المثقفون يخرجون من بروجهم العاجية ويسائلون مبادئ الثورة الفرنسية

المثقفون يخرجون من بروجهم العاجية ويسائلون مبادئ الثورة الفرنسية

محمد-المزديويليس‭ ‬من‭ ‬المبالغة‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬الاعتداءات‭ ‬الإرهابية‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬العاصمة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬في‭ ‬شهري‭ ‬يناير‭ ‬ونوفمبر‭ ‬عام‭ ‬2015م،‭ ‬خلخلت‭ ‬المجتمع‭ ‬والفكر‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬السياسة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وليس‭ ‬معنى‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬كان‭ ‬مثاليًّا،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬مكوناته‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬وئام‭ ‬كامل،‭ ‬فالتعددية‭ ‬الثقافية‭ (‬الفلسفة‭ ‬التي‭ ‬يدافع‭ ‬عنها‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربيّ‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الإنسانيين‭ ‬الفرنسيين‭)‬كانت‭ ‬محلّ‭ ‬انتقاد‭ ‬شديد‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬فرنسا‭ ‬الخالدة،‭ ‬أو‭ ‬فرنسا‭ ‬‮«‬البيضاء‭ ‬ذات‭ ‬التراث‭ ‬اليهوديّ‭- ‬المسيحيّ‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬تجرَّأت‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬ذلك،‭ ‬قبل‭ ‬أشهر،‭ ‬النائبة‭ ‬نادين‭ ‬مورانو،‭ ‬من‭ ‬حزب‭ ‬الجمهوريين‭ ‬اليميني،‭ ‬وليست‭ ‬هذه‭ ‬النائبةُ‭ ‬التي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تَصِمُ‭ ‬العربَ‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬تصريحاتها‭ ‬المتكررة،‭ ‬ثم‭ ‬تكرِّر‭ ‬لازمَتَها‭ ‬المُملَّة‭: ‬‮«‬لستُ‭ ‬ضد‭ ‬العرب،‭ ‬والدليل‭ ‬أن‭ ‬لي‭ ‬صديقة‭ ‬حميمة‭ ‬من‭ ‬تشاد‮»‬‭ ‬الوحيدةَ‭ ‬في‭ ‬المشهد،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬القول‭ ‬العنصريَّ‭ ‬بدأ‭ ‬يتحرَّر‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬كثيرٌ‭ ‬من‭ ‬الكُتاب‭ ‬والمفكرين‭ ‬والصحفيين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬يجدون‭ ‬حَرجًا‭ ‬من‭ ‬التفوه‭ ‬بكلمات‭ ‬تصدم‭ ‬الأقليات‭ ‬والجماعات،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬مسلمي‭ ‬فرنسا‭ ‬أو‭ ‬الجالية‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬فيها،‭ ‬ثم‭ ‬يُشهرون‭ ‬سيف‭ ‬أننا‭ ‬‮«‬نتحدث‭ ‬بلغة‭ ‬الشعب‭ ‬الفرنسيّ‮»‬‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬إيريك‭ ‬زمور‭ ‬الصحافي‭ ‬الفرنسيّ،‭ ‬ذي‭ ‬الأصول‭ ‬اليهودية‭ ‬الجزائرية‭: ‬‮«‬الانتحار‭ ‬الفرنسي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬نجاحًا‭ ‬منقطع‭ ‬النظير،‭ ‬ويلخص‭ ‬فيه‭ ‬مقولاتٍ‭ ‬وأفكارًا‭ ‬عنصريةً؛‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬أن‭ ‬‮«‬فرنسا‭ ‬تتعرض‭ ‬للأسلمة‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬الإسلام‭ ‬والإسلاموية‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬والجمهورية‭ ‬لا‭ ‬يتواءمان‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬يتَعَارَض‭ ‬بشدة‭ ‬مع‭ ‬العلمانية‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬القرآن‭ ‬كتاب‭ ‬عنف‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬خلاصات‭ ‬وحلول؛‭ ‬من‭ ‬بينها‭: ‬‮«‬تغيير‭ ‬المسلمين‭ ‬أسماءهم،‭ ‬ثم‭ ‬ذوبانهم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسيّ،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬اليهود‭ ‬من‭ ‬قبلهم،‭ ‬أو‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬ترحيل‭ ‬العرب‭ ‬المسلمين‮»‬‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬إيريك‭ ‬زمور‭ ‬لا‭ ‬يزعم‭ ‬أنه‭ ‬مفكّر،‭ ‬ويكتفي‭ ‬بدور‭ ‬الصحافي‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬لوفيغارو‭ (‬اليمينية‭ ‬والصهيونية،‭ ‬وممولها‭ ‬هو‭ ‬داسو،‭ ‬صاحب‭ ‬الطائرة‭ ‬الحربية‭ ‬الفرنسية‭ ‬المشهورة‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬ثمة‭ ‬مفكرًا‭ ‬آخر،‭ ‬هو‭ ‬ألان‭ ‬فينكلكروت،‭ ‬الذي‭ ‬دعته‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الفرنسية‭ (‬مُجمَّع‭ ‬الخالدين‭ ‬الذي‭ ‬استقبل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬شخصيات‭ ‬كثيرة؛‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬الراحل‭ ‬سيدار‭ ‬سنغور،‭ ‬والجزائرية‭ ‬الراحلة‭ ‬آسيا‭ ‬جبار،‭ ‬والمُثقف‭ ‬اللامع‭ ‬أمين‭ ‬معلوف‭) ‬للأسف،‭ ‬وهو‭ ‬يقطر‭ ‬حقدًا‭ ‬وعنصريةً‭ ‬ضدّ‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬والأجانب‭. ‬وقبل‭ ‬سنوات،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الفرنسيون‭ ‬يبتهجون‭ ‬بالفوز‭ ‬بكأس‭ ‬العالم‭ ‬لكرة‭ ‬القدم،‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تاريخهم،‭ ‬كان‭ ‬فينكلكروت‭ ‬يسخر،‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬صحيفة‭ ‬هآرتس‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬من‭ ‬تركيبة‭ ‬الفريق‭ ‬الفرنسي،‭ ‬التي‭ ‬تضمُّ‭ ‬عربًا‭ ‬وسودًا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬البِيض،‭ ‬والطريف‭ ‬أن‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬‮«‬البِيض»؛‭ ‬جعل‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الحالي‭ ‬مانويل‭ ‬فالس،‭ ‬وكان‭ ‬وقتها‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬نائبًا‭ ‬وعمدة‭ ‬لمدينة‭ ‬إيفري،‭ ‬بالضاحية‭ ‬الباريسية،‭ ‬‮«‬يتأسف‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الأسواق‭ ‬باعة‭ ‬عربًا‭ ‬وسودًا،‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬البِيض‭. ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬المفكرين‭ ‬الذين‭ ‬يعرفون‭ ‬كيف‭ ‬يستخدمون‭ ‬الميديا‭ ‬برنار‭ ‬هنري‭ ‬ليفي،‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬المستضعفين‭ ‬في‭ ‬العالَم،‭ ‬من‭ ‬بنغلاديش‭ ‬إلى‭ ‬البوسنة‭ ‬وليبيا‭ ‬وسوريا‭ ‬إلا‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يراهم‭ ‬ولا‭ ‬يحسّ‭ ‬بآلامهم،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يعترف‭ ‬مجلسا‭ ‬النواب‭ ‬والشيوخ‭ ‬الفرنسيان‭ ‬بالدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المستقلة،‭ ‬خاض‭ ‬حروبًا‭ ‬هوميرية؛‭ ‬لإقناع‭ ‬النواب‭ ‬بأن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬يهدِّد‭ ‬السلام‭. ‬

كتاب-الانتحار-الفرنسيوليس‭ ‬هؤلاء‭ ‬استثناء‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفكريّ‭ ‬والفلسفيّ‭ ‬الفرنسيّ،‭ ‬فقد‭ ‬مضى‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬الفكر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬يساريًّا،‭ ‬وكان‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬القضايا‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية؛‭ ‬أين‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ ‬ودفاعه‭ ‬الرائع‭ ‬عن‭ ‬استقلال‭ ‬الجزائر؟‭ ‬وأين‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬دولوز‭ ‬الذي‭ ‬دافع‭ ‬عن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وعن‭ ‬‮«‬الحجارة‭ ‬الفلسطينية‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬عن‭ ‬‮«‬عظمة‭ ‬عرفات»؟‭ ‬وأين‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬جان‭ ‬جوني‭ ‬وهو‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الأسير‭ ‬العاشق‮»‬‭ ‬و«أربع‭ ‬ساعات‭ ‬في‭ ‬شاتيلا»؟‭ ‬لقد‭ ‬انتهى‭ ‬زمن‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الكبار؛‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬الجنرال‭ ‬شارل‭ ‬دوغول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬فرنسا‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تعتقل‭ ‬مفكِّرًا‭ ‬مثل‭ ‬سارتر‮»‬،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬موت‭ ‬جاك‭ ‬ديريدا،‭ ‬أعلن‭ ‬بصيغة‭ ‬ما،‭ ‬موت‭ ‬المفكر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬الكبير؛‭ ‬أي‭: ‬موت‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬شكلها‭ ‬الكلاسيكيّ‭ ‬والنضاليّ،‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬فلاسفة‭ ‬ومفكرين‭ ‬يتقنون‭ ‬التلاعب‭ ‬مع‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام،‭ ‬ويغيرون‭ ‬آراءهم‭ ‬وَفْق‭ ‬طلبات‭ ‬الجمهور‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬الفكرية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬فرنسا‭ ‬والغرب،‭ ‬منذ‭ ‬عدة‭ ‬سنوات؛‭ ‬جاءت‭ ‬الاعتداءات‭ ‬الإرهابية‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬فرنسا‭ ‬العام‭ ‬الماضي؛‭ ‬لتزيد‭ ‬الأمور‭ ‬المجتمعية‭ ‬تعقيدًا،‭ ‬والسياسة‭ ‬ارتباكًا،‭ ‬والفكر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬ضحالة‭ ‬وبؤسًا‭. ‬

يعلِّق‭ ‬الباحث‭ ‬الفرنسيُّ‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬عدراوي‭ (‬جامعة‭ ‬سانغفورة‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬تصريحات‭ ‬السياسيين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬المختلفة‭ ‬بعد‭ ‬الاعتداءات،‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭ ‬وكأنها‭ ‬جوقة‭ ‬واحدة‭: ‬إن‭ ‬الإرهابيين‭ ‬الذين‭ ‬ضربونا‭ ‬يحسدوننا‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬حياتنا،‭ ‬وعلى‭ ‬ديمقراطيتنا‭ ‬وانتخاباتنا،‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬علمانيتنا،‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬صحيحًا،‭ ‬ففرنسا‭ ‬منهمكة‭ ‬في‭ ‬قصف‭ ‬العراق‭ ‬وسوريا،‭ ‬وتُوقع‭ ‬ضحايا‭ ‬ودمارًا،‭ ‬فلماذا‭ ‬يتعجب‭ ‬بعضهم‭ ‬من‭ ‬مجيء‭ ‬هؤلاء‭ ‬للانتقام‮»‬،‭ ‬ويعدِّد‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬المشارِكة‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬تنظيم‭ ‬داعش‭ ‬التي‭ ‬تلقَّت‭ ‬ضربات‭ ‬وانتقامًا‭ ‬من‭ ‬التنظيم‭.‬

وغير‭ ‬بعيد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬يؤكِّد‭ ‬لنا‭ ‬الباحث‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬إليامين‭ ‬ستّول،‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬الفرنسية،‭ ‬أن‭ ‬‮«‬فرنسا‭ ‬لم‭ ‬تُضرَب‭ ‬بصفة‭ ‬اعتباطية،‭ ‬وقد‭ ‬تلقَّت‭ ‬تهديدات‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬قبلُ؛‭ ‬بسبب‭ ‬حضورها‭ ‬العسكريّ‭ ‬في‭ ‬دُول‭ ‬إسلامية‭ ‬كثيرة؛‭ ‬مثل‭: ‬مالي،‭ ‬وإفريقيا‭ ‬الوسطى،‭ ‬وأفغانستان،‭ ‬والعراق،‭ ‬وسوريا،‭ ‬والصومال،‭ ‬وغيرها‮»‬‭.‬

والغريب‭ ‬أن‭ ‬فرنسا‭ ‬الرسمية،‭ ‬ومباشرة‭ ‬بعد‭ ‬الاعتداءين‭ ‬قرَّرت‭ ‬أن‭ ‬تعالج‭ ‬الموضوع‭ ‬معالجة‭ ‬أمنية‭ ‬واستخباراتية،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مراعاة‭ ‬الظروف‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬منفِّذو‭ ‬الاعتداءات‭ ‬فرنسيين‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬عربية،‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬دوافعهم؟‭ ‬والظروف‭ ‬التي‭ ‬دفعتهم‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬الانتحار؟‭ ‬ولماذا‭ ‬يجب‭ ‬عدم‭ ‬الإقرار‭ ‬بإخفاق‭ ‬الاندماج‭ ‬على‭ ‬الطريقة‭ ‬الفرنسية؟‭ ‬ولماذا‭ ‬يجب‭ ‬عدم‭ ‬فعل‭ ‬شيء‭ ‬تجاه‭ ‬الأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬والضواحي‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬عام‭ ‬2005م‭ ‬بانتفاضة‭ ‬عارمة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬مانويل‭ ‬فالس‭ ‬نفسه‭ ‬اعترف‭ ‬بوجود‭ ‬‮«‬أبرتهايد‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأحياء‭ ‬والضواحي،‭ ‬وهي‭ ‬أحياء‭ ‬وضواحٍ‭ ‬صوَّتت‭ ‬بنسبة‭ ‬93‭ % ‬للرئيس‭ ‬الحالي‭ ‬فرانسوا‭ ‬هولاند،‭ ‬وساهمت‭ ‬في‭ ‬ترجيح‭ ‬كِفَّته‭ ‬على‭ ‬كِفَّة‭ ‬نيكولا‭ ‬ساركوزي؟‭ 

‮.

.

مظاهرات-المسلمين-في-باريس«‬أنا‭ ‬شارلي‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬الحلّ،‭ ‬والعلمانية‭ ‬أيضًا

لم‭ ‬تتغير‭ ‬سياسة‭ ‬فرنسا‭ ‬منذ‭ ‬الاعتداء‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬طالَ‭ ‬‮«‬شارلي‭ ‬إيبدو‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬صحيفة‭ ‬فرنسية‭ ‬أسبوعية‭ ‬بائسة‭ ‬غير‭ ‬مقروءة،‭ ‬وتعاني‭ ‬أزمة‭ ‬مالية‭ ‬خانقة،‭ ‬امتهنت‭ ‬كي‭ ‬تبيع‭ ‬أكثر،‭ ‬وَصْمَ‭ ‬المسلمين‭ ‬ورموزهم‭ ‬ومقدساتهم‭ ‬الكبرى،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬راسمةً‭ ‬إياه‭ ‬كثيرًا‭ ‬بشكل‭ ‬كاريكاتيريّ،‭ ‬فحاول‭ ‬بعض‭ ‬المهتمين‭ ‬استغلال‭ ‬القلق‭ ‬والحزن‭ ‬الحقيقيين‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ (‬إذ‭ ‬إن‭ ‬فرنسا‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬هجومًا‭ ‬في‭ ‬عاصمتها‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الضراوة‭ ‬والتنظيم‭) ‬مختزلًا‭ ‬فرنسا‭: ‬التاريخ‭ ‬والأنوار‭ ‬والحضارة،‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬شارلي‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬تضمر‭ ‬أن‭ ‬‮«‬من‭ ‬ليس‭ ‬شارلي،‭ ‬فهو‭ ‬معادٍ‭ ‬فرنسا‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬بوش‭ ‬الابن،‭ ‬وهو‭ ‬يهاجم‭ ‬أفغانستان،‭ ‬بعد‭ ‬اعتداءات‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ ‬2001م‭: ‬‮«‬من‭ ‬ليس‭ ‬معنا‭ ‬فهو‭ ‬ضدنا‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬استفزت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬عرب‭ ‬ومسلمون،‭ ‬وجعلت‭ ‬التظاهرة‭ ‬المليونية‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬الاعتداء‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬وبخاصة‭ ‬المنحدرين‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬والضواحي،‭ ‬ولم‭ ‬يَخْلُ‭ ‬رفض‭ ‬جملة‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬شارلي‮»‬،‭ ‬من‭ ‬معنى؛‭ ‬إذ‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬غير‭ ‬شارلي،‭ ‬وأن‭ ‬يصير‭ ‬معاديًا‭ ‬كلَّ‭ ‬أشكال‭ ‬الإرهاب‭ ‬والعنف،‭ ‬ومنها‭ ‬الذي‭ ‬ضرب‭ ‬شارلي‭. ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬صدرت‭ ‬كُتُب‭ ‬مهمة‭ ‬لمفكرين‭ ‬فرنسيين‭ ‬تنتقد‭ ‬اختزال‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬شارلي‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬كتاب‭ ‬إيمانويل‭ ‬تود‭: ‬‮«‬من‭ ‬هو‭ ‬شارلي؟‮»‬،‭ ‬وعَدَد‭ ‬خاصّ‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬ميديولوجيا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يديرها‭ ‬المفكر‭ ‬ريجيس‭ ‬دوبريه،‭ ‬مرسخًا‭ ‬لـ«شارلي‭ ‬والآخرون‮»‬‭.‬

أنا-خائف-لكنني-موجودلم‭ ‬يكن‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مسلمو‭ ‬فرنسا‭ ‬ومُهاجروها‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬هم‭ ‬الضحايا‭ ‬المباشرون‭ ‬للاعتداءات؛‭ ‬إذ‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬تتوجه‭ ‬إليهم‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬لمعرفة‭ ‬ردودهم،‭ ‬كأن‭ ‬موقفهم‭ ‬سيكون‭ ‬مختلفًا‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬مواطني‭ ‬الجمهورية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الساسة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬لا‭ ‬يتركون‭ ‬أي‭ ‬مناسبة‭ ‬إلا‭ ‬ويطالبون‭ ‬مسلمي‭ ‬فرنسا‭ ‬أن‭ ‬يعلنوا‭ ‬صراحةً‭ ‬مواقفَهم،‭ ‬وتنديدهم‭ ‬بالإرهاب‭. ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تتكرَّر‭ ‬هذه‭ ‬اللازمة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفرنسيين‭ ‬‮«‬المختلفين‮»‬‭ ‬إحساسًا‭ ‬بأن‭ ‬ثمة‭ ‬مَن‭ ‬ينظر‭ ‬إليهم‭ ‬بوصفهم‭ ‬طابورًا‭ ‬خامسًا،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يعلنون‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناسبة،‭ ‬تعلقهم‭ ‬بهذا‭ ‬البلد‭ ‬وقوانينه‭ ‬ومُثُله‭.‬

وجاء‭ ‬الاعتداء‭ ‬الثاني‭ ‬على‭ ‬باريس،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬عنفًا‭ ‬وتنظيمًا‭ ‬وتنسيقًا؛‭ ‬إذ‭ ‬استهدف‭ ‬كل‭ ‬شرائح‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬من‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬العاديّ‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬الفرنسية‭ ‬نفسه،‭ ‬وأحدث‭ ‬مَقْتَلة‭ ‬كبيرة‭ ‬ومتنوعة؛‭ ‬فمات‭ ‬الطفل‭ ‬والشيخ‭ ‬والعربيّ‭ ‬والمسلم‭ ‬والمسيحيّ‭ ‬والآسيويّ‭ ‬وغيرهم؛‭ ‬فكلّ‭ ‬الفرنسيين‭ ‬كان‭ ‬مستهدفًا؛‭ ‬أي‭ ‬جرى‭ ‬استهداف‭ ‬‮«‬الوحدة‭ ‬الوطنية‮»‬،‭ ‬و«العيش‭ ‬المشترك‮»‬،‭ ‬والتسامح،‭ ‬والتعددية،‭ ‬وحرية‭ ‬الأديان‭.‬

وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المراقبين‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬الحادث‭ ‬فرصة‭ ‬للحمة‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتعاضد‭ ‬الجبهة‭ ‬الداخلية،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬أظهرت‭ ‬الاعتداءات‭ ‬الأخيرة‭ ‬أن‭ ‬المسلمين‮ ‬–أيضًا‭- ‬كانوا‭ ‬مستهدَفين،‭ ‬ودفعوا‭ ‬دماءهم‭ ‬وأرواحهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجزرة،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬القرار‭ ‬السياسيُّ‭ ‬سوى‭ ‬الحلِّ‭ ‬الأمنيِّ‭ ‬والاستخباراتيّ،‭ ‬ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬الساسة‭ ‬الفرنسيون،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬معتدلًا‭ ‬وحكيمًا؛‭ ‬مثل‭: ‬الديغولي‭ ‬ألان‭ ‬جوبيه،‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الأسبق،‭ ‬عن‭ ‬توجيه‭ ‬اللوم‭ ‬إلى‭ ‬ممثِّلي‭ ‬الديانة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬ومطالبتهم‭ ‬بتحديد‭ ‬موقفهم‭.‬

أعلن‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسيّ،‭ ‬في‭ ‬مبايعة‭ ‬شبه‭ ‬مطلقة‭ ‬من‭ ‬البرلمان،‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬وأعلن‭ ‬عن‭ ‬قُرب‭ ‬تغيير‭ ‬بعض‭ ‬بنود‭ ‬الدستور‭ ‬الفرنسيّ؛‭ ‬لتضمينه‭ (‬بندًا‭) ‬يسمح‭ ‬بتجريد‭ ‬الفرنسيين‭ ‬الذين‭ ‬يحملون‭ ‬جنسيتين،‭ ‬حتى‭ ‬مَن‭ ‬وُلِد‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬من‭ ‬جنسيته‭ ‬الفرنسية‭ ‬إذا‭ ‬ثبت‭ ‬ضلوعه‭ ‬في‭ ‬نشاط‭ ‬إرهابيّ،‭ ‬وأظهرت‭ ‬بعض‭ ‬نتائج‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مستمرة،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يُمدَّد‭ ‬لها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله،‭ ‬حسب‭ ‬تأكيد‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء،‭ ‬أنها‭ ‬تستهدف‭ ‬المسلمين‭ ‬الذين‭ ‬يُنظَر‭ ‬إليهم‭ ‬بوصفهم‭ ‬مسلمين‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬حسب‭ ‬تأكيد‭ ‬الرابطة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نتأمل‭ ‬الزيارات‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬الشرطة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬التي‭ ‬مُنحت‭ ‬حرية‭ ‬استثنائية،‭ ‬إلى‭ ‬المساجد‭ ‬ودُور‭ ‬العبادة‭ ‬والمراكز‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ودُور‭ ‬الأئمة،‭ ‬ومراكز‭ ‬خيرية،‭ ‬ومأوى‭ ‬لأشخاص‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬هشة،‭ ‬التي‭ ‬تمخض‭ ‬عنها‭ ‬تدمير‭ ‬وتخريب‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المساجد،‭ ‬وإغلاق‭ ‬كثير‭ ‬منها،‭ ‬ووضع‭ ‬أئمة‭ ‬وأشخاص‭ ‬تحت‭ ‬الإقامة‭ ‬الجبرية،‭ ‬وتُفاجِئنا‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬الصادمة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الإنجازات‭ ‬البوليسية‭ (‬علمًا‭ ‬أن‭ ‬كثيرين‭ ‬يخافون‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الزيارات‭)‬،‭ ‬ومنها‭: ‬عنف‭ ‬رجال‭ ‬الشرطة‭ ‬غير‭ ‬المسوّغ،‭ ‬فأحيانًا‭ ‬يكسرون‭ ‬أبوابًا‭ ‬تكون‭ ‬مفتوحة‭ ‬أمامهم،‭ ‬ويعتقلون‭ ‬أحيانًا‭ ‬أشخاصًا‭ ‬عُمْيًا،‭ ‬ويضعونهم‭ ‬تحت‭ ‬الإقامة‭ ‬الجبرية،‭ ‬ويلزمونهم‭ ‬الحضور‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬يوميًّا‭ ‬إلى‭ ‬مراكز‭ ‬الشرطة،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬أخرى‭ ‬يسخرون‭ ‬من‭ ‬حجاب‭ ‬النساء‭ ‬ومن‭ ‬أنوثتهن،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يسألون‭ ‬فرنسيين‭ ‬مسلمين‭ ‬عن‭ ‬ميداليات؛‭ ‬لمن‭ ‬تعود‭ ‬الصُّوَر‭ ‬الموجودة‭ ‬فيها‭ (‬بعضها‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬فنان‭ ‬النهضة‭ ‬الإيطاليّ‭ ‬ليوناردو‭ ‬دافنشي‭).‬

.

.

الجواز-الفرنسيسلاح‭ ‬التجريد‭ ‬من‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية‭

فرنسا،‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬ترسم‭ ‬لنفسها‭ ‬صورة‭ ‬قاتمة،‭ ‬وتزداد‭ ‬القتامة‭ ‬مع‭ ‬النقاشات‭ ‬حول‭ ‬تجريد‭ ‬المتهمين‭ ‬بالإرهاب‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭ ‬من‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬مسلمو‭ ‬فرنسا‭ ‬يرون‭ ‬أنهم‭ ‬المستهدف‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬التعديل‭ ‬الدستوريّ‭ ‬المنتظَر،‭ ‬فهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬يقولها‭ ‬آخرون‭ ‬أيضًا،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المسلمين،‭ ‬فالصحافة‭ ‬الأميركية‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬التعديل‭ ‬انتهاكًا‭ ‬لحقوق‭ ‬مسلمي‭ ‬فرنسا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يلخِّصه‭ ‬الوزير‭ ‬الاشتراكيّ‭ ‬السابق،‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬جزائرية‭: ‬قادر‭ ‬عارف،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المقربين‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬فرانسوا‭ ‬هولاند،‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬مشروع‭ ‬التعديل‭ ‬لا‭ ‬يستهدف‭ ‬الأشخاص‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية‭-‬‮ ‬الأميركية،‭ ‬ولا‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية‭-‬‮ ‬البريطانية،‭ ‬إنما‭ ‬يستهدف‭ ‬أصحاب‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية‭-‬‮ ‬العربية‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬العُنصرِيِّين‭ ‬والمتطرِّفين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬لن‭ ‬يجدوا‭ ‬سلاحًا،‭ ‬في‭ ‬معركتهم‭ ‬ضد‭ ‬الحضور‭ ‬العربيّ‭ ‬والإسلاميّ‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬والغرب،‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬سلاح‭ ‬التجريد‭ ‬من‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬برامج‭ ‬حزب‭ ‬‮«‬الجبهة‭ ‬الوطنية‮»‬‭ ‬المتطرفة،‭ ‬وفي‭ ‬أذهان‭ ‬المتشددين‭ ‬في‭ ‬حزب‭ ‬‮«‬الجمهوريين‮»‬،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬عنها‭ ‬الرئيس‭ ‬الاشتراكيّ‭ ‬فرانسوا‭ ‬هولاند‭ ‬في‭ ‬غمرة‭ ‬الانفعال‭ ‬عقب‭ ‬مجزرة‭ ‬13‭ ‬نوفمبر‭ ‬الماضي‭. ‬يتأمل‭ ‬مسلمو‭ ‬فرنسا‭ ‬ومهاجروها‭ ‬بقلق‭ ‬كبير‭ ‬هذه‭ ‬النقاشات‭ ‬التي‭ ‬تستهدفهم،‭ ‬ولا‭ ‬يُطلَب‭ ‬رأيهم،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬ارتفعت‭ ‬فيه‭ ‬معدلات‭ ‬الاعتداءات‭ ‬العنصرية‭ ‬والإسلاموفوبية،‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬وَفْق‭ ‬إحصائيات‭ ‬الجمعيات‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬مكافحة‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر،‭ ‬لكن‭ ‬القلق‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬المسلمين‭ ‬وحدهم؛‭ ‬إذ‭ ‬قبل‭ ‬نهاية‭ ‬عام‭ ‬2014م‭ ‬أصدر‭ ‬الصحافي‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬الكبير‭ ‬إيدوي‭ ‬بلونيل‭ ‬كتابًا‭ ‬لافتًا‭ ‬يدافع‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬المسلمين،‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬من‭ ‬أجل‭ ‬المسلمين‮»‬‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬لاديكوفيرت،‭ ‬كأنه‭ ‬كان‭ ‬يتوقع‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬الكتاب‭ ‬امتحانًا‭ ‬قاسيًا‭ ‬ومزلزلًا،‭ ‬ومضمون‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬مسلمي‭ ‬فرنسا‭ ‬يعيشون‭ ‬اليوم‭ ‬ظروفًا‭ ‬قاسيةً‭ ‬مثل‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وأدَّت‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬كارثية،‭ ‬ويسخر‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬‮«‬العلمانية‭ ‬المتطرفة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬الديانة،‭ ‬وأصبحتْ‭ ‬كاريكاتورية‭ ‬حين‭ ‬تحارب‭ ‬حجابَ‭ ‬المرأة‭ ‬المسلمة‭ ‬وحقَّ‭ ‬الأُمّ‭ ‬المحجبة‭ ‬في‭ ‬اصطحاب‭ ‬ابنها‭ ‬في‭ ‬النزهات‭ ‬والرحلات‭ ‬خارج‭ ‬المدرسة،‭ ‬ولا‭ ‬يُخفي‭ ‬الصحافي‭ ‬أن‭ ‬المسلمين‭ ‬يستطيعون‭ ‬بكل‭ ‬سهولة‭ ‬أن‭ ‬يتعايشوا‭ ‬مع‭ ‬غيرهم‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬والغرب‭.‬

.

.

حزن-باريسلغة‭ ‬حربية

وكما‭ ‬أن‭ ‬القلق‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬المسلمين،‭ ‬فهو‭ ‬ينتاب‭ ‬أيضًا‭ ‬كلّ‭ ‬المفكرين‭ ‬والأكاديميين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يشاطرون‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬مواقفها،‭ ‬ولا‭ ‬يخضعون‭ ‬لسطوة‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬المسلمين‭ ‬رهينة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬السياسيين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يتوقفون‭ ‬عن‭ ‬الصياح‭ ‬والاتهام‭ ‬والتهديد،‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬مانويل‭ ‬فالس،‭ ‬الذي‭ ‬أعلن‭ ‬قبل‭ ‬شهور‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬مفتوحة‭ ‬ضد‭ ‬السلفيين‭ ‬والإخوان‭ ‬والجهاديين‭ ‬والمتطرفين‭ ‬والراديكاليين،‭ ‬واضعًا‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬واحدة،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬يعود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬ليكشف‭ ‬عن‭ ‬جهلِه‭ ‬الواقعَ‭ ‬والفكرَ‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬الفلسفة‭ ‬والفكر‭ ‬والأنوار،‭ ‬فقد‭ ‬صرّح‭ ‬أن‭ ‬تفسير‭ ‬الظاهرة‭ ‬الجهادية‭ ‬تسويغٌ‭ ‬لها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬خلق‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الانتفاضة‭ ‬لدى‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬ونوعًا‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬الوزير‭ ‬وسطحيته؛‭ ‬فعالِم‭ ‬الاجتماع‭ ‬برنارد‭ ‬لاهير،‭ ‬عَدَّ‭ ‬موقف‭ ‬فالس‭ ‬‮«‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬عقلية‭ ‬الأنوار‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬يفضل‭ ‬استخدام‭ ‬لغة‭ ‬‮«‬حربية»؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تعهد‭ ‬الخوف‭ ‬عوضًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬أخذ‭ ‬المسافة‭ ‬الكافية‭ ‬والضرورية‭ ‬لإدارة‭ ‬جيدة‭ ‬للشؤون‭ ‬البشرية‮»‬،‭ ‬وشدَّد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬‮«‬فهم‭ ‬ظاهرة‭ ‬أو‭ ‬تفسيرها‭ ‬ليس‭ ‬تسويغها‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬عالِم‭ ‬الاجتماع‭ ‬فرهاد‭ ‬خوسروخافار‭ ‬فيعيب‭ ‬على‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬‮«‬تملق‭ ‬رأي‭ ‬عام‭ ‬فرنسيّ‭ ‬جريح‮»‬،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬دراسة‭ ‬ظواهر‭ ‬التطرف‭ ‬ضروريةٌ؛‭ ‬لوضع‭ ‬عنف‭ ‬‮«‬الجهاديين‮»‬‭ ‬في‭ ‬سياقه،‭ ‬وهو‭ ‬ضروري؛‭ ‬للخروج‭ ‬منه‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬ترى‭ ‬عالِمة‭ ‬الاجتماع‭ ‬نيلوفر‭ ‬غول،‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬أن‭ ‬‮«‬مانويل‭ ‬فالس‭ ‬اجتاز‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬الإسلام‮»‬،‭ ‬وتضيف‭ ‬أن‭ ‬‮«‬سياسة‭ ‬فالس‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬الأعداء‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يُعَدُّ‭ ‬فيه‭ ‬المسلمون‭ ‬العاديون‭ ‬والجهاديون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوربية‮»‬‭.‬

بدأت‭ ‬تلوح‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬إرهاصات‭ ‬انبثاق‭ ‬فكر‭ ‬فرنسيّ‭ ‬نقديّ،‭ ‬لكنه‭ ‬غير‭ ‬منظَّم‭ ‬لأسباب‭ ‬عِدَّة؛‭ ‬لعلّ‭ ‬أهمها‭ ‬كونُ‭ ‬أغلبية‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الفرنسية‭ ‬خاضعةً‭ ‬لرجال‭ ‬أعمال‭ ‬كبار‭ (‬أغلبيتهم‭ ‬صهاينة‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬الصحافيين‭ ‬وحرية‭ ‬الخطّ‭ ‬التحريريّ‭ ‬لهذه‭ ‬الصحف،‭ ‬أما‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الأخرى‭ ‬البديلة،‭ ‬فتعاني‭ ‬مشاكلَ‭ ‬اقتصاديةً‭ ‬خانقةً،‭ ‬لكن‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬فرنسا،‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬الاعتداءات‭ ‬أم‭ ‬بسبب‭ ‬زحف‭ ‬اللاجئين‭ ‬والمهاجرين؛‭ ‬جعل‭ ‬بعض‭ ‬المثقفين‭ ‬يخرجون‭ ‬من‭ ‬صمتهم‭ ‬وبروجهم‭ ‬العاجية؛‭ ‬ليُسائلوا‭ ‬الفكر‭ ‬الفرنسيَّ‭ ‬والأنوار‭ ‬ومبادئ‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬والمساواة‭ ‬والأخوة‭.‬

انا-مسلم-وليس-ارهابي

وقد‭ ‬استثمر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬المسلمين‭ ‬المبدأَ‭ ‬الأخيرَ‭: ‬‮«‬مبدأ‭ ‬الأخوة‮»‬،‭ ‬وأكَّدوا‭ ‬أنه‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬تقريب‭ ‬المسافات‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬المختلفة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مُفكِّري‭ ‬فرنسا‭ ‬الإنسانيين‭ ‬بدؤوا‭ ‬يخرجون‭ ‬من‭ ‬صمتهم،‭ ‬وبخاصة‭ ‬تلامذة‭ ‬الراحل‭ ‬بول‭ ‬ريكور؛‭ ‬لانتقاد‭ ‬بعض‭ ‬تصريحات‭ ‬الساسة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬الجارحة‭ ‬حول‭ ‬التجريد‭ ‬من‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬واستقبال‭ ‬اللاجئين‭ ‬والمهاجرين‭.  ‬حقًّا،‭ ‬إن‭ ‬الفكر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬في‭ ‬أمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬كتابات‭ ‬بول‭ ‬ريكور،‭ ‬الذي‭ ‬تحدَّث‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الضيافة‮»‬‭ ‬و«مأوى‭ ‬الغريب‭ ‬والأجنبي‮»‬‭.‬