رواد فضاء أظل أحلم به

رواد فضاء أظل أحلم به

١

مجرد ذكر كرة القدم كفيل بدفعي إلى أجمل مراحل الصبا والشباب الأول، كما يمنحني الانتشاء الخرافي كالأحلام. ويبقى أن أرتدي قميص الدهشة لكي تتدفق المتعة في جسد لاعبي المفضل ليملأ الملعب بالحركة الرشيقة.  لا أحسد لاعبي كرة القدم، بل أغبطهم على تلك الحيوية الفتية التي يسحبها مني الزمن يومًا بعد يوم. كما أنني لا أرى في دعم لاعبي كرة القدم الكبير مبالغة سياسية على حساب الفنون الأخرى، على العكس، أرى في ذلك حقًّا مكتسبًا يستحقه لاعب كرة القدم، ليس له أن يتنازل عنه. وليس من الحكمة الاستهانة بالموهبة الفذة التي يتميز بها لاعب كرة القدم. أو التقليل من تلك الحقوق.

٢

الحق أن كرة القدم واحدة من الرياضات التي تترك الأدباء والكتاب في آخر الصف يرزحون تحت وطأة أوهام الفن الفاتنة بجدارة المسترخين في حرية الهامش، ولِكُرة القدم أن تدلل لاعبيها بلا وَجَل. لا يبرز لاعب مبدع كل يوم، وهذا ما تفتقده ملاعب العالم في السنوات الأخيرة. فلولا «ميسي» القادم من الأسطورة، لبقينا نستعيد ما قبل مارادونا بحسرة الفقد. فأنا مثلًا لا أرى في مارادونا سوى لاعب سيرك ومهرج أكثر منه فنان كرة قدم.

٣

لم أزل أشعر بأن مشاهدة مباريات كأس العالم أو الدوري الأوربي، متعة نادرة في هذا العالم، الذي بات يخلو من المتع الأخلاقية الحرة.

٤

بوشكاش

حين أستعيد ذاكرتي، مستحضرًا تجربتي مع لاعبي كرة القدم، الذين تَوَلَّعْتُ بهم منذ سنواتي المبكرة، أتذكر «بوشكاش» المجري الأسطورة الذي اشتهر في دوري أوربا وهو يلعب مع ريال مدريد الإسباني، لكن الأهم بالنسبة لي في البحرين، أحببتُ لاعبي فريق المحرق أحمد بن سالمين وخليفة بن سلمان الخليفة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ثم اللاعب علي أبو جريشة نجم فريق الإسماعيلي المصري، الهداف الشهير في السبعينيات، الذي كان بين لاعبي فريقه عندما زار البحرين. والنجم الألماني دمث الأخلاق «رومنغيه» لاعب فريق ميونخ، واللاعب البرازيلي الرشيق «سقراط» المعروف بسقراطوس. تلك هي سلسلة لاعبي كرة القدم المفضلين عندي في مختلف مراحل حياتي.

وأظن أن كل هؤلاء اللاعبين يشتركون في خاصية شهيرة واحدة، هي رشاقة الحركة التي تشدني لمهاراتهم وهي تضاهي السحر، حيث كانوا جميعًا يعبرون عن موهبة خارقة بالتعامل مع الكرة والسيطرة عليها وتحريكها. كما لو أن الكرة مربوطة في أقدامهم بخيط من المطاط. كنت أرى في ذلك ضربًا من الفن الإنساني الذي لا يتكرر من دون موهبة خاصة.

٥

أذكر أنني كنت أذهب وقتها لمشاهدة تدريبات فريق المحرق، على ملعبه الواقع شمال مدرسة الهداية شمال مدينة المحرق، لمشاهدة لاعبيّ المفضلين في أثناء التدريب، وكنت أقف خارج الملعب خلف الهدف، لكي أعيد الكرة إلى الملعب حين تخرج عن الخط.

٦

لكرة القدم سحر خاص لا يتوافر في أية لعبة أخرى، بالنسبة لي على الأقل. ففي كرة القدم، هذه اللعبة خصوصًا، ما يجعل الحياة تستحق وأنت تنتظر بدء المباراة، خصوصًا إذا أخلصت في استبطان ذلك الشعور، بالغ الغموض، منتظرًا استقرار الكرة في شباك الفريق الآخر الذي يتلقى هزيمته بصدر رحب، متشبثًا بأمل دائم في تعويض هذه الهزيمة بذلك الفوز القادم لا محالة. ذلك هو السحر الغامض الذي لا يجوز التفريط فيه.

٧

بالطبع لم أندم لحظةً على كوني كاتبًا أو شاعرًا، هذا هو الدور والخيار الذي يتيح لي الجلوس بحرية في شرفة الجمهور، والتفرج بمتعة على مباريات كرة القدم، ربما يكون ندمي أحيانًا على أنني لم أطور ولعي وعشقي لكرة القدم لكي أكون في الملعب، معهم، بشكل ما، لكن من المؤكد أنني لا أحمل ضغينة أو حسدًا لهم. إنهم رواد فضاء أظل أحلم به فحسب.

دائمًا ـ الآن، شرط الشعرية

دائمًا ـ الآن، شرط الشعرية

ارسطعلى عكس الانطباع المتوارث عن كتاب «الشعر» لأرسطو، فهو، حسب قراءات نقدية جديدة، لم يكن يتحدث سوى عن فن «التمثيل» بوصفه لغة التعبير الأشهر –ديمقراطيًّا- في ذلك الزمان. غير أن الجانب العميق في الأمر، أن مسرح ذلك الزمان هو الآخر، قد نشأ شعرًا، أو شعريًّا بالمعنى الجوهري لهذا المعنى في الثقافة الفنية عبر العصور.

الأرجح أن الكتاب كان يعنى بفنون التعبير (الحكائية). ففي سياق الرؤية النقدية لفنون التعبير في ذلك الزمان، يشكل فن المسرح، بوصفه جنسًا أدبيًّا، أحد أبرز الأنواع المتاحة للإبداع الإنساني في ذلك الوقت. حتى إن كتاب «الشعر»، بالضبط، قد تكلم عن الدراما (التراجيديا)، حسب ما وصل إلينا من مخطوطة الكتاب الأصلية، فيما يقال: إن الجزء المتعلق بالكوميديا صار مفقودًا. ومعلومٌ أن الكوميديا كانت حاضرة، نصوصًا وممارسةً، في زمان الكتاب وصاحبه. بل إن الكوميديا هي أحد أبرز الظواهر النقدية، في المجتمع اليوناني آنذاك، فقد كانت المسرحية الكوميدية تطال بالنقد كافة مشكلات المجتمع، متمتعة بحريات المجتمع الديمقراطي الذي يضربون به المثل في العصور اللاحقة.

يبقى القول بأن الشعرية، الآن، ربما تجاوزت الحدود التقنية التي تحدث عنها كتاب «أرسطو»، ليصبح الشعر، في عصرنا، هو أكثر العناصر الفنية تجسيدًا للأدب أولًا، وفنون التعبير الأخرى عمومًا. وسوف يبدأ التنظير الحديث يرى في شعرية التعبير، بشتى أشكاله، شرطًا، يكاد يكون لازمًا، من أجل أن يتاح للمبدع الفضاء الجمالي الذي يحقق القدر اللازم من النجاح في التعبير.

بالطبع سيساعد هذا الشرط على تمييز الفنون جميعها عن عمومية الفن، ويحميه من الابتذال الذي ستجره إليه نظريات (الواقع) في مراحل تاريخية مختلفة، نحو السطح الثقافي للمجتمع، وتجعله، فيما تجرجره لنقل الواقع وتسجيل الحياة، بمثابة القشرة الخارجية سريعة الانحلال، فيفقد طبيعته الجمالية الحرة، المتصلة بالرؤية المغايرة للواقع وليس الامتثال له. تلك الرؤية التي ترى في الفن نقضًا للواقع وإعادة خلق حرة له.

الشعرية هنا، هي حريات الصدور عن الجمال في الفن، وهذا ما سوف يستعيد اكتشافه منظرون قليلون في الثقافة العربية المعاصرة بتجربتهم في الدرس النقدي، فيما يدركون الدلالات العميقة، في العديد من النصوص، للعلاقة الوشيجة بين فنون التعبير، من دون الامتثال لحصرية نوع على آخر. الأمر الذي سيتيح لنا لاحقًا الكلام عن المفهوم الجوهري العميق والشامل الفنون الجميلة في حياتنا ونصوصنا.

الآن – دائمًا

عند الكلام عن أمرين، يصعب تفادي فكرة غياب الحريات في الواقع العربي، حرية المخيلة للشعر، وحريات التعبير للمسرح.

الآن – دائمًا

سيكون من نافل القول، أن مثل هذه الحريات، لا تمنح مثل هبة من النظام الاجتماعي أو السياسي، إنما هي حقوق لا يتحقق المبدع والإبداع، إلا بممارستها منذ لحظة العمل الأولى.

الآن – دائمًا

هل ثمة ما يمنحنا نتفة من ثقة، بأن (لحظة عملنا) الأولى، قد كانت، أو حانت؟