الجواب عن السؤال المفصلي

الجواب عن السؤال المفصلي

مدخل: كما بينا في مقال سابق تحت عنوان: «السؤال المفصلي المطروح»، يموج العالم الآن بمراجعات جادة لشتى أنواع الأنظمة الاقتصادية بعد أن اكتوى بنيران الأزمات المالية المتتابعة وبفشل بعضها الذريع. وسنرتكب، نحن العرب، خطأً فادحًا إن بقينا، كما فعلنا منذ الاستقلال الوطني للأقطار العربية كافة، نمارس إما ردَّ فعلٍ محتارًا عاجزًا، وإما الوقوع في فخ التقليد الأعمى لما يقوله أو يفعله الغرب الحضاري.

لقد مارسنا أحد الأسلوبين أو كليهما تجاه تبني النظام الرأسمالي الكلاسيكي، ومؤخرًا تجاه تبني النظام الرأسمالي النيوليبرالي العولمي، كما مارسه بعضنا تجاه تبني الاشتراكية الماركسية كما كانت مطبقة على الأخص في الاتحاد السوفييتي سابقًا. ولا يسمح المجال لاستعراض تاريخ ممارسة النظامين في بلاد العرب المليئة بالأخطاء وقلة الإبداع الذاتي التطويري. يكفي أن نشير إلى استمرار وترسخ النظام الاقتصادي الريعي في كل الأقطار العربية وفشل الجميع في الانتقال إلى الاقتصاد الإنتاجي والمعرفي.

من هنا تكمن الأهمية القصوى لمتابعة شتى المحاولات العالمية من أجل اقتراح نظام اقتصادي متوازن عادل يأخذ في الحسبان التاريخ، والثقافة، والتركيبات الاجتماعية، والموارد الطبيعية والبشرية، ومستويات الإمكانيات العلمية والتكنولوجية، والمصالح الإستراتيجية المستقبلية لهذه الأمة.

وبمعنى آخر، الخروج من تحت عباءة الأفكار والممارسات الرأسمالية الكلاسيكية والنيوليبرالية من جهة، والأفكار والممارسات الاشتراكية الماركسية من جهة أخرى. وبالطبع فإن تفتيشنا العربي الذاتي لا ينطلق من فراغ ولا يعني عدم الاستفادة من أفكار وممارسات الآخرين. فالنقد الشديد من جانب الشخصية القيادية في الحزب الديمقراطي الأميركي، برني ساندرز، للنظام الرأسمالي المطبق في الولايات المتحدة الأميركية، قلعة الرأسمالية العولمية وحاميتها الأساسية حتى وقت قريب، له دلالاته الفكرية والسياسية لتجربة فيها الكثير من نقاط الضعف والفشل واللاإنسانية، وبالتالي هي درس عميق للعرب.

والتحليل الاقتصادي العلمي الشديد التفصيل واستنتاجاته المذهلة من جانب الكاتب والمفكر أستاذ الاقتصاد الفرنسي، توماس بيكيتي، في كتابه الشهير «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين»، ونداؤه الأخير المزلزل في كتابه «أوان الاشتراكية» بضرورة أن يحل نظام اشتراكي جديد، تشاركي لا مركزي، فيدرالي ديمقراطي، مُراعٍ للمحافظة على البيئة الطبيعية، ومسانِد لحقوق المرأة ومختلف الأعراق… محل النظام الرأسمالي العولمي النيوليبرالي الذي يحتضر بفعل الأزمات والذي وصل إلى طريق مسدود، خصوصًا بعد انتشار وباء فيروس كورونا، وما أحدثه من تأثيرات سلبية معيشية واقتصادية كثيرة… مثل ذاك التحليل وتلك الاستنتاجات يجب أن نستفيد منها، نحن العرب، بل ننطلق من بعضها. وهناك عشرات آخرون ممن يُغْنُونَ النقاشات ويقدمون المقترحات الصالحة للأخذ وللاستفادة. وبالتالي لن ننطلق من الصفر. كما أن في العالم تجارب بالغة الغنى والدلالات الإنسانية والتوازن القيمي الأخلاقي، من مثل التجارب الاقتصادية الإسكندنافية في الشمال الأوربي وفي بعض بلدان أميركا الجنوبية، والتجربة الصينية المليئة بالعبر. وفي هذه المرة نرجو أن نضيف وننقص ونحلل بوعي عربي ذاتي، ونتجنب التبنيات العمياوات.

الملامح الرئيسة للنظام الاقتصادي العربي المقترح

ذكرنا في المقدمة بعض إشكالات الأنظمة الاقتصادية، في الماضي والحاضر، وهي لتبيان الكثير من مساوئها وطرقها المسدودة وابتعادها من قيم العدالة تحتاج لكتاب كامل. ويستطيع الإنسان أن يعود لعشرات الكتب، والتقارير الدولية الدورية حول التنمية، والمقالات في المجالات الثقافية العربية الرزينة، إن أراد التأكد من وجود ضرورة قصوى للتفتيش عن نظام اقتصادي عربي جديد يواجه تلك الإشكالات، ويبعدنا من أن نكون تحت أية عباءة أو تابعين لأية جهة، ويخرجنا من النظام الاقتصادي الريعي إلى رحاب الاقتصاد الإنتاجي المعرفي.

دعنا أيضًا نؤكد أن النظام الاقتصادي المقترح لا يمكن عزله عن العوامل والجوانب الحياتية المجتمعية العربية الأخرى. فمدى معقوليته، لئلا ينقلب إلى ثرثرة أكاديمية نظرية، ومدى إمكانيات تحققه في الواقع العربي المعقد، سواء على المستوى القطري الوطني أم على المستوى القومي الشامل، مرتبط أشد الارتباط بمقدار نجاحنا في انتقال العرب من التشرذم والخلافات العبثية والصراعات فيما بين بعض أنظمة الحكم الحالية، وبمدى تحقق وجود بناء نظام إقليمي عربي تعاوني تكافلي يسعى نحو نوع مقبول من التوحيد العربي في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن. وهو مرتبط أيضًا بمقدار الخروج من تحت عباءة القوى الاستعمارية المهيمنة على المنطقة وأدوات القوة الصهيونية المتمددة والمخترقة للأوضاع العربية، وهما سيحاربان كل مشروع تنموي يقوي البنية العربية إن لم يواجها بشكل جماعي قومي متلاحم.

وهو مرتبط بوجود حد أدنى من الديمقراطية التي من دونها لا يمكن إزالة، أو حتى إضعاف، أنظمة الفساد، والامتيازات الشللية، والارتهان للخارج، وإدارة المجتمعات بوسائل أمنية استبدادية، وإضعاف لكل مقومات المجتمعات المدنية النشطة لإبعادها من المشاركة في إدارة شؤون البلاد.

وبمعنى آخر، وباختصار شديد، فإن المكونات الست للمشروع النهضوي العربي المتداول منذ عقود عدة، مكونات الوحدة العربية والديمقراطية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية الإنسانية المستديمة والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري، تظهر بصورة جلية أن الحديث عن اقتصاد عربي جديد لا يمكن فصله عن كل مكونات المشروع الأخرى. بل إن بعضًا من المكونات يجب أن يحكم المجال الاقتصادي ليبقيه محكومًا بالقيم والأخلاق والعلاقات الإنسانية الرفيعة.

ضمن كل تلك المعطيات التي ذكرناها يمكن لنا أن نطمئن بوجود إمكانية كبيرة لنجاح النظام الاقتصادي العربي المقترح. وهو نظام يسعى إلى تأمين الاستقرار والتوازن بين قوة سلطة الدولة السياسية، وقوة المصالح والمؤسسات الاقتصادية، يقدمه بعضٌ تحت اسم «الاشتراكية العربية الجديدة». وأبرز ما في هذا المقترح هو الجمع ما بين الكفاءة الاقتصادية في استغلال وإدارة وتنمية الموارد والثروات الوطنية المادية والبشرية، والعدالة الاجتماعية والقيمة الإنسانية في توزيع حصيلة النشاطات الاقتصادية بما يمنع وجود ظواهر من مثل الفقر والبطالة وتمركز الثروات الهائلة في أيدي القلة؛ وذلك من أجل تماسك النسيج الاجتماعي وترسيخ قيم التكافل والمواطنة المتساوية وكل متطلبات الحقوق الإنسانية الرفيعة السامية.

وبالتالي فإنه نظام يأخذ بأفضل ما في الرأسمالية، الكفاءة الاقتصادية المنضبطة، وأفضل ما في الاشتراكية، العدالة الاجتماعية التشاركية الحقوقية. وفي قلبه تفاصيل منهجيات تطبيقه هناك ارتباط شديد بالنظام السياسي الذي سيحكمه ويمنع شططه قائم على رفض الديمقراطية المظهرية المحكومة في الواقع من جانب المصالح والقوى الاقتصادية، وعلى رفض فكرة الدكتاتورية الطبقية في نظام الحكم. إنه مقترح يعيد للسياسة مكانتها التي فقدتها أمام الاقتصاد في العقود الأخيرة لتضبط جموح حرية الأسواق وطمع بعض الأغنياء، وتبني شراكة حقيقية في إدارة الحكم فيما بين القوى العاملة ومؤسساتها السياسية والمدنية والمهنية، وأصحاب رأس المال والثروات الخاصة.

لسنا أمام مقترح تلفيقي أو خيالي، وإنما نحن أمام محاولة جديرة بالتمعن والمناقشة، بعد أن تعبت البشرية من إشكالات الأنظمة الاقتصادية والمالية عبر القرون السابقة.

من شروط الانتقال إلى الديمقراطية

من شروط الانتقال إلى الديمقراطية

في هذه اللحظة الانعطافية من تاريخ أمتنا العربية أصبح موضوع انتقال المجتمعات العربية إلى الديمقراطية مطروحًا باستمرار وبقوة، كشعار في المظاهرات الجماهيرية الحاشدة، وكمطلب في وسائل الإعلام المختلفة، وكموضوع جدالي في شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية العربية. وإذن، فكل الدلائل تشير إلى أنه سيبقى في قمة أولويات الحياة السياسية المستقبلية العربية، ولعقود طويلة قادمة، إلى حين استقراره على حال مقبول وواضح، فكرًا وممارسة.

من هنا الأهمية القصوى لمناقشة كل جوانب موضوع هذا الانتقال من وجهة نظر تاريخ وثقافة وحاجات وأوضاع وخصوصيات وسلوكيات إنسان ومؤسسات المجتمعات العربية، المتشابهة في الكثير، بحيث نتوصل إلى المشترك والذي سينطبق على جميع المجتمعات، أي على الوطن العربي الكبير كله. الموضوع بالطبع كبير ومتشعب، وقد كتبت حوله الكتب ونوقش في مئات المنتديات. في مقالنا سنركز على مناقشة بعض الشروط الواجبة التحقق إذا أريد للانتقال إلى الديمقراطية أن يكون متحققًا بصدق في الواقع، وقابلًا للنمو والتحسن المستمرين، أي ألا يكون مظهريًّا زائفًا وقناعًا يخفي وراءه كل أنواع الاستبداد والظلم.

من الشروط المفصلية إيجاد حل فكري وفقهي للجدل الذي لا ينتهي، والعبثي في بعض الأحيان، حول ثنائية الشورى/ الديمقراطية. فالشورى كما ذكرت في الآيتين الكريمتين «وأمرهم شورى بينهم» و«شاورهم في الأمر» مختلف حول تعريفها اللغوي والفقهي، وحول مدى إلزاميتها، وحول الجهة التكوينية الاجتماعية (أي أهل الحل والعقد) التي تستشار في عصرنا الحاضر، وليس كما كان الأمر في الماضي، وحول موضوع المناداة بنظام ولاية الفقيه المرتبط بها حتى ولو بصورة غير مباشرة، وحول فيما إذا كانت الشورى تنتمي إلى عالم الأخلاق وقيم الفضيلة أم إلى عالم الفكر والتنظيم السياسي.

وحتى اقتراح إيجاد تركيبة ديمقراطية عربية تجمع ما بين مثل الشورى الأخلاقية والقيمية ومثل ومبادئ ومنطلقات وتنظيمات الديمقراطية الغربية (التي أصبحت الآن شبه عالمية) لم يحصل على إجماع، إذ إن ذلك الجمع لن يسلم من وجود إشكاليات فكرية فلسفية وتنظيمية، متخيلة أو واقعية.

هذا الموضوع ينتظر من سينجح في إيجاد مخرج له، لا من خلال إقصاء أحدهما، وإنما من خلال تمازج مثلهما العليا وقراءاتهما الحديثة لخلق تنظيمات ديمقراطية غير متصارعة أو متناقضة، وتأخذ في الحسبان تراث الأمة ومتطلباتها الحضارية العصرية.

الشرط الثاني للانتقال إلى الديمقراطية هو وجود مجتمع مدني، حر ومستقل، سلمي ولكن نضالي، موازٍ لسلطة الدولة وند لها، ديمقراطي في مؤسساته، يؤمن بحرية الفرد من جهة ولكن بأهمية التضامن والتعاطف الاجتماعي مع الآخر، في جو من الالتزام الوطني والأخلاقي والتسامح، من جهة أخرى. إنه مجتمع تعمل فيه مؤسسات الأسرة والمدرسة والثقافة وشتى مؤسسات المجتمع المدني الأخرى على تربية وتعليم وتدريب الفرد منذ طفولته على حمل مسؤوليات والتزامات المواطنة الديمقراطية من جهة، وعلى النضال والتمسك بحقوقها المواطنية من جهة أخرى. بدون هكذا جهد مستمر ومتجدد لن يوجد ديمقراطيون لممارسة ديمقراطية مسؤولة ومحاسبة وغير مسروقة من هذه الجهة أو تلك.

إشكاليات الولاءات الفرعية

إن تحقق هكذا مجتمع مدني يتطلب اقتناع سلطة الدولة العربية، أيًّا يكون نوعها، بعدم حقها وعدم أهليتها لابتلاع مجتمعها المدني/ أو الهيمنة عليه، أو إلحاقه بطوع بنانها. إن ذلك لا يتم إلا من خلال دساتير وقوانين وأنظمة صادرة من سلطة تشريعية مستقلة، ومن خلال سلطة قضائية قادرة على الوقوف في وجه الفساد والظلم والتمييز، ومن خلال تعاضد وتناغم مؤسسات المجتمع المدني، وعلى الأخص السياسية والنقابية منها، للوقوف في وجه كل من يعرقل الانتقال السلمي الصادق إلى الديمقراطية ومجتمعها المدني. ذلك أن أي عجز في المجتمع المدني سيقود حتمًا إلى عجز في التنمية السياسية المؤدية إلى نظام ديمقراطي معقول. وبالطبع ففي قلب بناء ذلك المجتمع المدني حل إشكاليات الولاءات الفرعية، المذهبية الطائفية والقبلية والعشائرية، والحزبية النفعية والشخصنة العمياء، بحيث تهيمن الولاءات الوطنية والقومية العروبية على كل الولاءات الفرعية وتحكمها.

والشرط الثالث للانتقال إلى الديمقراطية يتعلق بالاتفاق على فكر ومنهج اقتصادي يتناغم مع متطلبات الديمقراطية ويعززها، بدلًا من أن يكون مساعدًا على تشويه ممارستها في الواقع. فالديمقراطية ليست موضوعًا سياسيًّا فقط، كما يريد بعضهم أن يحبسها في قفصه، بل هي أيضًا موضوع اقتصادي واجتماعي بامتياز. فالتنمية الإنسانية الشاملة لكل مكونات المجتمع لها تأثير إيجابي في الدمقرطة، والتنمية المشوهة المنحازة لها تأثير سلبي، بل وتدميري، على مصداقية سيرورة الدمقرطة.

من هنا فإن الاقتصاد الريعي، الذي تمارسه كل أقطار الوطن العربي، يؤدي إلى علاقات الزبونية والولاءات النفعية فيما بين سلطة الحكم ومواطنيها. ولذلك ففوائض الاقتصاد الريعي يجب أن تستعمل للانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي والتقني والمعرفي الحديث. ومن المهم ألا يتم ذلك الانتقال عن طريق ومقولات الفكر الاقتصادي الرأسمالي النيوليبرالي المتوحش، الذي يقدم ويعلي متطلبات السوق وتقلباته ومنافساته المجنونة فوق متطلبات دولة الرعاية الاجتماعية والحاجات المعيشية الضرورية للفقراء والمهمشين، ويقلب المجتمعات إلى مجتمعات البقاء للأقوى بدلًا من مجتمعات التضامن والإخاء الإنساني. هنا تأتي الأهمية القصوى للمثل والقيم الدينية والأخلاقية الإنسانية الرفيعة.

قيم التسامح وقبول الآخر

الشرط الرابع للانتقال إلى الديمقراطية هو شرط بالغ الاتساع والتنوع والتعقيد، ولكنه بالغ الأهمية، ونعني به موضوع فكر وسلوكيات وممارسة الثقافة المدنية. وهو بالفعل خليط من الفلسفات والقيم الأخلاقية، والفكر السياسي، وسلوكيات التعامل والتسامح مع الآخر، ونماذج من عادات وتقاليد بنتها قرون التاريخ الممتد للأمة. لكن لكل مكون من تلك الثقافة العقيدية – الفكرية – السلوكية تأثير في بناء أو هدم المجتمع المدني القابل للتعايش مع متطلبات الحياة الديمقراطية.

من إشكالات تلك الثقافة المفصلية هي المكانة الدونية لوجود المرأة العربية في الحياة العامة والتي تضرب مبدأ المساواة في المواطنة في الصميم. ومن إشكالات تلك الثقافة هي أن العديد من القيم السياسية والاجتماعية الضرورية لوجود مجتمع مدني سلمي متعايش لم تترسخ بعد في وجدان وعقل الإنسان العربي. فقيم التسامح وقبول الآخر وحل الخلافات من خلال الحوار، وعادة ممارسة النقد التحليلي الموضوعي العلمي للذات وللآخرين بعيدًا من العصبيات والتزمت والإفراط في تقديس التراث، وفضيلة العمل مع الآخرين كفريق تضامني حواري فيه مكان للأقلية مثلما فيه مكان للأكثرية، والإيمان بأهمية العيش كمواطن وكمثقف وكمسؤول بالالتزام العضوي المسؤول بالانخراط في قضايا الوطن والأمة وحاجات الآخرين الإنسانية، وتقديس الالتزام بالعمل الجاد المنتظم المنتج المنضبط واحترام كل متطلباته السلوكية والأخلاقية … كل ذلك يحتاج أن ينمي وينشر لكي يصبح من العادات المتجذرة المقدرة والمحترمة.

وأخيرًا، لعل أكبر إشكالات هذه الثقافة المدنية تلك الظاهرة التي انتشرت مؤخرًا في كل الأرض العربية، وتهدد مستقبل المجتمعات العربية. إنها ظاهرة الفساد المالي والإداري والذممي والسياسي والقيمي التي تظهر التقارير الدولية المقارنة، سنة بعد سنة، أن كثيرًا من الدول العربية تتصدر قوائمها وفضائحها. والفساد ليس فقط ممارسة اضطرارية متباعدة، وإنما هو جزء من ثقافة مجتمعية تتكون عبر الزمن وتتلون حتى تصبح مرضًا يهدد الدولة والمجتمع على السواء. ولو أردنا إعطاء أمثلة على تمظهرات هذا المرض، خصوصًا في بعض الأقطار العربية، لاحتجنا إلى مجلدات. وهو بالتالي من أشد الأخطار التي ستواجهها محاولات بناء مجتمع مدني قابل لأن ينتقل بيسر ليصبح مجتمعًا مدنيًّا يعتمد المواطنة وسيادة القانون وعدالة الفرص وشفافية الحكم.

تلك كانت بعضًا من شروط ومتطلبات الانتقال إلى نظام ديمقراطي معقول. ومن البديهي أن تحققها سيحتاج إلى تضافر جهود سلطة مؤسسات الدولة مع جهود ونضالات قوى ومؤسسات مجتمعية طليعية. وستكون مسيرة التحقق بالغة الصعوبة والبطء لو استمرت سلطة الدولة العربية القُطرية في ترددها التاريخي، وفشلت في التخلص من شكوكها ومخاوفها تجاه الانتقال، ولو كان تدريجيًّا تراكميًّا سلميًّا، إلى بناء ذاك النظام الديمقراطي المنشود.

عند ذاك ستقع تلك المسؤولية على قوى المجتمع لتحمل تلك المسؤولية وحدها، وهي مهمة قد تحمل الأهوال والمخاطر والانفجارات العنفية غير المتوقعة، كما ظهر جليًّا إبان العشر سنوات الماضية من بعض حراكات وثورات الجماهير العربية في العديد من مدن أقطار الوطن العربي. وفي المقابل ستحتاج قوى المجتمع أن تجري مراجعة لأخطائها التاريخية، وأن تبني ديمقراطيتها الداخلية، وأن تعمل على بناء كتلة أو كتل تاريخية تضم أحزابًا وجمعيات ونقابات ومثقفين مناضلين وتتكلم بخطاب واحد في حوارها مع سلطة أو سلطات الحكم.

لقد أظهرت بعض المسوحات أن أغلبية المواطنين العرب يرون الديمقراطية أفضل أشكال الحكم. إنه تغير ذهني وشعوري وثقافي هائل في مجتمعات عانت قرونًا من الاستبداد. وهو رد حاسم على كل من ادعى عدم قابلية الإنسان العربي للتعايش مع متطلبات الديمقراطية. وهو تأكيد على أن الانتقال إلى الديمقراطية هو استجابة لمطلب جماهيري كاسح عبر الوطن العربي كله.

إقحام التطبيع في صراع وجودي

إقحام التطبيع في صراع وجودي

إذا لم يتعامل الفرد العربي، على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي، مع الموضوع الفلسطيني بنظرة فاحصة شاملة ومن كل الزوايا، فإنه سيرتكب الحماقات، لينتقل بعدها إلى ما هو أدهى وأخطر، إلى مستوى خيانة الأمانة.  ذلك أن في قلب الموضوع الفلسطيني يكمن صراع وجودي بين الحقوق العربية وبين الأباطيل الصهيونية. وهو صراع يأخذ ألف شكل، ويتطور ويتغيَّر مع مرور الزمن، وتتداخل فيه السياسة مع الدين والاقتصاد مع التكنولوجيا والعلم والتاريخ مع الأساطير الملفّقة. النظرة الشاملة لن تكون موضوعية وقادرة على التحدّي والتصدّي للوباء الصهيوني الخطر إذا لم تلتزم بمنطلقات وثوابت فكرية سياسية، وعقيدة نضالية قومية عروبية، وحساسية لأهمية التاريخ والجغرافيا وما يمكن أن يأتي به المستقبل.

المنطلق الأول هو أن كل عربي مسؤول مسؤولية نضالية ملتزمة عمّا يحدث لكل شبر من وطنه العربي الكبير ومصيره، ومن ثم عمّا حدث ويحدث وسيحدث لأرض فلسطين العربية، بوصفها جزءًا من الوطن العربي وأن شعبها جزء من أمة العرب.

المنطلق الثاني هو أن العرب جميعهم، لا الفلسطينيين فقط، يواجهون أيديولوجية صهيونية استعمارية تقوم على ادعاء أساطير دينية تدّعي أن أرض فلسطين هي أرض الميعاد التي منحها ربُّهم الشعبَ اليهوديَّ المختارَ من دون جميع البشر، ومن ثم فإن إخراج الأغراب الفلسطينيين العرب منها هو تلبية لوعد إلهي، وإن اغتصاب فلسطين هو المرحلة الأولى التي يجب أن تقود في يوم ما إلى إقامة مملكة صهيون الممتدة من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق. أي أن المشروع الصهيوني يهدف إلى إخراج العرب من مصر وسوريا وفلسطين ولبنان والأردن من أجل تنفيذ إرادة الرب. وليس بمستغرب أن تلفّق أكاذيب أخرى لتبرر أخذ مزيد من الأرض العربية من جهة، ولتبرر عبودية من يبقى من العرب في تلك المملكة الربانية لسكانها اليهود. وهذا بالطبع سيفصل بصورة نهائية عرب المغرب عن عرب المشرق وينهي أيَّ محاولة مستقبلية لتوحيد أمة العرب في كيان واحد.

المنطلق الثالث هو استيعاب العربي وجود حلم صهيوني ينادي باندماج الكيان الصهيوني في مستقبل ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، بحيث تبنى الحياة الاقتصادية المستقبلية على أساس أن يتولّى اليهود حقلي العلوم والتكنولوجيا، كبشر أذكياء ومبدعين ومكافحين، وأن يقوم العرب فقط بدور التمويل لذلك الاقتصاد من ثرواتهم النفطية، كبشر أغبياء لا يعرفون كيف يتصرّفون بثروة وكأناس كسالى غير قادرين على الإبداع الذي تتطلبه العلوم والتكنولوجيا. هذا تصوُّر قدَّمه الصهيوني بيريز، رئيس الكيان الصهيوني السابق، في كتاب شهير ليقنع العالم بأن اليهود سيبنون نهضة حضارية كبرى في منطقتنا إذا قامت علاقة طبيعية بين الأمتين اليهودية العبقرية والعربية الثرية ولكن المحتاجة لتلك العبقرية.

أخطاء كثيرة

المنطلق الرابع هو أن أخطاءً كثيرة، سواء من جانب الفلسطينيين أو من جانب مختلف الحكومات العربية، قد ارتكبت في الماضي. لكن وقوع الأخطاء لا يبرر الاستسلام للعدو والشعور بالتعب من النضال في سبيل قضية عادلة، سواء من الناحية القومية العربية أو من الناحية الإنسانية القانونية الأخلاقية.

المنطلق الخامس هو أن الصهاينة قد استفادوا من تلك الأخطاء ليصلوا الآن إلى شبه تصفية للقضية الفلسطينية. فهم قد استولوا على ما يقارب التسعين من المئة من أرض فلسطين التاريخية، وأوجدوا واقعًا استيطانيًّا اجتثاثيًّا لأهل فلسطين العرب. وهم يرفضون رجوع اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وبيوتهم ويصرُّون على إبقاء نحو ستة ملايين من الإخوة الفلسطينيين مشرَّدين من دون وطن أو أمل أو حياة شريفة. وهم يعاملون الفلسطينيين الموجودين في فلسطين المحتلة عام 1948م على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، ويتحدثون الآن عن إخراجهم من ذلك الجزء من فلسطين بدعوى الحق في يهودية الكيان المغتصب الذي لا يتحقق بوجود أيِّ فلسطيني عربي في كيانهم المغتصب، فبعد استيلاء اللص على جزء من البيت أصبح يطالب بخروج مالكيه الأصليين إلى بيت آخر، إلى الأردن ولبنان وسوريا على سبيل المثال. فهل بعد وصول الأمر إلى تلك الحالة المأساوية يمكن الحديث عن تفاهم مع اللص واعتراف بسرقته وبتاريخه الأسود، أي خذلان الأخ المظلوم المشرّد وتسجيل البيت المسروق باسم اللّص الصهيوني؟

فإذا أضيف إلى كل ذلك المبدأ الأميركي – الصهيوني القائل بتدمير أي مشروع عربي، عسكري أو تكنولوجي أو وحدوي أو حضاري، إذا اشتم الاثنان، نعم فقط اشتمّا واعتقدا، أنه قد يهدّد الوجود الصهيوني حتى في المستقبل البعيد. من هنا كان تدمير المحاولة الناصرية القومية لتوحيد العرب، والإصرار على إبقاء العرب مجزّئين، وإحراق المفاعل الذرّي العراقي، واحتكار القدرة العسكرية الذريّة من قبل الكيان الصهيوني وحده من دون سائر العرب بلا استثناء. إذا نظر المواطن العربي إلى ذلك الموضوع بشمولية من جهة، وبالتزام قومي عروبي من جهة، وبحساسية إنسانية أخلاقية من جهة ثالثة، سيكتشف لنفسه الخطأ السياسي والوجودي والقومي والتاريخي، الذي وقع فيه المنادون بالتطبيع الانتهازيون والمخدوعون، مع هذا العدو المجرم المتكبّر المخاتل الذي لا يرى في كل خطوة تطبيع، سواء في السياسة أو الأمن أو الثقافة أو السياحة أو الرياضة أو الفن أو في أي حقل مهما كان صغيرًا أو تافهًا، إلّا خطوة قبول واستسلام للواقع الذي يفرضه بفضل حاميته وراعيته، الولايات المتحدة الأميركية، التي لا تراعي في الموضوع الفلسطيني أية أهمية للعدالة وللحقوق التاريخية والإنسانية وللقيم الأخلاقية، وعلى الأخص بعد مجيء رئيسها الجديد المنغمس كليًّا بقلبه وعقله وروحه في الأساطير والأيديولوجية الصهيونية.

الالتزام التضامني القومي

أمام هذا الوضع المأساوي الفلسطيني والعربي، وأمام الأهمية المطلقة لأخذ تلك المنطلقات في الحسبان والتمسُّك بإرادة الالتزام التضامني القومي العربي، يحتاج المواطن العربي إلى التمسُّك التام بكل الآتي، سواء على المستوى الوطني أو المستوى القومي العربي.

فأولًا- الرفض التام لأي قرار تطبيعي مع العدو الصهيوني تأخذه مجموعة صغيرة لأسباب تتعلق بطموحات هذه الجهة أو بمصالح تلك الجماعة، فهذا قرار يهمّ مواطني البلد جميعهم، وبالتالي يجب أن تكون لهم الكلمة العليا، من خلال استفتاء نزيه أو مؤسسات ديمقراطية تمثيلية منتخبة. في المشهد الحالي هناك منادون وممارسون للتطبيع ممّن يخدمون مصالحهم الشخصيّة أو يمارسون الانتهازية السياسية أو الإعلامية للوصول إلى مناصب أو جاه، أو يخدمون جهات استخباراتية صهيونية أو أجنبية لكسر كل مقاومة للوجود الصهيوني أو لغرض التسليم بالأمر الواقع المزري المفروض على الشعب العربي الفلسطيني. كل هؤلاء لا يملكون الشرعية التي تخوّل إليهم اتخاذ قرار مصيري مثل التطبيع.

مسرحية «من مروح ع فلسطين»

ثانيًا- لا يكفي ألا نتطبّع مع هذا الكيان الغاصب، بل نحتاج أن نضغط على الأنظمة السياسية العربية لتفعّل من جديد المقاطعة التامة، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا، لهذا الكيان. آن لنا أن نخجل من أنه في الوقت الذي يذبح فيه الفلسطينيون وتهدم بيوتهم، ويحاصر مليونان منهم في غزة، وتُمنَع ستة ملايين منهم من العودة من المنافي إلى بلادهم فلسطين، يكافئ بعضنا هذا الكيان بالسماح لبضائعه أن تباع في أسواقنا العربية، ولشركاته أن تحصل على مناقصات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولشخصياته السياسية الإجرامية أن تحضر المؤتمرات التي تقام في بلداننا، وللاعبيه في مختلف الأنشطة الرياضية أن يشاركوا في هذه البطولة الرياضية أو تلك. كيف تستطيع أية حكومة عربية أن تتعامل، بأية صورة تطبيعية، مع عدو تقطر أياديه بدماء الشهداء الأبرياء، وتمتلئ سجونه بالشباب والأطفال والنساء، وتجرف جراراته أشجار الزيتون الفلسطينية، ويقوم بسرقة مياه الفلسطينيين؟ بأي مقياس أو تبرير تستطيع مثل تلك الجهات أن تبرّر هذه الألفة المفاجئة مع العدو، وذلك على حساب إخوة لنا في العروبة والدين والجغرافيا؟

ثالثًا- أصبح من غير الممكن قبول وجود علاقات طبيعية وصداقات متينة مع دولة ساندت الكيان الصهيوني بالمال والسلاح والإسناد في الساحات الدولية، وذلك عبر سبعين سنة. فالولايات المتحدة الأميركية، بكل المقاييس السياسية والعسكرية والدينية، هي دولة مساوية للكيان الصهيوني في عداوتها للفلسطينيين وللعرب وانحيازها التام المطلق للاستعمار الصهيوني، ومما يحزّ في النفس هو وجود علاقات شخصية حميمية بين بعض الشخصيات العربية وبين من يجاهرون من بين الأميركيين ليل نهار بصداقتهم الأبدية للكيان الصهيوني، وبتجييش كل الإمكانيات الأميركية لجعل التفوق الصهيوني على العرب حالة دائمة أبدية، وبالقول التام لكل الأساطير الدينية التي تجعل من فلسطين هبة إلهية للشعب اليهودي الآن وإلى الأبد.

الإستراتيجية الحميمة مع أميركا

كيف يمكن القبول بالتعامل الطبيعي، بل الصداقة الإستراتيجية الحميمة، مع أميركا ومؤسساتها وهي التي تعلن ليل نهار أنها لن تسمح أبدًا بأن تكون القوة العسكرية لمجموع الدول العربية مجتمعة مساوية للقوة العسكرية الصهيونية منفردة؟ ويعرف القاصي والداني أن أميركا تزوّد جيش الكيان بأحدث الأسلحة وأفتكها في الوقت الذي تمنعها الجيوشَ العربية. لا أحد يطالب بالدخول في حروب ضدّ أميركا، ولكن أن تعامل كصديق موثوق به وأن يساعدها المال العربي لسدّ عجوزاتها المالية المتراكمة فهذا منتهى الاستخفاف بمصالحنا القومية الكبرى، وعلى رأسها موضوع الصراع العربي الصهيوني الوجودي.

رابعًا- ليس من المقبول ولا من المنطقي زجّ الموضوع الفلسطيني في توازنات العرب مع بعض الدول الإقليمية المنافسة، فالجواب عن تدخلات الدول الإقليمية في الشؤون العربية الداخلية هو في تقوية وحدة العرب التضامنية وتجنّب الصراعات العبثية فيما بين الدول العربية، وليس في الاعتقاد الساذج بأن الكيان الصهيوني يمكن أن ينسى كل أطماعه المجنونة وكل ادعاءاته الدينية من أجل مساعدة العرب ضدّ هذه الدولة الإقليمية أو تلك. مشكلتنا أننا لا نقرأ ما يكتبه الصهاينة ولا نستمع إلى ما يقوله عتاة الصهاينة بشأن الاحتقار التام لكل ما هو عربي وبشأن الأهداف البعيدة المدى للأيديولوجية الصهيونية الاستيطانية التوسعية التي لن تقبل بأقل من الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية التامة على كل بلدان العرب.

خامسًا- إن الواجب هو الدفع الدائم لوقوف كل الأنظمة العربية مع المقاومة الفلسطينية وغير الفلسطينية ضدّ العجرفة الصهيونية وممارساتها العدوانية والاستخباراتية. هناك ألف طريقة وطريقة لدعم الصمود والمقاومة الشعبية في فلسطين المحتلة في وجه قوانين وممارسات صهيونية جائرة ومهمشة واستئصالية.

سادسًا- إن سبعين سنة من الصراع قد أثبتت أن الاتفاقات، مثل اتفاق أوسلو، والمبادرات، مثل المبادرة العربية، لا تقبلها ولا تحترمها السلطات الصهيونية. حتى عندما تقبلها بالاسم فقط فلأن ذلك من أجل ظهور الذئب المجرم في شكل حمل وديع مسالم أمام الرأي العام الدولي. إن المطلوب هو تقديم العرض الإنساني الوحيد المقبول: تعايش العرب المسلمين والمسيحيين مع اليهود غير الصهيونيين في دولة فلسطينية ديمقراطية عربية واحدة تمارس المواطنة المتساوية واحترام كرامة الجميع. وهذا يعني رجوع جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم فلسطين وتوقُّف الهجرات الصهيونية من الخارج التي ليس لها إلّا طبيعة واحدة: الاستعمار والاستيطان واجتثاث العرب من وطنهم التاريخي والحقوقي.

باختصار، ليس موضوع التطبيع بالعملة القابلة للصرف في أسواق النخاسة والمساومات والاستفادات الانتهازية. إنه موضوع له قدسيته وله محدداته وله ثوابته. إنه موضوع يخصّ مستقبل الأمة كلها، ولا غير الأمة كلها.