راهِن الشعر في الخليج العربي

راهِن الشعر في الخليج العربي

جعفر-حسن

جعفر حسن

قبل أن ندخل في النظر إلى راهن الشعر العربي في الخليج، تُرى هل لنا أن نعرج على تساؤل يعبر عن ظاهرة ربما تشمل المشهديات الأدبية في دول الخليج من دون استثناء، وذلك من خلال ما نشهده من تحول بعض الشعراء إلى كتابة نصوص سردية من القصة القصيرة إلى الرواية، ولعل بعض المتابعين يمكن له أن يشاركنا التوجس من تضاؤل دور الشاعر واختزاله في الشاعر النجم، الذي يهيمن حضوره على معظم الاحتفاليات داخل وخارج هذه الدول، ومن ثم بقاء الشعراء في الهامش المتاح.

ولعل من الصعوبات التي تواجه الشاعر في الصحافة الثقافية مثلًا، عدم تخصيص نقاد للنظر إلى النصوص، والاكتفاء بنشر نقد انطباعي، إضافة إلى تلك المشكلات التي تطرأ من ناحية صعوبة طباعة دواوين الشعر؛ فالناشرون عادة ما يفضلون الرواية؛ ذلك لأن لها قابلية للتسلع، فعلى الرغم من كل الضغوط التي تمارس على الشعر فإنه يظل يأبى التحول إلى سلعة، عبر انتشار ما بات يعرف بظاهرة الشعرية الطارئة في الدعاية والإعلام. فهل نحن أمام ظاهرة يمكن ان تهمش الشعر والشعراء؟

الشعرية العربية في الخليج

إن أكثر المقاربات للشعر في الخليج في شكل عام تتعلق باللغة من جهة، وتلك الأشكال التي تظهر فيها الشعرية العربية في الخليج من جهة أخرى. فمن حيث اللغة نجد الشعرية تعاني الانقسام نفسه بين العامية والفصحى، ولعل كثيرًا من النقاد يبعدون العامية من النقد الأدبي، ويمكن تلمس أهميتها في ظهورها من خلال الأشكال الفنية المتعددة، ومنها الشعر تراثًا ومعاصرة، فمعظم أغانينا تكتب بالعاميات السائدة، ولعل التعدد الكامن في اللهجات العامية ميزة خاصة كانت قديمًا مقصورة على القبائل العربية… ويتمظهر الشعر الفصيح في ثلاثة أشكال، وتخضع إلى ذلك التمايز بين الشكل والمضمون، فيغلب المضمونُ الشكلَ في معظم قصائد العمود سوى حالات يمكن لمسها؛ لأن فيها ما يفرضه الإيقاع على ليّ الكلمات؛ لتناسب بنيته، وهو ما ورثته الشعرية العربية من الأصول الغابرة للشعر العربي، وبذلك يظل العمود في معظمه مربوطًا بخيط الأغراض الشعرية. وأقل القليل منه ما حاول الإفلات من محاكاة القديم من ناحية بناء الجملة الشعرية والصور والتشبيهات، والخروج إلى تقنيات جديدة.

وتظهر لنا قصيدة التفعيلة بشكل جليّ في اندفاعة الشعر العربي نحو تفجير بنية العمود، وتلقف مكوناته التي استُخدم بعضها بطريقة تكرار تفعيلة واحدة وعدم الالتزام بالتشطير العمودي، ثم اندفع شعراء التفعيلة إلى تلك الحال التي قامت باستخدام التفاعيل ضمن قوانين الانتقال من تفعيلة إلى أخرى.

ويبدو أن شعر التفعيلة لقي مقاومة في كل البلاد العربية، وقاومه المؤيدون لعمود الشعر في وجه الهبة الجديدة التي كانت بداياتها مع نهاية الستينيات في الخليج العربي، وهي لحظة لاحقة بانبثاق قصيدة التفعيلة في الدول العربية، وقد لا يعتدّ كثيرًا بالآباء المؤسسين لها؛ مثل: (السياب ونازك… وغيرهما) على الرغم من تقديمهم للنماذج الأولى التي صارت تحتذى، وكثيرًا ما اتهمت قصيدة التفعيلة في الخليج كما في الوطن العربي عامة بالغموض، وقد دارت معارك واسعة في هذا الجانب، وأُهدر فيه حبر كثير. ولعل بعضًا اعتقد بنوع من الرابطة المقدسة بين قداسة لغة القرآن (العربية) وبين قصيدة العمود، وكما يبدو للجميع فبعض قصائد العمود كانت غير مقدسة، بل بعضها كان يعبر عن نزق أرعن في وقته، وقد اتهم شعراء قصيدة التفعيلة بالعجز عن كتابة قصيدة العمود وهو ما لم يكن في أغلبه صحيحًا حتى لدينا في الخليج.

وقصيدة التفعيلة عندنا ما زالت تسمى في بعض المناهج بالقصيدة الحديثة، وهي تسمية خاطئة ما زلنا نقع عليها في بعض الكتابات النقدية. ويمكن بشيء من التفطن إدراك أن قصيدة التفعيلة قد ورثت عن العمود مكونًا جوهريًّا من مكوناته هو القافية، وقد وجد بعض النقاد لدينا أنها تعمل على إقفال قصيدة التفعيلة وعودة بعض منتجها للعمود بحكم تلك القافية التي تقفل الصورة التي تنمو داخل قصيدة التفعيلة وتحدها. ولعل كثيرًا ممن كتب التفعيلة كان بشكل ما يكتب العمود ولو بشكل تجريبي. وقد خلط الشعراء في الخليج بين الشكلين في إنتاجهم للدواوين (العمودي والتفعيلة) حتى إنهم أدخلوا العامية في إنتاج قصيدة التفعيلة. وليس عودة بعض المساهمين في كتابة قصيدة التفعيلة إلى العمود كما فعلت (نازك) وغيرها من النماذج عندنا في الخليج إلا دليل كما يرى بعض النقاد على تلك الدائرية الحاكمة للشعرية العربية كما تظهر في قانونها العامّ «القافية»، التي ظلت تشتغل داخل قصيدة التفعيلة؛ لتحيلها إلى العمود من دون تفطن بعض كتابها لخطورة ذلك القانون على القصيدة.

في اتساع الأفق

كثيرًا ما يعتقد بعض المتابعين أن التفعيلة كانت هي الناتج الوحيد من تفتت عمود الشعر، ولعله يغفل قصيدة النثر التي نشأت إلى جوارها بشكل يكاد يكون محايثًا في الخليج كنماذج مبكرة، ولعلنا نجد تيارًا من الشعراء يتبنى قصيدة النثر ويكتب فيها، بينما جرب بعض كبار الشعراء في الخليج كتابتها. وقد خص بعض الأدباء قصيدة النثر بديوان بأكمله. وواجهت قصيدة النثر ما واجهته قصيدة التفعيلة من صراعات عندنا، وقد وُجِّه لها كثير من النقد، وعاب بعض المتخصصين قصيدة النثر لأنها بلا نموذج ترجع إليه، وتبدو مسألة النموذج ما زالت تحت البحث والتقليب، فيقول أنصار قصيدة النثر بأنهم يكتبون نماذجهم التي تفرضها عليهم حساسيتهم، كما أنهم يقفون أيضًا ضد النموذج المعمم.

وتبدو قصيدة النثر أنها أخذت مجالًا لا بأس به من خطوط الإنتاج في الخليج العربي، وإن لم تثر مسألة الأسبقية فيها بعد بحثًا وتمحيصًا، وهي نزعة فكرية عندنا في البحث عن أصول للنصوص الجديدة وكأنها محاولة لتأصيلها. ويبدو ما هو متأصل في الثقافة اليوم سيغدو بحكم الزمن جزءًا أصيلًا منها. ووجدنا بعض الشعراء يكتبون قصيدة النثر منذ بداياتهم التي كانت متساوقة مع انبثاق قصيدة التفعيلة، ومن المهم الإشارة إلى أن كل تلك الأشكال التي انبثقت في فن الشعر قد أظهرت نقادها في العربية بشكل سريع. من ناحية، يبدو لي أن هناك ميلًا دائمًا للتجديد عند شعرائنا في الخليج العربي؛ ما يجعلنا دائمًا ننتظر الجديد. ونعتقد بأن من لا يرى الجديد وهو ينبثق في لحظته الراهنة سيفوته إدراك كنه التغيير الحاصل، ومن ثم سيصرّ على استخدام مقايسته القديمة التي ستحيله إلى الفشل.