه؛ إلا أن التعثر الذي عرفه مسلسل السلام وبخاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين في نوفمبر 1995م أجهز على ما كان يسميه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بسلام الشجعان.

الانتفاضة الثانية أو النفق المظلم

التخلف في احترام مواعيد الانسحاب، والاستمرار في سياسة الاستيطان، ورفض طرح ملف المهاجرين، ووضع القدس أفضى إلى تعثر مسلسل السلام، وأُجهِزَ عليه عمليًّا مع إخفاق لقاء كامب دايفيد في صيف 2000م بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، برعاية من الرئيس الأميركي بيل كلينتون. واستفحل الأمر حين أقدم أرييل شارون على اقتحام باحة المسجد الأقصى في سبتمبر من نفس السنة 2000م، واندلعت موجة من الاحتجاجات أو الانتفاضة الثانية. وقد دفعت تطورات الأحداث في ظل التداعيات التي عرفها مسلسل السلام، إلى إغلاق مكتب الاتصال وعمَّت مظاهرات بالرباط والدار البيضاء تأييدًا للشعب الفلسطيني. واستغلت إسرائيل وبخاصة مع وصول أرييل شارون إلى رئاسة الحكومة سياق ما بعد 11 سبتمبر لتنكث بكلِّ التزاماتها وليدخل مسلسل السلام إلى موت سريري.

مسرحية فلسطينة حول الراهن الفلسطيني

تعد القمة العربية لسنة 2003م المنعقدة في بيروت، التي تبنت المبادرة العربية التي كان أطلقها الملك الراحل عبدالله ملك المملكة العربية السعودية محاولة جادة لبعث المسلسل، واستندت المبادرة العربية على الشرعية الدولية، ودعت لحل دولتين تعيشان متجاورتين في سلام، إلا أن التطورات التي تلت مؤتمر القمة أبانت عن تعنت إسرائيل التي منعت الرئيس الفلسطيني حضورَ القمة، بل تمادت في محاصرة المقاطعة حيث كان يتحصن وقذفتها بالنيران، وهو ما شكَّل تهديدًا لسلامته، وهو الأمر الذي دفع ملك المغرب محمد السادس للاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لضمان سلامته، وأصدر كاتب هذه السطور بلاغًا في هذا الصدد، (بصفته آنذاك ناطقًا باسم القصر الملكي).. تمادت إسرائيل في سياسة بناء المستوطنات والتضييق على السلطة الفلسطينية، وهو ما شكل نسفًا لكل الالتزامات الدولية وللآمال التي أعقبت اتفاق أوسلو.

الواقع الجديد: هل لا يزال مشروع الدولتين قائمًا؟

يسجل تراجع الدور المغربي في ملف الشرق الأوسط، باستثناء لجنة القدس التي ظل المغرب يرأسها. وقد فُعِّل دورها في اجتماع رأسه الملك مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في مراكش في يناير 2014م، إلا أن دور اللجنة، أمام سياسة تهويد المدينة، وتغيير معالمها والمضايقات التي تتعرض لها الساكنة الفلسطينية، ومحدودية مساهمات الأطرف الأخرى، ظل محدودًا، كما أن التمادي في سياسة المستوطنات، أفرغ حل الدولتين من محتواه، فضلًا عن الصراع بين السلطة الفلسطينية ومنظمة حماس. تراجع تأثير القضية الفلسطينية مع الربيع العربي، وطغت الاهتمامات الخاصة بكل بلد. ولم تعد القضية الفلسطينية تحظى بإجماع الرؤى التي طبعتها من قبل، ويمكن أن نرصد اتجاهات أربعة في المغرب، تتميز عن الرؤية الموحدة التي كانت من ذي قبل:

-الاتجاه الرسمي، الذي يدعم السلطة الفلسطينية ويتبنى حل الدولتين، ولا يرتبط بأية علاقة مع حماس.

-الاتجاهات الإسلامية سواء منها جماعة العدل والإحسان أو حزب العدالة والتنمية وتتطابق رؤاها مع منظمة حماس، وترتبط بعلاقات بها، مع اختلافات طفيفة بين التنظيمين.

-الأحزاب المنبثقة من الحركة الوطنية، وبخاصة حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي، لا يختلف موقفها عن الموقف الرسمي.

-اتجاهات جديدة، لا تعدّ القضية الفلسطينية محورية، بل تنظر إليها كعائق نحو السلم في المنطقة، وترهن مصالح المغرب، ولا ترى ضيرًا في التطبيع مع إسرائيل، ومنها تلك التي تتبنى طرحًا مطابقًا للطرح الإسرائيلي، من خلال عناصر من الحركة الثقافية الأمازيغية، وتدعو للتطبيع جهارًا، أو بعض العناصر الليبرالية أو بعض رجال الأعمال. ومن أجل نسف فكرة تماثل العناصر الأمازيغية مع الطرح الصهيوني يرأس مرصد مناهضة التطبيع مع إسرائيل ناشط حقوقي أمازيغي هو السيد محمد وايحمان.

ويمكن رصد اتجاه جنيني أخذ ينشط على مستوى المجتمع المدني، يتزعمه بالمغرب الناشط أنيس بلافريج، وسيون أسيدون وهو مغربي يهودي، وينسق مع فعاليات دولية، ومنها شخصيات يهودية مناهضة لما تسميه بالأبارتيد الفعلي ضد الفلسطينيين، ويتبنى هذا الاتجاه ضمنيًّا فكرة الدولة الديمقراطية، ويناهض الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية.