الفنان الألبانيّ بلومب فوربسي: ســـــــماع القرآن جعلني أعيد صياغة موسيقاي

الفنان الألبانيّ بلومب فوربسي: ســـــــماع القرآن جعلني أعيد صياغة موسيقاي

albane3‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعلم‭ ‬أنني‭ ‬سأكون‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الفنانين‭ ‬والعازفين‭ ‬والملحِّنين‭ ‬الألبان‭ ‬الذي‭ ‬سيحدثني عن ‬‭ ‬تأثير‭ ‬الموسيقا‭ ‬والفن‭ ‬العربيّ‭ ‬في‭ ‬الفنانين‭ ‬الألبان‭ ‬أنفسهم؛‭ ‬إنه‭ ‬الموسيقيّ‭ ‬بَلُومب‭ ‬فُوربسِي، ‭‬وكان صديقي‭ ‬الدكتور‭ ‬رامز‭ ‬زيكاي‭ ‬قد حدثني‭ ‬عن‭ ‬التأثيرات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الألبانية‭ ‬مستشهدًا‭ ‬بالكثير‭ ‬منها؛‭ ‬واسترعى‭ ‬انتباهي‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬تعلُّق‭ ‬الشباب‭ ‬الألبانيّ‭ ‬بالموسيقا‭ ‬العربية‭. ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬حدثتني‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬لطف‭ ‬الرجل‭ ‬ومسايرته‭ ‬لي‭.‬‭ ‬

‭ ‬فقد‭ ‬وصلت‭ ‬منذ‭ ‬بضع‭ ‬ساعات‭ ‬إلى‭ ‬تيرانا‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬عام ‬2013م. ‬أتذكَّر‭ ‬جيدًا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬دار‭ ‬بيننا‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬عربته‭ ‬متجهين‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬عوني‭ ‬رستمي‭ ‬التي‭ ‬تبعد‭ ‬من‭ ‬الساحة‭ ‬المركزية‭ ‬للمدينة‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭ ‬سيرًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬إلى‭ ‬مقرّ‭ ‬المركز‭ ‬الألبانيّ‭ ‬للفكر‭ ‬والحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬سليتا‭ ‬غرب‭ ‬تيرانا،‭ ‬ويرأسه‭ ‬الدكتور‭ ‬زيكاي‭.‬

أول‭ ‬لقاء‭ ‬لي‭ ‬معه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬سولاكو،‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬من‭ ‬تيرانا‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬ساعة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬اللقاء‭ ‬الأخير،‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬اللقاء‭ ‬الأهم‭. ‬كان‭ ‬الموعد‭ ‬قد‭ ‬حدَّده‭ ‬الصديق‭ ‬الدكتور‭ ‬زيكاي،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الحضور‭ ‬السفير‭ ‬مراد‭ ‬شعبان،‭ ‬والأستاذ‭ ‬غنسي‭ ‬آغا‭.‬ كان‭ ‬المكان‭ ‬رائعًا،‭ ‬والمنظر‭ ‬الطبيعيُّ‭ ‬جميلًا،‭ ‬ومن‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬تنزل‭ ‬فيه‭ ‬الأمطار‭ ‬التي‭ ‬تعودتُ‭ ‬رؤيتها‭ ‬بين‭ ‬الظهر‭ ‬والعصر‭ ‬طوال‭ ‬مدة‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬ألبانيا‭.‬ ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬سماع‭ ‬حديث‭ ‬بلومب‭ ‬فوربسي‭ ‬يشغلني‭ ‬عن‭ ‬تأمُّل‭ ‬المناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬المحيطة؛‭ ‬إذ‭ ‬انطلق‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬والموسيقا‭ ‬العربية‭… ‬واضح‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬شديد‭ ‬الانتباه‭ ‬والتعلّق‭ ‬بالموسيقا‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬العربية‭.‬

لم‭ ‬أكن‭ ‬أتوقع‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬والموسيقا‭ ‬بصفتهما‭ ‬لغةً‭ ‬عالميةً،‭ ‬وأداة‭ ‬تقارب‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬والثقافات،‭ ‬لكنه‭ ‬فاجأني‭ ‬بالاسترسال‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬الرُّوحيّ‭ ‬للموسيقا‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬وعن‭ ‬عشقه‭ ‬إياها،‭ ‬ثم‭ ‬احترافها‭.‬ إنها‭ ‬ليست‭ ‬هواية،‭ ‬وليست‭ ‬محض‭ ‬حرفة،‭ ‬إنها‭ ‬قضية‭ ‬والتزام،‭ ‬إنها‭ ‬حياة‭.‬ هكذا‭ ‬كانت‭ ‬كلماته‭ ‬تتوالى‭ ‬وتنساب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬تلميحًا‭ ‬وتصريحًا‭.‬

لم‭ ‬يخبرني‭ ‬الدكتور‭ ‬رامز‭ ‬زيكاي‭ ‬أن‭ ‬ضيفنا‭ ‬فنان‭ ‬عالميّ،‭ ‬وأحد‭ ‬أبرز‭ ‬الوجوه‭ ‬الثقافية‭ ‬الألبانية،‭ ‬لكن‭ ‬بدايات‭ ‬الحديث‭ ‬معه،‭ ‬وملاحظة‭ ‬مدى‭ ‬انتشائه‭ ‬وهو‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬الرُّوحيّ‭ ‬للفن‭ ‬عامةً‭ ‬والموسيقا‭ ‬خاصةً،‭ ‬وعلاقتهما‭ ‬بالتديُّن؛‭ ‬يجعلك‭ ‬تَفطَن‭ ‬إلى‭ ‬أنك‭ ‬أمام‭ ‬رجل‭ ‬مبدع‭ ‬حقًّا‭.‬ وذهب‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬قائلًا‭:‬ «إن‭ ‬الفن‭ ‬والموسيقا‭ ‬كانا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬عوامل‭ ‬الصمود‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬والقهر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الشيوعية»‭.‬

أثار‭ ‬الحديث‭ ‬معه‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬ذهني؛‭ ‬عن‭ ‬شخصيته،‭ ‬وأبعادها‭ ‬الفنية،‭ ‬وعن‭ ‬تاريخ‭ ‬ألبانيا‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬ومدى‭ ‬إسهام‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬صقل‭ ‬شخصيته،‭ ‬وعن‭ ‬رؤيته‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬والموسيقا‭.‬

وأثار‭ ‬اهتمامي ‭-‬أيضًا- ‬تركيزه‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬تأثير‭ ‬أصوله‭ ‬العائلية‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬ملامح‭ ‬هواياته،‭ ‬ومن‭ ‬ثَمَّ‭ ‬إبداعاته‭ ‬الفنية‭.‬


الأصول‭ ‬العائلية‭ ‬والدين‭ ‬والفن

وُلد‭ ‬بلومب‭ ‬فوربسي‭ ‬بمدينة‭ ‬تيرانا‭ ‬عام ‭‬1957م‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬محافِظة،‭ ‬ويقول‭:‬ «كانت‭ ‬والدتي‭ ‬في‭ ‬اللحظات‭ ‬العصيبة‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تُؤذّن‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬خافت؛‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬القيام‭ ‬بالشعائر‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬دكتاتورية‭ ‬الشيوعيين‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الكتمان»‭.‬ وكأني‭ ‬به‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬تعوُّد‭ ‬أذنه‭ ‬سماع‭ ‬الأذان‭ ‬وبداية‭ ‬ميوله‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الفنون‭ ‬الصوتية‭.‬ «والدتي‭ ‬تدعى‭ ‬فاطمة،‭ ‬كانت‭ ‬مدبّرة‭ ‬منزل،‭ ‬وأصلها‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬الكرابيسي‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬خرَّجت‭ ‬أجيالًا‭ ‬من‭ ‬المثقَّفين،‭ ‬والمتخصصين‭ ‬في‭ ‬الرياضيات،‭ ‬وكانوا‭ ‬وطنيين‭ ‬وشيوخًا‭ ‬يشهد‭ ‬بذلك‭ ‬مسـجد‭ ‬الكرابيسيين‭ ‬المبنيّ‭ ‬وسط‭ ‬العاصمة،‭ ‬وكانت‭ ‬أمي‭ ‬ابنة‭ ‬شيخ‭ ‬محترم‭ ‬وإمام‭ ‬مسجد،‭ ‬وهو‭ ‬رمضان‭ ‬الكرابيسي‭ ‬الذي‭ ‬ربَّاني‭ ‬وعلّمني‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭ ‬المبادئ‭ ‬الدينية‭ ‬ولكن‭ ‬خُفية،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬أبدًا‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬تردّدها‭ ‬عن‭ ‬قسوة‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭:‬ «يا‭ ‬لفرحتنا‭ ‬لما‭ ‬تسمعه‭ ‬أذننا،‭ ‬ويا‭ ‬ويلنا‭ ‬لما‭ ‬تراه‭ ‬أعيننا»،‭ ‬كانت‭ ‬تسدي‭ ‬لنا‭ ‬نصائح‭ ‬دينية‭ ‬حكيمة‭ ‬وقديمة،‭ ‬وفي‭ ‬أصعب‭ ‬اللحظات‭ ‬كانت‭ ‬تؤذّن‭ ‬لنا»‭.‬

كانت‭ ‬عائلة‭ ‬والده ‭-‬أيضًا- ‬ذات‭ ‬أصول‭ ‬عريقة‭:‬ «أصل‭ ‬عائلـة‭ ‬أبي‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬فوربسي،‭ ‬وعائلـة‭ ‬أمّي‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬الكرابيسي،‭ ‬وكلتا‭ ‬القبيلتين‭ ‬عاشتْ‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تيرانا،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬العائلات‭ ‬الغنية‭ ‬والأصيلة‭ ‬التي‭ ‬سكنت‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العاصمة،‭ ‬ولعل‭ ‬تاريخ‭ ‬قبيلة‭ ‬فوربسي‭ ‬مرتبط‭ ‬بتاريخ‭ ‬نشـأة‭ ‬هذه‭ ‬المدينة؛‭ ‬ففي‭ ‬شجرة‭ ‬نسب‭ ‬القبيلة‭ ‬ما‭ ‬يدلُّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أحـد‭ ‬أجدادي‭ ‬كان‭ ‬قبل‭ ‬400‭ ‬سنة‭ ‬صديقًا‭ ‬حميمًا‭ ‬لوالي‭ ‬سنجق‭ ‬الأوهر (‬إحدى‭ ‬مدن‭ ‬مقدونيا) ‬المسمى‭ ‬سليمان‭ ‬باشا‭ ‬بارجيني،‭ ‬الذي‭ ‬يُعرف‭ ‬بصفته‭ ‬مؤسّس‭ ‬مدينة‭ ‬تيرانا‭ ‬عام ‭‬۱٦۱٤م،‭ ‬وكان‭ ‬الفوربسيُّون‭ ‬مسلمِين‭ ‬ديّنين،‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬التجارة‭ ‬والزراعة‭ ‬وتربية‭ ‬الماشية،‭ ‬والصناعات‭ ‬المختلفة؛‭ ‬مثل‭:‬ صناعة‭ ‬الأواني،‭ ‬والسيراميك،‭ ‬والمجوهرات،‭ ‬وصياغة‭ ‬الذهب،‭ ‬والموسيقا،‭ ‬والرسم،‭ ‬وتعليم‭ ‬الرقص،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭.‬ وكان‭ ‬أبي (‬رجب) ‬حائكًا»‭.‬

السيمفونية‭ ‬تهبني‭ ‬أجنحة

«كان‭ ‬حلمي‭ ‬الأول‭ ‬أن‭ ‬أُصبح‭ ‬عازف‭ ‬بيانو،‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬قُدتُ‭ ‬بنجاح‭ ‬أول‭ ‬حفلة‭ ‬أمام‭ ‬الجمهور؛‭ ‬إذ‭ ‬درست‭ ‬بحماس‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة‭.‬ وقد‭ ‬ترك‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬أثرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬حضوري‭ ‬فلمين‭ ‬عن‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬الملحِّنين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر؛‭ ‬هما‭: ‬فريدريك‭ ‬شوبان،‭ ‬وفرانز‭ ‬ليست،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬توقف‭ ‬في‭ ‬ذروته؛‭ ‬بسبب‭ ‬إصابتي‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬اليمنى‭ ‬بمرض‭ ‬مهنيّ‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬العمل،‭ ‬وهوتشدّ‭ ‬عضليّ‭ ‬أجبرني‭ ‬على‭ ‬التوقف‭ ‬عن‭ ‬عزف‭ ‬البيانو‭.‬ بعد‭ ‬مرور‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬من‭ ‬الإحباط‭ ‬بدأت‭ ‬تدريجيًّا‭ ‬أشعر‭ ‬برغبة‭ ‬داخلية‭ ‬متنامية‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬الموسيقا‭.‬ هذا‭ ‬الشعور‭ ‬يمثل‭ ‬بداية‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تردُّد‭ ‬بذلت‭ ‬قصارى‭ ‬جهدي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صرت‭ ‬ملحنًا‭ ‬للموسيقا‭ ‬السيمفونية‭.‬ وأُلهِمتُ‭ ‬كتابة‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الموسيقا؛‭ ‬لشدة‭ ‬تأثيرها‭ ‬في‭ ‬الرُّوح،‭ ‬وانتشارها،‭ ‬فهي‭ ‬تحتلّ‭ ‬الوجود‭ ‬كله،‭ ‬وتهبني‭ ‬«أجنحة‭ ‬للتحليق‭ ‬عاليًا»‭.‬ أتفق‭ ‬تمامًا‭ ‬مع‭ ‬المقولة‭ ‬المعروفة؛‭ ‬أن‭ ‬الملحن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬الموسيقا،‭ ‬إنما‭ ‬الملحن‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬التوقف‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬الموسيقا‭.‬

 

حب‭ ‬الموسيقا‭ ‬من‭ ‬الطفولة‭ ‬إلى‭ ‬التخصص

أشار‭ ‬في‭ ‬كلامه‭ ‬كثيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬مُولَع‭ ‬بالموسيقا‭ ‬منذ‭ ‬صغره،‭ ‬وأن‭ ‬مراحل‭ ‬تعليمه‭ ‬كلها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬الفنون‭ ‬الموسيقية،‭ ‬وذكر‭ ‬أن‭ ‬والده‭ ‬أخبره‭ ‬كثيرًا‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬والرابعة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬كان‭ ‬والده‭ ‬يسمعه‭ ‬يغني‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭ ‬وهو‭ ‬يمشي‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭.‬ ثم‭ ‬وجَّهتْه‭ ‬والدتُه‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬السابعة‭ ‬لتعلُّم‭ ‬البيانو‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرتادها‭ ‬أخوه‭ ‬كويتيم‭ ‬فوربسي،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬العازفين‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬الكمان‭ ‬في‭ ‬ألبانيا،‭ ‬ويعمل ‭-‬أيضًا- ‬مديرًا‭ ‬فنيًّا‭ ‬بالمسرح‭ ‬القوميّ‭ ‬للأوبرا‭ ‬والباليه‭ ‬في‭ ‬تيرانا‭.‬ وهكذا‭ ‬انطلقت‭ ‬مسيرته‭ ‬مع‭ ‬الموسيقا‭:‬ «بدأتُ‭ ‬أتعلُّم‭ ‬البيانو‭ ‬منذ‭ ‬الطفـولة‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الإعدادية‭ ‬الموسيقية‭ ‬المسمَّاة‭ ‬ثروت‭ ‬ماتسي،‭ ‬ثم‭ ‬شرعتُ‭ ‬أدرس‭ ‬الدراسة‭ ‬النظرية‭ ‬للموسيقا‭ ‬بالمعهد‭ ‬الفنيّ‭ ‬المسمى‭ ‬يوردان‭ ‬ميسيا‭ ‬في‭ ‬تيرانا،‭ ‬أمَّا‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬فقد‭ ‬أنهيته‭ ‬بتقدير‭ ‬ممتاز‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التلحين‭ ‬الموسيقيّ‭ ‬بالمعهد‭ ‬العالي‭ ‬للفنون‭ ‬الذي‭ ‬يسمَّى‭ ‬اليوم‭ ‬جامعة‭ ‬الفنون‭ ‬بالعاصمة،‭ ‬وتخرَّجت‭ ‬عام ‭‬۱٩٨۱م‭ ‬بلقب‭ ‬ملحّن،‭ ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬عُيّنتُ‭ ‬مدرّسًا‭ ‬للموسيقا‭ ‬الشعبية‭ ‬بمعهد‭ ‬الفنون،‭ ‬ثم‭ ‬عميدًا‭ ‬خارجيًّا‭ ‬بالمعهد‭ ‬العالي‭ ‬للفنون»‭.‬

albane1ويمضي‭ ‬قائلًا‭:‬ «وكما‭ ‬ترى،‭ ‬فمنذ‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب‭ ‬كانت‭ ‬الموسيقا‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬العامل‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬شخصيتي،‭ ‬لكن‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬عوامل‭ ‬أخرى؛‭ ‬مثل‭:‬ العامل‭ ‬التربويّ‭ ‬المباشر‭ ‬للمجتمع،‭ ‬ومجموعة‭ ‬الرسائل‭ ‬الواردة‭ ‬من‭ ‬الوسط‭ ‬الاجتماعيّ‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬بالحياة،‭ ‬والفنون‭ ‬الأخرى،‭ ‬والتاريخ‭ ‬الثقافيّ‭ ‬بشكلٍ‭ ‬عامّ،‭ ‬أسهمت‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬تحفيز‭ ‬النزعة‭ ‬الفنية‭ ‬لديَّ‭ ‬وتعميقها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬النشاطات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الأخـرى‭.‬ وقد‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬شبابي‭ ‬ألتقي‭ ‬شخصياتٍ‭ ‬مشهورةً‭ ‬في‭ ‬مجالاتٍ‭ ‬مختلفةٍ؛‭ ‬من‭ ‬فنانين،‭ ‬ونحَّاتين،‭ ‬وكُتَّاب،‭ ‬ومهندسين‭ ‬معماريين،‭ ‬وناقدين،‭ ‬ومؤرّخين،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وكنت‭ ‬أشاركهم‭ ‬في‭ ‬الحوارات‭ ‬والمناقشات‭ ‬والنشاطات‭ ‬المختلفة،‭ ‬وبخاصة‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بالفن،‭ ‬والثقافة،‭ ‬والعادات،‭ ‬والتاريخ،‭ ‬وقد‭ ‬أفدتُ‭ ‬منهم‭ ‬كثيرًا؛‭ ‬حتى‭ ‬أثّروا‭ ‬في‭ ‬تأسيسي‭ ‬الثقافيّ‭.‬ وأذكر‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬ينادونني‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بلقب‭ ‬«الشيخ»؛‭ ‬لأن‭ ‬أغلبية‭ ‬المثقَّفين‭ ‬الذين‭ ‬كنت‭ ‬أصاحبهم‭ ‬كانوا‭ ‬أكبر‭ ‬مني‭ ‬سنًّا،‭ ‬وكنت‭ ‬أناقشهم‭ ‬أحيانًا‭ ‬وكأنني‭ ‬نِدٌّ‭ ‬لهم،‭ ‬وقـد‭ ‬كنت‭ ‬أحبُّهم‭ ‬وكانوا‭ ‬يحبُّونني‭ ‬كثيرًا»‭.‬

albane2اكتشافه‭ ‬الترتيل‭ ‬القرآنيّ‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬

يتطرق‭ ‬بلومب‭ ‬إلى‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬اكتشف‭ ‬فيه‭ ‬الترتيل‭ ‬القرآنيّ‭ ‬عام ‭‬1990م،‭ ‬ويوضّح‭ ‬أثر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬أفكاره‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬والموسيقا‭:‬ «سأُحدّثكم‭ ‬بدايـةً‭ ‬عن‭ ‬أجمل‭ ‬حدثٍ‭ ‬وأهمّه‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬بصفتي‭ ‬موسيقيًّا‭ ‬مسلمًا،‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬موسيقاي‭ ‬بصورة‭ ‬رائعةٍ،‭ ‬وأعني‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬سمعت‭ ‬فيه‭ ‬أول‭ ‬مرَّةٍ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬يتلوه‭ ‬قارئ‭ ‬عربيٌّ،‭ ‬في‭ ‬مسـجد‭ ‬أدهم‭ ‬بك‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬تيرانا،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬الانفتاح‭ ‬والحرية‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬ألبانيا،‭ ‬فقد‭ ‬أدهشتني‭ ‬قراءة‭ ‬القرآن‭ ‬فعلًا‭.‬ كنت‭ ‬جالسًا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬زوايا‭ ‬المسجد،‭ ‬عشت‭ ‬شعور‭ ‬الفرح‭ ‬والراحة‭ ‬النفسية؛‭ ‬إنّه‭ ‬جمالٌ‭ ‬موسيقيٌّ‭ ‬غير‭ ‬مسبوقٍ،‭ ‬وشعرت‭ ‬بالنعمـة‭ ‬والرحمـة‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬قـوةٍ‭ ‬عظيمةٍ؛‭ ‬إنّه‭ ‬كلامٌ‭ ‬وأنغامٌ‭ ‬ينساب‭ ‬متناسقًا‭ ‬ومتناغمًا‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬رائعةٍ‭ ‬وألوانٍ‭ ‬غنيةٍ،‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬إلى‭ ‬الأعلى؛‭ ‬انتابني‭ ‬إحساس‭ ‬بجمال‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبلُ،‭ ‬لقد‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬مندهشًا‭ ‬ومرهقًا‭ ‬قليلًا‭ ‬بعـد‭ ‬الذي‭ ‬سمعته‭.‬ قد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أتقن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬ومن‭ ‬ثَمَّ‭ ‬تاقت‭ ‬أحاسيسي‭ ‬كلُّها‭ ‬إلى‭ ‬الجانبين‭ ‬الجماليّ‭ ‬والصوتيّ‭ ‬في‭ ‬الترتيل‭.‬ وأحمد‭ ‬الله ‭-‬جلّ‭ ‬شأنه- ‬الذي‭ ‬جعلني‭ ‬مسلمًا‭ ‬وموسيقيًّا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬حدث‭ ‬لي‭ ‬تغييرٌ‭ ‬جـذريٌّ‭ ‬في‭ ‬تذوُّق‭ ‬الجمـال‭ ‬الموسيقيّ»‭.‬

فلسفة‭ ‬الفن‭ ‬والتعبُّد

إن‭ ‬تعلُّم‭ ‬التجـويد‭ ‬القرآنيّ‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬جهدٍ‭ ‬كبيرٍ؛‭ ‬لما‭ ‬يقتضيه‭ ‬من‭ ‬إتقان‭ ‬مخارج‭ ‬الحروف‭ ‬وقواعد‭ ‬التجويد‭.‬ والإلهيَّات‭ ‬هي‭ ‬عباداتٌ‭ ‬قصائدية‭ ‬موسيقية،‭ ‬ومدحٌ‭ ‬لرسوله‭ ‬محمدٍ‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم؛‭ ‬لذلك‭ ‬فهي‭ ‬تتوافق‭ ‬مع‭ ‬هـدف‭ ‬الخلق‭ ‬ووجود‭ ‬كل‭ ‬شيءٍ،‭ ‬وقد‭ ‬بَيَّنَ‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬أنه‭ ‬خلق‭ ‬البشر‭ ‬ليعبدوه،‭ ‬وهـذه‭ ‬العبادة‭ ‬هي‭ ‬المعنى‭ ‬الحقيقيّ‭ ‬لوجود‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة؛‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬موضوع‭ ‬العبادة‭ ‬نزعة‭ ‬طبيعيةٌ‭ ‬لكلّ‭ ‬فنّ،‭ ‬وتحقيقها‭ ‬يَهَبُ‭ ‬الفنَّ‭ ‬المعنى‭ ‬الجماليَّ‭ ‬والقيمة‭ ‬التربوية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأزمنة‭.‬ وإن‭ ‬الفنانين‭ ‬الحقيقيين‭ ‬هم‭ ‬مؤمنون،‭ ‬ووفق‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬يصير‭ ‬القرآن‭ ‬وتجويده‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬الفنون‭ ‬الروحية‭ ‬وأعلاها‭ ‬وأروعها‭ ‬وأعظمها‭.‬

يستخدم‭ ‬بلومب‭ ‬فوربسي‭ ‬لفظة‭ ‬«إلهيات»‭ ‬للدَّلالة‭ ‬على‭ ‬القصائد‭ ‬والأناشيد‭ ‬الدينية،‭ ‬سواءٌ‭ ‬أكانت‭ ‬مصحوبةً‭ ‬بإيقاع‭ ‬موسيقيّ‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬دونه‭:‬ «كلُّ‭ ‬أُمَّة‭ ‬مسلمة‭ ‬كتبتْ‭ ‬«إلهيَّاتها» ‭)‬القصائد‭ ‬الدينية) ‬حَسَبَ‭ ‬ثقافتها‭ ‬ولغتها‭ ‬وموسيقاها،‭ ‬ولحَّن‭ ‬الألبان‭ ‬«إلهيَّات»‭ ‬كثيرة‭ ‬وجميلة؛‭ ‬مثل‭ ‬التي‭ ‬تُنشَد‭ ‬في‭ ‬الموالد‭ ‬والمناسبات‭ ‬وعيدَيِ‭ ‬الفطر‭ ‬والأضحى،‭ ‬ومن‭ ‬أجملها‭ ‬في‭ ‬ألبانيا‭ ‬الكتابات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬للملحنين‭ ‬الألبان‭ ‬والأتراك‭ ‬والعرب‭ ‬المشهورين؛‭ ‬مثل‭:‬ تأليف‭ ‬فوكالو‭ ‬سيمفونيك‭ ‬البليغ‭ ‬للشاعر‭ ‬يونس‭ ‬إيمرا‭ ‬Junus Emre‭ ‬(شاعر‭ ‬تركي‭ ‬صوفي،‭ ‬توفي‭ ‬عام ‭‬1321م) ‬للملحن‭ ‬والمؤلف‭ ‬الموسيقيّ‭ ‬عدنان‭ ‬سايكون‭ ‬Adnan Saygun‭ ‬ (تركيا،‭ ‬توفي‭ ‬عام ‭‬1991م)، ‬وبفضل‭ ‬قسمٍ‭ ‬من‭ ‬ألحانهم‭ ‬وألحان‭ ‬بعض‭ ‬المؤلِّفـين‭ ‬الآخرين،‭ ‬فكّرت‭ ‬وأنجزت‭ ‬بنجاحٍ‭ ‬في‭ ‬إبريل ‭‬٢۰۰٩م‭ ‬احتفالًا‭ ‬رسميًّا‭ ‬بقصائدَ‭ ‬دينيةٍ‭ ‬كلاسيكيةٍ‭ ‬مهداة‭ ‬إلى‭ ‬النبيّ‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬الذي‭ ‬نظَّمته‭ ‬المشيخة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الألبانية،‭ ‬باشتراك‭ ‬الفرقة‭ ‬السيمفونية‭ ‬والجـوقة‭ ‬والعازفين‭ ‬المنفردين‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬الإيطالي‭ ‬فيتو‭ ‬كلمندا‭ ‬Vito Clemente‭ ‬وبحضور‭ ‬حشد‭ ‬من‭ ‬الجمهور‭.‬

albane6الموسيقا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الإلحاد‭ ‬الشيوعيّ

«رُوحيًّا‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬عميق‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعيّ‭ ‬المتدهور‭ ‬آنذاك،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحارب‭ ‬الإنسان»،‭ ‬يقول‭ ‬بلومب‭:‬ «كنت‭ ‬أتَّخذه‭ ‬عدوًّا،‭ ‬وأكره‭ ‬الإلحاد‭ ‬والنفاق‭ ‬والكلمات‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تخالف‭ ‬الواقع‭ ‬القبيح،‭ ‬وكرهت‭ ‬الشيوعية‭ ‬والعزلة،‭ ‬والرقابة‭ ‬المتوحشة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬لقد‭ ‬كنت‭ ‬ضد‭ ‬الخنوع‭ ‬وانتهاك‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭.‬ الحمد‭ ‬لله‭ ‬نجوت‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬بفضل‭ ‬تربيتي‭ ‬الدينية‭ ‬والمدنية‭ ‬المستفادة‭ ‬من‭ ‬عائلتي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬المبكرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يغذّيها‭ ‬والدي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬المُثل‭ ‬العليا‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬كانت ‭-‬بوعي‭ ‬مني‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وعي‭-‬ إلهامًا‭ ‬إلهيًّا‭ ‬يهبني‭ ‬أجنحة‭ ‬القوة‭ ‬لتعزيز‭ ‬أفضل‭ ‬القيم‭ ‬الممكنة،‭ ‬ويساعدني‭ ‬على‭ ‬السموّ‭ ‬فوق‭ ‬الواقع‭ ‬القمعيّ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

albane4لقد‭ ‬اجتنبت‭ ‬في‭ ‬عملي‭ ‬الأعمال‭ ‬المسيَّسة،‭ ‬والموضوعات‭ ‬الموسيقية‭ ‬وَفْق‭ ‬الدعاية‭ ‬الشيوعية،‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬معاييرها ‭-‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬الأعمّ‭-‬ على‭ ‬الفنانين‭. ‬وشاركت‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬تاريخية‭ ‬وملاحم‭ ‬أسطورية، توما‭ ‬أثمرته‭ ‬تقاليد‭ ‬شعبنا‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬وعارضت‭ ‬الواقع‭ ‬المرير،‭ ‬وبهذه‭ ‬الأساليب‭ ‬أعربتُ‭ ‬عن‭ ‬احتجاجي‭ ‬الداخليّ‭ ‬ضد‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعيّ‭.‬

بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬الشيوعيّ‭ ‬في‭ ‬ألبانيا‭ ‬تحوَّل‭ ‬الفنان‭ ‬الموسيقيّ‭ ‬بلومب‭ ‬فوربسي‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬ألبانية‭ ‬محلية‭ ‬إلى‭ ‬فنان‭ ‬عالميّ‭:‬ «زُرت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬الشيوعية‭ ‬في‭ ‬بلادنا؛‭ ‬منها‭:‬ إيطاليا،‭ ‬وألمانيا،‭ ‬وأميركا،‭ ‬وتركيا،‭ ‬وفرنسا،‭ ‬والمملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الدول‭.‬ وجاءت‭ ‬الزيارات‭ ‬معظمها‭ ‬نتيجة‭ ‬دعوات‭ ‬فردية‭ ‬تلقيتها،‭ ‬ففي‭ ‬ألمانيا‭ ‬دعاني‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬صديق‭ ‬لي،‭ ‬وهو‭ ‬ملحن‭ ‬بمتحف‭ ‬يوهانس‭ ‬برامز،‭ ‬إلى‭ ‬إلقاء‭ ‬محاضرة‭ ‬عن‭ ‬الموسيقا‭ ‬الألبانية،‭ ‬بصفتي‭ ‬الممثل‭ ‬الرسميّ‭ ‬للفن‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬تعليميّ‭ ‬للموسيقا‭ ‬الألبانية‭ ‬الألمانية‭ ‬المشتركة،‭ ‬وشاركت‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬المهرجانات‭ ‬الشعبية‭ ‬الدولية‭ ‬بصفتي‭ ‬المدير‭ ‬الفني‭ ‬للفرقة‭ ‬الشعبية‭ ‬الألبانية‭ ‬«تيرانا»،‭ ‬وشاركت‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ )‬ستراسبورغ‭(‬ بصفتي‭ ‬الممثل‭ ‬الرسميّ‭ ‬لجامعة‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬الأعلى‭ ‬للدراسات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬وشاركت‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬أنشطة‭ ‬فنية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وكنت‭ ‬مديرًا‭ ‬لمشروع‭ ‬موسيقيّ‭ ‬مهمّ‭ ‬مشترك‭ ‬بين‭ ‬ألبانيا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬وأسَّست‭ ‬أوركسترا‭ ‬الشباب‭ ‬الألبانية‭ ‬بتشكيل‭ ‬رفيع‭ ‬المستوى؛‭ ‬التي‭ ‬رُشّحت‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬أوركسترا‭ ‬الشباب‭ ‬بالاتحاد‭ ‬الأوربيّ‭ ‬EFNYO‬.

وقمت‭ ‬بعدة‭ ‬زيارات‭ ‬إلى‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية ‭-‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬والمدينة‭ ‬المنورة؛‭ ‬إذ‭ ‬حججتُ‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬واعتمرت‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الأنشطة‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬قمتُ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬ألبانيا‭ ‬وأوربا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬سعي‭ ‬ألبانيا‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي»‭.‬

تحدَّث‭ ‬بلومب‭ ‬فوربسي‭ ‬عن‭ ‬أعماله‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬البلقان،‭ ‬وعن‭ ‬تصوره‭ ‬دَور‭ ‬الموسيقا‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬السلام‭ ‬والتقريب‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬والثقافات‭.‬ وأكَّد‭ ‬أنه‭ ‬يمارس‭ ‬عملًا‭ ‬دَعَويًّا،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬دعوة‭ ‬زملائه‭ ‬الغربيين‭ ‬إلى‭ ‬سماع‭ ‬القرن‭ ‬الكريم‭ ‬مرتَّلًا‭. ‬وأسهم‭ ‬مع‭ ‬المثقفين‭ ‬الألبان‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬نظام‭ ‬المشيخة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬الرسمية‭ ‬والمسلمين‭ ‬ويشرف‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬شؤونهم‭ ‬الدينية‭. ‬